رائد الحواري - الجنة في "غوايات شيطانية"

مقالات في أدب محمود شاهين

(8)

في هذا العمل الروائي ينفرد "محمود شاهين" في رسم مشاهد من الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين، فهو يقدمها لنا بصورة تتجاوز العقل البشري، وهذا الأمر ينطبق مع الحديث الشريف الذي يقول عن الجنة: "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" لكن خيال الكاتب وسعة أفقه جعلته يتخيل نفسه فيها، فوصف لنا مشاهد من الأنهار والكائنات الحية من طيور وحيوانات ومشاهد طبيعية تخلب العقل، كما كان حضور الحور العين من خلال شخصية "الملكة" وقدرتها على التغيرفي الزمن والعودة به إلى الماضي شيء خارق للقدرات البشرية، ونجد حضور المكان الأرضي للأديب محمود شاهين في روضات الجنة يعكس حالة الخوف والشقاء والعزلة والاغتراب الألم التي عاشها، فوضع شرطين للخروج مما يحمل بؤس وعقدة القمع التي مر بها، الأول نسيان كل ما كان على الكوكب الأرضي، والثاني التوحد مع "الملكة" وهنا كانت الأرض تماثل "العالم السفلي" في الحضارات القديمة والذي يحمل معنى الموت والعذاب واكل الطين والظلام، فهو عالم البؤس للبشر والبقاء ضمن حالة من العذاب السرمدي. أما الجنة، عالم الفضاء، مملكة إبليس، فهو عالم رحب، فيه من المتع المادية والبصرية والروحية "ما لا يخطر على قلب بشر".

محمود شاهين لم يكتف بهذا الدخول إلى عالم الجنة، بل توغل أكثر في رؤيته للعالم الفضائي وقدم لنا الشيطان "إبليس" ممثل الشر والعدو اللدود للإنسان بهيئة جديدة، تتناقض وتتنافى مع ما جاء في الكتب المقدسة، قدمه لنا صديق حميم للإنسان، ومؤمن صادق ومخلص لله، وهذا التقديم الجديد يجعلنا نتعمق ونتوغل أكثر بالتفكير بمسألة الإيمان، فيجعل من الإيمان الشرط الأساسي للوصول إلى حالة التوحد مع الله، فبدون الإيمان لا يمكن أن يصل أي كائن إلى مبتغاه، وهذه دعوة لأن نكون جميعا مؤمنين بالله.

لكن هذه الدعوة للإيمان لا تختص ولا تقتصر على المسلمين وحسب، بل تمثل دعوة لكل أتباع الديانات، فالكاتب لا يفرق بين دين ودين، أو بين مذهب ومذهب، فهو يجمع ويوازي كل الأفكار الدينية ضمن مسار واحد، من هنا يمثل كتاب "غوايات شيطانية" حالة إنسانية عالمية تتجاوز المكان والزمان والقوميات والأفكار.

هناك تأثير واضح في هذا العمل ما جاءت به ملحمة "عشتار ومأساة تموز" وأيضا "إنشاد الأناشيد" خاصة مسألة الحوار بين الأديب "محمود شاهين والملكة"، فهناك تماثل واضح مع النص الملحمي والنص التوراتي، ونجد تأثره بالملحمة جلجامش في مسألة الخلود، ودور الغسيل في تحويل الكائن البشري أو أي كائن إلى شيء جديد، فانكيدو بعد أن اغتسل اخذ صفات ومضامين وشكل غير ما كان عليه قبل الاغتسال، وهذا الأمر ـ الاغتسال ـ جاءت به المسيحية من خلال فكرة التعميد بالمياه، فيصبح الشخص المعمد كائن جديد قادر على الدخول إلى ملكوت الله، ولم يقتصر تأثير الكاتب بالأفكار والمعتقدات الدينية الإسلامية وحسب بل تأثر بالمعتقدات المسيحية والمجوسية والبوذية والكونفوشسية، وهناك العديد من الفلاسفة والأدباء والشعراء يعترف الكاتب بتأثره بهم وبشكل صريح لا لبس فيه

لم أقرأ مطلقا نصا أدبيا تحدث عن وصف الجنة والعالم الخارجي، فهذه الأسبقية تحسب لمحمود شاهين، الذي قدم رؤيته عن الفضاء وما فيه من خرق للعقل البشري، فالزمان والمكان يفتقد في ذلك العالم، الأنثى تقدم نفسها بصورة سباعية سرمدية، وتقدر أن تحول الرجل السبعيني إلى طفل رضيع، النص الروائي فيه العديد من الأفكار الخارقة للمنطق البشري، وتستحق منا أن نقف عند ما جاء به محمود شاهين في "غوايات شيطانية

المكان

تكمن أهمية المكان بأنه نقطة الانطلاق، بداية الحدث، فبدون مكان لا يمكننا تحديد الشيء/ إنسان، فمن خلال الجغرافيا يمكننا أن نتعرف على العديد من صفات ومشكلات هذا الإنسان، فالمنطقة العربية تتخصص في خلق حالة من الفقر والقمع والاضطهاد ووجود سلوك قبلي عشائري يلغي أو يهيمن على مفهوم الدولة المدنية، كما أن وجود دولة الاحتلال الإسرائيلي ساهمت بشكل أو بآخر في تعميق مأساة المواطن في المنطقة العربية، لكنها بالنسبة للفلسطيني تشكل السبب المباشر والرئيسي والاهم فيما يعيشه من حالة التشرد واللجوء والعذاب في وطنه أو في دول الطوائف العربية

فيكون المكان السبب الرئيس لما يمر به الإنسان من اغتراب وعزلة، الكاتب يبدأ رحلته من دمشق، "فهل يعقل ألا أجد أحدا في دمشق كلها يدعوني إلى حفلة رأس السنة" ص3، فدمشق كانت حاضرة في النص بشكل أساسي، ورددها في أكثر من موضع، كما هو الحال بالنسبة للقدس والجليل، فالكاتب هنا يوحد بين الجغرافيا في بلاد الشام، متجاوزاً الخارطة السياسية إلى الخارطة الطبيعية

يتعمد محمود شاهين على ذكر كافة الأماكن التي تركت أثرا فيه، إن كان هذا الأثر ايجابي أم سلبي، وكأنه يريدنا نحن القراء أن لا ننسى تلك الجغرافيا التي تواجد فيها، رغم دعوته لنسيان كل تلك الأماكن وما تحمل من فرح أو شقاء، فتقول له "الملكة": "سأنسيك يا حبيبي

ليالي الدفء في ظل الزمهرير

ورغد العيش في أزقة المخيم الموحلة

وأعراس العشاق في الجليل

وتلويحة ضفائر الصبايا في غزة وأريحا

من تحت أشجار النخيل

... وتطريزات الحرير في قبة ثوب أمك والطيلسان

وطريق رام الله ودرب الألام وباب الاسباط والغيصلان

.. في فضاء القيامة

وعلى أسوار الأقصى

وشرفات المكبر

ورأس العمود

وسلون

.. وبسمة من نجى ابنها من مجزرة الخليل

سأنسيك

عكا وحيفا والجليل"

لا يوجد أي لبس في قوة وحضور المكان، فالكاتب يؤكد على قوة تأثره بالجغرافيا التي تواجد فيها وعليها، فهو أسير تلك الجغرافيا، تلازمه في كل مكان أينما حل وحيثما كان، من هنا نجده يسعى جاهدا للتخلص من قوة تأثيرها عليه، فنجد "الملكة" في كل مقطع تقول "سأنسيك" فهي تعلم بقدرتها على قراءة الخواطر والأفكار التي تدور في رأس الأديب، فتعمل على زرع بذور الأمل لتخلصه مما عانى في عالمه الأرضي من خلال محو كل ما حدث، ومحو المكان، ومحوالأشخاص، ومحو الأحداث من ذاكرة الأديب. فهذا المحو يعد أهم شرط للتهيؤ للحياة الجديدة، حياة الجنة التي لا شقاء ولا مرض ولا الم فيها.

لكن المكان لم يكن بشكل مطلق يمثل حالة الحزن والألم، فيحدثنا عن أماكن فيها الفرح وأخرى فيها الألم، "أدرك أن الياسمين في دمشق

يعشق نسيم السلام

وأن الورود الجورية الجريحة

في حدائق بيروت

ظمئة للارتواء من رحيق السلام

... وأن جراح عمان الدفينة

ترنو إلى كفكفة دموعها

لتضمخ ضفائرها بشذا

عطر السلام

إذن الجغرافيا ليس بالمطلق كانت تسبب الألم للكاتب، بل هناك شيء من الفرح، وحتى الألم الذي حدث يتوق الكاتب لتجاوزه ويتعامل مع مسببيه "عفى الله عما مضى" فالتسامح وتجاوز حالة الظلم والألم الذي حدث يعد تسامح من الكاتب وينم عن سعة صدره والصفح الذي يتمتع به

الزمن

الزمن في الرواية زمنين، الزمن الأرضي العادي المتعارف عليه من قبل البشر، وزمن كوني فضائي اليوم فيه بألف سنة مما نعد، الأول يمثل حالة البؤس والعذاب، والثاني يمثل حياة النعيم والجنة التي يحلم بها البشر

فالزمن الماضي الأرضي يحدثنا عنه الكاتب بمعنى: "لا لا أرجوك

لا أريد العودة إلى الوحدة والاغتراب

ولا أريد الرجوع إلى الفناء

ولا أريد العودة إلى الرصاص

ولا أريد العودة إلى القنابل

ولاأريد العودة إلى الزلازل

ولا أريد القصاص

أريد الخلاص"

بهذا الوجع كان الزمن الأرضي يتماثل للكاتب، فهو لا يحمل سوى الألم والقهر، ويريد أن يتجاوزه بكل سلبياته، فهو لا يعني إلا البؤس، ولا بد من الخلاص منه. من هنا نجده يقول: "أريد الخلاص" والخلاص يكون في العالم الفضائي، عالم الجنة، والحوريات والطيور وحيوانات والأنهار والطبيعة الخلابة، فنجده يسعى مطالبا بهذه الحياة الجديدة قائلا عنها: "لنتوحد يا حبيبتي

أنا وأنت

وأنت وأنا

ونحن ونحن

مع الله

خارج حدود المكان

وبعيداً فوق الزمان

لنندغم في غيهب الروح الخالد والأغوار

المجهولات



التوحد بجمال مملكة السماء ورحلة النسيان

ـ الآن الآن يا حبيبي

طاب المرام

فارتشف من طل شفاهي

قطرا

وتذوق من رحيق السنى

شهد السماء

وأجرع من خمر نهودي

كؤوس الثمالة

والثمم عيونا هي السحر

هامت بالغرام!

"هامت بالغرام" بهذا العالم المفتوح السرمدي يتمكن الأديب من تحقيق الحلم، الحياة في الجنة، فهو قد تخلص من ماضيه المأساوي، ويحيا مع ملكة السماء حياة العشاق، فلا أحلى ولا أمتع من تلك الحياة.

الحواس

الحواس في العالم الأرضي غيرها في العالم الفضائي، فالإحساس يتغير، وقدرة الحواس أيضا تكون في السماء أضعاف مضاعفة عنها في الأرض، طبعا هذا ناتج عن تغير سرعة الزمن، وأيضا تغير الحالة التي يعيشها الأديب، ففي الأرض كان الجحيم الأرضي، وفي السماء كانت جنة الفردوس.

"كنت مأخوذا بما اسمعه وأراه أينما نظرت إلى أمام أو إلى الخلف، إلى اليمين أو الشمال، أعلى أو أسفل، وهالتنا النورية تحلق بنا في فضاء الماء، والملكات يحففن بنا بجمالهن الحوري، ورغم أنني لم أكن اجلس على شيء أراه، إلا أنني كنت أحس وكأنني اجلس على أريكة ملكية وثيرة.



ورغم إدراكي الأكيد أنني في أعماق البحر إلا أنني كنت أرى اتساع الأفق من حولي وامتدادها إلى ما لا نهاية، وكأني أحلق في الفضاء... ووجدت نفسي أملك القدرة على الإبصار إلى آفاق بعيدة، بحيث بدت لي الفرق التي تبعد عني آلاف الكيلو مترات وسط هذا البحر الشاسع، وكأنها أمامي" بهذا الإحساس الخارق للطبيعة البشرية يحيا محمود شاهين في الجنة، فرغم أنه يحدثنا عن عالم البحار، إلا أننا نستنتج بأنها ليست مثل بحارنا، قدرتنا السمعية والبصرية تتجاوز المنطق المتعارف عليه، فيكون هناك أفق سرمدي لا يمكن أن يحد بجغرافيا معينة. المتعة لم تكن ناتجة عن مضاعفة القدرات السمعية والبصرية وحسب، بل أيضا عن الجمال الأخاذ الذي يبصره، والأنغام الموسيقية التي يستمتع بسماعها، فيكون جمال الطبيعة ورقة النغم قد أوصلتنا إلى ذروة المتعة، وهذا ناتج عن تأثيرها أضعافا مضاعفة، وهذا العطاء العظيم الجمالي للجنة يتوازى وينسجم مع القدرات الخارقة التي يتمتع بها الكائن البشري في الفضاء، فتكون المتعة اكبر وأعظم من أن نتخيلها نحن الأرضيون.

لغة الكلام لا حاجة لنا بها في السماء، إنها من متخلفات الأرض وما تحمل من ألم ووجع، فالمخاطبة في السماء ليست بحاجة إلى النطق، يكفي أن نفكر بما نريد لكي يستمع احدنا للآخر، "أحسست وكأني القي رأسي على صدر الله، وقد تضوع عطر

رباني من نهدي الملكة "فاتنة السماوات" ليتسلل عبر انفي ويسري في ظمأ ملايين مسامات جسدي

خاطرني الملك إبليس وأنا أتوحد مع نهود الملكة والموسيقا الكونية:

ـ هل أنت سعيد

فخاطرته

ـ أنا أولد من جديد، أنا أحيا بعد موتي، وأنا مدين لك بان أسعى عند الله ليغفر لك ويعفو عنك.

خاطرني هاتفا "بصحتك" وسمى بالله وراح يجترع شيئا من بين نهدي "شمس البحار""

وفوجئت بخمر يتدفق كنبع من بين نهدي الملكة فاجترعت بضع جرعات لأتذوق خمرا أطيب من الشهد، أحسست بجسدي ينتشي من شعر رأسي إلى أخمصي قدمي من جراء تذوقه، فرحت أجترع الجرعة تلو الجرعة إلى أن توقف تدفق الخمر"

على هذه الشاكلة تكون الحواس، حواس خارقة للعادة، وذات قدرات هائلة على التواصل، كما أنها تجعلنا نستمتع أضعاف مضاعفة بما كنا نستمتع به في العالم الأرضي، وهنا يتأكد لنا قول القرآن الكريم، " وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ" فمن معاني ذلك أن المتعة وللذة التي نحصل عليها في الجنة تكون مضاعفة لما نحصل عليه في الدنيا، لأن حواسنا تكون أيضا خارقة ومتجاوزة لما وجدنا عليه.

فالكاتب من خلال هذا المشهد يقدم لنا تخليه عن طبيعة الإنسان في عالم الجنة، فيجعلنا نتخيل ما في ذلك المكان من نعم ولذائذ ومتع، حيث يكون عالم الحواس قد أخذ معنى جديدا، فلا يكون الحار حار، ولا البارد بارد، كل ما في الجنة يكون تأثيره ايجابيا على الإنسان، فلا يشعر بأي ألم أو وجع، فهي عالم وجد فقط لكي نتلذذ به وننعم بما فيه، "وتنبهت إلى أن الأسماك الهابطة من أعلى أو السابحة حول الموقد ترتد عنه ما أن تقترب منه، مما يدل على أنها تتحسس حرارته، مددت يدي لأتحسس الحرارة بدوري، كان ثمة حرارة، غير أن الماء كان باردا وهذا ما أطار صوابي! سحبت يدي وأنا أنظر إلى الملكة بكل دهشة العالم

قالت ببساطة:

ـ هنا يتآخى الماء والنار أيها الأديب، لا النار تؤثر على حرارة الماء ولا الماء يطفئ النار!!

ـ هل هذا يعني أن النار في هذا البحر تبقى مشتعلة إلى الأبد؟

ـ اجل أيها الأديب، إنها نار الله التي لا تنطفئ!!"

الجنة عالم آخر، فيه العديد من الظواهر التي لم نألفها في الأرض، فكل ما فيها لا يؤذي، حتى أن النار فيها لا تحرق، لكنها تعمل على إنضاج الطعام، فتكون كما ألفناها في الدنيا، تقدم لنا العديد من الفوائد وتساعدنا على الاستمتاع أكثر بما نأكل، وهذا أمر متعارف عليه عند كل البشر، لكنها في المقابل تفقد قدرتها على أذية الإنسان، فهي هناك وجدت فقط لخدمتنا وجعلنا نشعر باللذة أكثر، ولن تشكل أي أذى لنا مطلقا، فقد أزيلت منها خاصة الأذية.

التوحد والتعدد:

هناك مفهوم التوحد بين الأجساد، بحيث تكون أجساد مادية تنصهر في جسم واحد، أو هناك جسد واحد قادر على الانقسام أو تكوين أعداد مضاعفة منه بأشكال مختلفة أو مماثلة له، بمعنى وجود نسخ من الكائن البشري تحمل عين الصفات والقدرات الأصلية أو قدرات جديدة أقوى من الأصل، ومن مفاهيم التوحد أيضا وجود حدثين/ ظاهرتين متباينتين تتوحدان ليعطيا نتيجة واحدة، كما هو الحال بين الماء والنار، فعالم الجنة زاخر بمثل هذا التوحد والتعدد، والهدف منه مضاعفة قدرة المخلوق على الاستمتاع !

ـ وهل تنامين بجسدك السباعي على الأسرة السبعة؟

ـ بل على السرير السباعي

ـ يحيرني جسدك هذا بسباعيته التي لا أفهمها.

ـ ليس من السهل علينا أن نفهم حكمة الخالق، فأنا واحد في سبع، وسبع في واحد! ووحدتي في تعددي، وتعددي في وحدتي، لا الواحدة تنفصل عن الكل ولا الكل عن الواحد" بهذا التعدد تكون شخصية الكائن البشري أو الجني قادرة على مضاعفة ذاتها ومن ثم جعل تلك المتعددات تتلذذ وتنعم بما يتلذذ وينعم به الأصل، فالهدف من هذا التعدد هو المتعة والحصول على مزيد من النعيم.

ويحدثنا الأديب محمود شاهين عن كيفية تعدده فيقول : " لم أجرؤ على رفع رأسي من بين نهديها خوفا مما سأراه، لكني أحسست قبل أن أرفعه أنني أصبحت إنسان بسبعة أجساد وسبعة عقول وسبعة أرواح، وكل جسد بخمس حواس، وسرت رعشة في كافة أنحاء جسدي.

ورفعت راسي وإذا بي أرى نفسي في سبعة مثلاء يعانقون الملكة في الوضع ذاته وقد تحلقت أجسادنا على السرير الدائري لترسم دائرة انعكست في المرآة الماسية

من سقف القبة ألقوسي"

من خلال التعدد يمكن للكائن البشري أن يضاعف لذته، فلكل من أمثاله أن يغدق من المتع ما يريد، ويمكن أيضا أن يكون له إحساس أكبر من الأصل، لكي يستمتع أكثر بما في الجنة من نعم، فكل إنسان أو جني له الخيار أن يكون على صورة شكله الأصلي، وأن يكون بقدرات وصفات وأشكال مختلفة، وكل هذا للتلذذ والتمتع والسعادة والهناء، فهي الجنة التي نحلم بها جميعا.

لن يقتصر التعدد على السبعة فقط، بل يمكن لهذا السبعة أن تتضاعف إلى سبعات والسبعات إلى سبعات بحيث يصل التعداد إلى الملايين، "... أما الأكثر كمالا أن لا تبقي على شكل هؤلاء الأشخاص ثابتا بل متغير، فتغيرهم إلى سبعة آخرين بأجسام وأشكال وأعضاء مختلفة وهكذا إلى ما لا نهاية.

ـ وهل سأبقى أنا أنا يا حبيبتي؟

ستبقى أنت أنت يا حبيبي واحد في سبعة، وسبعة في سبعة، وسبعات في سبعات في ملايين، وملايين في واحد إلى ما لا نهاية" بهذا التعدد غير المتناهي يكون الإنسان في الجنة، فهو لم يعد بقدرات الحواس العادية، وأيضا لم يعد شخصا واحدا، بل يمكن نسخ أعداد هائلة منه وبقدرات جديدة خارقة.

الله

هناك أكثر من موضع تحدث فيه الكاتب عن الله، خاصة عند الشدائد وعدم وضوح الرؤية لديه، فنجد إيمانه في العديد من المناسبات والأحداث التي يمر بها في الجنة والعالم السماوي، فيحدثنا الأديب "محمود شاهين عن فكرته عن الله، وأيضا نجد فكره إبليس عن الله، وكلاهما له مفهوم خاص عن الله، فيقول إبليس عن الله: "الله الكلام

واللا كلام

وما يعبر عنه الكلام

وما لا يعبر عنه الكلام

وما لن يعبر عنه الكلام

بل ويستحيل على الكلام أن يرتقي إلى التعبير عنه

وسع كرسيه السماوات والأرض

ولم تتسع لوجوده السماوات والكواكب" بهذا الكلام يتحدث إبليس عن الله، فالله اكبر وأعظم من أن نعبر عنه بالكلام، وأيضا ـ في حالات معينة ـ يمكن أن نعبر عنه بكلمات، التعبير لا يكون لأي كان، بل للخاصة التي تصل بإيمانها درجات فوق العادية، هي من تستطع أن تحدثنا عن الله

وقدرات الله فوق الكائنات كافة، فيقول عن قدرات الله: "يخلق وجودا من العدم، وعدما من الوجود" فالله وحده قادر على هذا الأمر، وليس لأحد من الخلق أن يقوم بها الأمر.

وعندما يقع إبليس في مشكلة يعود كالبشر إلى الله، فيدعوه بخالص الدعاء ويسلم أمره لله لأنه هو القادر على كل شيء، فعندما يتم تحويل الأديب محمود شاهين إلى طفل، ويعرف إبليس بأنه ارتكب خطأ من قبل الملكة التي أرضعت الأديب أكثر مما ينبغي فيقول : "استغفر الله استغفر الله

وأتوب إليه

سبحانه سبحانه

ما أعظم شأنه" فهذا التسليم لأمر الله ناتج عن الإيمان بالله، فكل المؤمنين وقت الشدة يسلمون أمرهم لله الواحد أحد..

ونجد الأديب يحدثنا عن الله عندما يجد نفسه في عالم آخر لم يعهده من قبل فيقول: "يا إلهي يا حبيبي يا إلهي يا حبيبي، كن معي يا إلهي، كن معي يا إلهي، ولا تتخلى عني يا إلهي، ليس لي إلا أنت يا إلهي"

فهذا الإيمان بالله والتقدم لله وقت الشدائد ناتج طبيعي لكل الناس المؤمنين فالإيمان ظاهرة تريح النفس وتعطي صاحبها مقدرة على التكيف مع الأحوال والظروف من خلال تعلق المؤمن بالأمل وبقدرة الله العظيمة على إحداث كل شيء

الشيطان إبليس

يقلب الكاتب مفهوم إبليس عند كل المؤمنين، بصرف النظر عن معتقدهم الديني، إن كانوا مسلمين، مسيحيين، بوذيين، مجوس، وكل الديانات الأخرى، فمفهوم الشيطان عندنا أنه العدو اللدود للإنسان وللخير، لكن الكاتب يجعله كائن مؤمن وموحد لله، فهو يمثل الكائن المؤمن التائب توبة نصوحة لا لبس فيها

وهذا الانقلاب في مفهوم إبليس ومملكته السماوية يعد أهم فكرة يقدمها الكاتب، فمن خلال الحوار الذي دار بين الأديب وإبليس نستنج بأنه مؤمن بقناعة راسخة وعقيدة لا تزحزحها الزلازل ولا البراكين، فيقول إبليس عن غضب الله عليه لأنه رفض السجود لآدم:

"هو غاضب مني اجل، أما أنا فلم أعد غاضبا منه، ولم أعد أفسد في الأرض، ولا أطمح إلا في رضاه وعفوه وصفحه"

بهذا الكلام يحدثنا إبليس عن توبته إلى الله، فهو يقول بأنه لم يغضب أبدا من الله، لأنه يعرف أن الله على حق وهو كان على باطل، من هنا نجده يقدم خدمة عظيمة للأديب من خلال نقله من الأرض إلى الجنة السماوية، حيث يتماهي الإنسان مع المكونات الفضائية ويتحول إلى كائن آخر غير الذي كان.

ملاحظة اعتمدنا على النص المنشور في الحوار المتمدن، من هنا لم نضع أرقام الصفحات.
*****
رائد الحواري

تعقيب.. جهد هائل بذله رائد في تحليل النص الصعب دون شك . ورغم ذلك فاته أن الجنة التي في الملحمة هي ليست جنة الله المعروفة ، بل عالم الشيطان وجنته، إذا لا بد من أطلاق جنة عليها .. كما أن الوقائع والمعجزات فيها تتنافى إطلاقا مع ما هو مذكور في جنة الله ، بل تتفوق عليها في مسائل كثيرة كالتعدد إلى ما لا نهاية وتآخي الماء والنار، وكذلك الحوريات الملكات وحتى الشيطان نفسه ، فهو شيطان مختلف جميل قد يحبه المرء بالقدر الذي يحب به الله !

محمود شاهين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى