ديوان الغائبين إسماعيل أدهم - مصر - (1911-1940)

إسماعيل أدهم.jpg

ولد في عام 1911 في الإسكندرية لأب تركي الأصل وأم ألمانية. كان جده الأكبر ابراهيم أدهم باشا من أبرز رجالات مصر في مطالع القرن التاسع عشر. قدم إلى مصر في عهد محمد علي وانخرط في سلك الجندية. أرسله محمد علي إلى انكلترا في بعثة دراسية. وبعد عودته شغل مناصب عدة منها منصب محافظ القاهرة ثم منصب ناظر الأوقاف ثم ناظر التربية. أما جده لأبيه إسماعيل بك أدهم فكان أستاذاّ للأدب التركي في برلين. في حين أن والده أحمد بك أدهم كان أميرلاي في الجيش التركي وانضم إلى أتاتورك وسافر معه إلى الأناضول في عداد الحركة الاستقلالية. لكنه سرعان ما اختلف مع أتاتورك وانتقل إلى الإسكندرية وأقام فيها حتى وفاته في عام 1921. وكان صديقاً للعديد من السياسيين والأدباء. إلا أن والدته فكانت ألمانية ابنة البروفسور وانتهوف عضو أكاديمية العلوم البروسية. ويصف الدكتور إسماعيل أدهم نشأته فيقول: “في الواقع أنني درجت على تربيتي الدينية لم تكن أقوم طريق لغرس العقيدة الدينية في نفسي. فقد كان أبي مسلماً من المتعصبين للإسلام والمسلمين. وأمي كانت مسيحية بروتستانية ذات ميل لحرية الفكر والتفكير. ولا عجب في ذلك. فقد كانت كريمة البروفسور وانتهوف الشهير. لكن سوء حظي جعلها تتوفى وأنا في الثانية من سني حياتي. فعشت طفولتي حتى أواخر الحرب العظمى مع شقيقتيَّ في الأستانة. وكانتا تلقناني تعاليم المسيحية وتسيران بي كل يوم أحد إلى الكنيسة. أما أبي فقد انشغل بالحرب. وكان متنقلاً بين ميادينها. فلم أعرف أو أتعرّف إليه إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها ودخل الحلفاء الأستانة. غير أن بعد والدي عني لم يكن يمنعه عن فرض سيطرته عليّ من الوجهة الدينية. فقد كلّف زوج عمتي وهو أحد الشرفاء العرب أن يقوم بتعليمي من الوجهة الدينية. فكان يأخذني لصلاة الجمعة كل يوم جمعة ويجعلني أصوم رمضان وأقوم بصلاة التراويح. وكان هذا كله يثقل كاهلي كطفل لم يشتد عوده بعد، فضلاً عن تحفيظي القرآن... كانت مكتبة والدي مشحونة بآلاف الكتب. وكان محرماً عليّ الخروج والاختلاط مع الأطفال الذين هم من سنّي. ولقد عانيت أثر هذا التحريم في فردية تبعدني عن الجماعة فيما بعد. ولم يكن في مستطاعي الخروج إلا مع شقيقتيّ. وقد ألفت هذه الحياة. وكنت أحبهما حباً جماً. ونقضي وقتنا معاً نطالع ونقرأ. فطالعت وأنا ابن الثامنة مؤلفات عبد الحق حامد وحفظت الكثير من شعره. وكنت كلفاً بالقصص الأدبية. فكنت أتلو لبلزاك وجي دي موباسان وهيغو من الغربيين آثارهم. ولحسين رحمة الروائي التركي المشهور قصة. أتى والدي إلى الأستانة وقد وضعت الحرب أوزارها، ودخل الحلفاء الأستانة. لم يبق كثيراً، حيث غادرها مع مصطفى كمال إلى الأناضول ليبدأ مع زعماء الحركة الاستقلالية حركتهم. وظللت أربع سنوات من سنة 1919 إلى سنة 1923 في الأستانة قابعاً في دارنا أتعلم الألمانية والتركية على يد شقيقتيّ والعربية على يد زوج عمتي. في هذه الفترة قرأت لداروين “أصل الأنواع” و”أصل الإنسان” وخرجت منهما مؤمناً بالتطور. وقرأت مباحث هكسلي واسترإليل وبيجهوت وأنا لم أتجاور الثالثة عشرة من سني حياتي. وانكببت أقرأ في هذه الفترة في ديكارت وهوبس وكانت. لكنني لم أكن أفهم كل ما أقرأ لهم. وخرجت من هذه الفترة نابذاَ نظرية الإرادة الحرة. وكان لسبينوزا وارنست هيكل الأثر الأكبر في ذلك. ثم نبذت عقيدة الخلود... غير أن خط دراستي توقف برجوع والدي إلى الأستانة ونزوحه إلى مصر واصطحابه إياي. وهنالك في الإسكندرية خطوت أيام مراهقتي. لكن أبي لم يعترف لي بحق تفكيري ووضع أساس عقيدتي المستقلة.

نعم لم تكن سني تتجاوز الرابعة عشرة. لكن معلوماتي في الرياضيات والعلوم والتاريخ تؤهلني لأن أكون في أعلى فصول المدارس الثانوية. لكن عجزي في العربية والانكليزية كان يقعد بي عن ذلك. وفي سنة 1927 غادرت مصر بعد أن تلقيت الجانب الأكبر من التعليم الإعدادي فيها على يد مدرسين خصوصيين. ونزلت تركيا والتحقت بعدها بمدة بالجامعة. وهناك للمرة الأولى وجدت أناساً يمكنني أن أشاركهم تفكيري ويشاركونني. في الأستانة درست الرياضيات، وبقيت كذلك ثلاث سنوات. ثم غادرت تركيا في بعثة لروسيا في عام 1931. وظللت إلى عام 1934. هناك درست الرياضيات وبجانبها الطبيعيات النظرية. وكان سبب انصرافي إلى الرياضيات نتيجة ميل طبيعي لي، حتى لقد فرغت من دراسة هندسة أوقليدس وأنا ابن الثانية عشرة، وقرأت لـ”بوان كاريه” و”كلاين” و”لوباجفسكي” مؤلفاتهم وأنا ابن الرابعة عشرة. وكنت كثير الشك والتساؤل. فلما بدأت بهندسة “أوقليدس” وجدته يبدأ من الأولويات. وصدم اعتقادي في فلسفة الرياضيات وقتئذ، فشككت في أوليات الرياضة. وظللت مضرباً مدة من الزمن عن تلقي الرياضيات منكباً على دراسة “هوبس” و”لوك” و”بركسلي” و”هيوم”. وكان الأخير أقربهم لنفسي. حاول الكثيرون إقناعي بأن أكمل دراستي للرياضة لكن حدث بعد ذلك تحوّل عجيب لا أعرف كنهه لليوم. فالتهمت المعلومات الرياضية كلها. درست الحساب والجبر والهندسة بضروبها وحساب الدوالي والتربيعات. لكن الشك لم يغادرني. وما إن انتهيت من دراستي حتى عنيت بأصول الرياضة. فكان هذا الموضوع سبب نوالي درجة الدكتوراه في الرياضيات البحتة من جامعة موسكو سنة 1933. وفي نفس السنة نجحت في أن أنال في العلوم وفلسفتها إجازة الدكتوراه لرسالة جديدة عن الميكانيكا الجديدة التي وضعتها مستنداً على حركات الغازات وحسابات الاحتمال...”.


نصّ الرسالة:

لماذا أنا ملحد؟

(كتبت على أثر مطالعة "عقيدة الألوهية" للدكتور أحمد زكي أبو شادي)
لما جهلت من الطبيعة أمرها = وجعلت نفسك في مقام معلل
أثبت ربـــا تبتغي حلأ به = للمشكلات فكان أكبر مشكل!

توطئة :

الواقع أنني درجت على تربية دينية لم تكن أقوم طريق لغرس العقيدة الدينية في نفسي. فقد كان أبي من المتعصبين للإسلام والمسلمين، وأمي مسيحية بروتستانتية ذات ميل لحرية الفكر والتفكير، ولا عجب في ذلك فقد كانت كريمة البروفيسور وانتهوف الشهير. ولكن سوء حظي جعلها تتوفى وأنا في الثانية من سني حياتي، فعشت أيام طفولتي حتى أواخر الحرب العظمى مع شقيقتي في الأستانة، وكانتا تلقناني في تعاليم المسيحية وتسيران بي كل يوم أحد الى الكنيسة. أما أبي فقد انشغل بالحرب وكان متنقلا بين ميادينها فلم أعرفه أو أتعرف عليه إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ودخل الحلفاء الأستانة. غير أن بعد والدي عني لم يكن ليمنعه عن فرض سيطرته علي من الوجهة الدينية، فقد كلف زوج عمتي وهو أحد الشرفاء العرب أن يقوم بتعليمي من الوجهة الدينية، فكان يأخذني لصلاة الجمعة ويجعلني أصوم رمضان وأقوم بصلاة التراويح، وكان هذا كله يثقل كاهلي كطفل لم يشتد عوده بعد، فضلا عن تحفيظي القرآن. والواقع أني حفظت القرآن وجودته وأنا ابن العاشرة، غير أني خرجت ساخطا على القرآن لأنه كلفني جهدا كبيرا كنت في حاجة إلى صرفه إلى ما هو أحب إلى نفسي، وكان ذلك من أسباب التمهيد لثورة نفسية على الإسلام وتعاليمه. ولكني كنت أجد من المسيحية غير ذلك، فقد كانت شقيقتاي –وقد نالتا قسطا كبيرا من التعليم في كلية الأمريكان بالأستانة لا تثقلان علي بالتعليم الديني المسيحي وكانتا قد درجتا على اعتبار أن كل ما تحتويه التوراة والإنجيل ليس صحيحا. وكانتا تسخران من المعجزات ويوم القيامة والحساب، وكان لهذا كله أثر في نفسيتي.

كانت مكتبة والدي مشحونة بألاف الكتب وكان محرما على الخروج والاختلاط مع الأطفال الذين هم من سني. ولقد عانيت أثر هذا التحريم قي فردية تبعدني عن الجماعة فيما بعد، ولم يكن في مستطاعي الخروج إلا مع شقيقتي وقد ألفت هذه الحياة وكنت أحبهما حبا جما فنقضي وقتنا معا نطالع ونقرأ. فطالعت وأنا ابن الثامنة مؤلفات عبد الحق حامد وحفظت الكثير من شعره، وكنت كلفا بالقصص الأدبية فكنت أتلو لبلزاك وجي دي موباسان وهيغو من الغربيين أثارهم، ولحسين رحمي الروائي التركي المشهور قصصه. وأتى والدي إلى الأستانة وقد وضعت الحرب أوزارها، ودخل الحلفاء الأستانة، ولكن لم يبقَ كثيرا حيث غادرها مع مصطفى كمال إلى الأناضول ليبدأ مع زعماء الحركة الاستقلالية حركتهم. وظللت أربع سنوات من سنة 1919 إلى 1923 في الأستانة قابعا أتعلم الألمانية والتركية على يد شقيقتي والعربية على يد زوج عمتي، وفي هذه الفترة قرأت لداروين أصل الأنواع وأصل الإنسان وخرجت من قرائتهما مؤمنا بالتطور. وقرأت مباحث هكسلي وهيكل والسر ليل وبيجهوت وأنا لم أتجاوز الثالثة عشرة من سنى حياتي. وانكببت أقرأ في هذه الفترة لديكارت وهوبس وهيوم وكانت، ولكني لم أكن أفهم كل ما أقرأه لهم. وخرجت من هذه الفترة نابذا نظرية الإرادة الحرة، وكان لسبينوزا وأرنست هيكل الأثر الأكبر في ذلك، ثم نبذت عقيدة الخلود.

غير أن خط دراستي توقف برجوع والدي إلى الأستانة ونزوحه إلى مصر واصطحابه إياي. وهنالك في الإسكندرية خطوت أيام مراهقتي. ولكن كان أبي لا يعترف لي بحق تفكيري ووضع أساس عقيدتي المستقبلة، فكان يفرض على الإسلام والقيام بشعائره فرضا، وأذكر يوما أني ثرت على هذه الحالة وامتنعت عن الصلاة وقلت له: أني لست بمؤمن، أنا داروني أؤمن بالنشوء والارتقاء. فكان جوابه على ذلك أن أرسلني إلى القاهرة وألحقني بمدرسة داخلية ليقطع على أسباب المطالعة، ولكني تحايلت على ذلك بأن كنت أتردد على دار الكتب المصرية وأطالع ما يقع تحت يدي من المؤلفات التركية والألمانية يومي الخميس والجمعة، وهما من أيام العطلة المدرسية. وكنت أشعر وأنا في المدرسة أني في جو أحط مني بكثير. نعم لم تكن سني تتجاوز الرابعة عشر ولكن كانت معلوماتي في الرياضيات والعلوم والتاريخ تؤهلني لأن أكون في أعلى فصول المدارس الثانوية. ولكن عجزي في العربية والإنجليزية كان يقعد بي عن ذلك.

وفي سنة 1927 غادرت مصر بعد أن تلقيت الجانب الأكبر من التعليم الإعدادي فيها على يد مدرسين خصوصيين ونزلت تركيا والتحقت بعدها بمدة بالجامعة. وهنالك للمرة الأولى وجدت أناسا يمكنني أن أشاركهم تفكيرهم ويشاركونني. في الأستانة درست الرياضيات وبقيت كذلك ثلاث سنوات وفي هذه الفترة أسست (جماعة نشر الإلحاد) بتركيا وكانت لنا مطبوعات صغيرة كل منها في 64 صفحة أذكر منها :

الرسالة السابعة: الفرويديزم،
الرسالة العاشرة: ماهية الدين،
الرسالة الحادية عشر: قصة تطور الدين ونشأته،
الرسالة الثانية عشرة: العقائد،
الرسالة الثالثة عشرة: قصة تطور فكرة الله،
الرسالة الرابعة عشرة: فكرة الخلود.

وكان يحرر هذه الرسائل أعضاء الجماعة وهم طلبة في جامعة الأستانة تحت إرشاد أحمد بك زكريا أستاذ الرياضيات في الجامعة والسيدة زوجته. وقد وصلت الجماعة في ظرف مدة قصيرة للقمة فكان في عضويتها 800 طالب من طلبة المدارس العليا وأكثر من 200 من طلبة المدارس الثانوية –الإعدادية. وبعد هذا فكرنا في الاتصال بجمعية نشر الإلحاد الأمريكية التي يديرها الأستاذ تشارلز سمث، وكان نتيجة ذلك انضمامنا له وتحويل اسم جماعتنا إلى (المجمع الشرقي لنشر الإلحاد). وكان صديقي البحاثة إسماعيل مظهر في ذلك الوقت يصدر مجلة "العصور" في مصر، وكانت تمثل حركة معتدلة في نشر حرية الفكر والتفكير والدعوة للإلحاد. فحاولنا أن نعمل على تأسيس جماعة تتبع جماعتنا في مصر وأخرى في لبنان واتصلنا بالأستاذ عصام الدين حفني ناصف في الإسكندرية وأحد الأساتذة في جامعة بيروت ولكن فشلت الحركة!

وغادرت تركيا في بعثة لروسيا سنة 1931 وظللت إلى عام 1934 هنالك أدرس الرياضيات وبجانبها الطبيعيات النظرية. وكان سبب انصرافي للرياضيات نتيجة ميل طبيعي لي حتى لقد فرغت من دراسة هندسة أوقليدس وأنا ابن الثانية عشر، وقرأت لبوانكاره وكلاين ولوباجفسكي مؤلفاتهم وأنا ابن الرابعة عشرة. وكنت كثير الشك والتساؤل فلما بدأت بهندسة أوقليدس وجدته يبدا من الأوليات، وصدم اعتقادي في قدسية الرياضيات وقتئذ فشككت في أوليات الرياضيات منكبا على دراسة هوبس ولوك وبركلي وهيوم وكان الأخير أقربهم إلى نفسي. وحاول الكثيرون إقناعي بأن أكمل دراستي للرياضة، ولكن حدث بعد ذلك تحول لا أعرف كنهه لليوم. فالتهمت المعلومات الرياضية كلها فدرست الحساب والجبر والهندسة بضروبها وحساب الدوالي والتربيعات ولكن الشك لم يغادرني، فسلمت جدلا بصحة أوليات الرياضة ودرست، وما انتهيت من دراستي حتى عنيت بأصول الرياضة، وكان هذا الموضوع سبب نوال درجة الدكتوراه في الرياضيات البحته من جامعة موسكو سنة 1933. وفي نفس السنة نجحت في أن أنال العلوم وفلسفتها إجازة الدكتوراه لرسالة جديدة عن "الميكانيكا الجديدة التي وضعتها مستندا على حركة الغازات وحسابات الاحتمال" وكانت رسالة في الطبيعيات النظرية.

وخرجت من كل بحثي بأن الحقيقة إعتبارية محضة وأن مبادئ الرياضيات اعتبارات محضة. وكان لجهدي في هذا الموضوع نهاية إذ ضمنت النتائج التي انتهيت إليها بكتابي "الرياضيات والفيزيقا" الذي وضعته بالروسية في مجلدين مع مقدمة مسهبة في الألمانية. وكانت نتيجة هذه الحياة أني خرجت عن الأديان وتخليت عن كل المعتقدات وأمنت بالعلم وحده وبالمنطق العلمي، ولشد ما كنت دهشتي وعجبي أني وجدت نفسي أسعد حالا وأكثر اطمئنانا من حالتي حينما كنت أغالب نفسي للاحتفاظ بمعتقد ديني.

وقد مكن ذلك الاعتقاد في نفسي الأوساط الجامعية التي اتصلت بها إذ درست مؤقتا فكرتي في دروس الرياضيات بجامعة موسكو سنة 1934.

إن الأسباب التي دعتني للتخلي عن الإيمان بالله كثيرة منها ما هو علمي بحت ومنها ما هو فلسفي صرف ومنها ما هو بين بين، ومنها ما يرجع لبيئتي وظروفي، ومنها ما يرجع لأسباب سيكلوجية. وليس من شأني في هذا البحث أن أستفيض في ذكر هذه الأسباب، فقد شرعت منذ وقت أضع كتابا عن عقيدتي الدينية والفلسفية ولكن غايتي هنا أن أكتفي بذكر السبب العلمي الذي دعاني للتخلي عن فكرة "الله" وإن كان هذا لا يمنعني من أعود في فرصة أخرى (إذا سنحت لي) لبقية الأسباب.

وقبل أن أعرض الأسباب لا بد لي من الإستطراد لموضوع إلحادي. فأنا ملحد ونفسي ساكنة لهذا الإلحاد ومرتاحة إليه، فأنا لا أفترق من هذه الناحية عن المؤمن المتصوف في إيمانه. نعم لقد كان إلحادي بداءة ذي بدء مجرد فكرة تساورني ومع الزمن خضعت لها مشاعري فاستولت عليها وانتهت من كونها فكرة إلى كونها عقيدة. ولي أن أتساءل: ما معنى الإلحاد؟

يجيبك لودفيج بخنر زعيم ملاحدة القرن التاسع عشر :
"الإلحاد هو الجحود بالله، وعدم الإيمان بالخلود والإرادة الحرة" .

والواقع أن هذا التعريف سلبي محض، ومن هنا لا أجد بدا من رفضه. والتعريف الذي أستصوبه وأراه يعبر عن عقيدتي كملحد هو :

" الإلحاد هو الإيمان بأن سبب الكون يتضمنه الكون في ذاته وأن ثمة لا شيء وراء هذا العالم ".

ومن مزايا هذا التعريف أن شقه الأول إيجابي محض، بينما لو أخذت وجهته السلبية لقام دليلا على عدم وجود الله، وشقه الثاني سلبي يتضمن كل ما في تعريف بخنر من معاني.

يقول عمانوئيل كانط (1724-1804) :

" أنه لا دليل عقلي أو علمي على وجود الله" و "أنه ليس هنالك من دليل عقلي أو علمي على عدم وجود الله ".

وهذا القول صادر من أعظم فلاسفة العصور الحديثة وواضع الفلسفة الانتقادية يتابعه فيه جمهرة الفلاسفة. وقول عمانوئيل كانت لا يخرج عن نفس ما قاله لوقريتوس الشاعر اللاتيني منذ ألفي سنة، ولهذا السبب وحده تقع على كثيرين من صفوف المفكرين والمتنورين بل الفلاسفة من اللاأدريين، وهربرت سبنسر الفيلسوف الإنجليزي الكبير وتوماس هكسلي البيولوجي والمشرح الإنجليزي المعروف قد كانا لا أدريين. ولكن هل عدم قيام الأدلة على عدم وجود الله مما يدفع المرء لللاأدرية؟

الواقع الذي ألمسه أن فكرة الله فكرة أولية، وقد أصبحت من مستلزمات الجماعات منذ ألفي سنة. ومن هنا يمكننا بكل اطمئنان أن نقول أن مقام فكرة الله الفلسفية أو مكانها في عالم الفكر الإنساني لا يرجع لما فيها عناصر القوة الإقناعية الفلسفية وإنما يعود لحالة يسميها علماء النفس التبرير. ومن هنا فإنك لا تجد لكل الأدلة التي تقام لأجل إثبات وجود السبب الأول قيمة علمية أو عقلية.

ونحن نعلم مع رجال الأديان والعقائد أن أصل فكرة الله تطورت عن حالات بدائية، وأنها شقت طريقها لعالم الفكر من حالات وهم وخوف وجهل بأسباب الأشياء الطبيعية. ومعرفتنا بأصل فكرة الله تذهب بالقدسية التي كنا نخلعها عليها.

إن العالم الخارجي (عالم الحادثات) يخضع لقوانين الاحتمال. فالسنة الطبيعية لا تخرج عن كونها أشمال القيمة التقديرية التي يخلص بها الباحث من حادثة على ما يماثلها من حوادث. والسببية العلمية لا تخرج في صميمها عن أنها وصف لسلوك الحوادث وصلاتها بعضها ببعض. وقد نجحنا في ساحة الفيزيقا (الطبيعيات) في أن نثبت أن (أ) إذا كانت نتيجة للسبب. فإن معنى ذلك أن هناك علاقة بين الحادثتين (أ) و(ب). ويحتمل أن تحدث هذه العلاقة بين (أ) و(ج) وبينها وبين (د) و (هـ) فكأنه يحتمل أن تكون نتيجة للحادثة (ب) وقتا وللحادثة (ج) وقتا آخر وللحادثة (د) حينا وللحادثة ( هـ) حينا آخر.

والذي نخرج به من ذلك أن العلاقة بين ما نطلق عليه اصطلاح السبب وبين ما نطلق عليه اصطلاح النتيجة تخضع لسنن الاحتمال المحضة التي هي أساس الفكر العلمي الحديث. ونحن نعلم أن قرارة النظر الفيزيقي الحديث هو الوجهة الاحتمالية المحضة. وليس لي أن أطيل في هذه النقطة وإنما أحيل القارئ إلى مذكرتي العلمية لمعهد الطبيعيات الألماني والمرسلة في 14 سبتمبر سنة 1934 والتي تليت في اجتماع 17 سبتمبر ونشرت في أعمال المعهد لشهر أكتوبر عن "المادة وبنائها الكهربائي". وقد لخصت جانبا من مقدمتها بجريدة "البصير" عدد 12120 "المؤرخ الأربعاء 21 يوليه سنة 1937". وفي هذه المذكرة أثبت أن الاحتمال هو قرارة النظر العلمي للذرة فإذا كان كل ما في العالم يخضع لقانون الاحتمال فإني أمضي بهذا الرأي إلى نهايته وأقرر أن العالم يخضع لقانون الصدفة.

ولكن ما معنى الصدفة والتصادف؟
يقول هنري بوانكاريه في أول الباب الرابع من كتابه :
“Science et Methode”
في صدد كلامه عن الصدفة والتصادف :

" إن الصدفة تخفي جهلنا بالأسباب، والركون للمصادفة اعتراف بالقصور عن تعرف هذه الأسباب ".

والواقع أن كل العلماء يتفقون مع بوانكاريه في اعتقاده -أنظر لصديقنا البحاثة إسماعيل مظهر "ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء"، ص 163-167 – منذ تفتح العقل الإنساني. غير أني من وجهة رياضية أجد للصدفة معنى غير هذا، معنى دقيقا بث للمرة الأولى في تاريخ الفكر الإنساني في كتابي :

Mathematik und physic ج2 فصل7

في صدد الكلام عن الصدفة والتصادف. وهذا المعنى لا تؤتيني الألفاظ العادية للتعبير عنه لأن هذه الألفاظ ارتبطت بمفهوم السبب والنتيجة، لهذا سنحاول أن نحدد المعنى عن طريق ضرب الأمثلة.

لنفرض أن أمامنا زهر النرد ونحن جلوس حول مائدة، ومعلوم أن لكل زهر ستة أوجه، فلنرمز لكل زهر بالوجه الأتي في كل من الزهرين :

لنفرض أن أمامنا زهر النرد ونحن جلوس حول مائدة، ومعلوم أن لكل زهر ستة أوجه، فلنرمز لكل زهر بالوجه الأتي في كل من الزهرين :

يك: دو: ثه: جهار: بنج: شيش
ل1:ل2:ل3:ل4: ل5: ل6 في زهر النرد الأول
ك1:ك2:ك3:ك4:ك5: ك6 في زهر النرد الثاني

وبما أن كل واحد من هذه الأوجه محتمل مجيئه إذا رمينا زهر النرد، فإن مبلغ الاحتمال لهذه الأوجه يحدد معنى الصدفة التي نبحثها.

إن نسبة احتمال هذه الأوجه تابعة لحالة اللاعب بزهر النرد، ولكن لنا أن نتساءل :

ما نسبة احتمال هذه الأوجه تحت نفس الشرائط، فمثلا لو فرضنا أنه في المرة "ن" كانت النتيجة هي :

ل6xك6=شيشxشيش=دش
فما أوجه مجيء الدش في المرة (ن+س)؟

إذا فرضنا أن الحالة الاجتماعية هي "ح" كان لنا أن نخلص من ذلك بأن اللاعب إذا رمى زهر النرد (ن=س) من المرات وكان مجموعها مثلا 36 مرة فاحتمال مجيء الدش هنا في الواقع :1\(ن+س)

وبما أن ق+س=36 مرة فكأن النسبة الاحتمالية هي 1\36.

فإذا أتى الدش مرة من 36 مرة لما عد ذلك غريبا لأنه محتمل الوقوع، ولكن ليس معنى ذلك أن الدش لابد من مجيئه لأن هذا يدخل في باب أخر قد يكون باب الرجم. وكلما عظمت مقدار "س" في المعادلة (ن+س) تحدد مقدار "ح" أي النسبة الاحتمالية وذلك خضوعا لقانون الأعداد العظمى في حسابات الاحتمال. ومعنى ذلك أن قانون الصدفة يسري في المقادير الكبيرة.

مثال ذلك أن عملية بتر الزائدة الدودية نسبة نجاحها 95%. أعني أن 95 حالة تنجح من 100 حالة, فلو فرضنا أن مائة مريض دخلوا أحد المستشفيات لإجراء هذه العملية فإن الجراح يكون مطمئنا إلى أنه سيخرج بنحو 95 حالة من هذه العمليات بنجاح، فإذا ما سألته: يا دكتور ما نسبة احتمال النجاح في هذه العملية؟ فإنه يجيبك 95 في المائة، ويكون مطمئنا لجوابه. ولكنك إذا سألته: يا دكتور ما نسبة احتمال النجاح في العملية التي ستجريها لفلان؟ فإنه يصمت ولا يجيبك، لأنه يعجز عن معرفة النسبة الاحتمالية.

هذا المثال يوضح معنى قانون في أنها تتصل بالمقادير الكبيرة والكثرة العديدة. ويكون مفهوم سنة الصدفة وجه الاحتمال في الحدوث، ويكون السبب والنتيجة من حيث هما مظهران للصلة بين حادثتين في النطاق الخاضع لقانون العدد الأعظم الصدفي حالة إمكان محض. ومعنى هذا أن السببية صلة إمكان بين شيئين يخضعان لقانون العدد الأعظم الصدفي. فمثلا لو فرضنا أن الدش أتى مرة واحدة من 36 مرة أعني بنسبة 1:36 مرة ففي الواقع نحن نكون قد كشفنا عن صلة إمكان بين زهر النرد ومجيء الدش، وهذا قانون لا يختلف عن القوانين الطبيعية في شيء.

إذا يمكننا أن نقول أن الصدفة التي تخضع العالم لقانون عددها الأعظم تعطي حالات إمكان. ولما كان العالم لا يخرج عن مجموعة من الحوادث ينتظم بعضها مع بعض في وحدات وتتداخل وتتناسق ثم تنحل وتتباعد لتعود من جديد لتنتظم…. وهكذا خاضعة في حركتها هذه لحالات الإمكان التي يحددها قانون العدد الأعظم الصدفي. ومثل العالم في ذلك مثل مطبعة فيها من كل نوع من حروف الأبجدية مليون حرف وقد أخذت هذه الحركة في الاصطدام * فتجتمع وتنتظم ثم تتباعد وتنحل هكذا في دورة لانهائية، فلا شك أنه في دورة من هذه الدورات اللانهائية لابد أن يخرج هذا المقال الذي تلوته الأن، كما أنه في دورة أخرى من دورات اللانهائية لا بد أن يخرج كتاب "أصل الأنواع" وكذا "القرآن" مجموعا منضدا مصححا من نفسه. ويمكننا إذن أن نتصور أن جميع المؤلفات التي وضعت ستأخذ دورها في الظهور خاضعة لحالات احتمال وإمكان في اللانهائية، فإذا اعتبرنا (ح) رمزا لحالة الاحتمال و(ص) رمزا للنهائية كانت المعادلة الدالة على هذه الحالات:

ح=ص

وعالمنا لا يخرج عن كونه كتابا من هذه الكتب، له وحدته ونظامه وتنضيده إلا أنه تابع لقانون الصدفة الشاملة.

يقول ألبرت أينشتاين صاحب نظرية النسبية في بحث قديم له:

" مثلنا إزاء العالم مثل رجل أتى بكتاب قيم لا يعرف عنه شيئا، فلما أخذ في مطالعته وتدرج من ذلك لدرسه وبان له ما فيه من أوجه التناسق الفكري شعر بأن وراء كلمات الكتاب شيئا غامضا لا يصل لكنهه. هذا الشيء الغامض الذي عجز عن الوصول إليه هو عقل مؤلفه. فإذا ما ترقى به التفكير عرف أن هذه الأثار نتيجة لعقل إنسان عبقري أبدعه. كذلك نحن إزاء العالم، فنحن نشعر بأن وراء نظامه شيئا غامضا لا تصل إلى إدراكه عقولنا، هذا الشيء هو الله".

ويقول السير جيمس جينز الفلكي الإنجليزي الشهير :

" إن صيغة المعادلة التي توحد الكون هي الحد الذي تشترك فيه كل الموجودات. ولما كانت الرياضيات منسجمة مع طبيعة الكون كانت لنابه. ولما كانت الرياضيات تفسر تصرفات الحوادث التي تقع في الكون وتربطها في وحدة عقلية فهذا التفسير والربط لا يحمل إلا على طبيعة الأشياء الرياضية، ومن أجل هذا لا مندوحة لنا أن نبحث عن عقل رياضي يتقن لغة الرياضة يرجع له هذا الكون، هذا العقل الرياضي الذي نلمس أثاره في الكون هو الله".

وأنت ترى أن كليهما "والأول من أساطين الرياضيات في العالم والثاني فلكي ورياضي من القدر الأول" عجز عن تصور حالة الاحتمال الخاضعة لقانون الصدفة الشاملة والتي يتبع دستورها العالم، لا لشيء إلا لتغلب فكرة السبب والنتيجة عليهما.

الواقع أن أينشتين في مثاله انتهى إلى وجود شيء غامض وراء نظام الكتاب عبر عنه بعقل صاحبه (مؤلفه). والواقع أن هذا احتمال محض، لأنه يصح أن يكون خاضعا لحالة أخرى ونتيجة لغير العقل. ومثلنا عن المطبعة وحروفها وإمكان خروج الكتب خضوعا لقانون الصدفة الشامل يوضح هذه الحالة. أما ما يقول السير جيمس جينز فرغم انه أخطأ في اعتباره الرياضة طبيعة الأشياء لأن نجاح الوجهة الرياضية في ربط الحوادث وتفسير تصرفاتها لا يحمل على أن طبيعة الأشياء لأن نجاح الوجهة الرياضية في ربط الحوادث وتفسير تصرفاتها لا يحمل على أن طبيعة الأشياء رياضية بل يدل على أن هنالك قاعدة معقولة تصل بينه وبين طبيعة الأشياء.

فالأشياء هي الكائن الواقع، والرياضيات ربط ما هو واقع في نظام ذهني على قاعدة العلاقة والوحدة. وبعبارة أخرى أن الرياضيات نظام ما هو ممكن والكون نظام ما هو واقع، والواقع يتضمنه الممكن. ولذلك فالواقع حالة خصوصية منه. ومن هنا يتضح أنه لا غرابة في انطباق الرياضيات على الكون الذي نألفه، بل كل الغرابة في عدم انطباقها لأن لكل كون رياضياته المخصوصة، فكون من الأكوان مضبوط بالرياضيات شرط ضروري لكونه كونا.

من هنا يتضح أن السير جينز انساق تحت فكرة السبب والنتيجة كما انساق أينشتين إلى التماس الناحية الرياضية في العالم. وهذا جعلهما يبحثان عن عقل رياضي وراء هذا العالم، وهذا خطأ لأن العالم إن كان نظام ما هو واقع خاضعا لنظام ما هو ممكن فهو حالة احتمال من عدة حالات والذي يحدد احتماله قانون الصدفة الشامل لا السبب الأول الشامل.

خاتمة

إن الصعوبة التي أرى الكثيرين يواجهونني بها حينما أدعوهم إلى النظر إلى العالم مستقلا عن صلة السبب والنتيجة، وخاضعا لقانون الصدفة الشامل ترد إلى قسمين :

الأول: لأن مفهوم هذا الكلام رياضي صرف ومن الصعب التعبير في غير أسلوبه الرياضي، وليس كل إنسان رياضياً عنده القدرة على السير في البرهان الرياضي.

الثاني: أنها تعطي العالم مفهوما جديدا وتجعلنا ننظر له نظرة جديدة غير التي ألفناها. ومن هنا جاءت صعوبة تصور مفهوماتها لأن التغير الحادث أساسي يتناول أسس التصور نفسه.

ولهذه الأسباب وحدها كانت الصعوبة قائمة أمام هذه النظرة الجديدة ومانعة الكثيرين الإيمان بها.

أما أنا شخصيا فلا أجد هذه الصعوبة إلا شكلية، والزمن وحده قادر على إزالتها. ومن هنا لا أجد بدا من الثبات على عقيدتي العلمية والدعوة إلى نظريتي القائمة على قانون الصدفة الشامل الذي يعتبر في الوقت نفسه أكبر ضربة للذين يؤمنون بوجود الله.

تعليقات

إسماعيل أدهم
1940-1911
كريم مروَّة

قادني شغفي بأدب توفيق الحكيم منذ مطالع شبابي في أربعينات القرن الماضي إلى تلقف كتاب “توفيق الحكيم” من تأليف الدكتور إسماعيل أدهم الذي أصدره في مصر في عام 1945 الأديب السوري سامي الكيالي صاحب مجلة “الحديث”.
وكان ذلك بعد وفاة أدهم تكريماً له وإحياء لتراثه. ويقول الكيالي في مطلع الكتاب إنه كان قد نشر نص هذه الدراسة في وقت سابق في عدد خاص من مجلة “الحديث” إلى جانب رسائل الدكتور إسماعيل أدهم عن كبار الأدباء المعاصرين. قرأت الكتاب بمتعة فائقة في ذلك الحين. ودهشت بالمستوى الرفيع الذي تميزت به دراسة أدهم عن أدب توفيق الحكيم، وعن الفن القصصي والمسرحي في الأدب العربي الحديث. وكانت قراءتي لهذا الكتاب مدخلي الأول إلى عالم إسماعيل أدهم الفائق الغنى. فهو قد استطاع في أعوامه التسعة والعشرين أن يؤسس لمدرسة خاصة به في النقد الأدبي والفني، فضلاً عن إسهاماته في دراسة المجتمع المصري في تحولاته المبكرة منذ القدم حتى العصر الحديث. وكانت سجالاته مع الأديب اللبناني –المصري فيلكس فارس حول الشرق والغرب على صفحات مجلة “الرسالة” واحدة من روائع ما تميّز به فكره من سعة في المعرفة ودقة في استخلاص الاستنتاجات من الأحداث التاريخية. لكن عبقريته المبكرة قادته، يا للمفارقة، إلى الانتحار يأساً من الدنيا، كما جاء في الرسالة التي وجدت في جيبه عندما انتشلت جثته من البحر على شاطئ الإسكندرية. وكان ذلك في عام 1940.

فمن هو إسماعيل أدهم؟

ولد في عام 1911 في الإسكندرية لأب تركي الأصل وأم ألمانية. كان جده الأكبر ابراهيم أدهم باشا من أبرز رجالات مصر في مطالع القرن التاسع عشر. قدم إلى مصر في عهد محمد علي وانخرط في سلك الجندية. أرسله محمد علي إلى انكلترا في بعثة دراسية. وبعد عودته شغل مناصب عدة منها منصب محافظ القاهرة ثم منصب ناظر الأوقاف ثم ناظر التربية. أما جده لأبيه إسماعيل بك أدهم فكان أستاذاّ للأدب التركي في برلين. في حين أن والده أحمد بك أدهم كان أميرلاي في الجيش التركي وانضم إلى أتاتورك وسافر معه إلى الأناضول في عداد الحركة الاستقلالية. لكنه سرعان ما اختلف مع أتاتورك وانتقل إلى الإسكندرية وأقام فيها حتى وفاته في عام 1921. وكان صديقاً للعديد من السياسيين والأدباء. إلا أن والدته فكانت ألمانية ابنة البروفسور وانتهوف عضو أكاديمية العلوم البروسية. ويصف الدكتور إسماعيل أدهم نشأته فيقول: “في الواقع أنني درجت على تربيتي الدينية لم تكن أقوم طريق لغرس العقيدة الدينية في نفسي. فقد كان أبي مسلماً من المتعصبين للإسلام والمسلمين. وأمي كانت مسيحية بروتستانية ذات ميل لحرية الفكر والتفكير. ولا عجب في ذلك. فقد كانت كريمة البروفسور وانتهوف الشهير. لكن سوء حظي جعلها تتوفى وأنا في الثانية من سني حياتي. فعشت طفولتي حتى أواخر الحرب العظمى مع شقيقتيَّ في الأستانة. وكانتا تلقناني تعاليم المسيحية وتسيران بي كل يوم أحد إلى الكنيسة. أما أبي فقد انشغل بالحرب. وكان متنقلاً بين ميادينها. فلم أعرف أو أتعرّف إليه إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها ودخل الحلفاء الأستانة. غير أن بعد والدي عني لم يكن يمنعه عن فرض سيطرته عليّ من الوجهة الدينية. فقد كلّف زوج عمتي وهو أحد الشرفاء العرب أن يقوم بتعليمي من الوجهة الدينية. فكان يأخذني لصلاة الجمعة كل يوم جمعة ويجعلني أصوم رمضان وأقوم بصلاة التراويح. وكان هذا كله يثقل كاهلي كطفل لم يشتد عوده بعد، فضلاً عن تحفيظي القرآن... كانت مكتبة والدي مشحونة بآلاف الكتب. وكان محرماً عليّ الخروج والاختلاط مع الأطفال الذين هم من سنّي. ولقد عانيت أثر هذا التحريم في فردية تبعدني عن الجماعة فيما بعد. ولم يكن في مستطاعي الخروج إلا مع شقيقتيّ. وقد ألفت هذه الحياة. وكنت أحبهما حباً جماً. ونقضي وقتنا معاً نطالع ونقرأ. فطالعت وأنا ابن الثامنة مؤلفات عبد الحق حامد وحفظت الكثير من شعره. وكنت كلفاً بالقصص الأدبية. فكنت أتلو لبلزاك وجي دي موباسان وهيغو من الغربيين آثارهم. ولحسين رحمة الروائي التركي المشهور قصة. أتى والدي إلى الأستانة وقد وضعت الحرب أوزارها، ودخل الحلفاء الأستانة. لم يبق كثيراً، حيث غادرها مع مصطفى كمال إلى الأناضول ليبدأ مع زعماء الحركة الاستقلالية حركتهم. وظللت أربع سنوات من سنة 1919 إلى سنة 1923 في الأستانة قابعاً في دارنا أتعلم الألمانية والتركية على يد شقيقتيّ والعربية على يد زوج عمتي. في هذه الفترة قرأت لداروين “أصل الأنواع” و”أصل الإنسان” وخرجت منهما مؤمناً بالتطور. وقرأت مباحث هكسلي واسترإليل وبيجهوت وأنا لم أتجاور الثالثة عشرة من سني حياتي. وانكببت أقرأ في هذه الفترة في ديكارت وهوبس وكانت. لكنني لم أكن أفهم كل ما أقرأ لهم. وخرجت من هذه الفترة نابذاَ نظرية الإرادة الحرة. وكان لسبينوزا وارنست هيكل الأثر الأكبر في ذلك. ثم نبذت عقيدة الخلود... غير أن خط دراستي توقف برجوع والدي إلى الأستانة ونزوحه إلى مصر واصطحابه إياي. وهنالك في الإسكندرية خطوت أيام مراهقتي. لكن أبي لم يعترف لي بحق تفكيري ووضع أساس عقيدتي المستقلة.

نعم لم تكن سني تتجاوز الرابعة عشرة. لكن معلوماتي في الرياضيات والعلوم والتاريخ تؤهلني لأن أكون في أعلى فصول المدارس الثانوية. لكن عجزي في العربية والانكليزية كان يقعد بي عن ذلك. وفي سنة 1927 غادرت مصر بعد أن تلقيت الجانب الأكبر من التعليم الإعدادي فيها على يد مدرسين خصوصيين. ونزلت تركيا والتحقت بعدها بمدة بالجامعة. وهناك للمرة الأولى وجدت أناساً يمكنني أن أشاركهم تفكيري ويشاركونني. في الأستانة درست الرياضيات، وبقيت كذلك ثلاث سنوات. ثم غادرت تركيا في بعثة لروسيا في عام 1931. وظللت إلى عام 1934. هناك درست الرياضيات وبجانبها الطبيعيات النظرية. وكان سبب انصرافي إلى الرياضيات نتيجة ميل طبيعي لي، حتى لقد فرغت من دراسة هندسة أوقليدس وأنا ابن الثانية عشرة، وقرأت لـ”بوان كاريه” و”كلاين” و”لوباجفسكي” مؤلفاتهم وأنا ابن الرابعة عشرة. وكنت كثير الشك والتساؤل. فلما بدأت بهندسة “أوقليدس” وجدته يبدأ من الأولويات. وصدم اعتقادي في فلسفة الرياضيات وقتئذ، فشككت في أوليات الرياضة. وظللت مضرباً مدة من الزمن عن تلقي الرياضيات منكباً على دراسة “هوبس” و”لوك” و”بركسلي” و”هيوم”. وكان الأخير أقربهم لنفسي. حاول الكثيرون إقناعي بأن أكمل دراستي للرياضة لكن حدث بعد ذلك تحوّل عجيب لا أعرف كنهه لليوم. فالتهمت المعلومات الرياضية كلها. درست الحساب والجبر والهندسة بضروبها وحساب الدوالي والتربيعات. لكن الشك لم يغادرني. وما إن انتهيت من دراستي حتى عنيت بأصول الرياضة. فكان هذا الموضوع سبب نوالي درجة الدكتوراه في الرياضيات البحتة من جامعة موسكو سنة 1933. وفي نفس السنة نجحت في أن أنال في العلوم وفلسفتها إجازة الدكتوراه لرسالة جديدة عن الميكانيكا الجديدة التي وضعتها مستنداً على حركات الغازات وحسابات الاحتمال...”.

في هذه السيرة التي عبّر فيها إسماعيل أدهم ببساطة عن نشأته تبيّن بوضوح العناصر التي كوّنت منها شخصيته الفذة كمثقف متعدد ميادين المعرفة. والملفت في عبقريته ذلك الدمج الطبيعي من دون افتعال بين ثلاثة ميادين اختار الخوض فيها برغم ما بينها من اختلاف: ميدان الرياضيات وميدان البحث الاجتماعي وميدان النقد الأدبي.

لقد لفتني في بحث أدهم الاقتصادي والاجتماعي تحديده لطبيعة المجتمع المصري، وللتحولات التي أحدثتها فيه أحداث التاريخ القديمة والحديثة، والخلاصة التي توصّل إليها بأن المجتمع المصري مؤلف من مجتمعين. لنقرأ بعض الفقرات من ذلك البحث الطويل تحت عنوان “قضية مصر الاقتصادية والاجتماعية من ناحيتها الإنسانية”. يقول أدهم: “لكل شعب في العالم روحه الذي يحتضن تراثه. وأعني بالروح فطرة الشعب، وبالتراث ثقافته التقليدية. وتراث مصر الآن يقوم، من ناحيتها المعاشية، على أساس من الفرعونية. وإذا قلت الفرعونية فإنما أعني أن وحدة الحياة المعاشية تعيش في ثقافة المصريين التقليدية حتى العهد الفرعوني. أما من ناحيتها العقلية فهي فرعونية تكيّفت تبعاً لها الثقافة العربية التي غزت مصر في الفتح الاسلامي، تكيّفاً يتلاءم مع ما تحتاج إليه الثقافة العقلية الفرعونية... من المهم أن نضع موضع النظر هذه المسألة: روح الشعب غير ثقافته التقليدية وغير تراثه الذي يخرج من ماضيه انسلالاً على مدى الأزمان. بيان ذلك أنه ممكن لمصر أن تتجرد من ثقافتها التقليدية وتستبدل مثلاً دينها بدين آخر ولغتها بلغة أخرى، وتحتفظ مع ذلك بروحها المصرية وبفطرتها الطبيعية، لأن ما ستأخذه سيصل إليها عن طريق التأثير في محيطها الطبيعي والاجتماعي، فتتأثر به طبيعة الشعب المصري وفطرته عن طريق ما سيترك من الأثر في المحيط. وهنا يدخل قانون العادة لاستحداث المماثلة في عقل ومشاعر الشعب. فيكون من ذلك تماثل الثقافة الجديدة التي تكونت من وقوع روح الشعب تحت تأثير العوامل والمؤثرات في سريرة كل فرد من أبناء الشعب.

ويتابع أدهم: “... خلاصة القول أن في مصر اليوم مجتمعين: المجتمع الأول يقوم في الريف وفي البنادر والمدن حيث تنزل الطبقة العاملة، والمجتمع الثاني يقوم في المدن والبنادر والمراكز. والفرق واضح بين المجتمعين في أن الأول بدائي بعكس الثاني فهو مدني... يعيش كل من هذين المجتمعين في عزلة عن الآخر، وإن كان المجتمع المدني بما فيه من قوة الجذب الاجتماعية يغزو الريف حيث طبقة الزراع من الفلاحين، ويجذب العمال وطبقة المشتغلين بالصناعات في البنادر والمراكز. غير أن قوة هذا الجذب كما قلنا هو كفاءة قانون العادة اليوم في مصر والذي يعمل على إيجاد المماثلة في كيان المجتمع المصري. إلا أنه إلى اليوم الذي تتم فيه المماثلة فالمجتمع المصري منقسم على نفسه يعيش في صورة ينعزل فيها تقريباً كل قسم عن الآخر. بيان ذلك أن المجتمع المدني متجه بأنظاره صوب الغرب. فهو لا يعرف عن الريف وطبقة العمال شيئاً. وهذا ما يؤخر إصلاح المجتمع الأول الذي يقوم على شتيت من الأيدي العاملة من المزارعين والفلاحين والصناع والعمال. زد على ذلك أن ثقافة هذا المجتمع ثقافة تقليدية شرقية محضة. فعقيدته أن الاصلاح والمساواة لا تقومان على هذه الأرض، وأنه ليس من سبيل لتقسيم هذه الأرض بين الأغنياء والفقراء. ولهذا فهم يدخلون في حسابهم السماء ويجعلون أساس التوزيع غيبياً محضاً تختلط فيه الأرض، من حيث هي صورة العالم المنظور، بالسماء من حيث هي مظهر عالم ما وراء المنظور. وكان نتيجة ذلك أن نشأت طبقة مستعبدة في مصر هي جل المجتمع الأول حيث يتكون أفرادها من طبقة الأيدي العاملة مقابل طبقة البيروقراطية التي تملك كل الثروة في مصر، هي وطبقة البرجوازيين من المتمولين المتوسطين”.

أما سجاله مع الأديب اللبناني-المصري فيلكس فارس تحت عنوان “بين الغرب والشرق” فيقدم فيه أدهم رؤيته للفرق بين الشرق والغرب ليس كبلدان وإنما كتاريخ وتقاليد وسوى ذلك من أمور. فيقول: “هناك فرق أساسي في منطق التفكير بين الشرقي والغربي. وهذا الفرق ينحصر في أن الشرقيَ يبدأ بحثه من الوحدة المتجلية حوله وينتهي إلى الخالق ومنه إلى الطبيعة، بعكس الغربيّ الذي يبدأ بحثه من التغاير الذي يكتنفه وينتهي إلى الطبيعة ومنها إلى الخالق. هذا الفرق المشهود في أن الشرقي يبدأ من عالم الغيب لينتهي إلى العالم المنظور بعكس الغربي الذي يبدأ من العالم المنظور لينتهي إلى عالم الغيب، كان سبباً لظهور اللاهوت عند الشرقيين والفلسفة عند الغربيين. وهذا التباين في منزع التفكير ذهب بالعقل الشرقي إلى الاعتقاد بأن العالم حادث كما انتهى إلى أنه قديم عند الغربيين”.

وأختم هذه المحاولة التي أستحضر فيها اسم أحد كبار رموز الثقافة المصرية إسماعيل أدهم ببعض فقرات من آرائه في النقد الأدبي. يقول في عميد الأدب العربي طه حسين: “اختلفت نظرات الناقدين في العالم العربي في مذهب الدكتور طه حسين في النقد الأدبي. فبينما نرى بعض الباحثين يعتبر الدكتور طه حسين عالماً في نقده ينحو المنحى الموضوعي في تحليله ويعالج الأشياء معالجة العالم، نجد نفراً آخر يعتقد أن الدكتور طه حسين فنان في نقده الأدبي ينحو المنحى الذاتي في تحليله ويعالج الأشياء معالجة الفنان لا العالم. وأنت بين اختلاف آراء الناقدين والباحثين وتضاربهم لا تقف على حقيقة رأي يمكنك أن تطمئن إليه وتسكن له بارتياح. غير أنه من الممكن أن نخلص برأي مستقل عن آراء الباحثين الشرقيين في مذهب الدكتور طه حسين في النقد الأدبي لا أظن إلا أنه الحقيقة الغائبة على الناقدين في الشرق العربي، وهو أن الدكتور طه حسين في نقده الأدبي عالم في منحاه وضع له مقدماته، وفنان في تحليله ومعالجته للأشياء وصوغه. والدكتور طه حسين يكاد يعترف لنفسه بهذا المذهب في النقد الأدبي. فلهذا يرى الدكتور طه حسين وله كل الحق أن يرى النقد الأدبي يجب أن يجتنب الإغراق في العلم، كما يجب أن يجتنب الإغراق في الفن”.

ويقول في المؤرخ المصري أحمد أمين: “الأستاذ أحمد أمين من كبار المؤرخين المعاصرين في العربية. يدين له تاريخ الحياة العقلية في القرنين الأول والثاني للهجرة بأحسن ما كتب في دراسته من سبيل التحقيق في التاريخ. غير أن كتابة الرجل وإن ظهرت عليها مسحة من التدهور العلمي في استقصاء الأسباب وربط النتائج لها كمظهر تحليل. فإن التقرير دون التحليل هو طابع دراسته. لكن تقرير الحوادث والوقائع عنده خاضع لمحكمة النقد العليا التي تستنزل أولوياتها بالمنطق التاريخي. ومن هنا جاء ما لدراسات الرجل من قيمة”.

أما رأيه في أدب توفيق الحكيم فإنه من المتعذر عليَّ اختيار فقرة من الكتاب الذي كرّسه لأدب الحكيم. فهو من أهم ما قرأت من كتب في النقد الأدبي. وأنصح القارئ بأن يعود إليه.هذا هو إسماعيل أدهم كما حاولت أن أقدمه للقارئ.

* الاهرام
 
انتحار الدكتور إسماعيل أحمد أدهم

روت الصحف أن الدكتور إسماعيل أحمد أدهم الباحث المعروف قد انتحر غرقاً في البحر الأبيض في الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء الماضي يأساً من الحياة وزهداً فيها. وقد عثر البوليس في معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يخبره بأنه انتحر لزهده في الحياة وكراهته لها، وأنه يوصي بعدم دفن جثته في مقبرة المسلمين، ويطلب إحراقها وأن يشرح رأسه

والدكتور أدهم أعزب في الثامنة والعشرين من عمره ينتسب إلى أصل تركي، ولم يكن له عمل أو وظيفة، بل كان يعول في الحياة على إيراد منزل يمتلكه بالإسكندرية. وقد كان يميل في بحوثه إلى الفلسفة اللادينية



مجلة الرسالة - العدد 369
بتاريخ: 29 - 07 - 1940
 

هذا النص

ملف
ديوان الغائبين.. (مبدعون توفوا في ريعان الشباب)
المشاهدات
2,035
التعليقات
2
آخر تحديث
أعلى