رواية فكاهية
للناشئة والشباب اليافعين
سباق في الزقاق
د. طارق البكري
الطبعة الأولى: دار الحافظ الدمشقي
مقدمة
اتصال من شاب صغير.. من بلد بعيد.. من المغرب على وجه التحديد.. صوته جميل.. وحديثه عليل.. طلب مني أن أكتب رواية فكاهية.. قلت له إني كتبت عدة قصص فيها بعض الفكاهة.. لكنها لم تكن روايات..
وكنت سابقاً كتبت سلسلة بعنوان (عندما)، تحكي في جانب منها بعض القصص الفكاهية.. كما كتبت رواية (البوسطة) التي تتضمن أيضاً مواقف مضحكة.. وكتبت قديماً قصصاً للأطفال الصغار فيها بعض الفكاهة مثل قصة (الساعة الذهبية)، و(الخاتم المنزعج)، و(القطة التي تحلم)، إضافة إلى مجموعة من قصص الشخصية التراثية المضحكة (جحا).. وغيرها.. لكن لم يسبق أن كتبت رواية ترتكز في أساسها على الفكاهة..
صديقي المتصل الصغير كان حافزاً لي لكتابة ما يمكن وصفه برواية قصيرة أو قصة طويلة تتضمن الكثير من المواقف الفكاهية.. أرجو أن تكون مضحكة ومسلية.. وفي نفس الوقت مفيدة.. متضمنة الكثير من الوصف، ومليئة بالحكم والفوائد التربوية.. وهذا ما عودت عليه أصدقائي في رواياتي وقصصي السابقة..
وهذه الرواية القصيرة - أو القصة الطويلة - تدور أحداثها في البداية في زقاق ضيق ثم في ساحة بلدة ريفية.. تحكي قصة رجل (أبو فراس) شخصيته طريفة مضحكة.. وتقدم تجربة طفولية تستحق أن تروى.. علماً أنَّ في أحداث القصة ما هو حقيقي وما هو من نسج الخيال.. لكني مثل العادة أترك لكم اكتشاف الأمرين معاً.. دون أن أجيب عن سؤالكم الدائم الملح.. عن تفاصيل القصة بين واقعها وأحلامها..
وأريد هنا أن أتقدم بالشكر الجزيل لصديقي القارئ الذي طالب هذا الرواية الفكاهية القصيرة.. فقد شجعني كثيراً لأخوض تجربة جديدة.. أرجو أن تنال أعجابه وأعجاب سائر الأصدقاء القراء.. مع كل الحب..
طارق
سباق في الزقاق
1- بداية السباق
حركة مريبة في الجوار.. الأولاد يتنططون ويهرعون في الزقاق، متجاورين حيناً ومتباعدين أحياناً أخرى. خلف بعضهم مرة مثل سلسلة بشرية أو جنود في صف.. ومتقاربين متلاحمين مرة أخرى..
متراصين تارة، وفي خطوط متعرجة متفرقة تارة أخرى..
يسرعون وراء بعضهم كأنهم في سباق الجائزة الكبرى، أو كصيود هاربة من فك أسد مفترس عجوز، فاغر فاه، فرَّ من محبس سجَّان شحيح بخيل، لا يطعمه إلا القليل.. وإذا أطعمه فطعامه بسيط خفيف لا يسمن ولا يغني من جوع..
يظهر من ورائهم فجأة الحلاق الغريب الأطوار..
يخرج من مدخل الزقاق الضيق الملاصق للساحة التي تتوسط بلدتنا.. يركض خلفهم مسابقاً ومطارداً، ورافعاً سبابة يده اليمنى، مهدداً ومزمجراً..
وفي اليد الأخرى يحمل عصا طويلة، من خشب لمَّاع جميل.. محفور عليها أنواع من الطيور..
وبقبضته يتوكأ على طير خشبي يتوسد رأس العصا، يستعين به بين قفزة وأخرى، دون أن يلوِّحَ بها ليخيف الأطفال الذين هم كعادتهم يحبون اللهو والمشاكسة..
غير أنهم - كما يبدون - تجاوزوا حدودهم مع العم أبو فراس الحلاق هذه المرة أكثر من أي مرة سابقة..
أبو فراس صاحب عنق طويل مديد، وجسد قصير منحن قليلاً إلى الأمام، يبدو كرجل عجوز ذي ظهر مقوس، رغم أنه ما زال في فتوته، ولم يغادر سن الشباب منذ فترة مديدة.. كما أنه لم يتجاوز منتصف الكهولة بعد..
أما شنبه فمروَّس، يتخلله بياض محترق بفحم شعره القديم..
ناتئ عظم الخدين، قليل لحم الوجه بارز الشفتين.. وخفيف لحم الكتفين..
نحيل من الأعلى ضعيف من الأسفل..
تبدو عظام الوجه بارزة، كما تظهر عظام الكتفين نتوءات من تحت قميصه الخفيف صيفاً وشتاءً، ويظهر القفص الصدري مثل خطوط متعرجة مستديرة..
وبعد الانزلاق من ناحية الصدر يتسع امتداد الجسد عرضاً ثم يمتد البطن بكرش بارز متدل بليونة..
ثم يعود لنحافة لا تتسق مع اتساع وسط جسده..
يبدو متناقضاً مع الساعة الرملية ذات العنق الأوسط الدقيق والانتفاخ العلوي والسفلي..
يظهر شكله كالباذنجانة الرفيعة من الأعلى المتضخمة الوسط ثم تعود النحافة بشكل غير انسيابي بفخذين نحيلين وساقين دقيقتين فتبدو مشيته قلقة متذبذبة..
فكيف عندما يهرول ويركض فترتفع العنق وتتحرك جيئة وذهاباً تارة إلى الأمام وتارة إلى الخلف.. مثل عنق دجاجة بركضتها الطريفة عندما تجذ بالسير..
أمَّا كرشه فيتلاعب به الهواء مثل شراع مركب صغير في بحر هائج.
2- عصبية زائدة
خلقه ضيق وعصبيته زائدة عن العادة المقبولة بين الناس..
يعارك حتى ذباب وجهه كما يقال، مع أنَّ الحلاقين في العادة يتحلون بصبر مستفز أحياناً.. وروح فكاهية مرحة ضاحكة - وإنْ كانت مفتعلة - وخيال خصب متدفق..
فهذه السمات معروفة عند كثير من الذين يمتهنون مهنة الحلاقة، وهي مهنة جميلة تحتاج إلى مهارة خاصة ودقة في العمل، وإحساس فنان لكي يكون الحلاق متميزاً في عمله.
ومهنة الحلاقة مهنة قديمة جداً..
وكان الحلاق في الماضي لا يكتفي بحلاقة شعر الرأس والذقن.. بل يعتبر طبيباً شعبياً..
يعالج بعض الأمراض التي كانت منتشرة في الأيام الغابرة..
وكان أيضاً يقوم بخلع الأسنان والأضراس.. ويقوم بعمليات جراحية بسيطة.
ومن طرائف ما يقال: إن الحلاقة بدأت أولاً بسبب الحروب، فكان يتم حلاقة شعر الجنود ولحاهم قبل بدء القتال، كيلا يمسك الأعداء بالشعر أو باللحى خلال المعركة.
وهناك من الحلاقين من يسرد قصصاً صحيحة معلومة، يروونها بجدارة، يقدِّم البعض منهم أنفسهم على أساس أنهم علماء في التاريخ والجغرافيا والحساب والتراث والعلوم الإنسانية والنفسية والطبية، وحتى السياسية والعسكرية..
أو يظنون أنفسهم شعراء وأدباء وكتاباً ومحللين اقتصاديين واجتماعيين..
ومن هؤلاء من هو سطحي مدعٍ، أو جاهل مغرق في الجهل، وفي الحالين هم يجمعون أخبارهم وقصصهم ورواياتهم بالسماع من زبائن قد لا يملكون من العلم إلا قليلاً، فيخلطون ما بين الجيد النافع والرديء الضار، وما بين الصحيح والعليل.. وما بين الجد بالهزل..
وربما وصل الأمر بأحدهم أنْ ظن نفسه موسوعة متنقلة..
كما أنَّ من بينهم من يتمتع بخصلة قد يراها بعض الزبائن سيئة.. فيما يراها البعض الآخر فرصة للتسلية وتمضية الوقت تحت مقص الحلاق "أو لسانه"، وهي حب الكلام الزائد والحكي الكثير لغاية الثرثرة..
وحتى لو كانت هذراً بلا معنى، المهم عندهم أن يتكلموا مع الزبون حتى آخر شعرة.. فضلاً عن القيام بما يحبب الأطفال فيهم وإن كان تهريجاً، لكي يكسبوا ودهم، وبالتالي يكسبون عدداً أكبر من الزبائن..
ومن طرائف الحلاقين قديماً؛ أنَّ جحا دخل محلاً للحلاقة ليحلق ذقنه، وكان الحلاق غير بارع فصار كلما جرح جحا جرحاً يضع الحلاق عليه قطناً..
ولما أتمَّ نصف ذقنه وقف جحا وقال له:
"كفى.. خذ أجرتك".
فسأله الحلاق:
"لماذا لا تصبر حتى أنتهي؟".
فأجابه جحا:
"لأنك زرعت نصف ذقني قطناً، ومرادي أن أزرع النصف الآخر كتاناً".
أمَّا العم أبو فراس فحاله مختلف.. بل على النقيض من ذلك تماماً.. فهو محترف أشد الاحتراف.. والجميع يشهد له بذلك..
كما أنه لا يتكلم كثيراً.. ولا يحب تسلية الزبون لا بالمزاح ولا بالكلام.. حتى الكلام المحدود البسيط له ألف حساب عنده.
ويضيق صدره من الجميع، وخاصة من الأطفال..
لذلك رفع يافطة كبيرة على باب محله يقول فيها:
(ممنوع دخول الأطفال)
وفي الجهة المقابلة علق يافطة أكبر من الأولى كتب عليها بخط متعرج، لكنه جميل وبسيط:
(عذراً.. لا أحلق شعر الأطفال)
وكما يبدو فإنَّه وضع اليافطة الثانية ليؤكد اليافطة الأولى، احترازاً من احتمال أنَّ لا يرى الأولى بعض الزبائن، أو ربما قد "يطنشها" البعض الآخر..
أو قد يظن ظانٌّ أنَّ المقصود أنَّه يمنع دخول الأطفال الذين لا عمل لهم..
وكان من النادر أن يسمع أحد صوته من خارج الدكان..
لا يتكلم إلا قليلاً وعند الحاجة فقط، وكأنه يعد كلامه ويحسبه كلمة كلمة..
يكتفي برد التحية على من يلقيها.. أو قد يشير بيده مرحباً وراداً للسلام..
لكنه اليوم بدا مختلفاً..
سمع كثير من الناس من حول الدكان والزقاق والساحة صوته يتردد في الأنحاء..
لم يكن صوته يصل إلى باب دكانه من قبل..
فكان أمراً جديداً مختلفاً، وحدثاً أصبح فيما بعد حكاية يرويها الكبار والصغار..
3 - مشهد نادر
صاح العم أبو فراس هذه المرة بصوت أعلى من أي مرة سابقة، حيث إنه لم يعرف يوماً أنه صاح أو رفع صوته، فسمعه كل من في الحارة من خلف نوافذ بيوتهم..
هب كثير منهم ليتابعوا هذا المشهد الشيق الطريف..
خاصة أنَّه من النادر أن يمشي في شوارع الحارة وأزقتها وحاراتها..
كما أن دكانه له باب خلفي يقوده مباشرة إلى بيته، يعني أنه لا يحتاج لكي يخرج من الدكان حتى يذهب إلى بيته.. فبيته هو دكانه.. ودكانه هو بيته..
يشترى ما يحتاج من حاجيات بسيطة من حانوت مجاور.. ولا يذهب بعيداً ولا يمشي كثيراً..
لكنه اليوم غير عاداته وقوانينه.. وطفق يقفز خلف صغار الحارة ماطاً شفتيه حتى تكاد شفته السفلى تقع على الأرض من شدة المط..
والناس يطلون من الشرفات والنوافذ يضحكون وينادي بعضهم بعضاً لمشاهدة هذا المشهد العجيب.. لكن أحداً منهم لم يناد ولده لكي يدخل بيته ويترك العم أبو فراس وحاله..
كأنهم جميعاً أرادوا أن لا ينتهي هذا المشهد المضحك، وهم متأكدون أنه سينتهي على خير لأنهم يعلمون أنه ليس من طبع أبو فراس أن يؤذي أحداً رغم عصبيته الزائدة..
حتى الفأرة لو دخلت دكانه يقوم بطردها دون أن يقتلها، فهو كما يقولون في الأمثال: (كافٍ خيره وشره).
والهجوم الذي شنه أبو فراس على صغار الحارة لا يعني أنَّه يبغض الأطفال.. لكنَّه لم يكن يريد أن يراهم أو يذكر أحد من زبائنه اسم طفله، أو يحكي نادرة واحده عنه، فهو لا يريد أن يتذكر طفولته التي لا يعلم أحد شيئاً عنها..
جاء أبو فراس إلى البلدة شاباً فتياً قبل سنوات.. سكن بلدتنا واستقر فيها بعد أن بنى بيته الصغير على أرض اشتراها، وجعل في بيته دكاناً يطل على الشارع الضيق في (زنقة) من البلدة القديمة لها اتساع محدود نسميها نحن ساحة وعلى طرفها شجرة ضخمة لا يعرف أحد عمرها بالتحديد..
عاش وحده لا يخالط الناس إلا في دكان الحلاقة، ولم يكن له زوجة ولا ولد..
ويروى عنه أنَّه قرر البقاء عازباً طوال حياته، فلا يتزوج على الإطلاق ليبعد عنه شبح الأطفال وبكائهم وصخبهم وضجيجهم وطلباتهم المتكررة "المزعجة" التي لا تنتهي، وأسئلتهم "الساذجة" التي لا يحبها، ولا يريد أن تعرف الطريق إلى أذنيه..
وبالمناسبة لا أحد أدري كيف أصبح يكنى أبو فراس مع أنه ليس عنده فراس ولا غير فراس..
وهنالك رواية شهيرة قد تكون هي الرواية الصحيحة..
ومع أن كثيراً من الروايات التي يتحدث بها الناس ويتناقلونها ليست صحيحة.. وقد يكون فيها مبالغات كبيرة.. غير أن الناس تحب الحكي والكلام والثرثرة.. وتحب الجدال والكلام حتى لو لم يكن الكلام صحيحاً.. المهم أن يتكلموا.. وأن يسمعوا القصص والحكايات والروايات التي قد تصح حيناً وقد لا تصح احياناً.. ومن الناس في التاريخ من هم مشهورون بلقبهم أكثر من اسمهم..
وكثير من القدماء اشتهروا بالألقاب والكنى أكثر من اسمهم الذي حملوه منذ الصغر.. وأحياناً يكون الاسم أو اللقب نقيضاً لحامله..
وقد قيل في الماضي: "قد تلتقي الأسماءُ في الناسِ والكُنَى كثيراً، ولكن مُيِّزوا في الخلائق"..
ومن طرائف الأسماء حوار دار بين سائل ومجيب:
- "ما اسمك؟".
· "بحر".
- "أبو مَنْ؟".
· "أبو الفَيْض".
- "ابنُ مَنْ؟".
· "ابن الفُرات".
فقال السائل ضاحكا: "ما ينبغي لصديقك أن يلقاك إلاَّ في زورق".
4 - مختار البلدة
يقول أبي إنَّ أبو فراس حصل على كنيته من مختار البلدة بعد أن سجله في سجلات بلدتنا، وبعد أن علم أن اسم أبيه فراس.. ومنذ ذلك الوقت اشتهر بلقبه ولم يعرف له اسم..
وهناك من يقول إن له ابناً اسمه فراس لكنه مات منذ زمن بعيد.. لكن المختار يقول إنه لم يجد ما يثبت أنه كان متزوجاً من قبل.. حيث يبقى ماضيه لغزاً لا يعرفه حقيقته أحد..
عاش بيننا بصمت..
كان على الدوام منفرداً منعزلاً، ولولا مهنته لم يهتم به أحد، وكان لا يزور بيتاً ولا يطمئن على مريض، ولا يحضر عرساً ولا مناسبة من المناسبات التي يحضرها كل أبناء البلدة..
لم يكن يهتم بكثرة الزبائن أو بقلتهم، ولم يكن يهتم على الإطلاق بأن يقدم للزبائن ما يحرص على تقديمه أصحاب المحال والدكاكين المتنوعة إرضاء لزبائنهم، مما يجعلهم يأتون إلى محالهم دائماً.. فهو يعلم أنه لا يوجد منافس له في البلدة.. ومع ذلك لم يكن يعبأ بأن يقوم أحد غيره بفتح دكان حلاقه فيذهب الجميع إليه.. كما أنه لم يكن مهتماً بأن يحلق سكان البلدة كلهم في البلدات المجاورة فلا يعود عنده زبائن..
وفي يوم قرأت أنشودة مضحكة عن أحد الحلاقين.. عندما قرأتها ارتسم أمامي حلاق بلدتنا في هذا الموقف.. لكنَّه في الحقيقة لم يكن حاله كحال ذلك الحلاق الذي سمع يوماً بأن شعر الناس يتساقط، فخاف ألا يعود هنالك زبائن يأتون دكانه.. وكاد يصاب بالجنون وتطلع روحه..
وما زلت أذكر تلك الأنشودة الجميلة المضحكة وعنوانها (الحلاق) التي كتبها الشاعر اليمني عبدالحكيم الفقيه، ويقول فيها:
سمع الحلاق يوما في الإذاعةْ:
أن شعر الناس يساقط
والصُلع سيزدادون ساعة بعد ساعةْ
قال يا خوفي على رزقي
فماذا سأسوي بالمقصات وبالمرآة؟
والمشط الذي يعصمني من وجع الفاقة؟
من عوز الجماعةْ؟
أتمنى أن يكون الصلع المزعوم زيفاً وإشاعةْ
ولجا دكانه في التو شابان برأسين بلا شعر
كبطيخ أتى من حقل فلاح كسول في الزراعةْ
طلبا ولاعة
قال اشعلا من جبهتي
فاشتعل التبغ
وكانت شرطة الإطفاء في سيارة تخلو من الماء
على مرأى من الدكان
وكان السائق الأصلع يعطي الضابط الأصلع درساً في القناعةْ
سقط الحلاق مغمياً عليه نصف ساعةْ
بعدها في غرفة الانعاش لما جاءه الدكتور
والدكتور أصلعْ
جسد الحلاق يسترخي إلى الأسفل
كي نفسه تطلعْ
5 - صياح وقهقهة
اليوم شاهدت الرجل لأول مرة يهرول في الزقاق مسرعاً، ويركض خلف الصبيان في الساحة، وبطريقة مضحكة..
يلتفت خلفه كأنه يخشى أنْ يقوم آباء الصبيان الذين يركض خلفهم بملاحقته وردعه عن تخويف أبنائهم.. علماً أن الأطفال الصغار لم يكن يبدو عليهم الخوف على الإطلاق، بل كانوا يضحكون ويقهقهون بنبرة أقرب إلى الصياح منها إلى القهقهة..
كان يتنقل ببصره بين الأطفال وبين قدميه، كأنه يخشى أن تسبقه قدماه في الركض، ويحاول كبح جماح كرشه الرجراج المتدلي والمتراقص أمامه..
يرفع كرشه..
يضغط عليه بكلتا يديه ليرى أين يضع قدميه..
ثم يرفع رأسه من جديد وخصلات شعره الطويل تغطي جبينه العريض حتى تصل إلى عينيه، فيحرك يده اليمنى بسرعه متنقلاً من كرشه المضغوط ليعيد شعر رأسه الوراء فيعود كرشه للانتفاخ والرجرجة فيما يعود شعر رأسه إلى الوراء لكنه لا يلبث أن يقفز فوق جبينه من جديد دون أن يعبأ بكل هذا الجهد.. والعرق يتصبب من أنحاء وجهه.
هذا المشهد لم يكن متوقعاً في أنحاء بلدتنا.. الجميع يرصد تفاصيل الحدث.. من نافذة إلى نافذة.. ومن شرفة إلى شرفة..
وبعد فترة وجيزة من المطاردة المضحكة، بدأ العم الحلاق يلهث من شدة التعب.. فهو كما قلت من قبل لم يكن يخرج من بيته ولا من محله إلا ما ندر، ولم يكن أحد يراه يمشي لفترة طويلة أو حتى قصيرة، وكان يقضي وقته بالوقوف داخل محله يحلق رؤوس العباد..
وكان أهل القرية يلحون عليه لكي يحلق شعر أطفالهم.. لكنه يأبى ذلك بإصرار..
لذا فإنَّ الأمهات يقمن بحلق شعر أبنائهن بأنفسهن غالباً..
كما أنَّ بعض الآباء يأخذون أبناءهم معهم إلى بلدات أخرى مجاورة عندما ينتقلون إليها لقضاء حاجة ما، أو لقضاء عطلة أو ما شابه، ويستغلون الفرصة لحلق شعر أولادهم..
وأحياناً يحلق الآباء أيضاً لكيلا يعودوا للحلاقة عند الحلاق أبو فراس.
6 - كرش وشاربان
هذه الأفكار كانت تعصف في ذهني وأنا أراقب بشغف هذا المشهد الذي لم ينته حتى الساعة، رغم كل ما أصاب الحلاق من إجهاد وتعب..
وكما يبدو فقد أصيب أيضاً بإنهاك وتشنج عضلي، فعضلاته ليست معتادة على الحركة المتسارعة والقفز والجري المتتابع.
لم يكن مثل أبناء القرية وأطفالها الذين يتنقلون على الدوام من مكان إلى مكان، يصعدون الجبل أو يهبطون الوديان، يسيرون فترة طويلة إلى نبع العين العيد ليملأوا جرار الماء، أو ليحضروا الغلال بالسلال، على أكتافهم أو على ظهور الدواب..
الحركة سمة متأصِّلة في حياتهم.. أمَّا هو فقد كان لا يعرف سوى المشط والمقص....
الأطفال ما زالوا يركضون في الزقاق.. ويدورون حول الساحة.. ثم يعودون إلى الزقاق من ممر خلفي..
والحلاق يسابقهم ويطاردهم..
إنه بالفعل أجمل سباق شاهدته في الزقاق..
كان صغار بلدتنا معتادون على مثل هذه السباقات والمطاردات الممتعة.. يخرجون من الزقاق يدورون حول الساحة ويخرجون منها، ثم يعودون إليها في التفافات متكررة..
والعم الحلاق المسكين يركض خلفهم بكرشه المتدلي.. لم يعد يقوى على ضمه أو الضغط عليه..
أصبح جسده يرتج مثل كرشه..
وأخيراً ترفق أهل القرية بحالته هذه.. فخرج بعض الرجال يصيحون بالصبيان ليتفرقوا وينتهي هذا المشهد، بعد مطاردة فاشلة استمرت فترة من الوقت، كانت محمومة وكفيلة بأن تحول المكان إلى حلبة من المطاردة المشوقة..
لم يكد الأطفال يتفرقون، ويذوبون مثل أشباح في أزقة عتيقة متفرقة، ومداخل بيوت طينية بممرات ضيقة وحيطان متلاصقة.. حتى وقف أبو فراس كصنم تجمَّد في مكانه، أو كتمثال فضي غسلته مياه راكدة مختلطة برمال الأرض، فتحول إلى اللون الخشبي المحدِّق في الشمس.. يتصبب عرقاً من قمة رأسه حتى أخمص قدميه..
ثيابه رطبة، وكذلك شعره الطويل المشتعل بالشيب، ولحيته الدائرية القصيرة السوداء المخططة بسطور بيضاء التي تبدو كسهام متجهة نحو الأرض، تشير إلى شيء ما..
أمَّا شارباه الممتدان امتداد الريح، والمبعثران مثل صوف منكوش، فيظهران وكأنَّه لم يمرر عليهما مقصاً ولا "رقيباً" في حياته..
بدا مرتجفاً كخارج من بئر غطس فيه حتى كاد يختنق، فقفز هارباً حتى سقط في حوض تماسيح، يستجير من الرمضاء بالنار، أو كما يقولون في أمثالنا الشعبية:
"من تحت الدلفة إلى تحت المزراب".
كان الجميع ينظر نحوه في ترقب شديد، ترى ما الذي سيفعله الآن؟
هل سيدخل الأزقة والدروب سعياً وراء هذا وذاك؟!
لحظات صمت عبقت في المكان.. حتى غمرته كما يتخلل الماء السلال..
7 - نهاية السباق
لم أكن أتوقع يوماً أنْ أشاهد العم أبو فراس على هذه الحال.. ويبدو أنه في هذه اللحظة تنبه إلى حقيقة الموقف..
لقد استعاد وعيه فجأة على واقع جديد.. العيون كلها جاحظة نحوه..
قبل هذه اللحظة لم يكن يدور في رأسه أنَّ أهل البلدة كلهم - أو على الأقل أهل البيوت المحيطة - تداعوا بسرعة ليتابعوا بحماسة بالغة سباق الزقاق والمطاردة الغريبة..
وهنا ارتخت أصابع العم أبو فراس.. سقطت العصا من يده بعدما كان يمسكها بإحكام..
انثنى جنبه الأيسر أكثر فأكثر.. حتى ظنَّ الجميع أنه سيقع على الأرض..
لكنه تماسك، ثم اعتدل، وانحنى ملتقطاً عصاه من جديد.. وسار متوكئاً عليها حتى وقف أمام دكان الحلاقة المطل على الساحة.. ثم اختفى وراء باب الدكان.
لم يعد الضجيج إلى الساحة من جديد ولم تدب فيها الحياة مثلما هي عادة.. ولم يعد الناس إلى أعمالهم وأشغالهم.. وبدأت أسمع أصواتاً وهمسات من هنا وهناك..
أم تعاتب ابنها بدلال..
أب يلوم ابنه.. مع ابتسامات متبادلات..
آخر يصيح لائماً ولده على هذه المطاردة الشرسة.. لكنه صياح ممتزج بالضحك..
فرغم أن الجميع كان يرى ويتابع المطاردة؛ فإنَّ أحداً منهم لم يزجر ابنه بحزم وبشدة..
وكأن ما حدث كان فيلماً أو مسرحية..
بالنسبة لي؛ كنت أشعر خلال المطاردة بأمرين مختلطين ببعضهما بعضاً:
* الشعور الأول كان إحساساً بالغبطة والسرور وأنا أشاهد كل هذه المشاهد المتلاحقة، التي لا تحدث – ربما – إلا مرة واحدة في العمر.
* أما الإحساس الآخر فقد كان إحساساً حزيناً لأني لم أشارك أقراني الصبيان في هذه المطاردة الحماسية.. أو في الحقيقة في "العفرتة" التي تذكرني بقصيدة للشاعر السوداني صلاح إبراهيم تحت عنوان (في الغربة) يقول فيها:
هل يوماً ذقت هوان اللون؟
ورأيت الناس إليك يشيرون، وينادون:
العبدُ الأسود؟
هل يوماً رحت تراقب لعب الصبية في لهفة..
وحنان..
فاذا أوشكت تصيح بقلب ممتلئ رأفة:
ما أبدع "عفرتة" الصبيان!
رأوك فهبوا خلفك بالزفة: عبد أسود.. عبد أسود.. عبد أسود..
ورغم أني تمنيت "العفرتة" مع صبيان بلدتنا.. فإنَّ فكرة لئيمة عبرت رأسي؛ وهي لو أني شاركت لن يتسنى لي متابعة هذه المشاهدة النادرة.. ولو شاركت بالحدث نفسه فلن أشعر بلذة المشاهدة، مع رغبتي طبعاً بالتمتع بالمشاركة الصبيانية "العفرتية"...
وهنا "مكمن الاختلاط"..
8 - فضول مشترك
الحقيقة أنَّ سبب عدم مشاركتي لا تفسَّر على أني مهذب أكثر من هؤلاء الأولاد "الأوغاد" كما كان يصيح بهم العم أبو فراس الحلاق.. لا، على الإطلاق، فهذا شرف لا أدعيه..
لكني كنت يومها عاجزاً عن الركض بعد أن وقعت على الأرض أمس وأنا أقود دراجتي فجرحت قدمي، وقام الطبيب بربطها برباط محكم، وأوصاني بالمكوث في البيت ليومين على الأقل، حتى يشفى الجرح ويختفي الألم..
وحتى الساعة لم يكن أحد يدري ما هو سبب ثورة العم أبو فراس..
كانت انطلاقته خلف الصبيان مفاجئة للجميع.. لا شك أن شيئاً كبيراً استدعى كل هذه المطاردة..
كان لدي شغف كبير بمعرفة السبب.. وهذا الشغف أقوى من الألم الذي أشعر به كلما ضغطت على قدمي الجريحة المضمدة..
تحايلت على قدمي الجريحة من الأسفل.. حتى انتصبت واقفاً.
حملت عكازتي - أو هي حملتني لست أدري - أتوكأ عليها، ثم تسللت ناحية الباب بهدوء أريد الخروج من المنزل خلسة دون أن تراني أمي فتبدأ بأسئلتها المعتادة: إلى أين أنت ذاهب؟ متى ستعود؟..
وتبدأ بالنصائح:
انتبه..
لا تركب الدراجة مرة ثانية..
ألم تر ما حدث معك أمس؟..
وهكذا..
وما كدت اقترب متسللاً..
وقبل أن أضع يدي على باب البيت.. حتى سمعت صوت أمي من ورائي وكأنها كانت تقرأ أفكاري..
نبرات صوتها بدت واثقة تماماً من سبب خروجي:
"عد بسرعة يا ولد لتخبرني ما هو سبب هذه المطاردة الشرسة؟".
ضحكت من أعماق قلبي وأنا أسمع صوت أمي تحثني على الخروج، وكأنَّ ما لديها من فضول لمعرفة السبب أكبر من الفضول الذي عندي.. فهذه أول مرة هي التي تشجعني على الخروج من المنزل! فقد كان لدينا فضول مشترك لكشف سر الحدث..
فقلت ممازحاً:
"ليس هذا سبب خروجي، وليس عندي أدنى رغبة بمعرفة السبب ربما هذا سر ولا أحب كشف أسرار الناس.. أنا خارج لأتنزه قليلاً.. لقد سئمت من المكوث بالمنزل منذ أمس.. لكني غيرت رأيي وسأعود لغرفتي.. لكن قبل أن أذهب إلى غرفتي سأروي لك قصة عن حلاق لا يكتم السر"..
فضحكت أمي وقالت: "هات حدثنا يا ولد.. فمنكم نستفيد".
قلت وأنا أحاول أن أبدو وكأني لست عابئاً بما حدث:
"كان ياما كان.. يا سعد يا إكرام.. كان هناك في قديم الزمان.. بلد من البلدان.. اختفى منه جميع الحلاقين ولم يبق للحلاقة دكان، ولم يعد أحد يجرؤ على أن يعمل فيه حلاقاً أو صبياً من الصبيان..
وفي يوم جاء حلاق فوجد فيها شغلاً كثيراً... وكان مستغرباً من عدم وجود حلاقين!".
وقفت أمي تصغي باهتمام.. ثم تابعت الحكاية قائلاً:
"وفي يوم جاء جنود الوالي وأخذو الحلاق إلى القصر..
فقال الوالي: إن ما ستشاهده اليوم سرّ، فإن كشفته قطعت رأسك ورميت به إلى رؤوس الحلاقين الآخرين.
فأزال الوالي عمامته ليحلق له الحلاق فرأى في رأسه قرنين صغيرين..
وبعد انتهاء الحلاقة ذهب الحلاق إلى بيته لكنه لم ينم تلك الليلة.. فذهب في نصف الليل عند حكيم البلد، وقال له: لدي سر ولا أستطيع البوح به وإن كتمته سأموت..
وكان يقصد طبعاً أنه سيموت من كتمان السر.. لأنه يحب الثرثرة وكشف الأسرار..
ثم فقال الحكيم: اذهب إلى النهر الوحيد في البلد وخذ معك إناء صغير.. قل به ما شئت ثم اختمه بإحكام وألقه في اليم..
وبعد أن فعل الحلاق ذلك ارتاح باله وذهب ونام نوماً عميقاً..
وقبل أن يطلع النهار حضر الجنود إلى بيته واعتقلوه وحملوه إلى الوالي.. وكانت عينه حمراء من الغضب..
فقال له الوالي: ألم احذرك من أن تفشي السر.. لقد وجدت هذا الإناء المختوم في ماء القصر الذي نجلبه من النهر..
وفي النهاية عاد البلد من جديد دون حلاق..".
ضحكت أمي وقالت:
"جميلة جداً هذه الحكاية.. لكن السؤال الآن من هو الضحية التالي!!..
هل هو الحلاق أم أنت!
هذه القصة فيها عبرة وحكمة..
حفظ السر خصلة لا يتمتع بها غير الحكماء والعقلاء.. فاحفظ السر تكن منهم..
لكن الآن.. إن لم تحضر لي السر.. فستكون الضحية التالي.."..
وقبل أن أنبس بحرف واحد، رمقتني أمي بنظرة حادة، ثم رمتني بتلقائية مثيرة للضحك بفوطة كانت بيدها، فالتقطها رغم فجائية الموقف..
كانت الفوطة رطبة فقطر منها الماء عندما أصابتني وبلل ثيابي.. فأعدت رميها نحو أمي ضاحكاً..
التقطتها أمي بمهارة حارس المرمى.. هزت أصبع يدها مهددة والابتسامة ترتسم فوق شفتيها ثم قالت:
"أيها الولد المشاكس المعاكس.. سوف أخبر أباك لكي يقتص لي منك.. ما رأيك؟".
فقلت والضحكة تغلب كلماتي: "إلا أبي.. أرجوك يا أمي.. أبي لن يرحمني"..
9 - ضحكة رنانة
ضمتني أمي بشدة، فيما كنت أحاول التملص من هذه الضمة.. ومن باقي الكلام معها..
قلت:
"دعيني أذهب.. ألا تريدين معرفة سبب هذه المطاردة؟!".
فقالت ضاحكة بلا تردد.. بصوت حازم قاطع مرتفع النبرات:
"اغرب عن وجهي فوراً يا ولد.. لا أريدك رؤيتك إلا ومعك الخبر اليقين.. هيا اذهب قبل أن اضربك بالفوطة مرة ثانية"..
خرجت على الفور كما أمرت أمي.. مثل السهم كيلا أتلقى الضربة الثانية..
وفي الحقيقة.. لم أكن أخشى ضربة الفوطة، لكني لا أريد أن تتبلل ثيابي بالماء مرة ثانية.. كما أني أريد أن أعرف سبب السباق الذي حدث في الزقاق.
خرجت من البيت مسرعاً..
كنت ألامس درجات سلم المنزل بقفزات متتالية.. وأركز كل قفزة من قفزاتي على رجلي السليمة..
ثم خرجت من باب المبنى أجر قدمي الجريحة بهدف الوصول ناحية الساحة، لكني شعرت بالألم ولم أكمل السير.. فوقفت قليلاً..
ثم مشيت ببطء مستعيناً بعكازي كيلا أدوس بثقلي كله على قدمي الجريحة..
وبعد أمتار قليلة.. بلغت طرف الزقاق مسرح السباق، وهو زقاق يؤدي إلى الساحة المقابلة لمنزلي والتي أطلَّ عليها من نافذة غرفتي.. فلمحت صديقي رياض جالساً على ركبتيه خلف سور خشبي يرتفع عن الأرض حوالي المتر الواحد فقط.
وكان رياض يرفع رأسه قليلاً من خلف السور ثم يخفضه، مختلساً النظرات خشية أن يبصره العم الحلاق..
عندما شاهدت صديقي على هذه الحالة لم أستطع كتمان ضحكتي العالية..
اعتقدت في تلك اللحظة أنَّ كل ما في القرية من أنس وجان وحيوان يطير بجناحيه أو يمشي على قدميه قد سمع تلك الضحكة الرنانة..
غضب رياض غضباً شديداً..
أمسك بيدي اليمنى وجذبني نحوه بقوة، فوقعت على الأرض ولم أستطع أن أثبت مع قدمي المصابة، لكني لم أشعر بألم السقطة لأني كنت متأثراً بتفاصيل ما يحدث..
أردت على الفور أن يشرح لي ما سر هذه المطاردة العنيفة..
أشار إليَّ بيده أن اصمت.. كيلا يسمعنا العم أبو فراس..
جلست على الأرض ولم أتمكن من الجلوس على ركبتي كما يجلس رياض..
مددت قدمي الجريحة المضمدة بالشاش الأبيض أمامي.. فوجدت البياض وقد تحول إلى لون التراب بعد أن تعفر الشاش برمل الطريق.. فلم أبال بذلك..
كررت السؤال لكن بصوت هامس.. كنت متشوقاً لمعرفة السر.. لم أستطع الانتظار أكثر من ذلك.. أريد أن أعرف..
عاد رياض يختلس النظر من وراء السور.. ثم جلس مسنداً ظهره بعد أن اطمأن إلى ابتعاد العم أبو فراس.. أو على الأقل شعر أنه لم يعد في خطر من المطاردة..
10 - ابتسامة ماكرة
أخذ رياض نفساً عميقاً.. ابتسم ابتسامة ساخرة..
حدق بي قليلاً ثم قال:
"لولا ما أصابك يوم أمس من جرح في قدمك لاستمتعت معنا في هذه المطاردة"..
قلت له ضاحكاً:
"لا شك في ذلك.. لكن استمتاعي بمشاهدتكم ومشاهدة العم أبو فراس كانت أيضاً ممتعة، ولا تقل عن متعة المطاردة نفسها"..
تابعت حديثي قائلاً:
"كنت أجلس بهدوء أتأملكم وأنتم تركضون وتركضون وهو يركض خلفكم بعكازه.. وكنت أضحك كما لم أضحك من قبل.. لكن الموضوع الوحيد الذي لم يسرني هو أني لم أكن أعرف سبب كل ذلك"..
ابتسم رياض من جديد، لكن ابتسامته هذه المرة كانت ابتسامة ماكرة..
قال: "لقد تعاهدت مع جميع الأصدقاء في المطاردة أن لا نقول السر لأحد"..
وكان رياض يريد أن يغيظني في ذلك.. فهو كما يبدو أحسَّ بمدى شغفي لأعرف السبب.. لكنه أراد لا يعطيني الإجابة بسهولة..
قلت له:
"لا بأس.. لم أعد أريد أن أعرف شيئاً منك.. سوف يخبرني كثيرون من الأصدقاء عن السبب.. لقد لمحت جميل يختبئ خلف الشجرة الكبيرة في الساحة.. ويبدو أنَّ العم أبو فراس ذهب إلى بيته أو دكانه وزال الخطر.. بالتأكيد جميل سيخبرني الخبر اليقين.. جميل أو أحد غيره"..
ثم قلت لأبين له أني لست مبالياً به.. وكنت أريد أن أغيظه كما أغاظني:
"في الحقيقة.. أنا لم أعد أريد أن أسمع الخبر منك"..
ثمَّ قمت من مكاني أتوكأ على عكازي.. صابراً على ألم قدمي..
وقفت واثقاً متوجهاً نحو الشجرة الكبيرة.. فحذرني رياض من الخروج إلى الساحة..
"هناك احتمال أن يعود العم أبو فراس"..
لكني لم أعبأ بتحذيره.. فأنا ليس لي علاقة بالمطاردة هذه.. ولم أشترك فيها منذ بدايتها.. كما أني كنت مطمئناً كون أبو فراس عاد إلى بيته أو دكانه..
مشيت بضع خطوات.. ووقع أمر لم يكن بالحسبان...
خطوات قليلة..
سمعت صوت رياض يصرخ من خلف السور الخشبي..
وسمعت صوت جميل يصيح من وراء الشجرة..
وسمعت أصواتاً لم أميز بينها.. كلهم ينادوني ويصيحون:
"أهرب.. أهرب بسرعة"..
11 - دفاع بعكاز
تلفت يميناً بعد أن أحسست بحركة قريبة جداً مني..
وجدت العم أبو فراس يتوجَّه نحوي مباشرة..
للوهلة الأولى أصابني رعب شديد.. كيف أفر من هذه الورطة التي أوقعت نفسي فيها؟..
لا شك أنَّه يظن أني كنت ضمن مجموعة الصبيان الذين كان يلاحقهم.. والآن سوف ينتقم مني لأمر لا أعرف سببه وليس لي أي علاقة به.. لن ينتظرني لحظة واحدة لأشرح له..
بالتأكيد.. سوف يضربني بعكازه.. لكني لن أسمح له بأن يضربني.. سوف أدافع عن نفسي بعكازي.. وهكذا كل واحد منا سيضرب بعكازه..
كانت الصور المتتابعة تتلاحق في رأسي وأنا أشاهد أبو فراس يتوجَّه نحوي مباشرة..
تأهبت استعداداً للقتال.. لأني لم أكن أستطيع الفرار من أمامه وأنا بهذه الحالة، فرجلي المصابة لن تساعدني على الركض.. ولن أتمكن من الاختباء بعدما أصبح على بعد خطوات قليلة.. وتحفزت لصدِّ أوَّل هجمة يحتمل أن أتعرض لها..
اقترب العم أبو فراس..
أصبح أمامي مباشرة..
كان يرمقني بعينين حزينتين بدا عليهما التعب الشديد والاحمرار بسبب العرق المتساقط من جبهته، وكان شعره يخفي قليلاً من جبينه وينسدل على جانب من عينه اليمنى..
هذه هي المرة الأولى التي أقف فيها أمام العم أبو فراس وجهاً لوجه..
المرة الأولى التي أنظر في عينيه..
لكن.. رغم صعوبة الموقف بدأ خوفي منه يتلاشى شيئاً فشيئاً..
لم تكن نظراته مخيفة..
لم يرعبني عكازه..
كان ينظر إليَّ بعطف وحنان..
وقف - ربما - أقلَّ من نصف دقيقة مقابلي مباشرة..
كان ينتظر ربما أن أفرَّ من أمامه كما كان فرَّ الصبيان الآخرون...
لا أدري في تلك اللحظة ما الذي كان يدور في خَلَد العم أبو فراس..
كان يحدق بي مستغرباً..
ربما كان يتساءل عن سبب بقائي مسمَّراً أمامه.. ولماذا لم أهرب مثل الآخرين..
ربما ظن أني كنت احتمي بالعكاز الذي بيدي..
لكنه انتبه أخيراً إلى قدمي المضمدة بالشاش الأبيض المعفر بالتراب..
لم يتكلم..
لم ينقض علي بعكازه كما توقعت.. دار دورة كاملة حول نفسه.. تأمل المكان عله يلمح صبياً من الصبيان.. لكنهم جميعاً كانوا مختبئين في أماكن متفرقة..
طأطأ رأسه.. ثم سار بهدوء متجهاً نحو دكانه..
أغلق الباب خلفه.. وبقيت أقف في مكاني مشدوهاً دون حراك..
12 - صيد سهل ثمين
ثوان معدودات مرَّت عليَّ ثقيلة جداً وأنا لا أدري ماذا أفعل..
تردد سؤال في رأسي:
"لماذا لم يقبض علي العم أبو فراس.. رغم كل هذه المطاردة الشرسة.. فقد كنتُ صيداً ثميناً وسهلاً؟!. لكنه لم يفعل.. فقد استدار بهدوء ومضى بسلام وكأنَّ شيئاً لم يكن"..
الغرابة دائماً كانت تحكم هذا الرجل..
نحن الصغار وعينا على وجوده في بلدتنا، ومنذ أنْ تفتحت عيوننا على الحياة ونحن نراه منفرداً بنفسه لا يتكلم إلا نادراً..
دخل دكانه وأغلق قفل الباب من الداخل.. سمع الجميع هذه المرة زعيق القفل وهو يدور من وراء الباب الخشبي.. فاطمأنوا وشعروا أنهم أصبحوا الآن في أمان..
وقبل أن أتحرك من مكاني وجدت صغار الحي – شركاء سباق الزقاق والمطاردة العنيفة - يخرج كل واحد منهم من مكان..
اقتربوا مني مهنئين على السلامة والنجاة بعد أن توقفت قلوبهم جميعاً عن الخفقان.. وفتحوا أفواههم، وحبسوا أنفاسهم، وهو يرون أبو فراس وقد تمكَّن مني وكاد يفتك بي..
بصراحة..
لا يمكن لأحد أن يتصور مشاعري في تلك اللحظات..
تملكني في البداية خوف رهيب حتى تيبست قدماي في مكانهما، وأحسست كأني وتد مغروس في الأرض، أو غصن يابس قطع من شجرة ورمي في موقد مشتعل..
طبيعة الإنسان طبيعة عجيبة..
لا يسبق خوفه اطمئنانٌ..
ولا تملأ خابيته شجاعة..
إذا داهمته مصيبة واستوثق الجميع من عجزه تركوه منفرداً في الميدان..
أمَّا إذا انتصر وبرز سليماً معافى بادره من حوله بالتهنئة دون أن ينصروه وقت المحن..
في تلك اللحظة لم أعبأ بالغرض الذي خرجت من أجله.. لم يعد يهمني من قريب أو بعيد معرفة سبب المطاردة الشرسة.. وجدت أنَّ هناك علاقة وطيدة نسجتها بيني وبين العم أبو فراس الحلاق..
شعرت أن في عينيه حناناً كبيراً.. وإحساساً لا نراه في عيون كثير من الناس..
تلك الهنيهات القصيرات التي وقفت فيها قبالة أبو فراس كانت المرة الأولى التي أقف فيها أمامه مباشرة.. لم يحدث أنْ رأيت عينيه من قبل.. ولا تأملت وجهه بهذا القرب..
كانت المسافة قريبة جداً.. لا تتجاوز المتر الواحد.. كان يمكنه الانقضاض عليَّ بقفزة واحدة.. لكنه اكتفى برمقي بنظراته الحنونة العميقة.. نظرات لا يرى الإنسان صنوها كثيراً في حياته..
وددت لو دامت هذه اللحظات.. فرغم ما انتابني من خوف في البداية فقد تلاشى الخوف بعدما رأيت ما في عينيه من صور دامعة.. وحكايات رائعة.. وزمناً يرسم سطور الحياة على جبينه العريض..
13 - الضحكة الطائرة
مشيت بهدوء.. عائداً من حيث أتيت..
لم أسأل أحداً من أصدقائي ما هو سبب المطاردة..
سرت واجماً نحو البيت.. عبرت الساحة أسحب رجلي الجريحة سارحاً بتلك النظرات.
أمي التي هالها رؤية العم أبو فراس أمامي وهو يحمل عكازه.. وكانت تتابع المشهد من نافذة غرفتي.. صرخت بأعلى صوتها عندما وجدتني أمامه وجهاً لوجه..
في تلك اللحظة لم أميز صوت أمي عن غيره من الأصوات..
لكنها صمتت مثل الآخرين عندما وقفت أنا وهو كالصنمين إزاء بعضنا بعضاً.. كل واحد يحدق في عيني الآخر..
عندما وصلت إلى مدخل البناء حيث أقيم وجدت أمي بانتظاري، فسارعت إلى ضمي إليها.. وكأني طفل صغير.. ثم صعدنا معاً وهي تسندني..
لم تكن أمي راغبة بأن تعرف سبب المطاردة.. بل كانت تريد أولاً الاطمئنان على صغيرها..
أول كلمة قلتها لأمي:
"لماذا لم يمسك بي ولم يضربني؟".
كانت أمي هي أيضاً مستغربة أشد الاستغراب..
ربتت على كتفي وقالت: "العم أبو فراس رجل طيب.. وليس من عادته أن يؤذي أحداً".
- "لكنه كان يطارد الصبيان حتى ظننا أنه سيفتك بهم".
· "ربما أدرك أنك لم تكن مشاركاً في المطاردة".
- "لا أظن ذلك.. لم ير في البداية قدمي الجريحة.. صوب نظره إلى عيني مباشرة.. لم يتفوَّه بكلمة واحدة".
· "الحمد لله أن الأمر انتهى على هذه النهاية.. لقد قلقت عليك كثيراً".
لملمت نفسي.. أو ما بقي منها.. وجرجرت رجلي الجريحة وأنا لا أشعر بألمها..
لم تتمالك أمي نفسها وهي تراني بهذا المنظر..
ضحكت من أعماق قلبها ضحكة دوت في أرجاء المنزل..
ولولا الجدران الترابية السميكة التي تحيط بنا، وهي جدران عريضة قديمة تحمي من برد الشتاء وعواصفه التي لا ترحم، ولولا النوافذ المغلقة بإحكام.. لطارت ضحكتها إلى أنحاء الساحة، وحلقت في كل أزقة البلدة ودروبها الهادئة..
ومن الطبيعي أن تشتهر هذه الضحكة الطائرة مثل تلك المطاردة العنيفة التي سوف يسجلها – بالتأكيد – تاريخ بلدتنا بحروف كبيرة، لأنها بلدة هادئة هانئة لم تعرف مثل هذه المطاردة في تاريخها الطويل.. كما لم تعرف ضحكة طائرة من قبل.
14 - طرق على الباب
"للأسف لم نعرف سبب كل ما حدث..".
قالت أمي ذلك مع تنهيدة اخترقت أذني..
أجبتها: "ليس مهماً أن نعرف الآن.. من المؤكد أننا سنعرف لاحقاً.."..
ولم تمض سوى لحظات حتى سمعنا طرقاً قوياً على الباب..
- "افتح الباب.. يا سعيد.. افتح الباب"
"من؟"..
صحت بملء فيهي.
- "افتح أنا رياض.. افتح الباب يا سعيد".
سمعت أصوات الصبيان تتردد خلف الباب..
قالت أمي ضاحكة: "ها قد جاءنا الخبر اليقين إلى بيتنا".
أسرعت إلى الباب..
فتحته على مصراعيه بشكل سريع، ثم تراجعت إلى الخلف قليلاً، ولم أكد أخطو خطوة صغيرة إلى الوراء حتى وقع كل أصدقائي - أبطال المطاردة العنيفة - فوق بعضهم بعضاً، وكأنهم كانوا يلقون بأثقالهم فوق الباب، فما أن حللت وثاقه حتى انسكبوا جميعاً..
تدحرج من كان في الخلف على من كان في الأمام، أمَّا رياض المسكين فاستوى على الأرض مع كل الحمل الذي انصب فوقه.. وراح يصيح بصوت مخنوق..
كان المشهد مثيراً للضحك أكثر منه للشفقة.
ثقل ضاغط فوق رياض المسكين صاحب البنية الضعيفة، علماً أن من بين الأصدقاء الذين استقروا فوق رياض من هم من أصحاب الأوزان الثقيلة جداً..
لم يكن باستطاعة رياض أن يتكلم..
مرت هنيهات لكنها بالتأكيد كانت من الأثقل من بين الهنيهات التي عاشها رياض في حياته.
ثم بدأ الأصدقاء يتهاوون واحداً وراء الأخر..
سقطوا بالتتابع في حركات مضحكة..
حتى انتهى الأمر إلى رياض المسكين الذي لم يكن باستطاعته الوقوف بسهوله.. فعاونه الجميع ليتمكن من الوقوف..
15 - الشعر المنفوش
وقف قليلاً ثمَّ ترنح وسقط أرضاً..
بدا وكأنه خارج من معركة..
شعره منفوش.. عيناه زائغتان.. رقبته تميل إلى الأمام.. رأسه منحن مثل وردة ذابلة.. وحاله يرثى له.. ومنظره يحزن العدو قبل الصديق..
أسرعت أمي لتحضر كأس ماء، فيما حمله الأصدقاء ووضعوه على الكنبة في صالة الاستقبال..
عادت أمي بسرعة تحمل كأس الماء في يدها اليمنى..
جلست على ركبتيها قرب الكنبة، بسطت يدها اليسرى ناحية الكأس وصبَّت قليلاً من الماء في راحة كفها، ثم رشَّت وجهه برذاذ بارد عله يستعيد توازنه إثر ما تعرض له من انهمار شلال بشري هادر انصب فوقه دون سابق إنذار...
قفز رياض من الكنبة صائحاً.. "ماذا هناك.. ماذا هناك؟"..
غرق الجميع في زوبعة من الضحك..
كان منظر رياض وهو يصحو من كبوته مضحكاً..
لم يكن يدري ما حدث معه بعدما وقع أرضاً.. ويبدو أنه أغمي عليه ولم يدر ما الذي جرى له..
بدأ يتحسس يديه وظهره..
حرَّك رقبته محاولاً طقطقها..
مدَّ كفيه إلى الأمام، ثم حرك ذراعيه في الهواء وارجعهما إلى الوراء ثم بسطهما مرة أخرى إلى الأمام.. يرفعهما تارة ويخفضهما تارة أخرى.. حتى هدأ واطمأن باله وتأكد أنه بخير سليم معافى..
ابتعد الأصدقاء عنه وانتشروا في غرفة الاستقبال..
منهم من جلس على المقاعد الخشبية ومنهم من جلس على الكنبات. وأكثرهم جلس على سجادة الأرض.. لأنَّ المقاعد والكنبات لا تسع الجميع..
وبعد أن كان حضور الأصدقاء من أجل الاطمئنان عليَّ شعروا بالراحة بعد الاطمئنان على رياض.. فما حدث معه لم يكن بالحسبان..
ولم يكن هدوءهم بعد ذلك إلا للحظات قليلة..
ثم انطلقت الضحكات من هنا وهناك، وكان الجميع يتحدث دون أن نفهم ماذا يريد هذا وماذا يريد ذاك..
غير أن اسم العم أبو فراس كان يتردد من حين إلى آخر حيث بدا أن الأحاديث المتداخلة كانت عن تلك المطاردة العنيفة..
صحت بأعلى صوتي أن اهدأوا أريد أن أفهم..
التفت الجميع صوبي متفاجئين من صوتي المرتفع.. توقف هدير أصواتهم.. وترقبوا قولي..
16 - رأس المشكلة
- "ألم يكفكم كل الزعيق والصياح في الساحة وهنا أيضاً؟..
علامَ كل ذلك؟..
لماذا هذه الجلبة وهذا الضجيج الذي لا ينقطع؟..
أريد أن أعرف ما سر تلك المطاردة العجيبة التي جرت بينكم وبين العم أبو فراس الحلاق؟؟"..
لكن الضجيج عاد من جديد.. الجميع يريد أن يشرح الأمر..
الأصوات كانت تتداخل بشكل غير مفهوم..
وقفت الأم وكانت ما تزال تجلس على ركبتيها قرب الكنبة ثم صاحت بصوت مرتفع:
"توقفوا يا اولاد.. كفى صياحاً.. لقد صدعتم رأسي.. ما هذا؟!.. هل أنتم في مباراة كرة قدم؟!.. كفى.. كفى.".
لم تكن أمي تريد أن تطردهم من البيت.. كان لديها فضول قوي لتعرف سر المطاردة الغريبة.. لذلك تحملت كل هذا الضجيج حتى النهاية لتعرف السبب..
ثم قالت بصوت هادئ بعدما سكت الجميع:
"اهدأوا يا أبنائي الصغار لا تتسرعوا بالكلام.. أرجو أن يتكلم واحد منكم فقط.. من يريد أن يتحدث ويخبرنا بما حدث فليرفع يده؟".
فرفع الجميع أيديهم.. عندها قالت أمي:
"سأختار أكثركم هدوءاً وهو طلال"..
ضحك الجميع وقال أحدهم هازئاً:
"من؟؟.. طلال؟؟.. طلال هو أكثرنا ضجيجاً وشغباً.. بل هو رأس المشكلة كلها"..
قالت أمي مبتسمة:
"عفريت أنت يا طلال.. أنت الأصغر بينهم.. لكن يبدو أنك مشاغب كبير.. هات حدثنا عما حدث طالما أنت رأس المشكلة كما قالوا.. هيا تحدث.. لكن بلا زيادة وبلا نقصان"..
اعتدل طلال في جلسته.. تنحنح قليلاً معتدا بنفسه.. طلب ماء ليشرب قبل أن ينطلق بالكلام المباح..
- "المشكلة ببساطة أننا كنا نلهو قرب دكان العم أبو فراس"..
قاطعه آخر:
"قل الحقيقة.. نحن اقتربنا كثيراً من الدكان فيما كنا نلعب ونجري ونرمي بالكرة"..
وقال ثالث معترفاً:
"عندنا اقتربنا من باب الدكان قمت بإدخال رأسي مستفزاً العم أبو فراس.. فنحن نعلم أنه يكره الأطفال.. ولا يحب أن يحلق لهم"..
وهنا عاد طلال ليقول:
"أمَّا أنا..
فعندما عدت واقتربت مرة من الدكان..
وجدت نفسي دون قصد مني داخل عتبة الدكان.. فنظر إلي أبو فراس الحلاق نظرة قاسية.. فقلت له ممازحاً وأنا أعلم كم يغضبه الأمر..
"أريد أن أحلق شعري"..
غضب غضباً شديداً..
لكنَّه كظم غيظه وصاح بي لكي أخرج من الدكان.. فخرجت فوراً"..
17 - الضربة الطائشة
كنت أنا أمي نستمع إلى ما يقوله طلال والأصدقاء بشغف..
لكن الأصدقاء توقفوا جميعاً في هذه اللحظة عن الكلام كأنهم يريدون أن يشوِّقونا أكثر.. أو ربما ليخفوا عنا شيئاً ما لا يريدوا أن يعرفه أحد..
فقلت لهم:
"ها.. ثمَّ ما الذي حدث.. تكلَّموا فكلنا آذان صاغية"..
عاد طلال ليتنحنح هذه المرة بمكر أكثر من المرة السابقة.. ثم فرك مقدمة رأسه كأنه يفكر..
نظر الجميع نحو طلال دفعة واحدة..
قال طلال:
"ما بالكم تحدقون بي هكذا!! كأنني أكلت طعامكم.. نحن جميعاً مشتركون بما حدث"..
فقالت أمي موجهة كلامها لطلال:
"هيا طلال.. يا حبيبي طلال.. تكلم.. لا أحد يتهمك بشيء..".
ثم اردفت بنبرة حازمة:
" هيا تكلم.. لقد نفد صبري"..
عاد طلال ليتنحنح مرة ثانية.. ثم قال بمكر:
"مممم.. ماذا حدث بعد ذلك يا طلال يا ولد يا ذكي؟ ماذا حدث؟..
آه تذكرت..
عندما خرجت من الدكان سدد لي أحد الأولاد الكرة فجاءت تحت قدمي مباشرة.. فما كان مني.. ودون أي سابق تصميم أو تفكير إلا أن سددت الكرة بضربة طائشة فدخلت مباشرة إلى داخل الدكان..
ودون قصد أصابت الكرة وجه العم أبو فراس مباشرة..
فصاح وأزبد..
وخرج علينا قفزاً وعدواَ.. بعد أن حمل عكازه بيده.. وبدأت المطاردة العنيفة بعد ذلك مباشرة..".
في هذه اللحظة انفجرت أنا وأمي بالضحك.. واختلط ضحكنا بالأسى والحزن على ما أصاب العم أبو فراس.. وتعاطفنا معه بشدة..
قلت في نفسي:
"بالفعل لقد كان العم أبو فراس محقاً..
لولا لطف الله لأصابه ضرر في وجهه..
كما أنه كان بإمكانه الانتقام مني.. فهو لا يعرف من الذي سدد الكرة نحوه.. وكان من المحتمل أن أكون أنا كبش الفداء..
لكن الله لطف بي وبه"..
وبعد أن علمت أنا وأمي سبب هذه المطاردة.. وانكشف سرها أمامنا.. قامت أمي واتجهت نحو المطبخ لتحضر بعض البسكويت والعصائر للأصدقاء..
لكنهم جميعاً وقفوا واعتذروا عن ذلك..
قال أحدهم:
"لا نريد أن نرهقك يا خالة، عددنا كبير"..
وقال آخر:
"نعم.. كما أنه من الضروري أن نخرج في الحال ونعود إلى بيوتنا، لأننا نريد أن نطمئن أهلنا أيضاً، كما أنهم بالتأكيد يريدون أن يعرفوا هم كذلك سبب الذي حدث.. ويريدون بلا شك الاطمئنان على صحة صديقنا سعيد بعد الموقف الذي جرى له"..
ابتسمت أمي وقالت:
"لا.. أبداً.. لن يخرج أحد حتى يأخذ كل واحد منكم قطعة حلوى"..
ثم أحضرت علبة كبيرة فيها أنواع كثيرة من الحلوى.. وبدأ كل واحد من الأولاد يأخذ قطعة أو قطعتين وينسحب بهدوء خارج المنزل..
أما أنا فقد ودعت أصدقائي عند الباب.. ولم أخرج معهم لأني بدأت الآن أشعر من جديد بألم في قدمي الجريحة..
وما أن خرج الجميع حتى استلقيت في فراشي لأستريح بعد هذه المغامرة الغريبة.. وبدأت استعيد تفاصيل ما حدث حتى غرقت في نوم عميق..
18 - يافطة جديدة
في اليوم التالي لم يفتح العم أبو فراس دكانه.. ولم يخرج من منزله..
كان الجميع في حيرة من أمرهم..
أجمع كبار السن أنَّ ما حدث للعم أبو فراس كان خطأ وإساءة كبيرة له وكذلك للبلدة بأسرها، ولا بد من أن يعتذروا منه نيابة عن أهل البلدة..
ذهب وفد من البلدة إلى دكانه.. طرقوا الباب الخشبي الذي هو في الوقت نفسه باب بيته الذي يسكنه من الجهة الخلفية.. لكنه لم يفتح الباب..
وظلوا يطرقون الباب مراراً دون فائدة..
ذهب أحد الشباب إلى البيت من الخلف.. وراح يطرق مرة تلو المرة دون جواب..
انتشر في بلدنا خبر مغادرة العم أبو فراس للبلدة..
قال البعض إن هناك من رآه عند أطراف البلدة في وقت متأخر من الليل يخرج تحت جنح الظلام كيلا يراه أحد مغادراً.. وفي يده حقيبة صغيرة وحقيبة أخرى في الحجم نفسه تقريباً يضعها على ظهره.. وسار في المراعي حتى اختفى..
وأكد هذا الكلام أن نوافذ بيته كانت مغلقة.. ولم ينبعث منها ضوء منذ ذلك اليوم..
وبعد ثلاثة ليال..
وتحديداً في صباح اليوم الرابع.. فوجئ الجميع بأنَّ العم أبو فراس أعاد فتح دكانه من جديد.. والمفاجأة الأكبر كانت رؤيتهم له وهو يزيل اليافطتين الكبيرتين المعلقتين في واجهة الدكان..
أمَّا المفاجأة الأكثر وقعاً فقد كانت عندما قام برفع يافطة جديدة يبدو أنه قضى طيلة الأيام الماضية التي غاب فيها عن بيته ودكانه يكتبها بعناية وبألوان مزركشة جميلة وبحروف كبيرة بمعية خطاط قدير..
حملت اليافطة العبارة التالية:
"أجمل وأحدث القصات لشعر الأطفال".
وما أن رأى الناس هذه العبارة حتى تزاحموا على باب الدكان..
لم يكن هنالك مجال متاح لسؤال الحلاق عن سبب هذا التغيير الكبير.. فقبل أيام كان العم أبو فراس عدواً للأطفال.. ولم يكن يريد استقبال أي طفل في دكانه.. واليوم أصبح دكانه مقصداً لجميع أطفال البلدة..
كان الجميع يريد أن يعرف سر هذا التغيير المفاجئ..
لكن شدة الزحام لم تسمح له بالإجابة.. كما أنها لم تعط أحداً فرصة بسؤاله..
أما أنا فقد كانت تشغلني لحظة وقوفي أمامه في يوم المطاردة الشهير..
لحظات ما زالت ماثلة أمامي..
كنت أخشى الذهاب إلى دكانه ليحلق لي شعري مثل سائر الأطفال والصبيان والفتيان خوفاً من أن يتجدد الموقف السابق.. وينتقم مني..
19 - قرار حاسم
لكني رغم كل حالة الخوف والرعب التي تملكتني، قررت بشكل حاسم الذهاب إلى دكانه لأحلق شعري الطويل، فقد مضى وقت طويل منذ حلقت شعري آخر مرة..
اللحظات التي وقفتها أمامه لم تغب عن ذاكرتي لحظة واحدة.. كانت نظرته مليئة بالعطف والحنان رغم كل مظاهر الغضب والانفعال..
عندما أخبرت أمي أني ذاهب إلى دكان الحلاق تهلل وجهها فرحاً..
قالت وأنا أعرف أنها تحب دائماً معرفة الخبايا والخفايا:
"يا سلام.. ربما تستطيع أن تعرف سر هذا التغير المفاجئ".
قلت لها:
"هل تعتقدي يا أمي أن لهذا التغير علاقة بالمطاردة الأخيرة".
أجابت:
"بكل تأكيد.. لكن كيف ولماذا؟ فهذا ما يمكنك أن تكتشفه وتخبرني به.. وربما عرفته عندما تقوم بحلاقة شعرك عند العم أبو فراس".
قلت:
"هل يمكن أن يكون لي علاقة بهذا التغيير؟!".
قالت:
"ربما.. هو لم يخبر أحداً حتى الآن بما حدث.. لقد مرت بضعة أيام على عودته إلى القرية وفتحه الدكان من جديد.. بالتأكيد هناك سر.. لكن السؤال متى نعرف هذا السر؟!".
فكرت قليلاً بكلام أمي.. وقلت:
"لا بد أن في الأمر سراً كبيراً.. فهذا التغير المفاجئ له أسراره.. كما أن قراره السابق بعدم حلاقة شعر الأطفال طوال السنوات الماضية له أيضاً أسراره..".
قالت أمي مشجعة لي على الذهاب:
"لا تفكر كثيراً الآن.. اذهب إلى دكان العم أبو فراس.. وانتظر دورك فهناك الكثير من الأطفال ينتظرون دورهم للحلاقة.. اذهب وانتظر.. وعسى أن تعود إليَّ بخبر جديد.. عندها سأكون فخورة بك كما أني دائماً.. لأنك الولد الوحيد في البلدة الذي عرف سر العم أبو فراس الحلاق.. هيا اسرع.. وعندما تعود ستجدني بانتظارك.. ولكن لو عرفت شيئاً لا تخبر أحداً.. أريد أن أكون أول من يعرف السر.. اتفقنا"..
قلت ضاحكاً:
"نعم يا أمي.. وهذا وعد".
"إذن هيا وكن صبوراً بانتظار دورك.. وعسى أن تعود ومعك الخبر اليقين"..
قالت أمي ذلك بسعادة واطمئنان..
مشيت بخطى سريعة جداً..
قفزت درجات السلالم..
ليس مثل المرة الماضية بل بطريقة سريعة قوية.. فقد التأم جرح قدمي واستعدت قوتي السابقة..
هرولت نحو دكان الحلاق بكل سعادة..
هذه هي المرة الأولى التي أحلق شعري عنده.. لأني اعتدت على أن تحلق لي أمي أو أن يأخذني أبي إلى البلدات المجاورة ليحلق لي من حين إلى آخر.. لكني في العادة كنت أطيل شعري فلا أحلق إلا بين فترات متباعدة..
اليوم كان يوماً جميلاً..
فهو يوم الحلاقة الأولى عند أبو فراس الحلاق..
20 - طابور طويل
عندما بلغت دكان الحلاقة كان عشرات من الأولاد يقفون بالدور في طابور طويل.
قلت في نفسي:
"لن أحظى اليوم بدور.. العدد كبير.. ربما انتظر بضع ساعات.. سأعود في يوم آخر"..
خرجت من الصف الطويل..
لاحظت أيضاً خروج بعض الصبيان الآخرين.. لقد ملوا من الانتظار طويلاً..
"لا بأس من الحلاقة غداً أو بعد غد.. أو حتى الأسبوع المقبل".. قالها أحد الفتيان الأشداء الذين شاركوا في المطاردة العنيفة إياها.. ثم مضى في طريقه يحرك ذراعيه في الهواء مثل مصارع محترف..
كان ذهابه حافزاً لذهاب العديد من الصبيان..
"لا بأس.. ربما أحلق غداً.. لقد اعتدت على الشعر الطويل".. سمعت صبياً صغيراً يقول ذلك لأمه.. ثم ضحك ضحكة منتصر..
يبدو إنه لم يكن يريد حلاقة شعره الطويل.. كان شعره يميل إلى اللون البني اللامع.. وكان مصففاً بعناية بالغة.. بدا شكله جميلاً بشعره الطويل.. لكن أمه احضرته وكأن سيشارك في "كرنفال" بديع.. أو في حفلة حلاقة جماعية..
أحسست بأن هنالك فرصة بدأت تلوح...
صار الفتيان والصبيان ينسحبون واحداً تلو الآخر.. فعدت واقتربت من صف الانتظار..
بدأ العدد يتلاشى بسرعه.. فقد تعب الصغار وملوا الانتظار..
لم يتبق أمامي سوى بضعة صبيان.. ما منحني عزماً جديداً..
لم تمض فترة طويلة..
وقبل أن تغيب الشمس وجدت نفسي وجهاً إلى وجه من جديد أمام العم أبو فراس..
عندما وقفت أمام العم فراس كانت مشاعري هذه المرة تختلف تماماً عن المشاعر التي انتابتني في المرة الماضية.. لم يكن الخوف مسيطراً علي كما أن منظر العم أبو فراس كان مختلفاً جداً..
كان مبتسماً بشكل مبالغ فيه.. ومن شدة ابتسامته واتساعها اعتقدت أن أسنانه سوف تقع من فمه..
بسط العم أبو فراس يده مرحباً بي..
صافحني بحراره بالغة.. مع أنه لم يصافح الصبيان الذين سبقوني إلى كرسي الحلاقة..
جلست على الكرسي وأنا أترقب ماذا سيحدث..
لم يكن كرش العم أبو فراس يبدو واضحاً ومنتفخاً كما بدا خلال السباق.. فقد كان منقبضاً خلف "روب" الحلاقة الأبيض الطويل الذي ينتشر عليه بعض الشعر.. وعلى خصره حزام عريض يشد كرشه ويرفعه فلا يسمح له بالاندلاق مثل يوم المطاردة الشهير..
21 - مشط ومقص
نظر العم أبو فراس إلى عيني ووجهي من خلال المرآة.. وبدا لي أنه فهم ما يدور بخلدي..
قال:
"أنت مستغرب من شكلي.. أبدو مختلفاً عن الشكل الذي رأيتني فيه المرة الماضية.. أليس كذلك؟".
لم يكن أسلوب طرح سؤال العم أبو فراس يوحي بأنه يريد معرفة الإجابة..
وقف خلفي وفي يديه مشط ومقص.. تجمد أبو فراس دقائق في مكانه.. ثمَّ قال:
"لماذا لم تهرب من أمامي في ذلك اليوم؟!".
فاجأني السؤال.. لم أكن أتوقع أن يسألني ذلك، ولن يستعيد الذكرى..
ظننت أنَّه لن يذكر أمامي أو أمام أحد غيري تلك المطاردة الغريبة.. ولن يتحدث عنها.
أجبته ببساطة:
"كانت قدمي تؤلمني من جرح أصابها.. ولم أكن أستطيع الركض"..
قال:
"والآن أراك بخير.. ولله الحمد.. ظننت وقتها أنك كنت من ضمن مجموعة الصبيان المشاغبين"..
قلت:
"منذ ذلك اليوم وهناك سؤال ما زال يحيرني.. لماذا ذهبت وتركتني دون عقاب؟!.. والآن تؤكد لي أنك ظننتني من الصبيان المشاغبين كما قلت لي فما هو السبب..؟"..
ابتسم العم أبو فراس وقال:
"هل تريد حقاً معرفة السبب؟".
أجبته بسرعة:
"بالتأكيد".
"سأحلق شعرك الآن.. وأخبرك بذلك لاحقاً.."..
لم يكن ما قاله العم أبو فراس محققاً لرغبتي.. لكن ما باليد حيله.. ربما لاحقاً كما قال.. سوف أنتظر حتى يحين الوقت اللاحق الذي تحدث عنه..
وبدأ العم أبو فراس يحلق شعر رأسي بطريقة فريدة.. كأنه كان يهتم بكل شعرة وليس بشعري كله..
مضى وقت طويل.. ولم يحتمل من تبقى في الخارج الانتظار لطول الوقت.. فتفرق الجميع..
نظرت من خلال زجاج الدكان فرأيت المكان المقابل للدكان فارغاً..
قضيت تحت مقص الحلاق أكثر من ساعة كاملة.. دون أن يتفوه بكلمة واحدة..
ثم قال:
"الآن عليك أن تفخر تماماً بهذه القصة الجميلة".
22 - تسريحة رائعة
بالفعل لقد كنت منبهراً جداً بطريقة الحلاقة..
كما كنت منبهراً بأسلوبه في تحريك المقص والمشط..
وفي النهاية دهشت أكثر وأكثر بالتسريحة الرائعة.. فقد بدا منظري متميزاً.. مثل أشهر الممثلين والأبطال العالميين..
نهضت من الكرسي..
ضممت العم أبو فراس إلى صدري شاكراً له على هذه القصة الرائعة.. فحضنني هو الآخر بشدة.. كان فرحاً مثل طفل صغير..
تعجبت من هذه الفرحة التي أصابته.. كان فخوراً بنفسه.. وكان سعيداً بأن احتضنني..
"هل تريد أن تعرف الحقيقة؟ هل تريد أن تعرف لماذا لم أعاقبك.. وما هو سر كل هذا التغير الذي حدث معي.. وما هو سر حلاقتي للأطفال بعد أن كنت أرفض الحلاقة لك ولهم؟!"..
قلت بحماسة بالغة:
"نعم بالتأكيد.. وبدون أدنى شك".
قال:
"إذن.. سأخبرك السر.."..
ثم تابع:
"مممم.. في الحقيقة؛ السر يا عزيزي يكمن فيك أنت... فأنت هو السر"..
ضحكت قائلاً:
"ماذا.. أنا.. إنت تضحكني يا عم.. لم أفهم ما تقول.. هل هذا لغز!".
وقف العم أبو فراس أمام باب الدكان..
وضع يديه خلف ظهره.. فاندلق كرشه إلى الأمام بحرية أكبر.. بعد أن نزع حزامه و"روب" الحلاقة الطويل الأبيض.. فبدا كرشه منزلقاً من خلف قميص ملون خفيف ذي أكمام قصيرة وفتحة صدر واسعة..
ضحك أبو فراس طويلاً حتى خرج صوته من باب الدكان.. فاجتمع الناس على ضحكته الرنانة.. فهذه أول مرة يسمعون العم أبو فراس يضحك..
تجتمع عدد لا بأس به من الجيران والعابرين قريباً من الدكان.. وبدأ الجميع يضحك سعداء لأنهم رأوا وسمعوا أخيراً أبو فراس وهو يضحك بعد أن ظل لسنين عديد عابس الوجه..
"هيا يا عمي.. هل ستخبرني بقصدك أم أذهب؟..". قلت ذلك بإلحاح..
"نعم.. نعم.. سأخبرك.. أنت الوحيد الذي تملك الحق بمعرفة السر".
قلت: "كلي آذان صاغية".
23 - الرأس العاري
جلس أبو فراس ومد رجلية وكرشه أمامه.. ثم قال بصوت هادئ:
- "عندما قابلتك وجهاً لوجه كانت المرة الأولى منذ سنين طويلة انظر مباشرة في عيني طفل.. كنت لم أحب حتى أن يذكر الأطفال أمامي..
لكني عندما رأيتك..
وعندما وقعت عيناي على وجهك أعدتني سنوات وسنوات..
إلى عندما كنت في سنك"..
ثم سكت قليلاً..
- "وماذا بعد.. تابع.. أرجوك يا عمي".
· "تذكرت طفولتي بك.. عندما كنت في مثل عمرك كنت في طولك تقريباً.. وكان وجهي يشبه وجهك.. وكان هنالك فرق واحد بيني بينك.. هل تتخيل ما هو الفرق".
- "نعم.. تفضل.. اكمل..".
· الفرق الوحيدة أني كنت عاري الرأس..
قلت مقاطعاً وقد أصابتني الحيرة:
- "عاري الرأس.. وماذا تقصد بعاري الرأس؟!".
· كان أبي لا يترك في رأسي شعرة واحدة.. دون أن يوضح لي السبب.. وكنت أغضب من ذلك أشد الغضب.. وخاصة عندما أذهب إلى المدرسة.. وكان أبي يبرر ذلك بأنه يريد أن يبعد الحشرات الصغيرة عن رأسي.. تلك الحشرات التي تغزو بكثافة رؤوس الأولاد الصغار في ذلك الوقت"..
قلت:
- "لكنها ليست خطرة بشكل كبير.. ويمكن أن القضاء عليها بالعناية والنظافة".
طاطأ العم أبو فراس رأسه ثم قال كأنه لم يسمعني:
- "كان أبي حلاقاً ماهراً..
يحلق شعر كل الأطفال بطريقة جميلة.. أما أنا فقد كان يحلق شعري بالموسى.. ويجعل رأسي مثل مرآة..
فأصبحت سخرية كل أصدقائي في المدرسة كلهم ينادونني "يا أقرع"..
فتركت المدرسة رغم حبي للعلم وعملت في دكان أبي وتعلمت الحلاقة..
وعندما كبرت..
قررت مغادرة قريتي وأتيت إلى بلدتكم وسكنت فيها.. لكنني عاهدت نفسي أن لا أحلق شعر الأطفال أبداً.. حتى لا يشعر الأطفال بنفس ما كنت أشعر به.. وكنت أريد يكون كل الأطفال شعرهم طويل..".
عجبت من هذه القصة الغريبة.. وقلت للعم أبو فراس:
"لكنك حلقت شعري وبدا شكلي مختلفاً بهذه التسريحة الجميلة".
أجاب:
"نعم.. هذا صحيح.. عندما وقعت عيني عليك.. ورأيت شعرك الطويل.. تذكرت نفسي.. وتذكرت ما كان يحدث معي.. فقلت إلى متى أظل على هذه الحال.. الأطفال بحاجة لي ليبدو شعرهم جميلاً.. وحتى لا يصابوا بأي أذى يسببه الشعر الطويل.. لقد كنت أنت السبب.. وأنت سر قراري..".
24 - بطل من ورق
تابع العم أبو فراس قصته قائلاً والابتسامة المشرقة تعلو وجهه:
"الآن لم يعد الأمر يسبب لي أي حرج.. اليوم أنا سعيد للغاية.. وأنت سبب هذه السعادة، سوف أظل أشكرك طوال حياتين وسأخبر الجميع عن هذه الحكاية وأذكر لهم فضلك عليَّ".
استغربت مما قال وأجبته:
"لكني لم أفعل شيئاً يا عمي.. وقفت أمامك فقط.. ودون قرار مني.. فقد كنت مجبراً على الوقوف أمامك بسبب رجلي الجريحة".
ضحك العم أبو فراس ضحكة مدوية وقال:
"قررت أن أحلق لجميع الأطفال الذين يدخلون دكاني ودون أي مقابل ولمدة عام كامل..
لكني لن أحلق شعرهم كله.. سوف أحلق بعضه وأترك أكثره..
وسأقدم لكل واحد منهم تسريحة مميزة..
لن أدع طفلاً بعد اليوم بدون تسريحة جميلة..
لا أريد أن يشعر الأطفال بأن شعرهم غير جميل.. وأن يعتقدوا بأني سبب ذلك..
هل فهمت لماذا؟!..
عندما رأيتك قلت في نفسي إنك الآن تحتاج لي..
وبدلاً من أن تغضب مني سوف تقول في المستقبل أني كنت سبباً لشعرك الطفولي الجميل.. وكنت أنت الذي أوحى لي بكل هذه الأفكار؟!".
قلت سعيداً بهذا الكلام:
"صحيح ما تقول يا عمي..
لم يكن شعري جميلاً..
أمي لا تعرف الحلاقة لكنها كانت تقص شعري من حين إلى آخر..
وأحياناً كان أبي يأخذني إلى الحلاق في بلدات مجاورة بسبب عمله وضيق وقته..
وكنا اذا خرجنا خارج البلدة يكون ذلك في أيام العطلات.. ويكون معظم دكاكين الحلاقين مغلقة".
وتابعت قائلاً:
"شعري الآن يبدو مرتباً بقصته الجديدة وناعماً جداً.. لقد صرت وسيماً وأنيقاً بهذه التسريحة".
قال العم أبو فراس فخوراً بنفسه:
"أنا بارع جداً في عمل التسريحات المختلفة التي تناسب كل وجه، لكني في السابق كنت أحمل ذكرى رأسي العاري منذ أن كنت طفلاً صغيراً..
لذا قررت أن لا أحلق لأي طفل ولو جزءاً يسيراً من شعره حتى يصبح شعرهم طويلاً فلا يستهزئ بهم أحد".
ثم سكت قليلاً وقال:
"لكني عندما شاهدت شعرك الطويل أحسست أن قراري كان مخطئاً.. فالشعر الطويل دون تسريحة جميلة سبب آخر لكي يستهزئ به الآخرون"..
وفجأة صاح العم أبو فراس قائلاً وبأعلى صوته:
"من الآن فصاعداً.. لا للشعر الطويل غير المصفف بعناية والمهذب بروعة، ونعم للشعر المسرح الجميل.. نعم للقصات الجميلة الأنيقة"..
امتلأ قلبي سروراً بعد أن أدركت أني كنت سبباً لكل هذه السعادة التي تغمر العم أبو فراس وجميع أطفال بلدتنا الجميلة..
وأصبحت من يومها بطلاً شهيراً بعد أن انتشرت هذه القصة في بلدتنا..
لكني كنت في الحقيقة بطلاً من ورق.. لأني لم أفعل شيئاً استحق به أن أكون بطلاً..
كل ما فعلته هو الوقوف مشدوهاً عاجزاً أمام العم أبو فراس يوم المطاردة العنيفة..
ليس لأني جرئ شجاع أو بطل مغامر..
بل لأني لم أستطع الركض والهرب منه..
فكانت بطولتي من ورق..
الناس يقضون عمرهم ليصبحوا أبطالاً.. وأنا دخلت عالم البطولة والأبطال بسبب عجزي عن الهرب.. فعلاً.. الدنيا حظوظ..
(النهاية)
الكويت 19 أبريل 2013
للناشئة والشباب اليافعين
سباق في الزقاق
د. طارق البكري
الطبعة الأولى: دار الحافظ الدمشقي
مقدمة
اتصال من شاب صغير.. من بلد بعيد.. من المغرب على وجه التحديد.. صوته جميل.. وحديثه عليل.. طلب مني أن أكتب رواية فكاهية.. قلت له إني كتبت عدة قصص فيها بعض الفكاهة.. لكنها لم تكن روايات..
وكنت سابقاً كتبت سلسلة بعنوان (عندما)، تحكي في جانب منها بعض القصص الفكاهية.. كما كتبت رواية (البوسطة) التي تتضمن أيضاً مواقف مضحكة.. وكتبت قديماً قصصاً للأطفال الصغار فيها بعض الفكاهة مثل قصة (الساعة الذهبية)، و(الخاتم المنزعج)، و(القطة التي تحلم)، إضافة إلى مجموعة من قصص الشخصية التراثية المضحكة (جحا).. وغيرها.. لكن لم يسبق أن كتبت رواية ترتكز في أساسها على الفكاهة..
صديقي المتصل الصغير كان حافزاً لي لكتابة ما يمكن وصفه برواية قصيرة أو قصة طويلة تتضمن الكثير من المواقف الفكاهية.. أرجو أن تكون مضحكة ومسلية.. وفي نفس الوقت مفيدة.. متضمنة الكثير من الوصف، ومليئة بالحكم والفوائد التربوية.. وهذا ما عودت عليه أصدقائي في رواياتي وقصصي السابقة..
وهذه الرواية القصيرة - أو القصة الطويلة - تدور أحداثها في البداية في زقاق ضيق ثم في ساحة بلدة ريفية.. تحكي قصة رجل (أبو فراس) شخصيته طريفة مضحكة.. وتقدم تجربة طفولية تستحق أن تروى.. علماً أنَّ في أحداث القصة ما هو حقيقي وما هو من نسج الخيال.. لكني مثل العادة أترك لكم اكتشاف الأمرين معاً.. دون أن أجيب عن سؤالكم الدائم الملح.. عن تفاصيل القصة بين واقعها وأحلامها..
وأريد هنا أن أتقدم بالشكر الجزيل لصديقي القارئ الذي طالب هذا الرواية الفكاهية القصيرة.. فقد شجعني كثيراً لأخوض تجربة جديدة.. أرجو أن تنال أعجابه وأعجاب سائر الأصدقاء القراء.. مع كل الحب..
طارق
سباق في الزقاق
1- بداية السباق
حركة مريبة في الجوار.. الأولاد يتنططون ويهرعون في الزقاق، متجاورين حيناً ومتباعدين أحياناً أخرى. خلف بعضهم مرة مثل سلسلة بشرية أو جنود في صف.. ومتقاربين متلاحمين مرة أخرى..
متراصين تارة، وفي خطوط متعرجة متفرقة تارة أخرى..
يسرعون وراء بعضهم كأنهم في سباق الجائزة الكبرى، أو كصيود هاربة من فك أسد مفترس عجوز، فاغر فاه، فرَّ من محبس سجَّان شحيح بخيل، لا يطعمه إلا القليل.. وإذا أطعمه فطعامه بسيط خفيف لا يسمن ولا يغني من جوع..
يظهر من ورائهم فجأة الحلاق الغريب الأطوار..
يخرج من مدخل الزقاق الضيق الملاصق للساحة التي تتوسط بلدتنا.. يركض خلفهم مسابقاً ومطارداً، ورافعاً سبابة يده اليمنى، مهدداً ومزمجراً..
وفي اليد الأخرى يحمل عصا طويلة، من خشب لمَّاع جميل.. محفور عليها أنواع من الطيور..
وبقبضته يتوكأ على طير خشبي يتوسد رأس العصا، يستعين به بين قفزة وأخرى، دون أن يلوِّحَ بها ليخيف الأطفال الذين هم كعادتهم يحبون اللهو والمشاكسة..
غير أنهم - كما يبدون - تجاوزوا حدودهم مع العم أبو فراس الحلاق هذه المرة أكثر من أي مرة سابقة..
أبو فراس صاحب عنق طويل مديد، وجسد قصير منحن قليلاً إلى الأمام، يبدو كرجل عجوز ذي ظهر مقوس، رغم أنه ما زال في فتوته، ولم يغادر سن الشباب منذ فترة مديدة.. كما أنه لم يتجاوز منتصف الكهولة بعد..
أما شنبه فمروَّس، يتخلله بياض محترق بفحم شعره القديم..
ناتئ عظم الخدين، قليل لحم الوجه بارز الشفتين.. وخفيف لحم الكتفين..
نحيل من الأعلى ضعيف من الأسفل..
تبدو عظام الوجه بارزة، كما تظهر عظام الكتفين نتوءات من تحت قميصه الخفيف صيفاً وشتاءً، ويظهر القفص الصدري مثل خطوط متعرجة مستديرة..
وبعد الانزلاق من ناحية الصدر يتسع امتداد الجسد عرضاً ثم يمتد البطن بكرش بارز متدل بليونة..
ثم يعود لنحافة لا تتسق مع اتساع وسط جسده..
يبدو متناقضاً مع الساعة الرملية ذات العنق الأوسط الدقيق والانتفاخ العلوي والسفلي..
يظهر شكله كالباذنجانة الرفيعة من الأعلى المتضخمة الوسط ثم تعود النحافة بشكل غير انسيابي بفخذين نحيلين وساقين دقيقتين فتبدو مشيته قلقة متذبذبة..
فكيف عندما يهرول ويركض فترتفع العنق وتتحرك جيئة وذهاباً تارة إلى الأمام وتارة إلى الخلف.. مثل عنق دجاجة بركضتها الطريفة عندما تجذ بالسير..
أمَّا كرشه فيتلاعب به الهواء مثل شراع مركب صغير في بحر هائج.
2- عصبية زائدة
خلقه ضيق وعصبيته زائدة عن العادة المقبولة بين الناس..
يعارك حتى ذباب وجهه كما يقال، مع أنَّ الحلاقين في العادة يتحلون بصبر مستفز أحياناً.. وروح فكاهية مرحة ضاحكة - وإنْ كانت مفتعلة - وخيال خصب متدفق..
فهذه السمات معروفة عند كثير من الذين يمتهنون مهنة الحلاقة، وهي مهنة جميلة تحتاج إلى مهارة خاصة ودقة في العمل، وإحساس فنان لكي يكون الحلاق متميزاً في عمله.
ومهنة الحلاقة مهنة قديمة جداً..
وكان الحلاق في الماضي لا يكتفي بحلاقة شعر الرأس والذقن.. بل يعتبر طبيباً شعبياً..
يعالج بعض الأمراض التي كانت منتشرة في الأيام الغابرة..
وكان أيضاً يقوم بخلع الأسنان والأضراس.. ويقوم بعمليات جراحية بسيطة.
ومن طرائف ما يقال: إن الحلاقة بدأت أولاً بسبب الحروب، فكان يتم حلاقة شعر الجنود ولحاهم قبل بدء القتال، كيلا يمسك الأعداء بالشعر أو باللحى خلال المعركة.
وهناك من الحلاقين من يسرد قصصاً صحيحة معلومة، يروونها بجدارة، يقدِّم البعض منهم أنفسهم على أساس أنهم علماء في التاريخ والجغرافيا والحساب والتراث والعلوم الإنسانية والنفسية والطبية، وحتى السياسية والعسكرية..
أو يظنون أنفسهم شعراء وأدباء وكتاباً ومحللين اقتصاديين واجتماعيين..
ومن هؤلاء من هو سطحي مدعٍ، أو جاهل مغرق في الجهل، وفي الحالين هم يجمعون أخبارهم وقصصهم ورواياتهم بالسماع من زبائن قد لا يملكون من العلم إلا قليلاً، فيخلطون ما بين الجيد النافع والرديء الضار، وما بين الصحيح والعليل.. وما بين الجد بالهزل..
وربما وصل الأمر بأحدهم أنْ ظن نفسه موسوعة متنقلة..
كما أنَّ من بينهم من يتمتع بخصلة قد يراها بعض الزبائن سيئة.. فيما يراها البعض الآخر فرصة للتسلية وتمضية الوقت تحت مقص الحلاق "أو لسانه"، وهي حب الكلام الزائد والحكي الكثير لغاية الثرثرة..
وحتى لو كانت هذراً بلا معنى، المهم عندهم أن يتكلموا مع الزبون حتى آخر شعرة.. فضلاً عن القيام بما يحبب الأطفال فيهم وإن كان تهريجاً، لكي يكسبوا ودهم، وبالتالي يكسبون عدداً أكبر من الزبائن..
ومن طرائف الحلاقين قديماً؛ أنَّ جحا دخل محلاً للحلاقة ليحلق ذقنه، وكان الحلاق غير بارع فصار كلما جرح جحا جرحاً يضع الحلاق عليه قطناً..
ولما أتمَّ نصف ذقنه وقف جحا وقال له:
"كفى.. خذ أجرتك".
فسأله الحلاق:
"لماذا لا تصبر حتى أنتهي؟".
فأجابه جحا:
"لأنك زرعت نصف ذقني قطناً، ومرادي أن أزرع النصف الآخر كتاناً".
أمَّا العم أبو فراس فحاله مختلف.. بل على النقيض من ذلك تماماً.. فهو محترف أشد الاحتراف.. والجميع يشهد له بذلك..
كما أنه لا يتكلم كثيراً.. ولا يحب تسلية الزبون لا بالمزاح ولا بالكلام.. حتى الكلام المحدود البسيط له ألف حساب عنده.
ويضيق صدره من الجميع، وخاصة من الأطفال..
لذلك رفع يافطة كبيرة على باب محله يقول فيها:
(ممنوع دخول الأطفال)
وفي الجهة المقابلة علق يافطة أكبر من الأولى كتب عليها بخط متعرج، لكنه جميل وبسيط:
(عذراً.. لا أحلق شعر الأطفال)
وكما يبدو فإنَّه وضع اليافطة الثانية ليؤكد اليافطة الأولى، احترازاً من احتمال أنَّ لا يرى الأولى بعض الزبائن، أو ربما قد "يطنشها" البعض الآخر..
أو قد يظن ظانٌّ أنَّ المقصود أنَّه يمنع دخول الأطفال الذين لا عمل لهم..
وكان من النادر أن يسمع أحد صوته من خارج الدكان..
لا يتكلم إلا قليلاً وعند الحاجة فقط، وكأنه يعد كلامه ويحسبه كلمة كلمة..
يكتفي برد التحية على من يلقيها.. أو قد يشير بيده مرحباً وراداً للسلام..
لكنه اليوم بدا مختلفاً..
سمع كثير من الناس من حول الدكان والزقاق والساحة صوته يتردد في الأنحاء..
لم يكن صوته يصل إلى باب دكانه من قبل..
فكان أمراً جديداً مختلفاً، وحدثاً أصبح فيما بعد حكاية يرويها الكبار والصغار..
3 - مشهد نادر
صاح العم أبو فراس هذه المرة بصوت أعلى من أي مرة سابقة، حيث إنه لم يعرف يوماً أنه صاح أو رفع صوته، فسمعه كل من في الحارة من خلف نوافذ بيوتهم..
هب كثير منهم ليتابعوا هذا المشهد الشيق الطريف..
خاصة أنَّه من النادر أن يمشي في شوارع الحارة وأزقتها وحاراتها..
كما أن دكانه له باب خلفي يقوده مباشرة إلى بيته، يعني أنه لا يحتاج لكي يخرج من الدكان حتى يذهب إلى بيته.. فبيته هو دكانه.. ودكانه هو بيته..
يشترى ما يحتاج من حاجيات بسيطة من حانوت مجاور.. ولا يذهب بعيداً ولا يمشي كثيراً..
لكنه اليوم غير عاداته وقوانينه.. وطفق يقفز خلف صغار الحارة ماطاً شفتيه حتى تكاد شفته السفلى تقع على الأرض من شدة المط..
والناس يطلون من الشرفات والنوافذ يضحكون وينادي بعضهم بعضاً لمشاهدة هذا المشهد العجيب.. لكن أحداً منهم لم يناد ولده لكي يدخل بيته ويترك العم أبو فراس وحاله..
كأنهم جميعاً أرادوا أن لا ينتهي هذا المشهد المضحك، وهم متأكدون أنه سينتهي على خير لأنهم يعلمون أنه ليس من طبع أبو فراس أن يؤذي أحداً رغم عصبيته الزائدة..
حتى الفأرة لو دخلت دكانه يقوم بطردها دون أن يقتلها، فهو كما يقولون في الأمثال: (كافٍ خيره وشره).
والهجوم الذي شنه أبو فراس على صغار الحارة لا يعني أنَّه يبغض الأطفال.. لكنَّه لم يكن يريد أن يراهم أو يذكر أحد من زبائنه اسم طفله، أو يحكي نادرة واحده عنه، فهو لا يريد أن يتذكر طفولته التي لا يعلم أحد شيئاً عنها..
جاء أبو فراس إلى البلدة شاباً فتياً قبل سنوات.. سكن بلدتنا واستقر فيها بعد أن بنى بيته الصغير على أرض اشتراها، وجعل في بيته دكاناً يطل على الشارع الضيق في (زنقة) من البلدة القديمة لها اتساع محدود نسميها نحن ساحة وعلى طرفها شجرة ضخمة لا يعرف أحد عمرها بالتحديد..
عاش وحده لا يخالط الناس إلا في دكان الحلاقة، ولم يكن له زوجة ولا ولد..
ويروى عنه أنَّه قرر البقاء عازباً طوال حياته، فلا يتزوج على الإطلاق ليبعد عنه شبح الأطفال وبكائهم وصخبهم وضجيجهم وطلباتهم المتكررة "المزعجة" التي لا تنتهي، وأسئلتهم "الساذجة" التي لا يحبها، ولا يريد أن تعرف الطريق إلى أذنيه..
وبالمناسبة لا أحد أدري كيف أصبح يكنى أبو فراس مع أنه ليس عنده فراس ولا غير فراس..
وهنالك رواية شهيرة قد تكون هي الرواية الصحيحة..
ومع أن كثيراً من الروايات التي يتحدث بها الناس ويتناقلونها ليست صحيحة.. وقد يكون فيها مبالغات كبيرة.. غير أن الناس تحب الحكي والكلام والثرثرة.. وتحب الجدال والكلام حتى لو لم يكن الكلام صحيحاً.. المهم أن يتكلموا.. وأن يسمعوا القصص والحكايات والروايات التي قد تصح حيناً وقد لا تصح احياناً.. ومن الناس في التاريخ من هم مشهورون بلقبهم أكثر من اسمهم..
وكثير من القدماء اشتهروا بالألقاب والكنى أكثر من اسمهم الذي حملوه منذ الصغر.. وأحياناً يكون الاسم أو اللقب نقيضاً لحامله..
وقد قيل في الماضي: "قد تلتقي الأسماءُ في الناسِ والكُنَى كثيراً، ولكن مُيِّزوا في الخلائق"..
ومن طرائف الأسماء حوار دار بين سائل ومجيب:
- "ما اسمك؟".
· "بحر".
- "أبو مَنْ؟".
· "أبو الفَيْض".
- "ابنُ مَنْ؟".
· "ابن الفُرات".
فقال السائل ضاحكا: "ما ينبغي لصديقك أن يلقاك إلاَّ في زورق".
4 - مختار البلدة
يقول أبي إنَّ أبو فراس حصل على كنيته من مختار البلدة بعد أن سجله في سجلات بلدتنا، وبعد أن علم أن اسم أبيه فراس.. ومنذ ذلك الوقت اشتهر بلقبه ولم يعرف له اسم..
وهناك من يقول إن له ابناً اسمه فراس لكنه مات منذ زمن بعيد.. لكن المختار يقول إنه لم يجد ما يثبت أنه كان متزوجاً من قبل.. حيث يبقى ماضيه لغزاً لا يعرفه حقيقته أحد..
عاش بيننا بصمت..
كان على الدوام منفرداً منعزلاً، ولولا مهنته لم يهتم به أحد، وكان لا يزور بيتاً ولا يطمئن على مريض، ولا يحضر عرساً ولا مناسبة من المناسبات التي يحضرها كل أبناء البلدة..
لم يكن يهتم بكثرة الزبائن أو بقلتهم، ولم يكن يهتم على الإطلاق بأن يقدم للزبائن ما يحرص على تقديمه أصحاب المحال والدكاكين المتنوعة إرضاء لزبائنهم، مما يجعلهم يأتون إلى محالهم دائماً.. فهو يعلم أنه لا يوجد منافس له في البلدة.. ومع ذلك لم يكن يعبأ بأن يقوم أحد غيره بفتح دكان حلاقه فيذهب الجميع إليه.. كما أنه لم يكن مهتماً بأن يحلق سكان البلدة كلهم في البلدات المجاورة فلا يعود عنده زبائن..
وفي يوم قرأت أنشودة مضحكة عن أحد الحلاقين.. عندما قرأتها ارتسم أمامي حلاق بلدتنا في هذا الموقف.. لكنَّه في الحقيقة لم يكن حاله كحال ذلك الحلاق الذي سمع يوماً بأن شعر الناس يتساقط، فخاف ألا يعود هنالك زبائن يأتون دكانه.. وكاد يصاب بالجنون وتطلع روحه..
وما زلت أذكر تلك الأنشودة الجميلة المضحكة وعنوانها (الحلاق) التي كتبها الشاعر اليمني عبدالحكيم الفقيه، ويقول فيها:
سمع الحلاق يوما في الإذاعةْ:
أن شعر الناس يساقط
والصُلع سيزدادون ساعة بعد ساعةْ
قال يا خوفي على رزقي
فماذا سأسوي بالمقصات وبالمرآة؟
والمشط الذي يعصمني من وجع الفاقة؟
من عوز الجماعةْ؟
أتمنى أن يكون الصلع المزعوم زيفاً وإشاعةْ
ولجا دكانه في التو شابان برأسين بلا شعر
كبطيخ أتى من حقل فلاح كسول في الزراعةْ
طلبا ولاعة
قال اشعلا من جبهتي
فاشتعل التبغ
وكانت شرطة الإطفاء في سيارة تخلو من الماء
على مرأى من الدكان
وكان السائق الأصلع يعطي الضابط الأصلع درساً في القناعةْ
سقط الحلاق مغمياً عليه نصف ساعةْ
بعدها في غرفة الانعاش لما جاءه الدكتور
والدكتور أصلعْ
جسد الحلاق يسترخي إلى الأسفل
كي نفسه تطلعْ
5 - صياح وقهقهة
اليوم شاهدت الرجل لأول مرة يهرول في الزقاق مسرعاً، ويركض خلف الصبيان في الساحة، وبطريقة مضحكة..
يلتفت خلفه كأنه يخشى أنْ يقوم آباء الصبيان الذين يركض خلفهم بملاحقته وردعه عن تخويف أبنائهم.. علماً أن الأطفال الصغار لم يكن يبدو عليهم الخوف على الإطلاق، بل كانوا يضحكون ويقهقهون بنبرة أقرب إلى الصياح منها إلى القهقهة..
كان يتنقل ببصره بين الأطفال وبين قدميه، كأنه يخشى أن تسبقه قدماه في الركض، ويحاول كبح جماح كرشه الرجراج المتدلي والمتراقص أمامه..
يرفع كرشه..
يضغط عليه بكلتا يديه ليرى أين يضع قدميه..
ثم يرفع رأسه من جديد وخصلات شعره الطويل تغطي جبينه العريض حتى تصل إلى عينيه، فيحرك يده اليمنى بسرعه متنقلاً من كرشه المضغوط ليعيد شعر رأسه الوراء فيعود كرشه للانتفاخ والرجرجة فيما يعود شعر رأسه إلى الوراء لكنه لا يلبث أن يقفز فوق جبينه من جديد دون أن يعبأ بكل هذا الجهد.. والعرق يتصبب من أنحاء وجهه.
هذا المشهد لم يكن متوقعاً في أنحاء بلدتنا.. الجميع يرصد تفاصيل الحدث.. من نافذة إلى نافذة.. ومن شرفة إلى شرفة..
وبعد فترة وجيزة من المطاردة المضحكة، بدأ العم الحلاق يلهث من شدة التعب.. فهو كما قلت من قبل لم يكن يخرج من بيته ولا من محله إلا ما ندر، ولم يكن أحد يراه يمشي لفترة طويلة أو حتى قصيرة، وكان يقضي وقته بالوقوف داخل محله يحلق رؤوس العباد..
وكان أهل القرية يلحون عليه لكي يحلق شعر أطفالهم.. لكنه يأبى ذلك بإصرار..
لذا فإنَّ الأمهات يقمن بحلق شعر أبنائهن بأنفسهن غالباً..
كما أنَّ بعض الآباء يأخذون أبناءهم معهم إلى بلدات أخرى مجاورة عندما ينتقلون إليها لقضاء حاجة ما، أو لقضاء عطلة أو ما شابه، ويستغلون الفرصة لحلق شعر أولادهم..
وأحياناً يحلق الآباء أيضاً لكيلا يعودوا للحلاقة عند الحلاق أبو فراس.
6 - كرش وشاربان
هذه الأفكار كانت تعصف في ذهني وأنا أراقب بشغف هذا المشهد الذي لم ينته حتى الساعة، رغم كل ما أصاب الحلاق من إجهاد وتعب..
وكما يبدو فقد أصيب أيضاً بإنهاك وتشنج عضلي، فعضلاته ليست معتادة على الحركة المتسارعة والقفز والجري المتتابع.
لم يكن مثل أبناء القرية وأطفالها الذين يتنقلون على الدوام من مكان إلى مكان، يصعدون الجبل أو يهبطون الوديان، يسيرون فترة طويلة إلى نبع العين العيد ليملأوا جرار الماء، أو ليحضروا الغلال بالسلال، على أكتافهم أو على ظهور الدواب..
الحركة سمة متأصِّلة في حياتهم.. أمَّا هو فقد كان لا يعرف سوى المشط والمقص....
الأطفال ما زالوا يركضون في الزقاق.. ويدورون حول الساحة.. ثم يعودون إلى الزقاق من ممر خلفي..
والحلاق يسابقهم ويطاردهم..
إنه بالفعل أجمل سباق شاهدته في الزقاق..
كان صغار بلدتنا معتادون على مثل هذه السباقات والمطاردات الممتعة.. يخرجون من الزقاق يدورون حول الساحة ويخرجون منها، ثم يعودون إليها في التفافات متكررة..
والعم الحلاق المسكين يركض خلفهم بكرشه المتدلي.. لم يعد يقوى على ضمه أو الضغط عليه..
أصبح جسده يرتج مثل كرشه..
وأخيراً ترفق أهل القرية بحالته هذه.. فخرج بعض الرجال يصيحون بالصبيان ليتفرقوا وينتهي هذا المشهد، بعد مطاردة فاشلة استمرت فترة من الوقت، كانت محمومة وكفيلة بأن تحول المكان إلى حلبة من المطاردة المشوقة..
لم يكد الأطفال يتفرقون، ويذوبون مثل أشباح في أزقة عتيقة متفرقة، ومداخل بيوت طينية بممرات ضيقة وحيطان متلاصقة.. حتى وقف أبو فراس كصنم تجمَّد في مكانه، أو كتمثال فضي غسلته مياه راكدة مختلطة برمال الأرض، فتحول إلى اللون الخشبي المحدِّق في الشمس.. يتصبب عرقاً من قمة رأسه حتى أخمص قدميه..
ثيابه رطبة، وكذلك شعره الطويل المشتعل بالشيب، ولحيته الدائرية القصيرة السوداء المخططة بسطور بيضاء التي تبدو كسهام متجهة نحو الأرض، تشير إلى شيء ما..
أمَّا شارباه الممتدان امتداد الريح، والمبعثران مثل صوف منكوش، فيظهران وكأنَّه لم يمرر عليهما مقصاً ولا "رقيباً" في حياته..
بدا مرتجفاً كخارج من بئر غطس فيه حتى كاد يختنق، فقفز هارباً حتى سقط في حوض تماسيح، يستجير من الرمضاء بالنار، أو كما يقولون في أمثالنا الشعبية:
"من تحت الدلفة إلى تحت المزراب".
كان الجميع ينظر نحوه في ترقب شديد، ترى ما الذي سيفعله الآن؟
هل سيدخل الأزقة والدروب سعياً وراء هذا وذاك؟!
لحظات صمت عبقت في المكان.. حتى غمرته كما يتخلل الماء السلال..
7 - نهاية السباق
لم أكن أتوقع يوماً أنْ أشاهد العم أبو فراس على هذه الحال.. ويبدو أنه في هذه اللحظة تنبه إلى حقيقة الموقف..
لقد استعاد وعيه فجأة على واقع جديد.. العيون كلها جاحظة نحوه..
قبل هذه اللحظة لم يكن يدور في رأسه أنَّ أهل البلدة كلهم - أو على الأقل أهل البيوت المحيطة - تداعوا بسرعة ليتابعوا بحماسة بالغة سباق الزقاق والمطاردة الغريبة..
وهنا ارتخت أصابع العم أبو فراس.. سقطت العصا من يده بعدما كان يمسكها بإحكام..
انثنى جنبه الأيسر أكثر فأكثر.. حتى ظنَّ الجميع أنه سيقع على الأرض..
لكنه تماسك، ثم اعتدل، وانحنى ملتقطاً عصاه من جديد.. وسار متوكئاً عليها حتى وقف أمام دكان الحلاقة المطل على الساحة.. ثم اختفى وراء باب الدكان.
لم يعد الضجيج إلى الساحة من جديد ولم تدب فيها الحياة مثلما هي عادة.. ولم يعد الناس إلى أعمالهم وأشغالهم.. وبدأت أسمع أصواتاً وهمسات من هنا وهناك..
أم تعاتب ابنها بدلال..
أب يلوم ابنه.. مع ابتسامات متبادلات..
آخر يصيح لائماً ولده على هذه المطاردة الشرسة.. لكنه صياح ممتزج بالضحك..
فرغم أن الجميع كان يرى ويتابع المطاردة؛ فإنَّ أحداً منهم لم يزجر ابنه بحزم وبشدة..
وكأن ما حدث كان فيلماً أو مسرحية..
بالنسبة لي؛ كنت أشعر خلال المطاردة بأمرين مختلطين ببعضهما بعضاً:
* الشعور الأول كان إحساساً بالغبطة والسرور وأنا أشاهد كل هذه المشاهد المتلاحقة، التي لا تحدث – ربما – إلا مرة واحدة في العمر.
* أما الإحساس الآخر فقد كان إحساساً حزيناً لأني لم أشارك أقراني الصبيان في هذه المطاردة الحماسية.. أو في الحقيقة في "العفرتة" التي تذكرني بقصيدة للشاعر السوداني صلاح إبراهيم تحت عنوان (في الغربة) يقول فيها:
هل يوماً ذقت هوان اللون؟
ورأيت الناس إليك يشيرون، وينادون:
العبدُ الأسود؟
هل يوماً رحت تراقب لعب الصبية في لهفة..
وحنان..
فاذا أوشكت تصيح بقلب ممتلئ رأفة:
ما أبدع "عفرتة" الصبيان!
رأوك فهبوا خلفك بالزفة: عبد أسود.. عبد أسود.. عبد أسود..
ورغم أني تمنيت "العفرتة" مع صبيان بلدتنا.. فإنَّ فكرة لئيمة عبرت رأسي؛ وهي لو أني شاركت لن يتسنى لي متابعة هذه المشاهدة النادرة.. ولو شاركت بالحدث نفسه فلن أشعر بلذة المشاهدة، مع رغبتي طبعاً بالتمتع بالمشاركة الصبيانية "العفرتية"...
وهنا "مكمن الاختلاط"..
8 - فضول مشترك
الحقيقة أنَّ سبب عدم مشاركتي لا تفسَّر على أني مهذب أكثر من هؤلاء الأولاد "الأوغاد" كما كان يصيح بهم العم أبو فراس الحلاق.. لا، على الإطلاق، فهذا شرف لا أدعيه..
لكني كنت يومها عاجزاً عن الركض بعد أن وقعت على الأرض أمس وأنا أقود دراجتي فجرحت قدمي، وقام الطبيب بربطها برباط محكم، وأوصاني بالمكوث في البيت ليومين على الأقل، حتى يشفى الجرح ويختفي الألم..
وحتى الساعة لم يكن أحد يدري ما هو سبب ثورة العم أبو فراس..
كانت انطلاقته خلف الصبيان مفاجئة للجميع.. لا شك أن شيئاً كبيراً استدعى كل هذه المطاردة..
كان لدي شغف كبير بمعرفة السبب.. وهذا الشغف أقوى من الألم الذي أشعر به كلما ضغطت على قدمي الجريحة المضمدة..
تحايلت على قدمي الجريحة من الأسفل.. حتى انتصبت واقفاً.
حملت عكازتي - أو هي حملتني لست أدري - أتوكأ عليها، ثم تسللت ناحية الباب بهدوء أريد الخروج من المنزل خلسة دون أن تراني أمي فتبدأ بأسئلتها المعتادة: إلى أين أنت ذاهب؟ متى ستعود؟..
وتبدأ بالنصائح:
انتبه..
لا تركب الدراجة مرة ثانية..
ألم تر ما حدث معك أمس؟..
وهكذا..
وما كدت اقترب متسللاً..
وقبل أن أضع يدي على باب البيت.. حتى سمعت صوت أمي من ورائي وكأنها كانت تقرأ أفكاري..
نبرات صوتها بدت واثقة تماماً من سبب خروجي:
"عد بسرعة يا ولد لتخبرني ما هو سبب هذه المطاردة الشرسة؟".
ضحكت من أعماق قلبي وأنا أسمع صوت أمي تحثني على الخروج، وكأنَّ ما لديها من فضول لمعرفة السبب أكبر من الفضول الذي عندي.. فهذه أول مرة هي التي تشجعني على الخروج من المنزل! فقد كان لدينا فضول مشترك لكشف سر الحدث..
فقلت ممازحاً:
"ليس هذا سبب خروجي، وليس عندي أدنى رغبة بمعرفة السبب ربما هذا سر ولا أحب كشف أسرار الناس.. أنا خارج لأتنزه قليلاً.. لقد سئمت من المكوث بالمنزل منذ أمس.. لكني غيرت رأيي وسأعود لغرفتي.. لكن قبل أن أذهب إلى غرفتي سأروي لك قصة عن حلاق لا يكتم السر"..
فضحكت أمي وقالت: "هات حدثنا يا ولد.. فمنكم نستفيد".
قلت وأنا أحاول أن أبدو وكأني لست عابئاً بما حدث:
"كان ياما كان.. يا سعد يا إكرام.. كان هناك في قديم الزمان.. بلد من البلدان.. اختفى منه جميع الحلاقين ولم يبق للحلاقة دكان، ولم يعد أحد يجرؤ على أن يعمل فيه حلاقاً أو صبياً من الصبيان..
وفي يوم جاء حلاق فوجد فيها شغلاً كثيراً... وكان مستغرباً من عدم وجود حلاقين!".
وقفت أمي تصغي باهتمام.. ثم تابعت الحكاية قائلاً:
"وفي يوم جاء جنود الوالي وأخذو الحلاق إلى القصر..
فقال الوالي: إن ما ستشاهده اليوم سرّ، فإن كشفته قطعت رأسك ورميت به إلى رؤوس الحلاقين الآخرين.
فأزال الوالي عمامته ليحلق له الحلاق فرأى في رأسه قرنين صغيرين..
وبعد انتهاء الحلاقة ذهب الحلاق إلى بيته لكنه لم ينم تلك الليلة.. فذهب في نصف الليل عند حكيم البلد، وقال له: لدي سر ولا أستطيع البوح به وإن كتمته سأموت..
وكان يقصد طبعاً أنه سيموت من كتمان السر.. لأنه يحب الثرثرة وكشف الأسرار..
ثم فقال الحكيم: اذهب إلى النهر الوحيد في البلد وخذ معك إناء صغير.. قل به ما شئت ثم اختمه بإحكام وألقه في اليم..
وبعد أن فعل الحلاق ذلك ارتاح باله وذهب ونام نوماً عميقاً..
وقبل أن يطلع النهار حضر الجنود إلى بيته واعتقلوه وحملوه إلى الوالي.. وكانت عينه حمراء من الغضب..
فقال له الوالي: ألم احذرك من أن تفشي السر.. لقد وجدت هذا الإناء المختوم في ماء القصر الذي نجلبه من النهر..
وفي النهاية عاد البلد من جديد دون حلاق..".
ضحكت أمي وقالت:
"جميلة جداً هذه الحكاية.. لكن السؤال الآن من هو الضحية التالي!!..
هل هو الحلاق أم أنت!
هذه القصة فيها عبرة وحكمة..
حفظ السر خصلة لا يتمتع بها غير الحكماء والعقلاء.. فاحفظ السر تكن منهم..
لكن الآن.. إن لم تحضر لي السر.. فستكون الضحية التالي.."..
وقبل أن أنبس بحرف واحد، رمقتني أمي بنظرة حادة، ثم رمتني بتلقائية مثيرة للضحك بفوطة كانت بيدها، فالتقطها رغم فجائية الموقف..
كانت الفوطة رطبة فقطر منها الماء عندما أصابتني وبلل ثيابي.. فأعدت رميها نحو أمي ضاحكاً..
التقطتها أمي بمهارة حارس المرمى.. هزت أصبع يدها مهددة والابتسامة ترتسم فوق شفتيها ثم قالت:
"أيها الولد المشاكس المعاكس.. سوف أخبر أباك لكي يقتص لي منك.. ما رأيك؟".
فقلت والضحكة تغلب كلماتي: "إلا أبي.. أرجوك يا أمي.. أبي لن يرحمني"..
9 - ضحكة رنانة
ضمتني أمي بشدة، فيما كنت أحاول التملص من هذه الضمة.. ومن باقي الكلام معها..
قلت:
"دعيني أذهب.. ألا تريدين معرفة سبب هذه المطاردة؟!".
فقالت ضاحكة بلا تردد.. بصوت حازم قاطع مرتفع النبرات:
"اغرب عن وجهي فوراً يا ولد.. لا أريدك رؤيتك إلا ومعك الخبر اليقين.. هيا اذهب قبل أن اضربك بالفوطة مرة ثانية"..
خرجت على الفور كما أمرت أمي.. مثل السهم كيلا أتلقى الضربة الثانية..
وفي الحقيقة.. لم أكن أخشى ضربة الفوطة، لكني لا أريد أن تتبلل ثيابي بالماء مرة ثانية.. كما أني أريد أن أعرف سبب السباق الذي حدث في الزقاق.
خرجت من البيت مسرعاً..
كنت ألامس درجات سلم المنزل بقفزات متتالية.. وأركز كل قفزة من قفزاتي على رجلي السليمة..
ثم خرجت من باب المبنى أجر قدمي الجريحة بهدف الوصول ناحية الساحة، لكني شعرت بالألم ولم أكمل السير.. فوقفت قليلاً..
ثم مشيت ببطء مستعيناً بعكازي كيلا أدوس بثقلي كله على قدمي الجريحة..
وبعد أمتار قليلة.. بلغت طرف الزقاق مسرح السباق، وهو زقاق يؤدي إلى الساحة المقابلة لمنزلي والتي أطلَّ عليها من نافذة غرفتي.. فلمحت صديقي رياض جالساً على ركبتيه خلف سور خشبي يرتفع عن الأرض حوالي المتر الواحد فقط.
وكان رياض يرفع رأسه قليلاً من خلف السور ثم يخفضه، مختلساً النظرات خشية أن يبصره العم الحلاق..
عندما شاهدت صديقي على هذه الحالة لم أستطع كتمان ضحكتي العالية..
اعتقدت في تلك اللحظة أنَّ كل ما في القرية من أنس وجان وحيوان يطير بجناحيه أو يمشي على قدميه قد سمع تلك الضحكة الرنانة..
غضب رياض غضباً شديداً..
أمسك بيدي اليمنى وجذبني نحوه بقوة، فوقعت على الأرض ولم أستطع أن أثبت مع قدمي المصابة، لكني لم أشعر بألم السقطة لأني كنت متأثراً بتفاصيل ما يحدث..
أردت على الفور أن يشرح لي ما سر هذه المطاردة العنيفة..
أشار إليَّ بيده أن اصمت.. كيلا يسمعنا العم أبو فراس..
جلست على الأرض ولم أتمكن من الجلوس على ركبتي كما يجلس رياض..
مددت قدمي الجريحة المضمدة بالشاش الأبيض أمامي.. فوجدت البياض وقد تحول إلى لون التراب بعد أن تعفر الشاش برمل الطريق.. فلم أبال بذلك..
كررت السؤال لكن بصوت هامس.. كنت متشوقاً لمعرفة السر.. لم أستطع الانتظار أكثر من ذلك.. أريد أن أعرف..
عاد رياض يختلس النظر من وراء السور.. ثم جلس مسنداً ظهره بعد أن اطمأن إلى ابتعاد العم أبو فراس.. أو على الأقل شعر أنه لم يعد في خطر من المطاردة..
10 - ابتسامة ماكرة
أخذ رياض نفساً عميقاً.. ابتسم ابتسامة ساخرة..
حدق بي قليلاً ثم قال:
"لولا ما أصابك يوم أمس من جرح في قدمك لاستمتعت معنا في هذه المطاردة"..
قلت له ضاحكاً:
"لا شك في ذلك.. لكن استمتاعي بمشاهدتكم ومشاهدة العم أبو فراس كانت أيضاً ممتعة، ولا تقل عن متعة المطاردة نفسها"..
تابعت حديثي قائلاً:
"كنت أجلس بهدوء أتأملكم وأنتم تركضون وتركضون وهو يركض خلفكم بعكازه.. وكنت أضحك كما لم أضحك من قبل.. لكن الموضوع الوحيد الذي لم يسرني هو أني لم أكن أعرف سبب كل ذلك"..
ابتسم رياض من جديد، لكن ابتسامته هذه المرة كانت ابتسامة ماكرة..
قال: "لقد تعاهدت مع جميع الأصدقاء في المطاردة أن لا نقول السر لأحد"..
وكان رياض يريد أن يغيظني في ذلك.. فهو كما يبدو أحسَّ بمدى شغفي لأعرف السبب.. لكنه أراد لا يعطيني الإجابة بسهولة..
قلت له:
"لا بأس.. لم أعد أريد أن أعرف شيئاً منك.. سوف يخبرني كثيرون من الأصدقاء عن السبب.. لقد لمحت جميل يختبئ خلف الشجرة الكبيرة في الساحة.. ويبدو أنَّ العم أبو فراس ذهب إلى بيته أو دكانه وزال الخطر.. بالتأكيد جميل سيخبرني الخبر اليقين.. جميل أو أحد غيره"..
ثم قلت لأبين له أني لست مبالياً به.. وكنت أريد أن أغيظه كما أغاظني:
"في الحقيقة.. أنا لم أعد أريد أن أسمع الخبر منك"..
ثمَّ قمت من مكاني أتوكأ على عكازي.. صابراً على ألم قدمي..
وقفت واثقاً متوجهاً نحو الشجرة الكبيرة.. فحذرني رياض من الخروج إلى الساحة..
"هناك احتمال أن يعود العم أبو فراس"..
لكني لم أعبأ بتحذيره.. فأنا ليس لي علاقة بالمطاردة هذه.. ولم أشترك فيها منذ بدايتها.. كما أني كنت مطمئناً كون أبو فراس عاد إلى بيته أو دكانه..
مشيت بضع خطوات.. ووقع أمر لم يكن بالحسبان...
خطوات قليلة..
سمعت صوت رياض يصرخ من خلف السور الخشبي..
وسمعت صوت جميل يصيح من وراء الشجرة..
وسمعت أصواتاً لم أميز بينها.. كلهم ينادوني ويصيحون:
"أهرب.. أهرب بسرعة"..
11 - دفاع بعكاز
تلفت يميناً بعد أن أحسست بحركة قريبة جداً مني..
وجدت العم أبو فراس يتوجَّه نحوي مباشرة..
للوهلة الأولى أصابني رعب شديد.. كيف أفر من هذه الورطة التي أوقعت نفسي فيها؟..
لا شك أنَّه يظن أني كنت ضمن مجموعة الصبيان الذين كان يلاحقهم.. والآن سوف ينتقم مني لأمر لا أعرف سببه وليس لي أي علاقة به.. لن ينتظرني لحظة واحدة لأشرح له..
بالتأكيد.. سوف يضربني بعكازه.. لكني لن أسمح له بأن يضربني.. سوف أدافع عن نفسي بعكازي.. وهكذا كل واحد منا سيضرب بعكازه..
كانت الصور المتتابعة تتلاحق في رأسي وأنا أشاهد أبو فراس يتوجَّه نحوي مباشرة..
تأهبت استعداداً للقتال.. لأني لم أكن أستطيع الفرار من أمامه وأنا بهذه الحالة، فرجلي المصابة لن تساعدني على الركض.. ولن أتمكن من الاختباء بعدما أصبح على بعد خطوات قليلة.. وتحفزت لصدِّ أوَّل هجمة يحتمل أن أتعرض لها..
اقترب العم أبو فراس..
أصبح أمامي مباشرة..
كان يرمقني بعينين حزينتين بدا عليهما التعب الشديد والاحمرار بسبب العرق المتساقط من جبهته، وكان شعره يخفي قليلاً من جبينه وينسدل على جانب من عينه اليمنى..
هذه هي المرة الأولى التي أقف فيها أمام العم أبو فراس وجهاً لوجه..
المرة الأولى التي أنظر في عينيه..
لكن.. رغم صعوبة الموقف بدأ خوفي منه يتلاشى شيئاً فشيئاً..
لم تكن نظراته مخيفة..
لم يرعبني عكازه..
كان ينظر إليَّ بعطف وحنان..
وقف - ربما - أقلَّ من نصف دقيقة مقابلي مباشرة..
كان ينتظر ربما أن أفرَّ من أمامه كما كان فرَّ الصبيان الآخرون...
لا أدري في تلك اللحظة ما الذي كان يدور في خَلَد العم أبو فراس..
كان يحدق بي مستغرباً..
ربما كان يتساءل عن سبب بقائي مسمَّراً أمامه.. ولماذا لم أهرب مثل الآخرين..
ربما ظن أني كنت احتمي بالعكاز الذي بيدي..
لكنه انتبه أخيراً إلى قدمي المضمدة بالشاش الأبيض المعفر بالتراب..
لم يتكلم..
لم ينقض علي بعكازه كما توقعت.. دار دورة كاملة حول نفسه.. تأمل المكان عله يلمح صبياً من الصبيان.. لكنهم جميعاً كانوا مختبئين في أماكن متفرقة..
طأطأ رأسه.. ثم سار بهدوء متجهاً نحو دكانه..
أغلق الباب خلفه.. وبقيت أقف في مكاني مشدوهاً دون حراك..
12 - صيد سهل ثمين
ثوان معدودات مرَّت عليَّ ثقيلة جداً وأنا لا أدري ماذا أفعل..
تردد سؤال في رأسي:
"لماذا لم يقبض علي العم أبو فراس.. رغم كل هذه المطاردة الشرسة.. فقد كنتُ صيداً ثميناً وسهلاً؟!. لكنه لم يفعل.. فقد استدار بهدوء ومضى بسلام وكأنَّ شيئاً لم يكن"..
الغرابة دائماً كانت تحكم هذا الرجل..
نحن الصغار وعينا على وجوده في بلدتنا، ومنذ أنْ تفتحت عيوننا على الحياة ونحن نراه منفرداً بنفسه لا يتكلم إلا نادراً..
دخل دكانه وأغلق قفل الباب من الداخل.. سمع الجميع هذه المرة زعيق القفل وهو يدور من وراء الباب الخشبي.. فاطمأنوا وشعروا أنهم أصبحوا الآن في أمان..
وقبل أن أتحرك من مكاني وجدت صغار الحي – شركاء سباق الزقاق والمطاردة العنيفة - يخرج كل واحد منهم من مكان..
اقتربوا مني مهنئين على السلامة والنجاة بعد أن توقفت قلوبهم جميعاً عن الخفقان.. وفتحوا أفواههم، وحبسوا أنفاسهم، وهو يرون أبو فراس وقد تمكَّن مني وكاد يفتك بي..
بصراحة..
لا يمكن لأحد أن يتصور مشاعري في تلك اللحظات..
تملكني في البداية خوف رهيب حتى تيبست قدماي في مكانهما، وأحسست كأني وتد مغروس في الأرض، أو غصن يابس قطع من شجرة ورمي في موقد مشتعل..
طبيعة الإنسان طبيعة عجيبة..
لا يسبق خوفه اطمئنانٌ..
ولا تملأ خابيته شجاعة..
إذا داهمته مصيبة واستوثق الجميع من عجزه تركوه منفرداً في الميدان..
أمَّا إذا انتصر وبرز سليماً معافى بادره من حوله بالتهنئة دون أن ينصروه وقت المحن..
في تلك اللحظة لم أعبأ بالغرض الذي خرجت من أجله.. لم يعد يهمني من قريب أو بعيد معرفة سبب المطاردة الشرسة.. وجدت أنَّ هناك علاقة وطيدة نسجتها بيني وبين العم أبو فراس الحلاق..
شعرت أن في عينيه حناناً كبيراً.. وإحساساً لا نراه في عيون كثير من الناس..
تلك الهنيهات القصيرات التي وقفت فيها قبالة أبو فراس كانت المرة الأولى التي أقف فيها أمامه مباشرة.. لم يحدث أنْ رأيت عينيه من قبل.. ولا تأملت وجهه بهذا القرب..
كانت المسافة قريبة جداً.. لا تتجاوز المتر الواحد.. كان يمكنه الانقضاض عليَّ بقفزة واحدة.. لكنه اكتفى برمقي بنظراته الحنونة العميقة.. نظرات لا يرى الإنسان صنوها كثيراً في حياته..
وددت لو دامت هذه اللحظات.. فرغم ما انتابني من خوف في البداية فقد تلاشى الخوف بعدما رأيت ما في عينيه من صور دامعة.. وحكايات رائعة.. وزمناً يرسم سطور الحياة على جبينه العريض..
13 - الضحكة الطائرة
مشيت بهدوء.. عائداً من حيث أتيت..
لم أسأل أحداً من أصدقائي ما هو سبب المطاردة..
سرت واجماً نحو البيت.. عبرت الساحة أسحب رجلي الجريحة سارحاً بتلك النظرات.
أمي التي هالها رؤية العم أبو فراس أمامي وهو يحمل عكازه.. وكانت تتابع المشهد من نافذة غرفتي.. صرخت بأعلى صوتها عندما وجدتني أمامه وجهاً لوجه..
في تلك اللحظة لم أميز صوت أمي عن غيره من الأصوات..
لكنها صمتت مثل الآخرين عندما وقفت أنا وهو كالصنمين إزاء بعضنا بعضاً.. كل واحد يحدق في عيني الآخر..
عندما وصلت إلى مدخل البناء حيث أقيم وجدت أمي بانتظاري، فسارعت إلى ضمي إليها.. وكأني طفل صغير.. ثم صعدنا معاً وهي تسندني..
لم تكن أمي راغبة بأن تعرف سبب المطاردة.. بل كانت تريد أولاً الاطمئنان على صغيرها..
أول كلمة قلتها لأمي:
"لماذا لم يمسك بي ولم يضربني؟".
كانت أمي هي أيضاً مستغربة أشد الاستغراب..
ربتت على كتفي وقالت: "العم أبو فراس رجل طيب.. وليس من عادته أن يؤذي أحداً".
- "لكنه كان يطارد الصبيان حتى ظننا أنه سيفتك بهم".
· "ربما أدرك أنك لم تكن مشاركاً في المطاردة".
- "لا أظن ذلك.. لم ير في البداية قدمي الجريحة.. صوب نظره إلى عيني مباشرة.. لم يتفوَّه بكلمة واحدة".
· "الحمد لله أن الأمر انتهى على هذه النهاية.. لقد قلقت عليك كثيراً".
لملمت نفسي.. أو ما بقي منها.. وجرجرت رجلي الجريحة وأنا لا أشعر بألمها..
لم تتمالك أمي نفسها وهي تراني بهذا المنظر..
ضحكت من أعماق قلبها ضحكة دوت في أرجاء المنزل..
ولولا الجدران الترابية السميكة التي تحيط بنا، وهي جدران عريضة قديمة تحمي من برد الشتاء وعواصفه التي لا ترحم، ولولا النوافذ المغلقة بإحكام.. لطارت ضحكتها إلى أنحاء الساحة، وحلقت في كل أزقة البلدة ودروبها الهادئة..
ومن الطبيعي أن تشتهر هذه الضحكة الطائرة مثل تلك المطاردة العنيفة التي سوف يسجلها – بالتأكيد – تاريخ بلدتنا بحروف كبيرة، لأنها بلدة هادئة هانئة لم تعرف مثل هذه المطاردة في تاريخها الطويل.. كما لم تعرف ضحكة طائرة من قبل.
14 - طرق على الباب
"للأسف لم نعرف سبب كل ما حدث..".
قالت أمي ذلك مع تنهيدة اخترقت أذني..
أجبتها: "ليس مهماً أن نعرف الآن.. من المؤكد أننا سنعرف لاحقاً.."..
ولم تمض سوى لحظات حتى سمعنا طرقاً قوياً على الباب..
- "افتح الباب.. يا سعيد.. افتح الباب"
"من؟"..
صحت بملء فيهي.
- "افتح أنا رياض.. افتح الباب يا سعيد".
سمعت أصوات الصبيان تتردد خلف الباب..
قالت أمي ضاحكة: "ها قد جاءنا الخبر اليقين إلى بيتنا".
أسرعت إلى الباب..
فتحته على مصراعيه بشكل سريع، ثم تراجعت إلى الخلف قليلاً، ولم أكد أخطو خطوة صغيرة إلى الوراء حتى وقع كل أصدقائي - أبطال المطاردة العنيفة - فوق بعضهم بعضاً، وكأنهم كانوا يلقون بأثقالهم فوق الباب، فما أن حللت وثاقه حتى انسكبوا جميعاً..
تدحرج من كان في الخلف على من كان في الأمام، أمَّا رياض المسكين فاستوى على الأرض مع كل الحمل الذي انصب فوقه.. وراح يصيح بصوت مخنوق..
كان المشهد مثيراً للضحك أكثر منه للشفقة.
ثقل ضاغط فوق رياض المسكين صاحب البنية الضعيفة، علماً أن من بين الأصدقاء الذين استقروا فوق رياض من هم من أصحاب الأوزان الثقيلة جداً..
لم يكن باستطاعة رياض أن يتكلم..
مرت هنيهات لكنها بالتأكيد كانت من الأثقل من بين الهنيهات التي عاشها رياض في حياته.
ثم بدأ الأصدقاء يتهاوون واحداً وراء الأخر..
سقطوا بالتتابع في حركات مضحكة..
حتى انتهى الأمر إلى رياض المسكين الذي لم يكن باستطاعته الوقوف بسهوله.. فعاونه الجميع ليتمكن من الوقوف..
15 - الشعر المنفوش
وقف قليلاً ثمَّ ترنح وسقط أرضاً..
بدا وكأنه خارج من معركة..
شعره منفوش.. عيناه زائغتان.. رقبته تميل إلى الأمام.. رأسه منحن مثل وردة ذابلة.. وحاله يرثى له.. ومنظره يحزن العدو قبل الصديق..
أسرعت أمي لتحضر كأس ماء، فيما حمله الأصدقاء ووضعوه على الكنبة في صالة الاستقبال..
عادت أمي بسرعة تحمل كأس الماء في يدها اليمنى..
جلست على ركبتيها قرب الكنبة، بسطت يدها اليسرى ناحية الكأس وصبَّت قليلاً من الماء في راحة كفها، ثم رشَّت وجهه برذاذ بارد عله يستعيد توازنه إثر ما تعرض له من انهمار شلال بشري هادر انصب فوقه دون سابق إنذار...
قفز رياض من الكنبة صائحاً.. "ماذا هناك.. ماذا هناك؟"..
غرق الجميع في زوبعة من الضحك..
كان منظر رياض وهو يصحو من كبوته مضحكاً..
لم يكن يدري ما حدث معه بعدما وقع أرضاً.. ويبدو أنه أغمي عليه ولم يدر ما الذي جرى له..
بدأ يتحسس يديه وظهره..
حرَّك رقبته محاولاً طقطقها..
مدَّ كفيه إلى الأمام، ثم حرك ذراعيه في الهواء وارجعهما إلى الوراء ثم بسطهما مرة أخرى إلى الأمام.. يرفعهما تارة ويخفضهما تارة أخرى.. حتى هدأ واطمأن باله وتأكد أنه بخير سليم معافى..
ابتعد الأصدقاء عنه وانتشروا في غرفة الاستقبال..
منهم من جلس على المقاعد الخشبية ومنهم من جلس على الكنبات. وأكثرهم جلس على سجادة الأرض.. لأنَّ المقاعد والكنبات لا تسع الجميع..
وبعد أن كان حضور الأصدقاء من أجل الاطمئنان عليَّ شعروا بالراحة بعد الاطمئنان على رياض.. فما حدث معه لم يكن بالحسبان..
ولم يكن هدوءهم بعد ذلك إلا للحظات قليلة..
ثم انطلقت الضحكات من هنا وهناك، وكان الجميع يتحدث دون أن نفهم ماذا يريد هذا وماذا يريد ذاك..
غير أن اسم العم أبو فراس كان يتردد من حين إلى آخر حيث بدا أن الأحاديث المتداخلة كانت عن تلك المطاردة العنيفة..
صحت بأعلى صوتي أن اهدأوا أريد أن أفهم..
التفت الجميع صوبي متفاجئين من صوتي المرتفع.. توقف هدير أصواتهم.. وترقبوا قولي..
16 - رأس المشكلة
- "ألم يكفكم كل الزعيق والصياح في الساحة وهنا أيضاً؟..
علامَ كل ذلك؟..
لماذا هذه الجلبة وهذا الضجيج الذي لا ينقطع؟..
أريد أن أعرف ما سر تلك المطاردة العجيبة التي جرت بينكم وبين العم أبو فراس الحلاق؟؟"..
لكن الضجيج عاد من جديد.. الجميع يريد أن يشرح الأمر..
الأصوات كانت تتداخل بشكل غير مفهوم..
وقفت الأم وكانت ما تزال تجلس على ركبتيها قرب الكنبة ثم صاحت بصوت مرتفع:
"توقفوا يا اولاد.. كفى صياحاً.. لقد صدعتم رأسي.. ما هذا؟!.. هل أنتم في مباراة كرة قدم؟!.. كفى.. كفى.".
لم تكن أمي تريد أن تطردهم من البيت.. كان لديها فضول قوي لتعرف سر المطاردة الغريبة.. لذلك تحملت كل هذا الضجيج حتى النهاية لتعرف السبب..
ثم قالت بصوت هادئ بعدما سكت الجميع:
"اهدأوا يا أبنائي الصغار لا تتسرعوا بالكلام.. أرجو أن يتكلم واحد منكم فقط.. من يريد أن يتحدث ويخبرنا بما حدث فليرفع يده؟".
فرفع الجميع أيديهم.. عندها قالت أمي:
"سأختار أكثركم هدوءاً وهو طلال"..
ضحك الجميع وقال أحدهم هازئاً:
"من؟؟.. طلال؟؟.. طلال هو أكثرنا ضجيجاً وشغباً.. بل هو رأس المشكلة كلها"..
قالت أمي مبتسمة:
"عفريت أنت يا طلال.. أنت الأصغر بينهم.. لكن يبدو أنك مشاغب كبير.. هات حدثنا عما حدث طالما أنت رأس المشكلة كما قالوا.. هيا تحدث.. لكن بلا زيادة وبلا نقصان"..
اعتدل طلال في جلسته.. تنحنح قليلاً معتدا بنفسه.. طلب ماء ليشرب قبل أن ينطلق بالكلام المباح..
- "المشكلة ببساطة أننا كنا نلهو قرب دكان العم أبو فراس"..
قاطعه آخر:
"قل الحقيقة.. نحن اقتربنا كثيراً من الدكان فيما كنا نلعب ونجري ونرمي بالكرة"..
وقال ثالث معترفاً:
"عندنا اقتربنا من باب الدكان قمت بإدخال رأسي مستفزاً العم أبو فراس.. فنحن نعلم أنه يكره الأطفال.. ولا يحب أن يحلق لهم"..
وهنا عاد طلال ليقول:
"أمَّا أنا..
فعندما عدت واقتربت مرة من الدكان..
وجدت نفسي دون قصد مني داخل عتبة الدكان.. فنظر إلي أبو فراس الحلاق نظرة قاسية.. فقلت له ممازحاً وأنا أعلم كم يغضبه الأمر..
"أريد أن أحلق شعري"..
غضب غضباً شديداً..
لكنَّه كظم غيظه وصاح بي لكي أخرج من الدكان.. فخرجت فوراً"..
17 - الضربة الطائشة
كنت أنا أمي نستمع إلى ما يقوله طلال والأصدقاء بشغف..
لكن الأصدقاء توقفوا جميعاً في هذه اللحظة عن الكلام كأنهم يريدون أن يشوِّقونا أكثر.. أو ربما ليخفوا عنا شيئاً ما لا يريدوا أن يعرفه أحد..
فقلت لهم:
"ها.. ثمَّ ما الذي حدث.. تكلَّموا فكلنا آذان صاغية"..
عاد طلال ليتنحنح هذه المرة بمكر أكثر من المرة السابقة.. ثم فرك مقدمة رأسه كأنه يفكر..
نظر الجميع نحو طلال دفعة واحدة..
قال طلال:
"ما بالكم تحدقون بي هكذا!! كأنني أكلت طعامكم.. نحن جميعاً مشتركون بما حدث"..
فقالت أمي موجهة كلامها لطلال:
"هيا طلال.. يا حبيبي طلال.. تكلم.. لا أحد يتهمك بشيء..".
ثم اردفت بنبرة حازمة:
" هيا تكلم.. لقد نفد صبري"..
عاد طلال ليتنحنح مرة ثانية.. ثم قال بمكر:
"مممم.. ماذا حدث بعد ذلك يا طلال يا ولد يا ذكي؟ ماذا حدث؟..
آه تذكرت..
عندما خرجت من الدكان سدد لي أحد الأولاد الكرة فجاءت تحت قدمي مباشرة.. فما كان مني.. ودون أي سابق تصميم أو تفكير إلا أن سددت الكرة بضربة طائشة فدخلت مباشرة إلى داخل الدكان..
ودون قصد أصابت الكرة وجه العم أبو فراس مباشرة..
فصاح وأزبد..
وخرج علينا قفزاً وعدواَ.. بعد أن حمل عكازه بيده.. وبدأت المطاردة العنيفة بعد ذلك مباشرة..".
في هذه اللحظة انفجرت أنا وأمي بالضحك.. واختلط ضحكنا بالأسى والحزن على ما أصاب العم أبو فراس.. وتعاطفنا معه بشدة..
قلت في نفسي:
"بالفعل لقد كان العم أبو فراس محقاً..
لولا لطف الله لأصابه ضرر في وجهه..
كما أنه كان بإمكانه الانتقام مني.. فهو لا يعرف من الذي سدد الكرة نحوه.. وكان من المحتمل أن أكون أنا كبش الفداء..
لكن الله لطف بي وبه"..
وبعد أن علمت أنا وأمي سبب هذه المطاردة.. وانكشف سرها أمامنا.. قامت أمي واتجهت نحو المطبخ لتحضر بعض البسكويت والعصائر للأصدقاء..
لكنهم جميعاً وقفوا واعتذروا عن ذلك..
قال أحدهم:
"لا نريد أن نرهقك يا خالة، عددنا كبير"..
وقال آخر:
"نعم.. كما أنه من الضروري أن نخرج في الحال ونعود إلى بيوتنا، لأننا نريد أن نطمئن أهلنا أيضاً، كما أنهم بالتأكيد يريدون أن يعرفوا هم كذلك سبب الذي حدث.. ويريدون بلا شك الاطمئنان على صحة صديقنا سعيد بعد الموقف الذي جرى له"..
ابتسمت أمي وقالت:
"لا.. أبداً.. لن يخرج أحد حتى يأخذ كل واحد منكم قطعة حلوى"..
ثم أحضرت علبة كبيرة فيها أنواع كثيرة من الحلوى.. وبدأ كل واحد من الأولاد يأخذ قطعة أو قطعتين وينسحب بهدوء خارج المنزل..
أما أنا فقد ودعت أصدقائي عند الباب.. ولم أخرج معهم لأني بدأت الآن أشعر من جديد بألم في قدمي الجريحة..
وما أن خرج الجميع حتى استلقيت في فراشي لأستريح بعد هذه المغامرة الغريبة.. وبدأت استعيد تفاصيل ما حدث حتى غرقت في نوم عميق..
18 - يافطة جديدة
في اليوم التالي لم يفتح العم أبو فراس دكانه.. ولم يخرج من منزله..
كان الجميع في حيرة من أمرهم..
أجمع كبار السن أنَّ ما حدث للعم أبو فراس كان خطأ وإساءة كبيرة له وكذلك للبلدة بأسرها، ولا بد من أن يعتذروا منه نيابة عن أهل البلدة..
ذهب وفد من البلدة إلى دكانه.. طرقوا الباب الخشبي الذي هو في الوقت نفسه باب بيته الذي يسكنه من الجهة الخلفية.. لكنه لم يفتح الباب..
وظلوا يطرقون الباب مراراً دون فائدة..
ذهب أحد الشباب إلى البيت من الخلف.. وراح يطرق مرة تلو المرة دون جواب..
انتشر في بلدنا خبر مغادرة العم أبو فراس للبلدة..
قال البعض إن هناك من رآه عند أطراف البلدة في وقت متأخر من الليل يخرج تحت جنح الظلام كيلا يراه أحد مغادراً.. وفي يده حقيبة صغيرة وحقيبة أخرى في الحجم نفسه تقريباً يضعها على ظهره.. وسار في المراعي حتى اختفى..
وأكد هذا الكلام أن نوافذ بيته كانت مغلقة.. ولم ينبعث منها ضوء منذ ذلك اليوم..
وبعد ثلاثة ليال..
وتحديداً في صباح اليوم الرابع.. فوجئ الجميع بأنَّ العم أبو فراس أعاد فتح دكانه من جديد.. والمفاجأة الأكبر كانت رؤيتهم له وهو يزيل اليافطتين الكبيرتين المعلقتين في واجهة الدكان..
أمَّا المفاجأة الأكثر وقعاً فقد كانت عندما قام برفع يافطة جديدة يبدو أنه قضى طيلة الأيام الماضية التي غاب فيها عن بيته ودكانه يكتبها بعناية وبألوان مزركشة جميلة وبحروف كبيرة بمعية خطاط قدير..
حملت اليافطة العبارة التالية:
"أجمل وأحدث القصات لشعر الأطفال".
وما أن رأى الناس هذه العبارة حتى تزاحموا على باب الدكان..
لم يكن هنالك مجال متاح لسؤال الحلاق عن سبب هذا التغيير الكبير.. فقبل أيام كان العم أبو فراس عدواً للأطفال.. ولم يكن يريد استقبال أي طفل في دكانه.. واليوم أصبح دكانه مقصداً لجميع أطفال البلدة..
كان الجميع يريد أن يعرف سر هذا التغيير المفاجئ..
لكن شدة الزحام لم تسمح له بالإجابة.. كما أنها لم تعط أحداً فرصة بسؤاله..
أما أنا فقد كانت تشغلني لحظة وقوفي أمامه في يوم المطاردة الشهير..
لحظات ما زالت ماثلة أمامي..
كنت أخشى الذهاب إلى دكانه ليحلق لي شعري مثل سائر الأطفال والصبيان والفتيان خوفاً من أن يتجدد الموقف السابق.. وينتقم مني..
19 - قرار حاسم
لكني رغم كل حالة الخوف والرعب التي تملكتني، قررت بشكل حاسم الذهاب إلى دكانه لأحلق شعري الطويل، فقد مضى وقت طويل منذ حلقت شعري آخر مرة..
اللحظات التي وقفتها أمامه لم تغب عن ذاكرتي لحظة واحدة.. كانت نظرته مليئة بالعطف والحنان رغم كل مظاهر الغضب والانفعال..
عندما أخبرت أمي أني ذاهب إلى دكان الحلاق تهلل وجهها فرحاً..
قالت وأنا أعرف أنها تحب دائماً معرفة الخبايا والخفايا:
"يا سلام.. ربما تستطيع أن تعرف سر هذا التغير المفاجئ".
قلت لها:
"هل تعتقدي يا أمي أن لهذا التغير علاقة بالمطاردة الأخيرة".
أجابت:
"بكل تأكيد.. لكن كيف ولماذا؟ فهذا ما يمكنك أن تكتشفه وتخبرني به.. وربما عرفته عندما تقوم بحلاقة شعرك عند العم أبو فراس".
قلت:
"هل يمكن أن يكون لي علاقة بهذا التغيير؟!".
قالت:
"ربما.. هو لم يخبر أحداً حتى الآن بما حدث.. لقد مرت بضعة أيام على عودته إلى القرية وفتحه الدكان من جديد.. بالتأكيد هناك سر.. لكن السؤال متى نعرف هذا السر؟!".
فكرت قليلاً بكلام أمي.. وقلت:
"لا بد أن في الأمر سراً كبيراً.. فهذا التغير المفاجئ له أسراره.. كما أن قراره السابق بعدم حلاقة شعر الأطفال طوال السنوات الماضية له أيضاً أسراره..".
قالت أمي مشجعة لي على الذهاب:
"لا تفكر كثيراً الآن.. اذهب إلى دكان العم أبو فراس.. وانتظر دورك فهناك الكثير من الأطفال ينتظرون دورهم للحلاقة.. اذهب وانتظر.. وعسى أن تعود إليَّ بخبر جديد.. عندها سأكون فخورة بك كما أني دائماً.. لأنك الولد الوحيد في البلدة الذي عرف سر العم أبو فراس الحلاق.. هيا اسرع.. وعندما تعود ستجدني بانتظارك.. ولكن لو عرفت شيئاً لا تخبر أحداً.. أريد أن أكون أول من يعرف السر.. اتفقنا"..
قلت ضاحكاً:
"نعم يا أمي.. وهذا وعد".
"إذن هيا وكن صبوراً بانتظار دورك.. وعسى أن تعود ومعك الخبر اليقين"..
قالت أمي ذلك بسعادة واطمئنان..
مشيت بخطى سريعة جداً..
قفزت درجات السلالم..
ليس مثل المرة الماضية بل بطريقة سريعة قوية.. فقد التأم جرح قدمي واستعدت قوتي السابقة..
هرولت نحو دكان الحلاق بكل سعادة..
هذه هي المرة الأولى التي أحلق شعري عنده.. لأني اعتدت على أن تحلق لي أمي أو أن يأخذني أبي إلى البلدات المجاورة ليحلق لي من حين إلى آخر.. لكني في العادة كنت أطيل شعري فلا أحلق إلا بين فترات متباعدة..
اليوم كان يوماً جميلاً..
فهو يوم الحلاقة الأولى عند أبو فراس الحلاق..
20 - طابور طويل
عندما بلغت دكان الحلاقة كان عشرات من الأولاد يقفون بالدور في طابور طويل.
قلت في نفسي:
"لن أحظى اليوم بدور.. العدد كبير.. ربما انتظر بضع ساعات.. سأعود في يوم آخر"..
خرجت من الصف الطويل..
لاحظت أيضاً خروج بعض الصبيان الآخرين.. لقد ملوا من الانتظار طويلاً..
"لا بأس من الحلاقة غداً أو بعد غد.. أو حتى الأسبوع المقبل".. قالها أحد الفتيان الأشداء الذين شاركوا في المطاردة العنيفة إياها.. ثم مضى في طريقه يحرك ذراعيه في الهواء مثل مصارع محترف..
كان ذهابه حافزاً لذهاب العديد من الصبيان..
"لا بأس.. ربما أحلق غداً.. لقد اعتدت على الشعر الطويل".. سمعت صبياً صغيراً يقول ذلك لأمه.. ثم ضحك ضحكة منتصر..
يبدو إنه لم يكن يريد حلاقة شعره الطويل.. كان شعره يميل إلى اللون البني اللامع.. وكان مصففاً بعناية بالغة.. بدا شكله جميلاً بشعره الطويل.. لكن أمه احضرته وكأن سيشارك في "كرنفال" بديع.. أو في حفلة حلاقة جماعية..
أحسست بأن هنالك فرصة بدأت تلوح...
صار الفتيان والصبيان ينسحبون واحداً تلو الآخر.. فعدت واقتربت من صف الانتظار..
بدأ العدد يتلاشى بسرعه.. فقد تعب الصغار وملوا الانتظار..
لم يتبق أمامي سوى بضعة صبيان.. ما منحني عزماً جديداً..
لم تمض فترة طويلة..
وقبل أن تغيب الشمس وجدت نفسي وجهاً إلى وجه من جديد أمام العم أبو فراس..
عندما وقفت أمام العم فراس كانت مشاعري هذه المرة تختلف تماماً عن المشاعر التي انتابتني في المرة الماضية.. لم يكن الخوف مسيطراً علي كما أن منظر العم أبو فراس كان مختلفاً جداً..
كان مبتسماً بشكل مبالغ فيه.. ومن شدة ابتسامته واتساعها اعتقدت أن أسنانه سوف تقع من فمه..
بسط العم أبو فراس يده مرحباً بي..
صافحني بحراره بالغة.. مع أنه لم يصافح الصبيان الذين سبقوني إلى كرسي الحلاقة..
جلست على الكرسي وأنا أترقب ماذا سيحدث..
لم يكن كرش العم أبو فراس يبدو واضحاً ومنتفخاً كما بدا خلال السباق.. فقد كان منقبضاً خلف "روب" الحلاقة الأبيض الطويل الذي ينتشر عليه بعض الشعر.. وعلى خصره حزام عريض يشد كرشه ويرفعه فلا يسمح له بالاندلاق مثل يوم المطاردة الشهير..
21 - مشط ومقص
نظر العم أبو فراس إلى عيني ووجهي من خلال المرآة.. وبدا لي أنه فهم ما يدور بخلدي..
قال:
"أنت مستغرب من شكلي.. أبدو مختلفاً عن الشكل الذي رأيتني فيه المرة الماضية.. أليس كذلك؟".
لم يكن أسلوب طرح سؤال العم أبو فراس يوحي بأنه يريد معرفة الإجابة..
وقف خلفي وفي يديه مشط ومقص.. تجمد أبو فراس دقائق في مكانه.. ثمَّ قال:
"لماذا لم تهرب من أمامي في ذلك اليوم؟!".
فاجأني السؤال.. لم أكن أتوقع أن يسألني ذلك، ولن يستعيد الذكرى..
ظننت أنَّه لن يذكر أمامي أو أمام أحد غيري تلك المطاردة الغريبة.. ولن يتحدث عنها.
أجبته ببساطة:
"كانت قدمي تؤلمني من جرح أصابها.. ولم أكن أستطيع الركض"..
قال:
"والآن أراك بخير.. ولله الحمد.. ظننت وقتها أنك كنت من ضمن مجموعة الصبيان المشاغبين"..
قلت:
"منذ ذلك اليوم وهناك سؤال ما زال يحيرني.. لماذا ذهبت وتركتني دون عقاب؟!.. والآن تؤكد لي أنك ظننتني من الصبيان المشاغبين كما قلت لي فما هو السبب..؟"..
ابتسم العم أبو فراس وقال:
"هل تريد حقاً معرفة السبب؟".
أجبته بسرعة:
"بالتأكيد".
"سأحلق شعرك الآن.. وأخبرك بذلك لاحقاً.."..
لم يكن ما قاله العم أبو فراس محققاً لرغبتي.. لكن ما باليد حيله.. ربما لاحقاً كما قال.. سوف أنتظر حتى يحين الوقت اللاحق الذي تحدث عنه..
وبدأ العم أبو فراس يحلق شعر رأسي بطريقة فريدة.. كأنه كان يهتم بكل شعرة وليس بشعري كله..
مضى وقت طويل.. ولم يحتمل من تبقى في الخارج الانتظار لطول الوقت.. فتفرق الجميع..
نظرت من خلال زجاج الدكان فرأيت المكان المقابل للدكان فارغاً..
قضيت تحت مقص الحلاق أكثر من ساعة كاملة.. دون أن يتفوه بكلمة واحدة..
ثم قال:
"الآن عليك أن تفخر تماماً بهذه القصة الجميلة".
22 - تسريحة رائعة
بالفعل لقد كنت منبهراً جداً بطريقة الحلاقة..
كما كنت منبهراً بأسلوبه في تحريك المقص والمشط..
وفي النهاية دهشت أكثر وأكثر بالتسريحة الرائعة.. فقد بدا منظري متميزاً.. مثل أشهر الممثلين والأبطال العالميين..
نهضت من الكرسي..
ضممت العم أبو فراس إلى صدري شاكراً له على هذه القصة الرائعة.. فحضنني هو الآخر بشدة.. كان فرحاً مثل طفل صغير..
تعجبت من هذه الفرحة التي أصابته.. كان فخوراً بنفسه.. وكان سعيداً بأن احتضنني..
"هل تريد أن تعرف الحقيقة؟ هل تريد أن تعرف لماذا لم أعاقبك.. وما هو سر كل هذا التغير الذي حدث معي.. وما هو سر حلاقتي للأطفال بعد أن كنت أرفض الحلاقة لك ولهم؟!"..
قلت بحماسة بالغة:
"نعم بالتأكيد.. وبدون أدنى شك".
قال:
"إذن.. سأخبرك السر.."..
ثم تابع:
"مممم.. في الحقيقة؛ السر يا عزيزي يكمن فيك أنت... فأنت هو السر"..
ضحكت قائلاً:
"ماذا.. أنا.. إنت تضحكني يا عم.. لم أفهم ما تقول.. هل هذا لغز!".
وقف العم أبو فراس أمام باب الدكان..
وضع يديه خلف ظهره.. فاندلق كرشه إلى الأمام بحرية أكبر.. بعد أن نزع حزامه و"روب" الحلاقة الطويل الأبيض.. فبدا كرشه منزلقاً من خلف قميص ملون خفيف ذي أكمام قصيرة وفتحة صدر واسعة..
ضحك أبو فراس طويلاً حتى خرج صوته من باب الدكان.. فاجتمع الناس على ضحكته الرنانة.. فهذه أول مرة يسمعون العم أبو فراس يضحك..
تجتمع عدد لا بأس به من الجيران والعابرين قريباً من الدكان.. وبدأ الجميع يضحك سعداء لأنهم رأوا وسمعوا أخيراً أبو فراس وهو يضحك بعد أن ظل لسنين عديد عابس الوجه..
"هيا يا عمي.. هل ستخبرني بقصدك أم أذهب؟..". قلت ذلك بإلحاح..
"نعم.. نعم.. سأخبرك.. أنت الوحيد الذي تملك الحق بمعرفة السر".
قلت: "كلي آذان صاغية".
23 - الرأس العاري
جلس أبو فراس ومد رجلية وكرشه أمامه.. ثم قال بصوت هادئ:
- "عندما قابلتك وجهاً لوجه كانت المرة الأولى منذ سنين طويلة انظر مباشرة في عيني طفل.. كنت لم أحب حتى أن يذكر الأطفال أمامي..
لكني عندما رأيتك..
وعندما وقعت عيناي على وجهك أعدتني سنوات وسنوات..
إلى عندما كنت في سنك"..
ثم سكت قليلاً..
- "وماذا بعد.. تابع.. أرجوك يا عمي".
· "تذكرت طفولتي بك.. عندما كنت في مثل عمرك كنت في طولك تقريباً.. وكان وجهي يشبه وجهك.. وكان هنالك فرق واحد بيني بينك.. هل تتخيل ما هو الفرق".
- "نعم.. تفضل.. اكمل..".
· الفرق الوحيدة أني كنت عاري الرأس..
قلت مقاطعاً وقد أصابتني الحيرة:
- "عاري الرأس.. وماذا تقصد بعاري الرأس؟!".
· كان أبي لا يترك في رأسي شعرة واحدة.. دون أن يوضح لي السبب.. وكنت أغضب من ذلك أشد الغضب.. وخاصة عندما أذهب إلى المدرسة.. وكان أبي يبرر ذلك بأنه يريد أن يبعد الحشرات الصغيرة عن رأسي.. تلك الحشرات التي تغزو بكثافة رؤوس الأولاد الصغار في ذلك الوقت"..
قلت:
- "لكنها ليست خطرة بشكل كبير.. ويمكن أن القضاء عليها بالعناية والنظافة".
طاطأ العم أبو فراس رأسه ثم قال كأنه لم يسمعني:
- "كان أبي حلاقاً ماهراً..
يحلق شعر كل الأطفال بطريقة جميلة.. أما أنا فقد كان يحلق شعري بالموسى.. ويجعل رأسي مثل مرآة..
فأصبحت سخرية كل أصدقائي في المدرسة كلهم ينادونني "يا أقرع"..
فتركت المدرسة رغم حبي للعلم وعملت في دكان أبي وتعلمت الحلاقة..
وعندما كبرت..
قررت مغادرة قريتي وأتيت إلى بلدتكم وسكنت فيها.. لكنني عاهدت نفسي أن لا أحلق شعر الأطفال أبداً.. حتى لا يشعر الأطفال بنفس ما كنت أشعر به.. وكنت أريد يكون كل الأطفال شعرهم طويل..".
عجبت من هذه القصة الغريبة.. وقلت للعم أبو فراس:
"لكنك حلقت شعري وبدا شكلي مختلفاً بهذه التسريحة الجميلة".
أجاب:
"نعم.. هذا صحيح.. عندما وقعت عيني عليك.. ورأيت شعرك الطويل.. تذكرت نفسي.. وتذكرت ما كان يحدث معي.. فقلت إلى متى أظل على هذه الحال.. الأطفال بحاجة لي ليبدو شعرهم جميلاً.. وحتى لا يصابوا بأي أذى يسببه الشعر الطويل.. لقد كنت أنت السبب.. وأنت سر قراري..".
24 - بطل من ورق
تابع العم أبو فراس قصته قائلاً والابتسامة المشرقة تعلو وجهه:
"الآن لم يعد الأمر يسبب لي أي حرج.. اليوم أنا سعيد للغاية.. وأنت سبب هذه السعادة، سوف أظل أشكرك طوال حياتين وسأخبر الجميع عن هذه الحكاية وأذكر لهم فضلك عليَّ".
استغربت مما قال وأجبته:
"لكني لم أفعل شيئاً يا عمي.. وقفت أمامك فقط.. ودون قرار مني.. فقد كنت مجبراً على الوقوف أمامك بسبب رجلي الجريحة".
ضحك العم أبو فراس ضحكة مدوية وقال:
"قررت أن أحلق لجميع الأطفال الذين يدخلون دكاني ودون أي مقابل ولمدة عام كامل..
لكني لن أحلق شعرهم كله.. سوف أحلق بعضه وأترك أكثره..
وسأقدم لكل واحد منهم تسريحة مميزة..
لن أدع طفلاً بعد اليوم بدون تسريحة جميلة..
لا أريد أن يشعر الأطفال بأن شعرهم غير جميل.. وأن يعتقدوا بأني سبب ذلك..
هل فهمت لماذا؟!..
عندما رأيتك قلت في نفسي إنك الآن تحتاج لي..
وبدلاً من أن تغضب مني سوف تقول في المستقبل أني كنت سبباً لشعرك الطفولي الجميل.. وكنت أنت الذي أوحى لي بكل هذه الأفكار؟!".
قلت سعيداً بهذا الكلام:
"صحيح ما تقول يا عمي..
لم يكن شعري جميلاً..
أمي لا تعرف الحلاقة لكنها كانت تقص شعري من حين إلى آخر..
وأحياناً كان أبي يأخذني إلى الحلاق في بلدات مجاورة بسبب عمله وضيق وقته..
وكنا اذا خرجنا خارج البلدة يكون ذلك في أيام العطلات.. ويكون معظم دكاكين الحلاقين مغلقة".
وتابعت قائلاً:
"شعري الآن يبدو مرتباً بقصته الجديدة وناعماً جداً.. لقد صرت وسيماً وأنيقاً بهذه التسريحة".
قال العم أبو فراس فخوراً بنفسه:
"أنا بارع جداً في عمل التسريحات المختلفة التي تناسب كل وجه، لكني في السابق كنت أحمل ذكرى رأسي العاري منذ أن كنت طفلاً صغيراً..
لذا قررت أن لا أحلق لأي طفل ولو جزءاً يسيراً من شعره حتى يصبح شعرهم طويلاً فلا يستهزئ بهم أحد".
ثم سكت قليلاً وقال:
"لكني عندما شاهدت شعرك الطويل أحسست أن قراري كان مخطئاً.. فالشعر الطويل دون تسريحة جميلة سبب آخر لكي يستهزئ به الآخرون"..
وفجأة صاح العم أبو فراس قائلاً وبأعلى صوته:
"من الآن فصاعداً.. لا للشعر الطويل غير المصفف بعناية والمهذب بروعة، ونعم للشعر المسرح الجميل.. نعم للقصات الجميلة الأنيقة"..
امتلأ قلبي سروراً بعد أن أدركت أني كنت سبباً لكل هذه السعادة التي تغمر العم أبو فراس وجميع أطفال بلدتنا الجميلة..
وأصبحت من يومها بطلاً شهيراً بعد أن انتشرت هذه القصة في بلدتنا..
لكني كنت في الحقيقة بطلاً من ورق.. لأني لم أفعل شيئاً استحق به أن أكون بطلاً..
كل ما فعلته هو الوقوف مشدوهاً عاجزاً أمام العم أبو فراس يوم المطاردة العنيفة..
ليس لأني جرئ شجاع أو بطل مغامر..
بل لأني لم أستطع الركض والهرب منه..
فكانت بطولتي من ورق..
الناس يقضون عمرهم ليصبحوا أبطالاً.. وأنا دخلت عالم البطولة والأبطال بسبب عجزي عن الهرب.. فعلاً.. الدنيا حظوظ..
(النهاية)
الكويت 19 أبريل 2013