رائد الحواري - المأساة في رواية "النهر المقدس"(5)

عادل الحواري​

قبل البدء نحب أن نشير إلى أن هذا النوع من الروايات القصيرة ينسجم تماما مع العصر، عصر النت والسرعة، ومثل هذه الروايات بالتأكيد تحتاج إلى جهد استثنائي وقدرات خاصة من الكاتب، لأنها تقدم شكل الرواية بأقل عدد ممكن من الصفحات، كحال قصة الومضة، من هنا نقول أن من يكتب بهذا النوع من الروايات لا بد أن يكون كاتب محترف ومتمكن من قدراته الروائية، وهذا ما أكده لنا "محمود شاهين" في رواية "النهر المقدس".

عندما نقرأ للكاتب اكثر من عمل في وقت واحد يمكننا أن نكتشف ما في داخله من مشاعر، وانعكاسها على ما قدمه من اعمال أدبية، بعد رواية "أديب في الجنة" وأبناء الشيطان" تأتي رواية النهر المقدس لتوكد أن "محمود شاهين" ينظر ويقدم المرأة بصورة المضطهدة، وهذا ما جاء في روايته "أديب في الجنة" عندما تحدث عن أمه والطريقة لقاسية التي استخدمها الأب في تعامله معها: "كان أبي أقسى أب يمكن أن يتخيله المرء... عاشت معه أمي أياما مريرة تحت وطأة ظلم فظيع، ...وما أن يجدها حتى يسوقها أمامه ويجلدها برسن البغل على ظهرها إلى أن يعيدها إلى البيت" ص437، وعندما تحدث عن "ذؤابة" في رواية "أبناء الشيطان" ايضا قدمها لنا بصورة المرأة التي تتعرض لكافة الضغوط النفسية والجسدية والاجتماعية، وفي هذا الرواية "النهر المقدس" يقدمها لنا امرأة مضطهدة ومع هذا نجدها تتحمل وتقبل أن تخوض مغامرة الهجرة مع دليل قذر يعمل لتحقيق مصالحه الشخصية، من هنا نجده يتعامل مع المحتل، ويتاجر بأروح الناس، دون وجود أي وازع أخلاقي يردعه.

قبل الدخول إلى شخصية الدليل "عارف العلي" ننوه إلى أن هناك تقارب بين شخصية "أبو الخيزان" بطل رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني" وشخصية "عارف العلي" فكلاهما دليل، وكلاهما يتقاضيان الأموال نظير تهريب الناس، وكلاهما لا يلقيان بالاً بأرواح الناس، وكلاهما يتعامل مع "حرس الحدود" لكن الفارق بينهما أن الأول هرب رجالاً والثاني هرب نساء، من هنا سيدخلنا الراوي إلى الطريقة التي يفكر فيها "عارف العلي" تجاه النسوة اللواتي يقودهن إلى الضفة الشرقية للنهر، فأول ما فكر فيه بعد أن حدد الثمن الباهظ "أربعون دينار" الذي سيتقاضاه عن توصيل "وردة" وابنها "فارس" هذا الأمر: "لكن كيف اترك هذا الغزال من بين يدي، غزال يا عارف غزال، لحم كالفستق المقشر، أرداف، آه، كيف تتركها؟ بشرفك ألا تقبل أن تصحبها، بلا أجر؟! آخ، سمكة يا عارف، ما فيها جنس العظام وأنت الصياد، لا أحد ينادي ارجع، ارجع هذا يكفي" الدخول إلى داخل نفسية "عارف" أراد به الراوي أن يوضح لنا حجم القذارة التي وصل إليها، فلا يكفيه المتاجرة بالأرواح والعمالة مع المحتل، بل ويريد أن يستغل المرأة التي أؤتمن عليها ليأخذ حاجته منها، لنتابع معا بقية الطريق إلى الضفة الأخرى من "النهر المقدس" "يقصر عارف العلي من خطواته.. يسير إلى جانب وردة يختلس النظرات إليها )عينان فم، خدود، عنق ، صدر، وردة إنها وردة فعلاً، من أسماها بهذا الاسم؟ تنزلق عيناه إلى أسفل، ينظر بعينين شبقتين إلى ردفين مكتنزين.. تجتاحه موجة من الشبق العارم.. تطرق أسنانه .. ترتخي شفتاه ما الذي يمنعك من رفع هذا الثوب عالياً، لتملس على هذين الردفين، تغرس أصابعك فيهما.. تفرك لحمهما حتى يقطر الدم منه.. تضجعها هنا على حصباء الوادي.. تقلبها بطناً وظهراً.. لا يوجد غير الشمس والجبال والأودية، علها تصرخ؟ قد لا تقبل؟ ما الذي سيحدث بعد ذلك، هل تهرب وتعود إلى القرية؟ ثم تفضحك بين الناس، وتخسر كل تجارتك بعد أن تخسر ثقة الناس.. أم تغتصبها وتقتلها إذا حاولت الهرب" أفكار شيطانية بكل معنى الكلمة، فهي يعقل أن يصل المؤتمن على امرأة وابنها في طريق خال من الناس أن يفكر بهذا الشكل الشيطاني،؟، وهل يمكن أن يكون الرادع عنده فقط الخوف من الفضيحة وخراب تجارته؟ وإذا ما توقفنا عند الطريقة التي يفكر بها تجاه "وردة" يتأكد لنا بأنه شخص فاقد لكل القيم الإنسانية ويتعامل بشكل شهوني غريزي.

رغم الطريق الطويل والشاق والحمل الثقيل الذي تحمله "وردة" ظلت صامدة تتحمل مشاق الطريق ووعورتها، لكن "عارف" يستغل كل شيء ليشبع حاجته من "وردة" فبعد مسير طويل وشاق يقرر أن يستريح وأثناء تنزيل الحمل و"فارس" عن ظهرها : "وضعت ورده الطفل إلى جانب حجر، وطلبت من عارف أن يساعدها في إنزال الحمل عن ظهرها.. وكانت فرصة أخرى غير متوقّعة أمام عارف، فوقف خلفها ملتصقاً. أمسك بالحمل عن ظهرها وأخذ ينزله .. أحست وردة بشيء جعلها تجزم أن عارف يتعمد التحرش بها‍! ولم تنبس مفضلة التريث على فتح المعركة معه." لكن هل سيكتفي هذا الشيطان بما قام به، أم أن أفكاره الشيطانية ستأخذه إلى ما هو أبعد؟ المشهد التالي يبين الطريقة التي يفكر بها: "ما أجبنك يا عارف لم يبق إلا أن تمد يدك وترفع هذا الثوب إلى أعلى، وبعدها ينتهي كل شيء... ماذا تتوقع من امرأة خائرة القوى أن تفعل معك؟ وليست خائرة القوى فقط، ولم تشاهد زوجها منذ ستة أشهر.. لماذا لا تمد يدك يا حيوان، يا جبان، لماذا؟" التفكير الشيطاني يفصل ويحلل كافة التفاصيل المتعلقة "بوردة" التعب والانهاك، وعدم أخذ حاجتها من زوجها "محمد" منذ أكثر من ستة أشهر، وهذا ما جعله يعتقد بأن الضحية ستسقط في شباكه، فكل الظروف تخدمه وتقف ضدها، من هنا نجده يتقدم خطوة ثانية تجاه "وردة" التعبة والوحيدة،

"ومد عارف يدا مرتجفة.. استقرت على أعلى فخذ وردة المسبلة الجفنين.. فتحت وردة عينيها، نظرت إلى وجهه ،بدا الاحمرار وقد اندفع منه، وظهر الرعب مسيطراً عليه.. وقالت بصوت لا يخلو من نفرة:

ـ ماذا تريد يا عارف؟
"ارتعدت فرائصه"

ما حال دون اكمال الجريمة أن "عارف" شخصية مهزوزة، يفكر كتاجر، كشخص يبحث عن مصالحه المادية، ورغم أنه يفكر بالمتعة والحصول عليها وقد اتخذ مجموعة من الأفعال إلا أنه كشخص مهزوز لا يمتلك الجرأة ليكمل ما بدأ به، من هنا نجده سرعان ما تراجع أمام أول مظاهر الصد التي ابدتها "وردة" تجاهه. فيأخذ في التراجع والتقهقر عن مشروع الاعتداء على "وردة". "أيقن عارف أن لا فائدة ترجى من وردة، وأنها قد تكون على معرفة تامة بنواياه. منذ أن لمس كتفها للمرة الأولى، وأنها كانت تكتم غيظها طوال الطريق.. ولم يفكر في أمراغتصابها خوفاً على تجارته أن تبور وخوفاً على سمعته سيما وأنه من آل العلي الذين حملوا المشيخة أبا عن جد، ولهم مكانتهم بين العشيرة. كما أنه ليس بهذه الشجاعة؟؟ لكنه لم يقطع الأمل" من هنا يلجأ إلى اكمال الطريق من خلال الذهاب لإحضار بقية النسوة اللواتي ينتظرنه.

إذا كانت امرأة واحدة جعلت "عارف" يهيم بها، متخيلا إياها ملبية ما يحتاجه منه، فكيف سيكون حاله مع خمس نسوة؟: "خمس نساء وفتاة عذراء، وأنت والليل والسماء والأرض، ولا تستطيع أن تفعل شيئاً.. تبا لك، جبان، جبان، سيقتلك الظمأ ولن ترويه مدى حياتك.. قال لك شلومو ماذا لديك اليوم؟ فقلت له خمس نساء وفتاة عذراء . قال لك هذا صيد دسم! ! فرفضت حرصاً على تجارتك وسمعة العائلة بينما صورة الفتاة العذراء التي ماتت من استمرار النزيف بعد أن قتل شقيقها واغتصبتماها وبعض الجنود تمثل في مخيلتك.. والآن ماذا ستفعل؟ ! ! اقترب من هذه العذراء ..أنظر كيف تضطجع على جنبها، إنها ممتلئة .. تمدد خلفها، حاول أن تتحرش بها، أملس بيدك على فخذها.. جبان لا تستطيع أن تفعل ذلك.. إذن عريهن في مخيلتك وضاجعهن في آن واحد أيها الجبان، دعهن يستلقين على بطونهن تحت ضوء القمر.. هكذا .. يا سلام..، إنها ليست المرة الأولى التي تعرّى فيها النساء على ضوء القمر، أنظر إلى سحر الأجساد المستلقية أمامك.. بمن تبدأ؟ بالعذراء؟ والأخريات؟ فيما بعد، ليكن ! ما أجملك أيها القمر! ! وما أجمل الأجساد عندما تتعرى على نورك! " بهذا المشهد يدخلنا الراوي إلى حقيقة "عارف" فهو قد شارك جنود الاحتلال في القتل والاغتصاب، لكنه هنا لأنه وحيد ويجد نفسه أضعف من أن يقدم على تنفيذ جريمة فعليا، لهذا نجده يقوم بها بالتخيل، وهذا التخيل لا يقل جرما عن تنفيذها على أرض الواقع، لأن ما يردعه ليس الأخلاق أو المثل، بل لأنه ضعيف ويخاف على تجارته أن تبور، وليس لأي سبب آخر.

التاجر لا يبحث إلا عن تحقيق الربح، لهذا نجد "عارف" الذي كان من المفترض أن يقطع بالنسوة النهر ويوصلهن إلى الضفة الشرقية منه، وأن يؤمنهن في المواصلات، يتراجع عن كل هذا التعهد، عندما شاهد مجموعة من العائدين يريدون دليلا يوصلهم بأمان وبعيدا عن جنود الاحتلال، "وحتى لا يضيع عارف فرصة ثمينة، قد يقبض من ورائها مبلغاً محترماً، أعلن للنساء أن مهمته قد انتهت، وانثنى إليهن يهنئهن بسلامة الوصول. وبكل بساطة، أشار باتجاه النهر، وقال إنه ما عليهن إلا أن يقطعن هذه المسافة القصيرة بين الأشجار ليصلن إلى النهر، ويعبرنه بكل هدوء، إذ أن المياه قد لا تصل إلى ركبهن." لكن هل فعلا كان عبور النهر كما وصفه عارف، أم أن النسوة وخاصة "وردة" بعد الذي لقيته منه اعتبرت أن عبور النهر وحيدة أفضل وأرحم من أن يكون هذا القذر معها، فلم تبالي عندما تركها وزميلاتها الأخريات؟، "أرغمت وردة نفسها على الاطمئنان لكلام عارف كما أرغمت نفسها مسبقاً على التصديق أن تحرشاته عفوية بريئة! ! واندفعت أمام النساء فتبعنها ،وسمعت صوت أحد العائدين يقول: انتبهن من الدوامات!.. فانبرى عارف قائلاً: لا تخفن لا توجد دوامات في هذه المنطقة" "عارف" تاجر بكل معنى الكلمة حسب المفهوم الماركسي، لهذا لم يفكر إلا بالربح وبالمال، ولم تكن حياة النسوة بالنسبة له أي قيمة، فقد حصل على أجرته قبل أن يبدأ أول خطوة، وهنا ستكون النهاية مؤسفة "لوردة" بحيث تبتلعها الدوامة ثم تلقي بها جثه هامدة: ".. وبعد قليل شاهدن الدوامة تقذف بجثة وردة فتسحبها مياه النهر أمام عيونهن.. دون أن يتمكّن من عمل شيء... ومكثن يرقبن الجثة الطافية فوق الماء في ذهول مخيف، إلى أن حدّ الظلام من مشاهدتها.. فتراجعن إلى الشاطئ يلفهن الحزن والأسى، بينما صراخ الأطفال يعلو ويعلو في استغاثات مفجعة، ولم يعد جنود الاحتلال يخيفون أحداّ! ! !"

نهاية مأساوية تتماثل مع نهاية رواية "رجال في الشمس" لكنها لم تطال إلا شخصية "وردة" وليس كل المجموعة، لكن تبقى صورة الدليل/القائد القذر والمهزوز والخائن والتاجر هي الباقية والفاعلة.

وعند نهاية الراوية نتوقف متسائلين لماذا جعل الراوي "عارف" طليقا ويكمل ما يقوم به من تجارة بشرية وعمالة للمحتل؟ ولماذا جعل "وردة" تعيش حالة الفرح فقط من خلال الذاكرة/التخيل؟، هل لهذا الأمر علاقة بما عاشه الراوي في طفولته، فكان عليه أن يميت "وردة" كإشارة وانعكاس لما مرة به بعد أن ترك أمه في حالة اضطهاد للأب وهاجر؟ أم أن هذه النهاية تحمل شيء من واقع الفلسطيني الذي يلاحقه الموت أينما ذهب؟، فكانت هذه النهاية تعبر عن واقع الحال؟



الرواية منشورة على الحوار المتمدن على هذا الرابط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى