اولا: ملخص الدراسه: نظرية الوجود الفائق هى محاوله لتفسير نمط معين من أنماط ما أطلق عليه اسم " الظواهر الغامضة"، وهو نمط الظواهر ذات الطبيعة الفائقه. وهى تنطلق من نظرية الأنماط المتعددة ، والتي مضمونها أن هناك أنماط متعددة لهذه الظواهر الغامضه، وبالتالي فان هناك تفسيرات متعددة لها، تستند إلى معايير متعددة للتمييز بينها. كما تنطلق نظريه الوجود الفائق، فى تفسيرها لهذا النمط المعين من أنماط الظواهر الغامضة من الاقرار بان الوجود غير مقصور على الوجود المادي المحسوس، المحدود بالزمان والمكان، فالأخير هو مجرد درجه من درجات الوجود- مستوى من مستوياته- المتعددة. .كما تنطلق نظريه الوجود الفائق ، فى تفسيرها لهذا النمط المعين من انماط الظواهر الغامضة ، من تقريرها درجة من درجات – مستوى من مستويات – الوجود، غير قائمة بذاتها ومستقلة عن غيرها من درجات – مستويات- الوجود، بل تربط بين درجتي- مستويى- الوجود الشهادى والغيبى، وهى درجة - مستوى – الوجود الفائق، والذى يشمل الظواهر والكائنات والمستويات،التى تتضمن إمكانيات تفوق امكانيات غيرها من ظواهر او كائنات او مستويات شهاديه. ويتضمن درجتين – مستويين- فرعيين هما : ا/ وجود فائق - غير مفارق : ويشمل وجود الظواهر والكائنات والمستويات ، التى تنتمي من ناحيه الشكل " الكيفية" والجوهر "الماهية " إلى الوجود الشهادى، وفى ذات الوقت ذات طبيعة فائقة، بمعنى أنها تتضمن امكانيات تفوق امكانيات غيرها من ظواهر أو كائنات أو مستويات شهاديه ، دون أن تكون هذه الإمكانيات مطلقه " اى ان تحققها يتم بدون قطع اطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى، او ابطال السببية التى تشكل مضمون هذه السنن". ومثال لها الإمكانيات والمقدرات الإنسانية التي يدرسها علم الباراسيكولوجى:ب/ الوجود الفائق - المفارق : ويشمل وجود الظواهر والكائنات والمستويات، التى لها حضور في الوجود الشهادى المحدود بالمكان والزمان ، من ناحية الشكل "الكيفية" . ولكنها تنتمي من ناحية الجوهر "الماهية "، إلى درجات – مستويات - لوجود آخر " هو الوجود الغيبي المقيد " ، ويرتبط بهذه الطبيعة المفارقة أنها ذات طبيعة فائقة، بمعنى أنها تتضمن امكانيات تفوق امكانيات غيرها من ظواهر أو كائنات او مستويات شهاديه ، دون أن تكون هذه الإمكانيات مطلقه " اى ان تحققها يتم بدون قطع اطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى، او ابطال السببية التى تشكل مضمون هذه السنن". ومثال لها ا/ الجن والمس الشيطانى ب/ الكرامات طبقا لمذهب الاثبات المقيد ج/ السحر الحقيقى، اما السحر التخييلي فهو ذو طبيعة فائقة غير مفارقة وغير خارقة أيضا ...........................................................
ثانيا: متن الدراسه التفصيلى:
الانطلاق من نظرية الأنماط المتعددة : تنطلق نظرية الوجود الفائق من نظرية الأنماط المتعددة ، فى تفسير ما يطلق عليه اسم " الظواهر الغامضة " ، والتى مضمونها أن هناك أنماط متعددة لهذه الظواهر، " فبعضها خارق وبعضها فائق- وهو النمط الذي تتناوله الدراسه - وبعضها مجهول السبب..."، وبالتالي فإن هناك تفسيرات متعددة لها، تستند إلى معايير متعددة للتمييز بينها. (كمعيار الشهادى - غير المفارق والغيبي- المفارق- " ظواهر شهاديه -غير مفارقه- وظواهر غيبية- مفارقه- " / معيار الفائق وغير الفائق "ظواهر فائقة وظواهر غير الفائقة " / معيار التحقق"ظواهر يتم التحقق من ثبوت وجودها ، وظواهر لم يتم التحقق من ثبوت وجودها" /معيار التطور العلمي" ظواهر أتاح التطور العلمي إمكانية تفسيرها، وظواهر لم يتيح التطور العلمي إمكانية تفسيرها / معيار الموانع الذاتية والموضوعية " ظواهر الموانع الذاتية - كخداع الحواس والإيحاء الذاتي- و ظواهر الموانع الموضوعية- كالمرحلة التي بلغها التطور العلمي في عصر معين-
الانطلاق من تعدد درجات - مستويات – الوجود : كما تنطلق نظرية االوجود الفائق، فى تفسيرها لنمط معين من أنماط الظواهر الغامضة " نمط الظواهر ذات الطبيعة الفائقة "، من الاقرار بان الوجود غير مقصور على الوجود المادي المحسوس، المحدود بالزمان والمكان- كما تفترض خطاْ المذاهب والفلسفات المادية - فالأخير هو مجرد درجه من درجات الوجود- مستوى من مستوياته- المتعددة. وهذا الإقرار هو مكون رئيسي ل للتصور الاسلامى للوجود، وتصور الوجود فى كل الاديان وكثير من المذاهب والفلسفات .
مفهوم الدرجيه القرآني: ويستند التصور الإسلامي للوجود فى هذا الاقرار الى مفهوم الدرجيه الذي أشارت إليه الكثير من النصوص كقوله تعالى ( وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) ، حيث أشار القران الكريم إلى درجيه الوجود الشهادى- بدرجتيه (الوجود التسخيرى “الطبيعي” والاستخلافى”الانسانى”)- كما فى قوله تعالى(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)، كما أشار إلى درجيه الوجود الغيبي” الاخروى” كما في قوله تعالى (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) ، ومرجع هذه الدرجيه أن هذا الوجود قائم على الظهور الصفاتى(فى حالة الوجود الشهادى- الحياة الدنيا)، أو الذاتي (فى حالة الوجود الغيبي / الحياة الآخرة)،للفعل المطلق الذى ينفرد به الله تعالى “ والذى عبر عنه القران بمصطلح الربوبية”، وكلاهما يتم خلال درجات . ويرتبط هذا المفهوم بمفهوم آخر هو الكلية ، وطبقا له فإن كل درجة من درجات الوجود تحد الدرجة السابقة عليها- كما يحد الكل الجزء- فتكملها تغنيها ولكن لا تلغيها ، والفارق بين هذه الدرجات هو فارق في الشمول والتركيب،اى أن الدرجة السابقة هي أقل محدودية وبساطه ، والدرجة اللاحقة هي أكثر شمولا وتركيبا وهكذا. واتساقا مع هذا مفهوم وصف القران الكريم الله تعالى أنه رفيع الدرجات ( رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده... )، هذا الوصف هو إشارة إلى أن له تعالى درجه الوجود المطلق ، الذي يحد كل وجود سواه، وبالتالي فان كل وجود سواه في درجة من درجات الوجود المحدود ، ويتصل بهذا وصفه تعالى بأنه واسع كما في قوله تعالى(إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(البقرة: 115)، ومحيط كما في قوله تعالى( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق: 12). كما انه اتساقا مع مفهوم الدرجية وصف القران العلاقة بين الوجود الغيبي المطلق ، الذي ينفرد به الله تعالى والوجود الشهادى والغيبي المحدود لسواه تعالى بأنها علاقة تنزل وعروج كما في قوله تعالى ).( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر)ٍ وقوله تعالى ( من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )( المعارج : 3 ، 4 ).
الانطلاق من الوجود الفائق كرابط بين الوجودين الشهادى والغيبى : كما تنطلق نظرية الوجود الفائق ، فى تفسيرها لنمط معين من أنماط الظواهر الغامضة " نمط الظواهر ذات الطبيعة الفائقة " ، من تقريرها درجة من درجات – مستوى من مستويات – الوجود، غير قائمة بذاتها ومستقلة عن غيرها من درجات – مستويات- الوجود، بل تربط بين درجتى- مستوىى- الوجود الشهادى والغيبى، وهى درجة - مستوى – الوجود الفائق، واتساقا مع هذا فان للوجود ثلاث درجات – مستويات – هى :
اولا:الوجود الشهادى: وهو الوجود المحدود بالحركة خلال الزمان- وبالتالى خاضع للتطور خلاله - او الوجود فى المكان - وبالتالى خاضع للتغير فيه – وبالتالى يمكن شهوده بالحواس– وبالتالى ادراكه وتصوره - ويشمل وجود الظواهر والكائنات والمستويات الشهاديه (مثال للاول الظواهر الطبيعية والإنسانية ، ومثال للثانى النبات والحيوان والإنسان ، ومثال للثالث مستوى الوجود المادى الحسى "الموضوعى " ،ومستوى الوجود الفكري الذهني "الذاتي "..). ويتضمن درجتين – مستويين – فرعيين هما:ا/الوجود التسخيرى: ويشمل الوجود الطبيعي بظواهره وكائناته ومستوياته المختلفة.ب/الوجود الاستخلافى:وهو مقصور على الوجود الانسانى .
ثانيا: الوجود الغيبى : وهو وجود غير محدود بالزمان - وبالتالى غير خاضع للتطور خلاله -او المكان - وبالتالي غير خاضع للتغير فيه ، ويلزم من هذا انه غائب عن حواس الانسان- وبالتالى عن ادراكه وتصوره – ويتضمن درجتين – مستويين- فرعيين هما:الوجود الغيبي المطلق : وينفرد به الله تعالى .ب/ الوجود الغيبي المحدود : ويشمل وجود الظواهر والكائنات والمستويات الغيبية المحدودة بالوجود الغيبي المطلق ، الذي ينفرد به الله تعالى- اى المخلوقة - (مثال للاول الصراط المستقيم، ومثال الثانى الجن والملائكة والشياطين ، ومثال للثالث الجنة والنار) .
ثالثا:الوجود الفائق: وهو الوجود الذي يربط بين الوجودين الشهادى والغيبى ، ويشمل الظواهر والكائنات والمستويات،التى تتضمن إمكانيات تفوق امكانيات غيرها من ظواهر او كائنات او مستويات شهاديه. ويتضمن درجتين – مستويين- فرعيين هما :
ا/ وجود فائق - غير مفارق : وهو اعلى درجات – مستويات- الوجود الشهادى. و يشمل وجود الظواهر والكائنات والمستويات ، التى تنتمي- من ناحية الشكل " الكيفية" والجوهر "الماهية" - إلى الوجود الشهادى، وبالتالي خاضعة للسنن الالهيه التي تضبط حركته ، والسببية التي تشكل مضمون هذه السنن- لذا فهى غير مفارقة لهذا الوجود - وفى ذات الوقت ذات طبيعة فائقة، بمعنى أنها تتضمن إمكانيات تفوق امكانيات غيرها من ظواهر أو كائنات او مستويات شهاديه ، دون أن تكون هذه الإمكانيات مطلقة ، اى لا يمكنها قطع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه هذا الوجود الشهادى، وبالتالي إلغاء السببية التي تشكل مضمون هذه السنن.
امثله:
الباراسيكولوجي : ومثال للظواهر الشهاديه الفائقة – غير المفارقة الإمكانيات والمقدرات الإنسانية التي يدرسها علم الباراسيكولوجى:
المصطلح: المصطلح مكون من كلمتي (Para ) وتعني ما وراء ، و ( psychology ) وتعنى علم النفس ،اى ما وراء علم النفس.
الامكانيات التى يدرسها الباراسيكولوجى:ويبحث الباراسيكولوجي في عدة امكانيات ومقدرات" إنسانية" أهمها: 1/ التخاطر : وهو نوع من قراءة الأفكار ، عن طريق الاتصال بين عقول الأفراد ، بعيدا عن طريق الحواس الخمسة ،أي بدون الكلام أو الكتابة أو الإشارة .2/ الاستبصار: و تعني حدة الإدراك والقدرة على رؤية كل ما هو وراء نطاق البصر.3/ التنبؤ: اى معرفة الأحداث قبل وقوعها .4/ التحريك من بعد: وتعني القدرة على تحريك الأشياء أو ليها بدون لمس.
المواقف المتعددة من هذه الإمكانيات والمقدرات:
القبول المطلق: الإقرار بوجود هذه الإمكانيات والمقدرات ، بدون التحقق من صحتها بالتجربة والاختبار العلميين، فضلا عن افتراض انها ذات طبيعة خارقه،اى أنها تتحقق بانقطاع اضطراد القوانين الموضوعية التي تضبط حركه الوجود، وإنكار حتميتها ، اي إلغاء السببية التى هى مضمون هذه القوانين الموضوعية. أما النقد الموجه لهذا الموقف فيشمل: ا/هذا الموقف يفتح الباب أمام التفكير الخرافى ،لانه يقوم على الإقرار بصحة فكره عن ظاهرة تنتمي الى الوجود الشهادى ، بدون التحقق من صحتها بالتجربة والاختبار العلميين. 2/كما ان الاقرار بوجود هذه الامكانيات لا يلزم منه بالضرورة تقرير أنها ذات طبيعة خارقة .3/ وتقرير ذلك يخالف المنظور الاسلامى للوجود لان الطبيعة الخارقة مقصورة على ظاهره المعجزات عند الانبياء،ولا تتجاوزها الى غيرها من ظواهر.
الرفض المطلق: ويقوم على انكار وجود هذه الامكانيات والمقدرات مطلقا. والنقدالموجه لهذا الموزقف يشمل: 1/هذا الموقف رغم ادعائه العلمية يخالف التفكير العلمى، لأنه إذا كان هناك بعض الإمكانيات والمقدرات لم يثبت وجودها ، فإن بعضها الآخر قد ثبت وجودها بالتجربة والاختبار العلميين. 2/ وهو فى احيان كثير مجرد رد فعل على الموقف الاول ، لانه يفترض ان الإقرار بوجود هذه الظواهر يلزم منه إنكار القوانين الموضوعية أو حتميتها ، وبالتالي فتح الباب للتفكير الخرافي- وهو لزوم مقصور على اقرار الموقف الاول بوجود هذه الامكانيات- 3/ كما ان هذا الموقف ينطلق - فى احيان كثيره- من افتراض خاطى مضمونه ان الوجود مقصور على الوجود المادى المحسوس- اى ينطلق من تصور مادي للوجود – مع افتراضه ان الإقرار بوجود هذه الإمكانيات يلزم منه بالضرورة الاقرار بكونها ذات طبيعة خارقه، مفارقة لهذا الوجود المادي المحسوس.
الإثبات المقيد:
الإقرار بوجود الإمكانات التي ثبت وجودها بالتجربة والاختبار العلميين: انطلاقا من:1/ تقرير القران محدودية العلم الانسانى( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ،فالعلم قد توصل إلى معرفة الكثير من الظواهر – الطبيعية والإنسانية - وقوانين حركتها، إلا انه لم يتوصل إلى معرفة كل هذه الظواهر.2/ دعوة القران إلى اتخاذ الحواس وبالتالي التجربة والاختبار العلميين كمعيار للتحقق من صحة الأفكار التي تفسر عالم الشهادة وظواهره الجزئية العينية( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
وجود فائق - غير مفارق "غير خارق" : ان هذه الإمكانيات والمقدرات تفوق غيرها من امكانيات ومقدرات انسانيه،ولكنها لا تتحقق بانقطاع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى، والسببية التي تشكل مضمون هذه السنن.
ب/ الوجود الفائق - المفارق : وهو ادنى درجات – مستويات- الوجود الغيبى . ويشمل وجود الظواهر والكائنات والمستويات، التى لها حضورفى الوجود الشهادى المحدود بالمكان والزمان ، من ناحيه الشكل "الكيفيه" . ولكنها تنتمي من ناحيه الجوهر "الماهية "، إلى درجات – مستويات - لوجود اخر " هو الوجود الغيبي المقيد " ، فهى – من هذه الناحيه - غير خاضعة للسنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى،والسببية التي تشكل مضمون هذه السنن .ويرتبط بهذه الطبيعة المفارقة أنها ذات طبيعة فائقة، بمعنى أنها تتضمن امكانيات تفوق امكانيات غيرها من ظواهر أو كائنات او مستويات شهاديه ، دون أن تكون هذه الامكانيات مطلقه ، فلا تتوافر لها إمكانية إلغاء أو إبطال السببية التي تشكل مضمون السنن الالهيه- فهي غير خارقه – وبعبارة اخرى فان علاقتها بالسببية هي علاقة غيريه وليست علاقة نفى .
أمثلة: ا /الجن:
كائن مفارق – فائق: الجن هو كائن ذو وجود مفارق – فائق . فهو كائن له حضور في الوجود الشهادى المحدود بالمكان والزمان ، من ناحية الشكل "الكيفية" ( وهي عنده غير ثابته - كما هو الحال فى الكائنات الشهاديه كالنباتات والحيوانات والبشر- فله القدرة على التشكل فى كيفيات مختلفه ) . ولكنه ينتمي من ناحية الجوهر "الماهية "( اى حقيقته) ، إلى درجه– مستوى – من درجات الوجود الغيبي المقيد ، فهو – من هذه الناحيه - غير خاضع للسنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى،والسببية التي تشكل مضمون هذه السنن . ويرتبط بهذه الطبيعة المفارقة أنه ذو طبيعة فائقة، بمعنى أنه ذو امكانيات تفوق امكانيات غيره من كائنات شهاديه "كالإنسان".
غير خارق: غير ان امكانيات الجن ليست مطلقه ، فلا تتوافر له إمكانية إلغاء أو إبطال السببية التي تشكل مضمون السنن الالهيه . لذا يقرر القران أن قدره الجن – شان قدره اى كائن مخلوق آخر- محدودة مقيدة " تكوينيا وتكليفيا " بالقدرة الالهيه المطلقة، قال تعالى( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بسلطان) ( الرحمن :33) يقول القرطبي:...( ...قَالَ اِبْن عَبَّاس : " لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ " لَا تَخْرُجُونَ مِنْ سُلْطَانِي وَقُدْرَتِي عَلَيْكُمْ . وَقَوْله : " فَانْفُذُوا " أَمْر تَعْجِيز) ، وكدليل على محدودية قدره الجن ، يقرر القران ان تفوق قدره الجن على قدره الإنسان ليست مطلقه، كما فى قوله تعالى(قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ .. )(النمل: 39-40) ، اغلب المفسرين يرون أن الذي عنده علم من الكتاب ، والذي فاق العفريت من الجن ،هو من الإنس وليس من الجن ، وان هذا الإنسان نال درجه الصديقيه ،وان فعله الذي فاق فعل الجن هو كرامه- قبل ختم النبوه وانقضاء عصور امكانيه انقظاع اضطراد السنن الالهيه وابطال السببيه - ورد في تفسير القرطبي( قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْ النَّاس أَنَّهُ رَجُل صَالِح مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل اِسْمه آصَف بْن برخيا ... وَقِيلَ : أَرَادَ مِقْدَار مَا يَفْتَح عَيْنه ثُمَّ يَطْرِف , وَهُوَ كَمَا تَقُول : اِفْعَلْ كَذَا فِي لَحْظَة عَيْن ; وَهَذَا أَشْبَه ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْفِعْل مِنْ سُلَيْمَان فَهُوَ مُعْجِزَة , وَإِنْ كَانَ مِنْ آصَف أَوْ مِنْ غَيْره مِنْ أَوْلِيَاء اللَّه فَهِيَ كَرَامَة...) . كما أن الجن بوجوده المفارق هذا قد يفوق الإنسان فى العلم لكن علمه ليس مطلق، فالقران الكريم يقرر ان الجن لا يعلم الغيب كما فى قوله تعالى( وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبّهمْ رَشَدًا )، والمقصود بالغيب هنا الغيب المطلق الذي ينفرد بالعلم به الله تعالى، أما الغيب النسبي (اى ما غاب عن علم الإنسان في مكان أو زمان معينين وفى ذات الوقت ينتمي إلى الوجود الشهادى المحدود بالزمان والمكان )، قد تتوافر للجن أمكانيه العلم به . بل أن القران الكريم يقرر أن الجن لا يعلم كل أحداث عالم الشهادة (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) (سبا: 41).
امكانيه رؤيه الجن: هناك مذاهب متعددة فى امكانيه رؤيه الجن :
الاثبات المطلق: القول بإمكانية رؤية الجن مطلقا، اى للانبياء او غيرهم، فى هيئتهم الاصليه (الجوهر "الماهية") ، او الصور التى يتشكلون بها (الشكل "الكيفية").وقال به العديد من العلماء منهم الألوسي, وابن العربي. ولكنه يتعارض مع ظاهر قوله تعالى( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ).
النفى المطلق: نفى إمكانية رؤية الجن مطلقا، فهي غير ممكنة للانبياء او غيرهم، فى هيئتهم الاصليه او الصور التى يتشكلون فيها.وقال به المعتزلة.وهو يتعارض مع الكثير من النصوص التى تفيد إمكانية رؤية الجن.
الاثبات المقيد: القول بان امكانيه رؤيه الجن فى هيئتهم الاصليه (الجوهر "الماهيه") مقصور على الانبياء- لا نها تنتمى الى الوجود الغيبى - اما امكانيه رؤيتهم فى الصور التى يتشكلون فيها (الشكل"الكيفيه") فمتاحه لهم ولغيرهم- لانها تنتمنى الى الوجود الشهادى- وهو مذهب الجمهور، قال الحافظ ابن حجر: (إن الشيطان قد يتصور ببعض الصور، فتمكن رؤيته، وأن قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ مخصوص بما إذا كان على صورته التي خلق عليها،.. وأنهم يظهرون للإنس بالشرط المذكور) (فتح البارى: ج4 ،ص489)، وقال الباقلاني: (لسنا ننكر مع كون أصلهم النار أن الله تعالى يكثف أجسامهم ويغلظها ويخلق لهم أعراضاً تزيد على ما في النار، فيخرجون عن كونهم ناراً، ويخلق لهم صوراً وأشكالاً مختلفة) (الفتاوى الحديثيه :ص 65)، ثم يقول (إنما رآهم من رآهم لأنهم أجساد مؤلفة... )) الفتاوى الحديثيه : نفس المكان) .ويمكن إدراج اقول العلماء الذين قرروا ان إمكانية رؤية الجن مقصورة على الأنبياء تحت اطار هذا المذهب، بشرط حملها على معنى هيئتهم الأصلية (الجوهر" الماهية ")،ومن هؤلاء العلماء الإمام الشافعي وابن حزم والنحاس والقشيري ، ورد فى تفسير القرطبى (قال القشيري: أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم)(ج7، ص186)، ويقول ابن حزم : (ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه )(الفصل في الملل والأهواء والنحل: ج5/ ص13).
طبيعه المس الشيطانى: أشارت النصوص الى المس الشيطانى كما فى قوله تعالى (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)(البقرة : 275). غير ان هناك العديد من المذاهب فى تفسير طبيعته : هل هو اتصال بين الانسان والجن، وفى حال كونه كذلك هل هو اتصال مادي حسى، أم غيبى معنوى ، وتستند هذه المذاهب الى تصورات معينة طبيعة العلاقة بين الوجودين الشهادى والغيبى.
مذهب النفي المطلق للاتصال بين الانسان والجن: ويقوم على ان المس الشيطانى ليس اتصال بين الإنسان والجن، فهو يقوم نفى إمكانية هذا الاتصال مطلقا ، اى باى شكل من الاشكال ، ويستند الى تصور معين لطبيعة العلاقة بين الوجود الشهادى والغيبى ، يجعل العلاقة بينهما علاقة فصل، ومن ممثلي هذا المذهب المعتزلة قديما. أما النقد الموجه لهذا المذهب فهو ان هذا المذهب يتعارض مع تقرير العديد من النصوص إمكانية الاتصال بين الإنسان والجن، فضلا عن ان التصور الذي يستند اليه ، حول طبيعة العلاقة بين الوجودين الشهادى والغيبى ،يخالف روح التصور الإسلامي للوجود .
مذهب الإثبات المطلق"الاتصال المادى الحسي ": ويقوم على ان المس الشيطانى هو اتصال بين الإنسان والجن. ولكنه يجعل هذا الاتصال ذو طبيعه مادية حسيه، ويستند الى تصور معين لطبيعة العلاقة بين الوجودين الشهادى والغيبى،يجعل العلاقة بينهما علاقة خلط .ومن ممثليه التصورات التى تستند الى مفاهيم التجسيم والتشبيه البدعيه. .أما النقد الموجه لهذا المذهب فهو انه يستند فى تقرير الطبيعة المادية الحسية للاتصال بين الانسان والجن إلى ظاهر الآية – ايه المس الشيطانى - غير ان هذا الظاهر لا يفيد ذلك، فهو يتحدث عن يوم الجزاء كما قال جمهور المفسرين .ويرى كثير منهم أن ذلك جاء موافقا لمعتقد العرب أيام الجاهلية، في امكانيه الاتصال "المادي -الحسي " بالجن.كما ان التصور الذي يستند اليه ،حول طبيعة العلاقة بين الوجودين الشهادى والغيبى، لا يعبر عن جوهر التصور الإسلامي للوجود.
مذهب الإثبات المقيد"الاتصال الغيبي": ويقوم على ان المس الشيطانى هو اتصال بين الانسان والجن ، غير أن هذا الاتصال هو اتصال غيبي "معنوى" - وليس اتصال مادى "حسي " - والدليل على هذا ان استخدم القران مصطلح " مس" ، الذى هو اشمل من مصطلح " لمس" ، إذا يقتصر الأخير على معنى الاتصال الحسي فقط ، بينما يشمل الأخير معنىٍ الاتصال الحسي وغير الحسي- وهو المقصود هنا - وهو ما قرره كثير من المفسرين في تفسير الآيات المتعلقة بعلاقة الإنسان بالجن كقوله تعالى ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) (الجن : 6 ) ، قال الطبري( ... كانوا في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي ، فيقول الجنيون : تتعوذون بنا ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا ) (جامع البيان في تأويل القرآن : 12 / 263) .وذكر مثل ذلك البغوي ابن كثير في ( تفسير القرآن العظيم)، والشوكاني في ( فتح القدير ) . ويستند هذا المذهب الى تصور معين لطبيعة العلاقة بين الوجودين الشهادى والغيبى مضمونه ان العلاقة بينهما هى من ناحية علاقة وحده وارتباط (وليست علاقة خلط ) ، ومن ناحية اخرى علاقة تمييز (وليست علاقة فصل)، وبالتالى فان الوجود الغيبي يحدد الوجود الشهادى كما يحدد الكل الجزء فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه .
ب/ الكرامات: والكرامات- طبقا لمذهب الإثبات المقيد الذى نرجحه - هى ظاهرة ذات وجود فائق- مفارق.
مذاهب تفسير طبيعتها: حيث أثبت أهل السنة بفرقهم المختلفة كرامات الأولياء ، اتساقا مع تقرير العديد من النصوص لها كقوله تعالى (الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون)، غير أن هناك مذهبين في تفسير طبيعتها:
مذهب الإثبات المقيد: مضمونه تقييد مضمونها تكوينيا بالتزام بحتمية السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى ، وبالتالي فان الكرامة هي تكريم الله تعالى لشخص صالح، بمنحه قدرة تفوق قدرة تفوق قدره غيره من أشخاص عاديين، دون انقطاع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،اى دون إلغاء السببية - اى علاقة التلازم بين السبب والمسبب- خلافا للمعجزة- يقول الإسفرائيني (إن الكرامة لا تبلغ مبلغ خرق العادة)( الموافقات : ص25) ، وهو يقارب رأى عدد من العلماء الذين فرقوا بين الكرامة والمعجزة ، بان ما جاز معجزة لنبي لا يجوز كرامة لولي ، يقول الإمام النووي (... قال وصار بعض أصحابنا إلي أن ما وقع معجزة للنبي، لا يجوز تقدير وقوعه كرامة لولي)( بستان العارفين: ص 30) . وطبقا لهذا التفسير يجوز الأخذ بالتعريف الكرامة بأنها"خرق للعادة"، بشرط أن يكون المقصود بالعادة ما اعتاد عليه الناس ،وليس العادة المضطردة، ورد في شرح العقيدة الطحاوية (فالمعجزة في اللغة كل أمر خارق للعادة ، وكذلك الكرامة في عرف الائمه أهل العلم المتقدمين، ولكن كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما...وجماعها الأمر الخارق للعادة...وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله،ويعلمه ما علمه الله إياه، ويستغنى عما أغناه الله، ويقدر على ما اقدره الله عليه من الأمور المخالفة للعادة المضطردة ، أو لعاده اغلب الناس ،فجميع المعجزات والكرامات لا تخرج عن هذه الأنواع )( شرح العقيدة الطحاوية ،مكتبه الدعوة الاسلاميه،القاهرة، ص 499).
ظاهره فائفه- مفارقه: اتساقا مع هذا المذهب فإن الكرامات هى ظاهرة مفارقة – فائقه ، فهى من ناحية الجوهر "الماهية "(اى حقيقتها)، تكريم الهى- كما اشرنا اعلاه- فهى تنتمى من هذه الناحية إلى درجه– مستوى – من درجات الوجود الغيبي المقيد (فهى محصله للظهور الصفاتى للفعل الالهى المطلق " الذى عبر عنه القران بمصطلح الربوبيه "- اى مادل على هذا الفعل المطلق )، ويرتبط بهذه الطبيعة المفارقة أنها ذات طبيعة فائقة ( فمضمون هذا التكريم الالهى منح شخص صالح إمكانيات تفوق إمكانيات غيره من الناس) .
مذهب الإثبات المطلق ونقده : مضمونه إثبات الكرامة دون تقييد مضمونها تكوينيا، فالكرامة يمكن أن تتم بانقطاع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،وإلغاء السببية ، اى إلغاء علاقة التلازم بين السبب والمسبب،وهو ما عبر عنه أصحاب هذا التفسير بتعريف الكرامة بأنها " خرق للعادة "، والمقصود بالعادة عند أصحاب هذا التفسير العادة المضطرة اى السنن الالهية.اما أوجه النقد التى يمكن ان توجه لهذا المذهب فهى أن هذا التفسير لا يوضح الفرق بين الكرامة والمعجزة، لذا رفضه عدد من متأخري الأشاعرة و المتصوفة، ومنهم الإمام السبكي القائل (معاذ الله أن يتحدى نبي بكرامه تكررت على ولي، بل لا بد أن يأتي النبي بما لا يوقعه الله على يد الولي، و إن جاز وقوعه فليس كل جائز في قضايا العقول واقعا . و لما كانت مرتبة النبي أعلى و أرفع من مرتبة الولي ، كان الولي ممنوعا مما يأتي به النبي على الإعجاز و التحدي، أدبا مع النبي )( طبقات الشافعية: ج 2، ص 320 ).
غير خارقة: على النقيض من هذا المذهب فإن الكرامات هى ظاهرة غير خارقه ، فلا تتحقق من خلال قطع اضطراد السنن الالهيه التى تضبط حركه الوجود الشهادى ، وإلغاء أو إبطال السببية التي تشكل مضمون السنن الالهيه- خلافا للمعجزات - كما أشرنا عند الحديث عن مذهب الإثبات المقيد .
مقارنة بين الكرامات والظواهر التى يدرسها الباراسيكولوجى:
اوجه الاشتراك: مضمون كلاهما امكانيات فائقة - اى ان يكون لشخص معين إمكانيات تفوق إمكانيات غيره من الناس - فكلاهما لهم طبيعة فائقة .
اوجه الاختلاف: ان الامكانيات التى يدرسها الباراسيكولوجى ذات طبيعة غير مفارقه، تنتمى الى الوجود الشهادى، بمعنى انها إمكانيات كامنة اصلا فى الشخص المعين وتحتاج فقط الى تفعيل، و لا تاتى نتيجه لصلاح من يمتلكها .أما الكرامات فتتعلق بامكانيات ذات طبيعة مفارقة ،لان حقيقتها –وكما اشرنا اعلاه – تكريم الهى لهذا الشخص المعين لصلاحه، فهى طارئة- وكمحصله لفعل معين- "وهو الصلاح" - وليست كامنه.
بين الجعل والخلق: وهذا يعنى انه اذا كان كلاهما ظهور صفاتى للفعل المطلق الذى ينفرد به الله تعالى "الربوبيه" ، فان الاولى تتصل بالجعل الذى مضمونه اى الفعل المطلق فى الايجاد - اى ظهور صفه الخلق - في الوجود الشهادى المحدود في الزمان والمكان ، كما اشارت العديد من النصوص ،كقوله تعالى (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ) ( يس : 34)، ويتضمن انماط – مراحل: ا/ التسوية: اى جعل النوع في أحسن الهيئات (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)،ب/ التقدير: أي إيجاد فعلي للنوع المعين، في عالم الشهادة القائم على السببية، بعد إيجاد شروط "أسباب" وجوده (والذى قدر فهدى)، الهدايه : أي ضبط حركة النوع المعين بسنن إلهية كلية ونوعية بعد إيجاده (الذي أَعْطَى كلَّ شيء خَلْقَه ثم هَدَى). اماالثانيه فتتصل بالخلق الذى مضمونه مجمل هذا الفعل المطلق في الإيجاد ، مع التركيز على ظهور هذا الفعل المطلق ، في الوجود الغيبى المطلق عن قيود الزمان والمكان،كما اشارت العديد من النصوص كقوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) ( الأنعام :1). ويتضمن نمط - مرحله الأمر الذي لا يتم في زمان أو مكان (إنما أمره أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).
ج/ السحر:السحر ظاهره ذات طبيعة فائقه، ولكن بينما السحر الحقيقى ذو طبيعه مفارقه ، فان السحر التخييلي ذو طبيعة غير مفارقه، غير ان كلاهما ذو طبيعة غير خارقه.
مذاهب تفسير طبيعة أقسام السحر: أثبت أهل السنة بفرقهم المختلفة وجود السحر، لثبوته بالنصوص القطعيه، لكنهم اختلفوا فى تفسير طبيعة أقسامه.
السحر حقيقي: وهو قلب الأعيان في ذاتها " اى تغيير الحقيقة الموضوعية للأشياء". و هناك مذهبين في تفسير طبيعته :
المذهب الأول:الإثبات المطلق: اى القول بأن السحر الحقيقي هو قلب للأعيان في ذاتها "اى انه يغير الحقيقة الموضوعية للأشياء"على وجه الإطلاق. ويعنى هذا أن القلب أو التغيير يمكن أن يتم حتى بانقطاع اطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،وإلغاء السببية ، اى إلغاء علاقة التلازم بين السبب والمسبب.
المذهب الثاني:الاثبات المقيد:اى إثبات وجود السحر الحقيقي، وتفسيره بأنه قلب للأعيان في ذاتها، مع تقييد ذلك بعدم انقطاع اطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،وإلغاء السببية ، اى إلغاء علاقة التلازم بين السبب والمسبب. ومثاله السحر المتحقق بالاتصال بالجن وما تملكه من قدرات فائقة – وليست خارقة – تتضمن إمكانية قلب الأعيان فى ذاتها، لكن بدون انقطاع اطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،وإلغاء السببية كما ذكرنا أعلاه.
طبيعه فائقة مفارقة غير خارقة: على النقيض من المذهب الاول واتساقا مع المذهب الثانى فاننا نرى ان السحر الحقيقى ذو طبيعة فائقة مفارقه، ولكن غير خارقه.
السحر التخييلي: وهو قلب الأعيان بالنسبة للمعاين لا في ذاتها " اى تغيير الإدراك الحسي للأشياء"، ومنه قوله تعالى ( يحيل إليه من سحرهم أنها تسعى)( طه: 66) ، ويتصل بالمعنى اللغوى للسحر، يقول الجوهري (السحر الآخذة ، وكلّ ما لَطُف مأخذه ودَقّ فهو سحر . وسحره أيضا بمعنى خدعه . وقال ابن مسعود: كنّا نُسَمّي السحر في الجاهلية العِضَة. والعضة عند العرب: شدّة البَهْت وتمويه الكذب ). وهذا القسم من أقسام السحر يتم طبقا لقوانين نوعية "هي بمثابة شرط لفاعلية القوانين الكلية" يعلمها الساحر ويجهلها غيره، اى انه يتم طبقا لأسباب يعلمها الساحر ويجهلها غيره، يقول القرطبي ( السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجوه تركيبها وأوقاتها، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة، وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون: "وجاءوا بِسِحْرٍ عظيم" (الأعراف: 116). مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالاً وعصيًا) ثم قال( والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم- وكل ذلك يندرج تحت اطارالسحرالحقيقى - وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانًا أو عكسه بسحر الساحر ونحو ذلك- اى قلب الأعيان فى ذاتها كما فى السحر الحقيقى- ).
طبيعة فائقة غير مفارقة وغير خارقة: اتساقا مع هذا المذهب فاننا نرى ان السحر التخييلي ذو طبيعة فائقة غير مفارقه،وغير خارقة أيضا.
د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم
[email protected]
.................................
الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات
الموقع الرسمي للدكتور صبري محمد خليل خيري
ثانيا: متن الدراسه التفصيلى:
الانطلاق من نظرية الأنماط المتعددة : تنطلق نظرية الوجود الفائق من نظرية الأنماط المتعددة ، فى تفسير ما يطلق عليه اسم " الظواهر الغامضة " ، والتى مضمونها أن هناك أنماط متعددة لهذه الظواهر، " فبعضها خارق وبعضها فائق- وهو النمط الذي تتناوله الدراسه - وبعضها مجهول السبب..."، وبالتالي فإن هناك تفسيرات متعددة لها، تستند إلى معايير متعددة للتمييز بينها. (كمعيار الشهادى - غير المفارق والغيبي- المفارق- " ظواهر شهاديه -غير مفارقه- وظواهر غيبية- مفارقه- " / معيار الفائق وغير الفائق "ظواهر فائقة وظواهر غير الفائقة " / معيار التحقق"ظواهر يتم التحقق من ثبوت وجودها ، وظواهر لم يتم التحقق من ثبوت وجودها" /معيار التطور العلمي" ظواهر أتاح التطور العلمي إمكانية تفسيرها، وظواهر لم يتيح التطور العلمي إمكانية تفسيرها / معيار الموانع الذاتية والموضوعية " ظواهر الموانع الذاتية - كخداع الحواس والإيحاء الذاتي- و ظواهر الموانع الموضوعية- كالمرحلة التي بلغها التطور العلمي في عصر معين-
الانطلاق من تعدد درجات - مستويات – الوجود : كما تنطلق نظرية االوجود الفائق، فى تفسيرها لنمط معين من أنماط الظواهر الغامضة " نمط الظواهر ذات الطبيعة الفائقة "، من الاقرار بان الوجود غير مقصور على الوجود المادي المحسوس، المحدود بالزمان والمكان- كما تفترض خطاْ المذاهب والفلسفات المادية - فالأخير هو مجرد درجه من درجات الوجود- مستوى من مستوياته- المتعددة. وهذا الإقرار هو مكون رئيسي ل للتصور الاسلامى للوجود، وتصور الوجود فى كل الاديان وكثير من المذاهب والفلسفات .
مفهوم الدرجيه القرآني: ويستند التصور الإسلامي للوجود فى هذا الاقرار الى مفهوم الدرجيه الذي أشارت إليه الكثير من النصوص كقوله تعالى ( وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) ، حيث أشار القران الكريم إلى درجيه الوجود الشهادى- بدرجتيه (الوجود التسخيرى “الطبيعي” والاستخلافى”الانسانى”)- كما فى قوله تعالى(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)، كما أشار إلى درجيه الوجود الغيبي” الاخروى” كما في قوله تعالى (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) ، ومرجع هذه الدرجيه أن هذا الوجود قائم على الظهور الصفاتى(فى حالة الوجود الشهادى- الحياة الدنيا)، أو الذاتي (فى حالة الوجود الغيبي / الحياة الآخرة)،للفعل المطلق الذى ينفرد به الله تعالى “ والذى عبر عنه القران بمصطلح الربوبية”، وكلاهما يتم خلال درجات . ويرتبط هذا المفهوم بمفهوم آخر هو الكلية ، وطبقا له فإن كل درجة من درجات الوجود تحد الدرجة السابقة عليها- كما يحد الكل الجزء- فتكملها تغنيها ولكن لا تلغيها ، والفارق بين هذه الدرجات هو فارق في الشمول والتركيب،اى أن الدرجة السابقة هي أقل محدودية وبساطه ، والدرجة اللاحقة هي أكثر شمولا وتركيبا وهكذا. واتساقا مع هذا مفهوم وصف القران الكريم الله تعالى أنه رفيع الدرجات ( رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده... )، هذا الوصف هو إشارة إلى أن له تعالى درجه الوجود المطلق ، الذي يحد كل وجود سواه، وبالتالي فان كل وجود سواه في درجة من درجات الوجود المحدود ، ويتصل بهذا وصفه تعالى بأنه واسع كما في قوله تعالى(إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(البقرة: 115)، ومحيط كما في قوله تعالى( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق: 12). كما انه اتساقا مع مفهوم الدرجية وصف القران العلاقة بين الوجود الغيبي المطلق ، الذي ينفرد به الله تعالى والوجود الشهادى والغيبي المحدود لسواه تعالى بأنها علاقة تنزل وعروج كما في قوله تعالى ).( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر)ٍ وقوله تعالى ( من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )( المعارج : 3 ، 4 ).
الانطلاق من الوجود الفائق كرابط بين الوجودين الشهادى والغيبى : كما تنطلق نظرية الوجود الفائق ، فى تفسيرها لنمط معين من أنماط الظواهر الغامضة " نمط الظواهر ذات الطبيعة الفائقة " ، من تقريرها درجة من درجات – مستوى من مستويات – الوجود، غير قائمة بذاتها ومستقلة عن غيرها من درجات – مستويات- الوجود، بل تربط بين درجتى- مستوىى- الوجود الشهادى والغيبى، وهى درجة - مستوى – الوجود الفائق، واتساقا مع هذا فان للوجود ثلاث درجات – مستويات – هى :
اولا:الوجود الشهادى: وهو الوجود المحدود بالحركة خلال الزمان- وبالتالى خاضع للتطور خلاله - او الوجود فى المكان - وبالتالى خاضع للتغير فيه – وبالتالى يمكن شهوده بالحواس– وبالتالى ادراكه وتصوره - ويشمل وجود الظواهر والكائنات والمستويات الشهاديه (مثال للاول الظواهر الطبيعية والإنسانية ، ومثال للثانى النبات والحيوان والإنسان ، ومثال للثالث مستوى الوجود المادى الحسى "الموضوعى " ،ومستوى الوجود الفكري الذهني "الذاتي "..). ويتضمن درجتين – مستويين – فرعيين هما:ا/الوجود التسخيرى: ويشمل الوجود الطبيعي بظواهره وكائناته ومستوياته المختلفة.ب/الوجود الاستخلافى:وهو مقصور على الوجود الانسانى .
ثانيا: الوجود الغيبى : وهو وجود غير محدود بالزمان - وبالتالى غير خاضع للتطور خلاله -او المكان - وبالتالي غير خاضع للتغير فيه ، ويلزم من هذا انه غائب عن حواس الانسان- وبالتالى عن ادراكه وتصوره – ويتضمن درجتين – مستويين- فرعيين هما:الوجود الغيبي المطلق : وينفرد به الله تعالى .ب/ الوجود الغيبي المحدود : ويشمل وجود الظواهر والكائنات والمستويات الغيبية المحدودة بالوجود الغيبي المطلق ، الذي ينفرد به الله تعالى- اى المخلوقة - (مثال للاول الصراط المستقيم، ومثال الثانى الجن والملائكة والشياطين ، ومثال للثالث الجنة والنار) .
ثالثا:الوجود الفائق: وهو الوجود الذي يربط بين الوجودين الشهادى والغيبى ، ويشمل الظواهر والكائنات والمستويات،التى تتضمن إمكانيات تفوق امكانيات غيرها من ظواهر او كائنات او مستويات شهاديه. ويتضمن درجتين – مستويين- فرعيين هما :
ا/ وجود فائق - غير مفارق : وهو اعلى درجات – مستويات- الوجود الشهادى. و يشمل وجود الظواهر والكائنات والمستويات ، التى تنتمي- من ناحية الشكل " الكيفية" والجوهر "الماهية" - إلى الوجود الشهادى، وبالتالي خاضعة للسنن الالهيه التي تضبط حركته ، والسببية التي تشكل مضمون هذه السنن- لذا فهى غير مفارقة لهذا الوجود - وفى ذات الوقت ذات طبيعة فائقة، بمعنى أنها تتضمن إمكانيات تفوق امكانيات غيرها من ظواهر أو كائنات او مستويات شهاديه ، دون أن تكون هذه الإمكانيات مطلقة ، اى لا يمكنها قطع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه هذا الوجود الشهادى، وبالتالي إلغاء السببية التي تشكل مضمون هذه السنن.
امثله:
الباراسيكولوجي : ومثال للظواهر الشهاديه الفائقة – غير المفارقة الإمكانيات والمقدرات الإنسانية التي يدرسها علم الباراسيكولوجى:
المصطلح: المصطلح مكون من كلمتي (Para ) وتعني ما وراء ، و ( psychology ) وتعنى علم النفس ،اى ما وراء علم النفس.
الامكانيات التى يدرسها الباراسيكولوجى:ويبحث الباراسيكولوجي في عدة امكانيات ومقدرات" إنسانية" أهمها: 1/ التخاطر : وهو نوع من قراءة الأفكار ، عن طريق الاتصال بين عقول الأفراد ، بعيدا عن طريق الحواس الخمسة ،أي بدون الكلام أو الكتابة أو الإشارة .2/ الاستبصار: و تعني حدة الإدراك والقدرة على رؤية كل ما هو وراء نطاق البصر.3/ التنبؤ: اى معرفة الأحداث قبل وقوعها .4/ التحريك من بعد: وتعني القدرة على تحريك الأشياء أو ليها بدون لمس.
المواقف المتعددة من هذه الإمكانيات والمقدرات:
القبول المطلق: الإقرار بوجود هذه الإمكانيات والمقدرات ، بدون التحقق من صحتها بالتجربة والاختبار العلميين، فضلا عن افتراض انها ذات طبيعة خارقه،اى أنها تتحقق بانقطاع اضطراد القوانين الموضوعية التي تضبط حركه الوجود، وإنكار حتميتها ، اي إلغاء السببية التى هى مضمون هذه القوانين الموضوعية. أما النقد الموجه لهذا الموقف فيشمل: ا/هذا الموقف يفتح الباب أمام التفكير الخرافى ،لانه يقوم على الإقرار بصحة فكره عن ظاهرة تنتمي الى الوجود الشهادى ، بدون التحقق من صحتها بالتجربة والاختبار العلميين. 2/كما ان الاقرار بوجود هذه الامكانيات لا يلزم منه بالضرورة تقرير أنها ذات طبيعة خارقة .3/ وتقرير ذلك يخالف المنظور الاسلامى للوجود لان الطبيعة الخارقة مقصورة على ظاهره المعجزات عند الانبياء،ولا تتجاوزها الى غيرها من ظواهر.
الرفض المطلق: ويقوم على انكار وجود هذه الامكانيات والمقدرات مطلقا. والنقدالموجه لهذا الموزقف يشمل: 1/هذا الموقف رغم ادعائه العلمية يخالف التفكير العلمى، لأنه إذا كان هناك بعض الإمكانيات والمقدرات لم يثبت وجودها ، فإن بعضها الآخر قد ثبت وجودها بالتجربة والاختبار العلميين. 2/ وهو فى احيان كثير مجرد رد فعل على الموقف الاول ، لانه يفترض ان الإقرار بوجود هذه الظواهر يلزم منه إنكار القوانين الموضوعية أو حتميتها ، وبالتالي فتح الباب للتفكير الخرافي- وهو لزوم مقصور على اقرار الموقف الاول بوجود هذه الامكانيات- 3/ كما ان هذا الموقف ينطلق - فى احيان كثيره- من افتراض خاطى مضمونه ان الوجود مقصور على الوجود المادى المحسوس- اى ينطلق من تصور مادي للوجود – مع افتراضه ان الإقرار بوجود هذه الإمكانيات يلزم منه بالضرورة الاقرار بكونها ذات طبيعة خارقه، مفارقة لهذا الوجود المادي المحسوس.
الإثبات المقيد:
الإقرار بوجود الإمكانات التي ثبت وجودها بالتجربة والاختبار العلميين: انطلاقا من:1/ تقرير القران محدودية العلم الانسانى( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ،فالعلم قد توصل إلى معرفة الكثير من الظواهر – الطبيعية والإنسانية - وقوانين حركتها، إلا انه لم يتوصل إلى معرفة كل هذه الظواهر.2/ دعوة القران إلى اتخاذ الحواس وبالتالي التجربة والاختبار العلميين كمعيار للتحقق من صحة الأفكار التي تفسر عالم الشهادة وظواهره الجزئية العينية( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
وجود فائق - غير مفارق "غير خارق" : ان هذه الإمكانيات والمقدرات تفوق غيرها من امكانيات ومقدرات انسانيه،ولكنها لا تتحقق بانقطاع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى، والسببية التي تشكل مضمون هذه السنن.
ب/ الوجود الفائق - المفارق : وهو ادنى درجات – مستويات- الوجود الغيبى . ويشمل وجود الظواهر والكائنات والمستويات، التى لها حضورفى الوجود الشهادى المحدود بالمكان والزمان ، من ناحيه الشكل "الكيفيه" . ولكنها تنتمي من ناحيه الجوهر "الماهية "، إلى درجات – مستويات - لوجود اخر " هو الوجود الغيبي المقيد " ، فهى – من هذه الناحيه - غير خاضعة للسنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى،والسببية التي تشكل مضمون هذه السنن .ويرتبط بهذه الطبيعة المفارقة أنها ذات طبيعة فائقة، بمعنى أنها تتضمن امكانيات تفوق امكانيات غيرها من ظواهر أو كائنات او مستويات شهاديه ، دون أن تكون هذه الامكانيات مطلقه ، فلا تتوافر لها إمكانية إلغاء أو إبطال السببية التي تشكل مضمون السنن الالهيه- فهي غير خارقه – وبعبارة اخرى فان علاقتها بالسببية هي علاقة غيريه وليست علاقة نفى .
أمثلة: ا /الجن:
كائن مفارق – فائق: الجن هو كائن ذو وجود مفارق – فائق . فهو كائن له حضور في الوجود الشهادى المحدود بالمكان والزمان ، من ناحية الشكل "الكيفية" ( وهي عنده غير ثابته - كما هو الحال فى الكائنات الشهاديه كالنباتات والحيوانات والبشر- فله القدرة على التشكل فى كيفيات مختلفه ) . ولكنه ينتمي من ناحية الجوهر "الماهية "( اى حقيقته) ، إلى درجه– مستوى – من درجات الوجود الغيبي المقيد ، فهو – من هذه الناحيه - غير خاضع للسنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى،والسببية التي تشكل مضمون هذه السنن . ويرتبط بهذه الطبيعة المفارقة أنه ذو طبيعة فائقة، بمعنى أنه ذو امكانيات تفوق امكانيات غيره من كائنات شهاديه "كالإنسان".
غير خارق: غير ان امكانيات الجن ليست مطلقه ، فلا تتوافر له إمكانية إلغاء أو إبطال السببية التي تشكل مضمون السنن الالهيه . لذا يقرر القران أن قدره الجن – شان قدره اى كائن مخلوق آخر- محدودة مقيدة " تكوينيا وتكليفيا " بالقدرة الالهيه المطلقة، قال تعالى( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بسلطان) ( الرحمن :33) يقول القرطبي:...( ...قَالَ اِبْن عَبَّاس : " لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ " لَا تَخْرُجُونَ مِنْ سُلْطَانِي وَقُدْرَتِي عَلَيْكُمْ . وَقَوْله : " فَانْفُذُوا " أَمْر تَعْجِيز) ، وكدليل على محدودية قدره الجن ، يقرر القران ان تفوق قدره الجن على قدره الإنسان ليست مطلقه، كما فى قوله تعالى(قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ .. )(النمل: 39-40) ، اغلب المفسرين يرون أن الذي عنده علم من الكتاب ، والذي فاق العفريت من الجن ،هو من الإنس وليس من الجن ، وان هذا الإنسان نال درجه الصديقيه ،وان فعله الذي فاق فعل الجن هو كرامه- قبل ختم النبوه وانقضاء عصور امكانيه انقظاع اضطراد السنن الالهيه وابطال السببيه - ورد في تفسير القرطبي( قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْ النَّاس أَنَّهُ رَجُل صَالِح مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل اِسْمه آصَف بْن برخيا ... وَقِيلَ : أَرَادَ مِقْدَار مَا يَفْتَح عَيْنه ثُمَّ يَطْرِف , وَهُوَ كَمَا تَقُول : اِفْعَلْ كَذَا فِي لَحْظَة عَيْن ; وَهَذَا أَشْبَه ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْفِعْل مِنْ سُلَيْمَان فَهُوَ مُعْجِزَة , وَإِنْ كَانَ مِنْ آصَف أَوْ مِنْ غَيْره مِنْ أَوْلِيَاء اللَّه فَهِيَ كَرَامَة...) . كما أن الجن بوجوده المفارق هذا قد يفوق الإنسان فى العلم لكن علمه ليس مطلق، فالقران الكريم يقرر ان الجن لا يعلم الغيب كما فى قوله تعالى( وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبّهمْ رَشَدًا )، والمقصود بالغيب هنا الغيب المطلق الذي ينفرد بالعلم به الله تعالى، أما الغيب النسبي (اى ما غاب عن علم الإنسان في مكان أو زمان معينين وفى ذات الوقت ينتمي إلى الوجود الشهادى المحدود بالزمان والمكان )، قد تتوافر للجن أمكانيه العلم به . بل أن القران الكريم يقرر أن الجن لا يعلم كل أحداث عالم الشهادة (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) (سبا: 41).
امكانيه رؤيه الجن: هناك مذاهب متعددة فى امكانيه رؤيه الجن :
الاثبات المطلق: القول بإمكانية رؤية الجن مطلقا، اى للانبياء او غيرهم، فى هيئتهم الاصليه (الجوهر "الماهية") ، او الصور التى يتشكلون بها (الشكل "الكيفية").وقال به العديد من العلماء منهم الألوسي, وابن العربي. ولكنه يتعارض مع ظاهر قوله تعالى( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ).
النفى المطلق: نفى إمكانية رؤية الجن مطلقا، فهي غير ممكنة للانبياء او غيرهم، فى هيئتهم الاصليه او الصور التى يتشكلون فيها.وقال به المعتزلة.وهو يتعارض مع الكثير من النصوص التى تفيد إمكانية رؤية الجن.
الاثبات المقيد: القول بان امكانيه رؤيه الجن فى هيئتهم الاصليه (الجوهر "الماهيه") مقصور على الانبياء- لا نها تنتمى الى الوجود الغيبى - اما امكانيه رؤيتهم فى الصور التى يتشكلون فيها (الشكل"الكيفيه") فمتاحه لهم ولغيرهم- لانها تنتمنى الى الوجود الشهادى- وهو مذهب الجمهور، قال الحافظ ابن حجر: (إن الشيطان قد يتصور ببعض الصور، فتمكن رؤيته، وأن قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ مخصوص بما إذا كان على صورته التي خلق عليها،.. وأنهم يظهرون للإنس بالشرط المذكور) (فتح البارى: ج4 ،ص489)، وقال الباقلاني: (لسنا ننكر مع كون أصلهم النار أن الله تعالى يكثف أجسامهم ويغلظها ويخلق لهم أعراضاً تزيد على ما في النار، فيخرجون عن كونهم ناراً، ويخلق لهم صوراً وأشكالاً مختلفة) (الفتاوى الحديثيه :ص 65)، ثم يقول (إنما رآهم من رآهم لأنهم أجساد مؤلفة... )) الفتاوى الحديثيه : نفس المكان) .ويمكن إدراج اقول العلماء الذين قرروا ان إمكانية رؤية الجن مقصورة على الأنبياء تحت اطار هذا المذهب، بشرط حملها على معنى هيئتهم الأصلية (الجوهر" الماهية ")،ومن هؤلاء العلماء الإمام الشافعي وابن حزم والنحاس والقشيري ، ورد فى تفسير القرطبى (قال القشيري: أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم)(ج7، ص186)، ويقول ابن حزم : (ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه )(الفصل في الملل والأهواء والنحل: ج5/ ص13).
طبيعه المس الشيطانى: أشارت النصوص الى المس الشيطانى كما فى قوله تعالى (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)(البقرة : 275). غير ان هناك العديد من المذاهب فى تفسير طبيعته : هل هو اتصال بين الانسان والجن، وفى حال كونه كذلك هل هو اتصال مادي حسى، أم غيبى معنوى ، وتستند هذه المذاهب الى تصورات معينة طبيعة العلاقة بين الوجودين الشهادى والغيبى.
مذهب النفي المطلق للاتصال بين الانسان والجن: ويقوم على ان المس الشيطانى ليس اتصال بين الإنسان والجن، فهو يقوم نفى إمكانية هذا الاتصال مطلقا ، اى باى شكل من الاشكال ، ويستند الى تصور معين لطبيعة العلاقة بين الوجود الشهادى والغيبى ، يجعل العلاقة بينهما علاقة فصل، ومن ممثلي هذا المذهب المعتزلة قديما. أما النقد الموجه لهذا المذهب فهو ان هذا المذهب يتعارض مع تقرير العديد من النصوص إمكانية الاتصال بين الإنسان والجن، فضلا عن ان التصور الذي يستند اليه ، حول طبيعة العلاقة بين الوجودين الشهادى والغيبى ،يخالف روح التصور الإسلامي للوجود .
مذهب الإثبات المطلق"الاتصال المادى الحسي ": ويقوم على ان المس الشيطانى هو اتصال بين الإنسان والجن. ولكنه يجعل هذا الاتصال ذو طبيعه مادية حسيه، ويستند الى تصور معين لطبيعة العلاقة بين الوجودين الشهادى والغيبى،يجعل العلاقة بينهما علاقة خلط .ومن ممثليه التصورات التى تستند الى مفاهيم التجسيم والتشبيه البدعيه. .أما النقد الموجه لهذا المذهب فهو انه يستند فى تقرير الطبيعة المادية الحسية للاتصال بين الانسان والجن إلى ظاهر الآية – ايه المس الشيطانى - غير ان هذا الظاهر لا يفيد ذلك، فهو يتحدث عن يوم الجزاء كما قال جمهور المفسرين .ويرى كثير منهم أن ذلك جاء موافقا لمعتقد العرب أيام الجاهلية، في امكانيه الاتصال "المادي -الحسي " بالجن.كما ان التصور الذي يستند اليه ،حول طبيعة العلاقة بين الوجودين الشهادى والغيبى، لا يعبر عن جوهر التصور الإسلامي للوجود.
مذهب الإثبات المقيد"الاتصال الغيبي": ويقوم على ان المس الشيطانى هو اتصال بين الانسان والجن ، غير أن هذا الاتصال هو اتصال غيبي "معنوى" - وليس اتصال مادى "حسي " - والدليل على هذا ان استخدم القران مصطلح " مس" ، الذى هو اشمل من مصطلح " لمس" ، إذا يقتصر الأخير على معنى الاتصال الحسي فقط ، بينما يشمل الأخير معنىٍ الاتصال الحسي وغير الحسي- وهو المقصود هنا - وهو ما قرره كثير من المفسرين في تفسير الآيات المتعلقة بعلاقة الإنسان بالجن كقوله تعالى ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) (الجن : 6 ) ، قال الطبري( ... كانوا في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي ، فيقول الجنيون : تتعوذون بنا ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا ) (جامع البيان في تأويل القرآن : 12 / 263) .وذكر مثل ذلك البغوي ابن كثير في ( تفسير القرآن العظيم)، والشوكاني في ( فتح القدير ) . ويستند هذا المذهب الى تصور معين لطبيعة العلاقة بين الوجودين الشهادى والغيبى مضمونه ان العلاقة بينهما هى من ناحية علاقة وحده وارتباط (وليست علاقة خلط ) ، ومن ناحية اخرى علاقة تمييز (وليست علاقة فصل)، وبالتالى فان الوجود الغيبي يحدد الوجود الشهادى كما يحدد الكل الجزء فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه .
ب/ الكرامات: والكرامات- طبقا لمذهب الإثبات المقيد الذى نرجحه - هى ظاهرة ذات وجود فائق- مفارق.
مذاهب تفسير طبيعتها: حيث أثبت أهل السنة بفرقهم المختلفة كرامات الأولياء ، اتساقا مع تقرير العديد من النصوص لها كقوله تعالى (الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون)، غير أن هناك مذهبين في تفسير طبيعتها:
مذهب الإثبات المقيد: مضمونه تقييد مضمونها تكوينيا بالتزام بحتمية السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود الشهادى ، وبالتالي فان الكرامة هي تكريم الله تعالى لشخص صالح، بمنحه قدرة تفوق قدرة تفوق قدره غيره من أشخاص عاديين، دون انقطاع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،اى دون إلغاء السببية - اى علاقة التلازم بين السبب والمسبب- خلافا للمعجزة- يقول الإسفرائيني (إن الكرامة لا تبلغ مبلغ خرق العادة)( الموافقات : ص25) ، وهو يقارب رأى عدد من العلماء الذين فرقوا بين الكرامة والمعجزة ، بان ما جاز معجزة لنبي لا يجوز كرامة لولي ، يقول الإمام النووي (... قال وصار بعض أصحابنا إلي أن ما وقع معجزة للنبي، لا يجوز تقدير وقوعه كرامة لولي)( بستان العارفين: ص 30) . وطبقا لهذا التفسير يجوز الأخذ بالتعريف الكرامة بأنها"خرق للعادة"، بشرط أن يكون المقصود بالعادة ما اعتاد عليه الناس ،وليس العادة المضطردة، ورد في شرح العقيدة الطحاوية (فالمعجزة في اللغة كل أمر خارق للعادة ، وكذلك الكرامة في عرف الائمه أهل العلم المتقدمين، ولكن كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما...وجماعها الأمر الخارق للعادة...وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله،ويعلمه ما علمه الله إياه، ويستغنى عما أغناه الله، ويقدر على ما اقدره الله عليه من الأمور المخالفة للعادة المضطردة ، أو لعاده اغلب الناس ،فجميع المعجزات والكرامات لا تخرج عن هذه الأنواع )( شرح العقيدة الطحاوية ،مكتبه الدعوة الاسلاميه،القاهرة، ص 499).
ظاهره فائفه- مفارقه: اتساقا مع هذا المذهب فإن الكرامات هى ظاهرة مفارقة – فائقه ، فهى من ناحية الجوهر "الماهية "(اى حقيقتها)، تكريم الهى- كما اشرنا اعلاه- فهى تنتمى من هذه الناحية إلى درجه– مستوى – من درجات الوجود الغيبي المقيد (فهى محصله للظهور الصفاتى للفعل الالهى المطلق " الذى عبر عنه القران بمصطلح الربوبيه "- اى مادل على هذا الفعل المطلق )، ويرتبط بهذه الطبيعة المفارقة أنها ذات طبيعة فائقة ( فمضمون هذا التكريم الالهى منح شخص صالح إمكانيات تفوق إمكانيات غيره من الناس) .
مذهب الإثبات المطلق ونقده : مضمونه إثبات الكرامة دون تقييد مضمونها تكوينيا، فالكرامة يمكن أن تتم بانقطاع اضطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،وإلغاء السببية ، اى إلغاء علاقة التلازم بين السبب والمسبب،وهو ما عبر عنه أصحاب هذا التفسير بتعريف الكرامة بأنها " خرق للعادة "، والمقصود بالعادة عند أصحاب هذا التفسير العادة المضطرة اى السنن الالهية.اما أوجه النقد التى يمكن ان توجه لهذا المذهب فهى أن هذا التفسير لا يوضح الفرق بين الكرامة والمعجزة، لذا رفضه عدد من متأخري الأشاعرة و المتصوفة، ومنهم الإمام السبكي القائل (معاذ الله أن يتحدى نبي بكرامه تكررت على ولي، بل لا بد أن يأتي النبي بما لا يوقعه الله على يد الولي، و إن جاز وقوعه فليس كل جائز في قضايا العقول واقعا . و لما كانت مرتبة النبي أعلى و أرفع من مرتبة الولي ، كان الولي ممنوعا مما يأتي به النبي على الإعجاز و التحدي، أدبا مع النبي )( طبقات الشافعية: ج 2، ص 320 ).
غير خارقة: على النقيض من هذا المذهب فإن الكرامات هى ظاهرة غير خارقه ، فلا تتحقق من خلال قطع اضطراد السنن الالهيه التى تضبط حركه الوجود الشهادى ، وإلغاء أو إبطال السببية التي تشكل مضمون السنن الالهيه- خلافا للمعجزات - كما أشرنا عند الحديث عن مذهب الإثبات المقيد .
مقارنة بين الكرامات والظواهر التى يدرسها الباراسيكولوجى:
اوجه الاشتراك: مضمون كلاهما امكانيات فائقة - اى ان يكون لشخص معين إمكانيات تفوق إمكانيات غيره من الناس - فكلاهما لهم طبيعة فائقة .
اوجه الاختلاف: ان الامكانيات التى يدرسها الباراسيكولوجى ذات طبيعة غير مفارقه، تنتمى الى الوجود الشهادى، بمعنى انها إمكانيات كامنة اصلا فى الشخص المعين وتحتاج فقط الى تفعيل، و لا تاتى نتيجه لصلاح من يمتلكها .أما الكرامات فتتعلق بامكانيات ذات طبيعة مفارقة ،لان حقيقتها –وكما اشرنا اعلاه – تكريم الهى لهذا الشخص المعين لصلاحه، فهى طارئة- وكمحصله لفعل معين- "وهو الصلاح" - وليست كامنه.
بين الجعل والخلق: وهذا يعنى انه اذا كان كلاهما ظهور صفاتى للفعل المطلق الذى ينفرد به الله تعالى "الربوبيه" ، فان الاولى تتصل بالجعل الذى مضمونه اى الفعل المطلق فى الايجاد - اى ظهور صفه الخلق - في الوجود الشهادى المحدود في الزمان والمكان ، كما اشارت العديد من النصوص ،كقوله تعالى (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ) ( يس : 34)، ويتضمن انماط – مراحل: ا/ التسوية: اى جعل النوع في أحسن الهيئات (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)،ب/ التقدير: أي إيجاد فعلي للنوع المعين، في عالم الشهادة القائم على السببية، بعد إيجاد شروط "أسباب" وجوده (والذى قدر فهدى)، الهدايه : أي ضبط حركة النوع المعين بسنن إلهية كلية ونوعية بعد إيجاده (الذي أَعْطَى كلَّ شيء خَلْقَه ثم هَدَى). اماالثانيه فتتصل بالخلق الذى مضمونه مجمل هذا الفعل المطلق في الإيجاد ، مع التركيز على ظهور هذا الفعل المطلق ، في الوجود الغيبى المطلق عن قيود الزمان والمكان،كما اشارت العديد من النصوص كقوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) ( الأنعام :1). ويتضمن نمط - مرحله الأمر الذي لا يتم في زمان أو مكان (إنما أمره أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).
ج/ السحر:السحر ظاهره ذات طبيعة فائقه، ولكن بينما السحر الحقيقى ذو طبيعه مفارقه ، فان السحر التخييلي ذو طبيعة غير مفارقه، غير ان كلاهما ذو طبيعة غير خارقه.
مذاهب تفسير طبيعة أقسام السحر: أثبت أهل السنة بفرقهم المختلفة وجود السحر، لثبوته بالنصوص القطعيه، لكنهم اختلفوا فى تفسير طبيعة أقسامه.
السحر حقيقي: وهو قلب الأعيان في ذاتها " اى تغيير الحقيقة الموضوعية للأشياء". و هناك مذهبين في تفسير طبيعته :
المذهب الأول:الإثبات المطلق: اى القول بأن السحر الحقيقي هو قلب للأعيان في ذاتها "اى انه يغير الحقيقة الموضوعية للأشياء"على وجه الإطلاق. ويعنى هذا أن القلب أو التغيير يمكن أن يتم حتى بانقطاع اطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،وإلغاء السببية ، اى إلغاء علاقة التلازم بين السبب والمسبب.
المذهب الثاني:الاثبات المقيد:اى إثبات وجود السحر الحقيقي، وتفسيره بأنه قلب للأعيان في ذاتها، مع تقييد ذلك بعدم انقطاع اطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،وإلغاء السببية ، اى إلغاء علاقة التلازم بين السبب والمسبب. ومثاله السحر المتحقق بالاتصال بالجن وما تملكه من قدرات فائقة – وليست خارقة – تتضمن إمكانية قلب الأعيان فى ذاتها، لكن بدون انقطاع اطراد السنن الالهيه التي تضبط حركه الوجود،وإلغاء السببية كما ذكرنا أعلاه.
طبيعه فائقة مفارقة غير خارقة: على النقيض من المذهب الاول واتساقا مع المذهب الثانى فاننا نرى ان السحر الحقيقى ذو طبيعة فائقة مفارقه، ولكن غير خارقه.
السحر التخييلي: وهو قلب الأعيان بالنسبة للمعاين لا في ذاتها " اى تغيير الإدراك الحسي للأشياء"، ومنه قوله تعالى ( يحيل إليه من سحرهم أنها تسعى)( طه: 66) ، ويتصل بالمعنى اللغوى للسحر، يقول الجوهري (السحر الآخذة ، وكلّ ما لَطُف مأخذه ودَقّ فهو سحر . وسحره أيضا بمعنى خدعه . وقال ابن مسعود: كنّا نُسَمّي السحر في الجاهلية العِضَة. والعضة عند العرب: شدّة البَهْت وتمويه الكذب ). وهذا القسم من أقسام السحر يتم طبقا لقوانين نوعية "هي بمثابة شرط لفاعلية القوانين الكلية" يعلمها الساحر ويجهلها غيره، اى انه يتم طبقا لأسباب يعلمها الساحر ويجهلها غيره، يقول القرطبي ( السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجوه تركيبها وأوقاتها، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة، وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون: "وجاءوا بِسِحْرٍ عظيم" (الأعراف: 116). مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالاً وعصيًا) ثم قال( والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم- وكل ذلك يندرج تحت اطارالسحرالحقيقى - وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانًا أو عكسه بسحر الساحر ونحو ذلك- اى قلب الأعيان فى ذاتها كما فى السحر الحقيقى- ).
طبيعة فائقة غير مفارقة وغير خارقة: اتساقا مع هذا المذهب فاننا نرى ان السحر التخييلي ذو طبيعة فائقة غير مفارقه،وغير خارقة أيضا.
د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم
[email protected]
.................................
الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات
الموقع الرسمي للدكتور صبري محمد خليل خيري