“جَدِّي” .. الحاج ابراهيم محمد سليمان الجميلي – حبيبي الذي لم أره – رحمه الله رحمة واسعة
ولد أبي فى فجر الثامن عشر من شهر يناير ، حيث كان فصل الشتاء قد جاد الأرض بوابل من الديم ، ولما أهلَّ صارخا قالت القابلة العجوز التي أربت على الثمانين : الحمد لله .. مبارك أنه ولد ، فلم تملك جدتي -رحمها الله- إلا أن قالت والدمع يترقرق في عينيها في إجهاد ووهن ، لك الحمد يا رب ، وأخذت تقبل يدها ظهرا على بطن.
فى هذا البيت المتواضع من قرية بني عبيد مركز دكرنس مديرية الدقهلية كان مسرح الأحداث الذي حمل الوليد من عالم الهدوء ، والسكينة ، والدعة إلى عالم الصخب ، والجلبة .. ولذلك استقبلها بالبكاء.
أقبلت جدة والدي تطلق أغرودة وهى تقول ألف سلامة يا حبيبتي .. (نهار أبيض إن شاء الله) ، وأخذت تطبع القبلات على جبين الوليد (أبي) وعلى جبين جدتي .. وكانت السماء تهضب ، والرعد يفعل بالطبيعة الأفاعيل ، والبرد القارس يعُضُّ المفاصل والعظام ، وتكاد الرياح تحمل البيوت الرقيقة الحال إلى الفضاء البعيد .. بيد أن هذه الأسرة ، وهذا البيت لم يحفل بكل هذه العواصف القواصف ، ولا الرياح الهوج ، ولا السماء الراكدة ، ولا الغيوم المتلبدة بل كانت فى شأن آخر أهم.
سارع الأب على الفور إلى إحضار الموقد ، وأحضر بعضا من الخشب ، وأوقد نارا فى مسرح التوليد .. فإن جل همه هو توفير الدفء للأم ووليدها.
أما القابلة .. فإن الذي يعنيها من هذا كله هو أجرها لعملية الولادة وهى الورقة فئة العشرة قروش كاملة ، فهى لا تقبل أقل من ذلك مليما واحدا.
وبقدر الدفء الذي أحدثته النار .. كان قد تولد عنها أيضا دخان كثيف يخنق الرئتين ، ويضيق وينقبض له الصدر
.. لذلك كان لابد من فتح النوافذ لإخراج الدخان ، ولابد أن يستبدل بالدخان أيضا تيارا من الهواء البارد غير المأمون العاقبة .. وربما يكون البرد القارس أخف وطأة ، وأهون أمرا من الدخان الكثيف.
لقد تزوج جدي وجدتي منذ تسع سنوات كاملة ، وقد أخفقا قبل ذلك في الإنجاب مرات ومرات .. حيث تكرر إجهاض جدتي مرة عن شهرين ، ومرة عن ثلاثة أشهر ، ومرة عن ستة أشهر ، وولدت جنينا ميتا ، وقبيل هذا الوليد (أبي) أنجبت بنتا أسموها (وداد) لم تعش أكثر من بضعة أشهرحتى توفيت.
سارت هذه القضية مضرب الأمثال فى هذه القرية الصغيرة .. حيث أن هذه المسألة تشكل مشكلة معقدة في ذلك الوقت ، والناس في القرية يشغلون أنفسهم عادة بما لا يعنيهم ، وهم يخوضون فى أمور غيرهم .. إما حسدا ، وإما شماتة ، وإما تندرا واستطالة .. وكانت الضحية البريئة هى جدتي حيث طلقت لهذا السبب مرتين .. فإنها مجرد أن يسقط الحمل تحمل متاعها ، وترحل على بيت أبويها ثم تفتؤ وراءها ورقة الطلاق.
وقدوم جدي على الطلاق مرتين .. كان راغما غير قالٍ ، وغير كارها لـ جدتي خُلُقاً ولا دِيناً ، ولكن من زواية الناس ، وتقولهم فى عدم قدرة جدتي على إنجاب ذرية من البنات والبنين .. من ثم كانت هذه الولادة لها خطورتها .. فهى تحمل فى طياتها آثارا خطيرة بعيدة المدى ، فإما أن ترأب الصدع ، وترتق الفتق إن عاش هذا الوليد ، وإما تتسع الهوة ، ويقع الطلاق للمرة الثالثة التي لا رجعة بعدها .. ومنها تنفصم العروة انفصاما أبديا ، ويمضي كل إلى حال سبيله .. فالمسألة أصبحت مصيرية محضة.
إن عدم الإنجاب لا يشفع له في القرية حُسن الخلق ، والتدين ، وطيب العشرة .. فالبنون هم قرة العين ، وبهجة القلب ، وفلذة الكبد.
أراد الله أن يظل العقد النظيم موصولا ، وألا ينفرط بعد ذلك حتى النهاية ، لذلك كان لهذا المولود (أبي) الحظ في جمع الشمل ، ووصل العلاقة ..
قيل لـ جدتي ماذا نسميه؟ فقالت جاءنى رجل في المنام يقول لى أنه (شيخ العرب السيد) فقيل على بركة الله .. السيد، ووافق الجميع على ذلك.
كان مجتمع القرية في ذلك الوقت ينقسم إلى ثلاث طبقات :
الأولى : طبقة الأغنياء الموسرين
الثانية : الطبقة الوسطى “وهى التي تعيش قصدا”
الثالثة : الطبقة الدنيا وهى طبقة الكادحين المطحونين
وكان جدي من الطبقة الوسطى فلم يصل إلى الأولى ، وهو بحال أرفع من الثالثة.
بيد أن جدي الأكبر (سليمان الجميلي) .. كان قد أنعم الله عليه برتبة البكاوية فكان يلقب بـ “سليمان بك الجميلي” ، وسأل أبي ذات مرة جدي كيف كان جدنا سليمان إلى هذه الدرجة الرفيعة ، وأنجب أبناء بعضهم الفقير رقيق الحال ، وبعضهم المتوسط مثلنا ، فقال له : إن جدنا سليمان رحمه الله كان مسرفا ، ولم يقيم للمال وزنا ، وكان يهتم بالمظاهر .. فكان هذا هو أس البلاء ، ومحض الشقاء إذ أنفق أكثر ثروته في حياته في التلذذ ، والتنعم بالطيبات ،
وكانت تجلس على شرف مأدبته كبار الشخصيات في البلاط الملكي وحتى بعض الشخصيات من خارج مصر مثل خير الدين باشا التونسي.
كانت جدتي -رحمها الله- طيبة القلب ، لينة الجانب من عائلة سيد أحمد سالم بقرية بني عبيد مركز دكرنس دقهلية أيضا ، وكان والدها -رحمه الله- رجلا صالحا كما شهد له معاصروه ، لا يبرح المسجد إلا للعمل فكان عمره كله للعبادة والعمل.
كانت جدتي مضرب الأمثال في الكرم ، والجود ، والسخاء .. يختلف إليها الصادر والوارد ، والقاصي والداني .. كثيرة العمل ، قوية الاحتمال ، قليلة الحيلة .. وكانت أمها -رحمها الله- صوامة قوامة تقوم الليل ، ولا تنام النهار إلا قليلا ،
تقطع الليل قائمة .. دائمة الصلاة ، والتهجد ، والدعاء ، والابتهال ، وقراءة الأوراد التي كانت تحفظهم جميعا عن ظهر قلب .
وكانت تلقب أبي (بشيخ العرب السيد) وكانت تزور جدتي باستمرار ، وتأتي ومعها الحلوى لـ أبي .. أما والدة جدي فكانت مُؤَثِرة في جدي الذي كان يطيعها ، ويتصاغر إزاءها ، وكان مجرد أن ينهض من نومه مبكرا يلقي عليها السلام ، ويقبل يديها ، ثم يتوضأ ، ويصلي الصبح .. فإذا استيقظ أبي من نومه حذا حذوه ، وفعل مثلما فعل ثم يسأله جدي هل أديت تحية الصباح إلى جدتك؟ يقول أبي نعم .. فيسألها فتقول نعم.
وكانت الجدتان إذا التقتا تتعانقان في شوق عارم ، وتتذكران شبابهما في حديث شائق ممتع .. كانت والدة جدي في فصل الشتاء توقد الفرن عصرا ، ثم تدفن إبريق الماء في الجمر الناجم عن الحطب الوقود ، ثم تغلق غرفة الفرن
.. حتى إذا جاء الليل دلفت ، ودلف معها أبي فيجدا في أشد أيام الشتاء وبرده القارس دفئا شديدا ، فيشعرا أنهما في عالم آخر من الدفء والحرارة ، وإن كان البرد شديدا ، والرعد خارج الغرفة مدويا.
في هذه الغرفة كانت الملائكة ساهرة مع الصلاة ، والدعاء ، وقراءة الأوراد .. وكان أبي سرعان ما يستسلم إلى أمواج النوم ، ولكنه يصحو بين الفينة والفينة ليجد جدته تصحو قبيل الفجر ، ثم تأتي بالإبريق وفيه الماء الساخن فتتوضأ منه ، ثم تؤدي صلاة الفجر وهي لا تهدأ ، ولا تنام .. وعلى نفس الشاكلة كانت جدته لأمه -رحمهم الله أجمعين- وجعل الجنة مثواهم .. كان أبي دائما يرى أيديهم مرفوعة بأكف الذراعة .. يا أرحم الراحمين ارحمنا .. يا أرحم الراحمين ارحمنا .. يا أرحم الراحمين ارحمنا.
والحقيقة أن تربية أبي في هذا المناخ الطيب من الدعوات ، والأذكار ، والصلوات غير المقطوعة ليل نهار .. كان يُشْجيه جدا .. كما أن جدته لأبيه كانت دائما تحكي له قصص عنترة وعبلة ، وأبو زيد الهلالى ، والزناتى خليفة ، وقصص اللصوص الذين يسرقون الأطفال الذين يعصون أباءهم وأمهاتهم .. كما كانت تخيفه من “السيسى” وهو حصان صغير كان يجري ويعدو حول بيت جدي ، وتقول له أنه مغرم بأكل الأطفال الصغار الذين يخرجون من البيت بدون علم أمهاتهم وآبائهم .
ولذلك كان والدي وهو في طريقه إلى الكتاب يسير مفزوعا مكروبا ، يخاف أن يقابله هذا الحصان الصغير “السيسى” ، أو أحد اللصوص خاطفي الأطفال الصغار .. ويذكر والدي مرة أنه رأى هذا الحصان الصغير أمامه فجأة فصرخ ، وأغمى عليه ، وحمله الناس مغشيا عليه إلى البيت .. ومنذ ذلك الحين لم تعد جدته تحكي له شيئا عن هذا الحصان الصغير حتى توفيت رحمها الله.
لذلك فإن أبي منذ نعومة أظفاره وقبل أن يشب عن الطوق وجد نفسه ينهل من القصص الشعبية .. عنترة ، وأبو زيد الهلالي ، ودياب ، والزناتي خليفة وغيرهم من جدته لأبيه .. وهناك التربية الروحية لجدته لأمه فالأذكار ، والدعوات ، والذراعة ، والابتهالات ، والأوراد طوال الليل .. وسارت جدتي على نفس الطريق مع محافظة الجميع على الصلاوات المكتوبة ، ولا أحد يفطر فى رمضان حتى أن المعذورة منهن تخفي إفطارها تماما وهى تجلس مع العائلة على الطعام فلا يجرحن شهر رمضان على الإطلاق.
لذلك كانت أوقات أبي في العبث واللهو مع الصبية الصغار محدودة جدا ، وفي أضيق نطاق لا تتعدى اللحظات ينتزعها خلسة على حين غفلة من جدي فيمرح ، ويلهو مع أترابه فإذا ما صادفه جدي على هذه الصورة فإن القيامة قائمة لا محالة ، وكان جدي يصطحب أبي دائما للحقل ليعمل معه فيه ولكن بعد إنقضاء يوم التعليم في الكتاب ، وذلك لحرصه الشديد على أن لا يفوت أبي وقت التعليم قليلا كان أو كثيرا .. وكان جدي ينيط بأبي أعمالا صغيرة أحيانا ثم أحيانا أخرى يعلمه بعض الأعمال الكبيرة فسرعان ما يتلقاها ويتقنها.
وذكر لي أبي واقعة لم ينساها أبدا وهي : أنه كان مع جدي في حقل اسمه أنهار ، وظلا طوال اليوم حتى أشرف اليوم على الإنتهاء ، وبدأ النهار يلم شعثه ويقبل الليل بأرواقه ، وكان في أحد أيام الشتاء ، فنظر أبي في الحقل من بعيد إلى أشجار التوت والكافور البعيدة فرأى السماء قد لاصقت الأشجار ووقعت على الأرض فقال في نفسه أن هناك نهاية الدنيا.
خُيل له خياله الصغير أن الدنيا تنتهي عند أشجار التوت والكافور ، وفي تلك اللحضات كان جدي مشغولا في العمل مستغرقا فيه ، ودفع أبي الفضول وقت ذاك أن يذهب إلى آخر الدنيا فذهب إلى أشجار التوت والكافور فلم يجد السماء ملاصقة لها ، بل تراجعت السماء إلى التل القريب غير البعيد من هذه الأشجار ، حتى بعد أبي شيئا فشيئا من جدي الذي لم يكد ينظر إلى جواره فلم يجد أبي وكان الليل قد جن وأقبل ولف الكون والطبيعة بطيلسانه الفاحم.
بَعُدَ أبي من جدي حوالي مائتي مترا أو يزيد ولكنه لم يرى جدي .. وجدي لم يره ورغم قرب المسافة إلا أنه حيل بينه وبين جدي بأحراش ، ونباتات عالية ، وشجر التوت والكافور الذي حجب الرؤية تماما مع قصر قامة أبي وقتها ، وطول الأشجار والنباتات .. ظل أبي يبكى ويبكى وهو يسير إلى بعيد من جدي .. وكان الخطر يهدده ويعتوره لأنه كان يسير على شفا ترعة كبيرة في ذلك الوقت ، ولولا طلوع القمر الذي أنس أبي بضوئه لسقط وغرق في تلك الترعة.
وبعث الله لأبي سيارة كسيارة يوسف عليه السلام .. كانوا منقلبين من قرية مجاورة فسألوا أبي عن اسمه واسم عائلته فقال لهم -السيد ابراهيم الجميلي- فحملوه إلى أهله على وجه السرعة .. وكان جدي قد فزع فزعا لا مزيد عليه إذ أنه توقع أن يكون أبي قد سقط في حفرة ، أو غرق في الترعة ، أو أكله ذئب من الذئاب ، أو اقتضمه ثعلب من الثعالب المنتشرة في ذلك الوقت
كان جبين جدي يتفصد عرقا في ذلك الوقت من أوقات الشتاء .. ولكنه يبدو أنه قد فقد الأمل في العثور على أبي ، أما جدتي عندما علمت بذلك صرخت من فورها وقالت ابني ابني؛ أين السيد يا ابراهيم ؟؟ .. وأراد الله أن يقر عينها ولا تحزن فرجع إليها أبي سالما ، ولكن أخوف ما كان يخافه أبي هو عقاب جدي .. لأنه جزاء هذه الفعلة الشنعاء كان يستحق من جدي الضرب المبرح ، والنكال الذي لا مزيد عليه ، ولا يشفع له بطبيعة الحال كونه طفلا صغيرا كان عمره أربع سنوات آنذاك .. بيد أن ظن أبي خاب هذه المرة فلم يضربه جدي ، واكتفى بالنظرة القاتلة التي أرعبته والتي فهم منها أبي في ذلك الوقت أن العقاب والحساب محفوظان في غير تلك اللحظة وإنما سيكونا في لحظة قريبة قد تكون غدا أو بعد غد ..
ولد أبي فى فجر الثامن عشر من شهر يناير ، حيث كان فصل الشتاء قد جاد الأرض بوابل من الديم ، ولما أهلَّ صارخا قالت القابلة العجوز التي أربت على الثمانين : الحمد لله .. مبارك أنه ولد ، فلم تملك جدتي -رحمها الله- إلا أن قالت والدمع يترقرق في عينيها في إجهاد ووهن ، لك الحمد يا رب ، وأخذت تقبل يدها ظهرا على بطن.
فى هذا البيت المتواضع من قرية بني عبيد مركز دكرنس مديرية الدقهلية كان مسرح الأحداث الذي حمل الوليد من عالم الهدوء ، والسكينة ، والدعة إلى عالم الصخب ، والجلبة .. ولذلك استقبلها بالبكاء.
أقبلت جدة والدي تطلق أغرودة وهى تقول ألف سلامة يا حبيبتي .. (نهار أبيض إن شاء الله) ، وأخذت تطبع القبلات على جبين الوليد (أبي) وعلى جبين جدتي .. وكانت السماء تهضب ، والرعد يفعل بالطبيعة الأفاعيل ، والبرد القارس يعُضُّ المفاصل والعظام ، وتكاد الرياح تحمل البيوت الرقيقة الحال إلى الفضاء البعيد .. بيد أن هذه الأسرة ، وهذا البيت لم يحفل بكل هذه العواصف القواصف ، ولا الرياح الهوج ، ولا السماء الراكدة ، ولا الغيوم المتلبدة بل كانت فى شأن آخر أهم.
سارع الأب على الفور إلى إحضار الموقد ، وأحضر بعضا من الخشب ، وأوقد نارا فى مسرح التوليد .. فإن جل همه هو توفير الدفء للأم ووليدها.
أما القابلة .. فإن الذي يعنيها من هذا كله هو أجرها لعملية الولادة وهى الورقة فئة العشرة قروش كاملة ، فهى لا تقبل أقل من ذلك مليما واحدا.
وبقدر الدفء الذي أحدثته النار .. كان قد تولد عنها أيضا دخان كثيف يخنق الرئتين ، ويضيق وينقبض له الصدر
.. لذلك كان لابد من فتح النوافذ لإخراج الدخان ، ولابد أن يستبدل بالدخان أيضا تيارا من الهواء البارد غير المأمون العاقبة .. وربما يكون البرد القارس أخف وطأة ، وأهون أمرا من الدخان الكثيف.
لقد تزوج جدي وجدتي منذ تسع سنوات كاملة ، وقد أخفقا قبل ذلك في الإنجاب مرات ومرات .. حيث تكرر إجهاض جدتي مرة عن شهرين ، ومرة عن ثلاثة أشهر ، ومرة عن ستة أشهر ، وولدت جنينا ميتا ، وقبيل هذا الوليد (أبي) أنجبت بنتا أسموها (وداد) لم تعش أكثر من بضعة أشهرحتى توفيت.
سارت هذه القضية مضرب الأمثال فى هذه القرية الصغيرة .. حيث أن هذه المسألة تشكل مشكلة معقدة في ذلك الوقت ، والناس في القرية يشغلون أنفسهم عادة بما لا يعنيهم ، وهم يخوضون فى أمور غيرهم .. إما حسدا ، وإما شماتة ، وإما تندرا واستطالة .. وكانت الضحية البريئة هى جدتي حيث طلقت لهذا السبب مرتين .. فإنها مجرد أن يسقط الحمل تحمل متاعها ، وترحل على بيت أبويها ثم تفتؤ وراءها ورقة الطلاق.
وقدوم جدي على الطلاق مرتين .. كان راغما غير قالٍ ، وغير كارها لـ جدتي خُلُقاً ولا دِيناً ، ولكن من زواية الناس ، وتقولهم فى عدم قدرة جدتي على إنجاب ذرية من البنات والبنين .. من ثم كانت هذه الولادة لها خطورتها .. فهى تحمل فى طياتها آثارا خطيرة بعيدة المدى ، فإما أن ترأب الصدع ، وترتق الفتق إن عاش هذا الوليد ، وإما تتسع الهوة ، ويقع الطلاق للمرة الثالثة التي لا رجعة بعدها .. ومنها تنفصم العروة انفصاما أبديا ، ويمضي كل إلى حال سبيله .. فالمسألة أصبحت مصيرية محضة.
إن عدم الإنجاب لا يشفع له في القرية حُسن الخلق ، والتدين ، وطيب العشرة .. فالبنون هم قرة العين ، وبهجة القلب ، وفلذة الكبد.
أراد الله أن يظل العقد النظيم موصولا ، وألا ينفرط بعد ذلك حتى النهاية ، لذلك كان لهذا المولود (أبي) الحظ في جمع الشمل ، ووصل العلاقة ..
قيل لـ جدتي ماذا نسميه؟ فقالت جاءنى رجل في المنام يقول لى أنه (شيخ العرب السيد) فقيل على بركة الله .. السيد، ووافق الجميع على ذلك.
كان مجتمع القرية في ذلك الوقت ينقسم إلى ثلاث طبقات :
الأولى : طبقة الأغنياء الموسرين
الثانية : الطبقة الوسطى “وهى التي تعيش قصدا”
الثالثة : الطبقة الدنيا وهى طبقة الكادحين المطحونين
وكان جدي من الطبقة الوسطى فلم يصل إلى الأولى ، وهو بحال أرفع من الثالثة.
بيد أن جدي الأكبر (سليمان الجميلي) .. كان قد أنعم الله عليه برتبة البكاوية فكان يلقب بـ “سليمان بك الجميلي” ، وسأل أبي ذات مرة جدي كيف كان جدنا سليمان إلى هذه الدرجة الرفيعة ، وأنجب أبناء بعضهم الفقير رقيق الحال ، وبعضهم المتوسط مثلنا ، فقال له : إن جدنا سليمان رحمه الله كان مسرفا ، ولم يقيم للمال وزنا ، وكان يهتم بالمظاهر .. فكان هذا هو أس البلاء ، ومحض الشقاء إذ أنفق أكثر ثروته في حياته في التلذذ ، والتنعم بالطيبات ،
وكانت تجلس على شرف مأدبته كبار الشخصيات في البلاط الملكي وحتى بعض الشخصيات من خارج مصر مثل خير الدين باشا التونسي.
كانت جدتي -رحمها الله- طيبة القلب ، لينة الجانب من عائلة سيد أحمد سالم بقرية بني عبيد مركز دكرنس دقهلية أيضا ، وكان والدها -رحمه الله- رجلا صالحا كما شهد له معاصروه ، لا يبرح المسجد إلا للعمل فكان عمره كله للعبادة والعمل.
كانت جدتي مضرب الأمثال في الكرم ، والجود ، والسخاء .. يختلف إليها الصادر والوارد ، والقاصي والداني .. كثيرة العمل ، قوية الاحتمال ، قليلة الحيلة .. وكانت أمها -رحمها الله- صوامة قوامة تقوم الليل ، ولا تنام النهار إلا قليلا ،
تقطع الليل قائمة .. دائمة الصلاة ، والتهجد ، والدعاء ، والابتهال ، وقراءة الأوراد التي كانت تحفظهم جميعا عن ظهر قلب .
وكانت تلقب أبي (بشيخ العرب السيد) وكانت تزور جدتي باستمرار ، وتأتي ومعها الحلوى لـ أبي .. أما والدة جدي فكانت مُؤَثِرة في جدي الذي كان يطيعها ، ويتصاغر إزاءها ، وكان مجرد أن ينهض من نومه مبكرا يلقي عليها السلام ، ويقبل يديها ، ثم يتوضأ ، ويصلي الصبح .. فإذا استيقظ أبي من نومه حذا حذوه ، وفعل مثلما فعل ثم يسأله جدي هل أديت تحية الصباح إلى جدتك؟ يقول أبي نعم .. فيسألها فتقول نعم.
وكانت الجدتان إذا التقتا تتعانقان في شوق عارم ، وتتذكران شبابهما في حديث شائق ممتع .. كانت والدة جدي في فصل الشتاء توقد الفرن عصرا ، ثم تدفن إبريق الماء في الجمر الناجم عن الحطب الوقود ، ثم تغلق غرفة الفرن
.. حتى إذا جاء الليل دلفت ، ودلف معها أبي فيجدا في أشد أيام الشتاء وبرده القارس دفئا شديدا ، فيشعرا أنهما في عالم آخر من الدفء والحرارة ، وإن كان البرد شديدا ، والرعد خارج الغرفة مدويا.
في هذه الغرفة كانت الملائكة ساهرة مع الصلاة ، والدعاء ، وقراءة الأوراد .. وكان أبي سرعان ما يستسلم إلى أمواج النوم ، ولكنه يصحو بين الفينة والفينة ليجد جدته تصحو قبيل الفجر ، ثم تأتي بالإبريق وفيه الماء الساخن فتتوضأ منه ، ثم تؤدي صلاة الفجر وهي لا تهدأ ، ولا تنام .. وعلى نفس الشاكلة كانت جدته لأمه -رحمهم الله أجمعين- وجعل الجنة مثواهم .. كان أبي دائما يرى أيديهم مرفوعة بأكف الذراعة .. يا أرحم الراحمين ارحمنا .. يا أرحم الراحمين ارحمنا .. يا أرحم الراحمين ارحمنا.
والحقيقة أن تربية أبي في هذا المناخ الطيب من الدعوات ، والأذكار ، والصلوات غير المقطوعة ليل نهار .. كان يُشْجيه جدا .. كما أن جدته لأبيه كانت دائما تحكي له قصص عنترة وعبلة ، وأبو زيد الهلالى ، والزناتى خليفة ، وقصص اللصوص الذين يسرقون الأطفال الذين يعصون أباءهم وأمهاتهم .. كما كانت تخيفه من “السيسى” وهو حصان صغير كان يجري ويعدو حول بيت جدي ، وتقول له أنه مغرم بأكل الأطفال الصغار الذين يخرجون من البيت بدون علم أمهاتهم وآبائهم .
ولذلك كان والدي وهو في طريقه إلى الكتاب يسير مفزوعا مكروبا ، يخاف أن يقابله هذا الحصان الصغير “السيسى” ، أو أحد اللصوص خاطفي الأطفال الصغار .. ويذكر والدي مرة أنه رأى هذا الحصان الصغير أمامه فجأة فصرخ ، وأغمى عليه ، وحمله الناس مغشيا عليه إلى البيت .. ومنذ ذلك الحين لم تعد جدته تحكي له شيئا عن هذا الحصان الصغير حتى توفيت رحمها الله.
لذلك فإن أبي منذ نعومة أظفاره وقبل أن يشب عن الطوق وجد نفسه ينهل من القصص الشعبية .. عنترة ، وأبو زيد الهلالي ، ودياب ، والزناتي خليفة وغيرهم من جدته لأبيه .. وهناك التربية الروحية لجدته لأمه فالأذكار ، والدعوات ، والذراعة ، والابتهالات ، والأوراد طوال الليل .. وسارت جدتي على نفس الطريق مع محافظة الجميع على الصلاوات المكتوبة ، ولا أحد يفطر فى رمضان حتى أن المعذورة منهن تخفي إفطارها تماما وهى تجلس مع العائلة على الطعام فلا يجرحن شهر رمضان على الإطلاق.
لذلك كانت أوقات أبي في العبث واللهو مع الصبية الصغار محدودة جدا ، وفي أضيق نطاق لا تتعدى اللحظات ينتزعها خلسة على حين غفلة من جدي فيمرح ، ويلهو مع أترابه فإذا ما صادفه جدي على هذه الصورة فإن القيامة قائمة لا محالة ، وكان جدي يصطحب أبي دائما للحقل ليعمل معه فيه ولكن بعد إنقضاء يوم التعليم في الكتاب ، وذلك لحرصه الشديد على أن لا يفوت أبي وقت التعليم قليلا كان أو كثيرا .. وكان جدي ينيط بأبي أعمالا صغيرة أحيانا ثم أحيانا أخرى يعلمه بعض الأعمال الكبيرة فسرعان ما يتلقاها ويتقنها.
وذكر لي أبي واقعة لم ينساها أبدا وهي : أنه كان مع جدي في حقل اسمه أنهار ، وظلا طوال اليوم حتى أشرف اليوم على الإنتهاء ، وبدأ النهار يلم شعثه ويقبل الليل بأرواقه ، وكان في أحد أيام الشتاء ، فنظر أبي في الحقل من بعيد إلى أشجار التوت والكافور البعيدة فرأى السماء قد لاصقت الأشجار ووقعت على الأرض فقال في نفسه أن هناك نهاية الدنيا.
خُيل له خياله الصغير أن الدنيا تنتهي عند أشجار التوت والكافور ، وفي تلك اللحضات كان جدي مشغولا في العمل مستغرقا فيه ، ودفع أبي الفضول وقت ذاك أن يذهب إلى آخر الدنيا فذهب إلى أشجار التوت والكافور فلم يجد السماء ملاصقة لها ، بل تراجعت السماء إلى التل القريب غير البعيد من هذه الأشجار ، حتى بعد أبي شيئا فشيئا من جدي الذي لم يكد ينظر إلى جواره فلم يجد أبي وكان الليل قد جن وأقبل ولف الكون والطبيعة بطيلسانه الفاحم.
بَعُدَ أبي من جدي حوالي مائتي مترا أو يزيد ولكنه لم يرى جدي .. وجدي لم يره ورغم قرب المسافة إلا أنه حيل بينه وبين جدي بأحراش ، ونباتات عالية ، وشجر التوت والكافور الذي حجب الرؤية تماما مع قصر قامة أبي وقتها ، وطول الأشجار والنباتات .. ظل أبي يبكى ويبكى وهو يسير إلى بعيد من جدي .. وكان الخطر يهدده ويعتوره لأنه كان يسير على شفا ترعة كبيرة في ذلك الوقت ، ولولا طلوع القمر الذي أنس أبي بضوئه لسقط وغرق في تلك الترعة.
وبعث الله لأبي سيارة كسيارة يوسف عليه السلام .. كانوا منقلبين من قرية مجاورة فسألوا أبي عن اسمه واسم عائلته فقال لهم -السيد ابراهيم الجميلي- فحملوه إلى أهله على وجه السرعة .. وكان جدي قد فزع فزعا لا مزيد عليه إذ أنه توقع أن يكون أبي قد سقط في حفرة ، أو غرق في الترعة ، أو أكله ذئب من الذئاب ، أو اقتضمه ثعلب من الثعالب المنتشرة في ذلك الوقت
كان جبين جدي يتفصد عرقا في ذلك الوقت من أوقات الشتاء .. ولكنه يبدو أنه قد فقد الأمل في العثور على أبي ، أما جدتي عندما علمت بذلك صرخت من فورها وقالت ابني ابني؛ أين السيد يا ابراهيم ؟؟ .. وأراد الله أن يقر عينها ولا تحزن فرجع إليها أبي سالما ، ولكن أخوف ما كان يخافه أبي هو عقاب جدي .. لأنه جزاء هذه الفعلة الشنعاء كان يستحق من جدي الضرب المبرح ، والنكال الذي لا مزيد عليه ، ولا يشفع له بطبيعة الحال كونه طفلا صغيرا كان عمره أربع سنوات آنذاك .. بيد أن ظن أبي خاب هذه المرة فلم يضربه جدي ، واكتفى بالنظرة القاتلة التي أرعبته والتي فهم منها أبي في ذلك الوقت أن العقاب والحساب محفوظان في غير تلك اللحظة وإنما سيكونا في لحظة قريبة قد تكون غدا أو بعد غد ..