نور الدين صمود - الهمس الصاخب : ملحق ثقافي تونسي لا يعرف محمد الحليوي

سمعت، منذ بضعة أعوام خبرا يُضحِكُ ويُبْكي في نفس الوقت، عن (مُلحَقٍ ثقافيّ تونسي) أرسلته دولتنا إلى إحدى سفاراتنا التونسية بالمشرق العربي، وقد حسبتُه مجردَ نكتة أطلقها بعض الظرفاء للسخرية من معظم المعينين للقيام بهذه الخطة ممن ليسوا في مستواها، وخلاصة هذا الخبر أن أحد الصحفيين الثقافيين في لبنان ذهب إلى سفارتنا فيها، وطلب مقابلة ذلك الملحق ليسأله عن بعض الشؤون الثقافية التونسية، وعند لقائه سأله عن محمد الحليوي.

فأجابه: «لا يوجد شخص في السفارة يحمل هذا الاسم» فبُهت الذي سأل، وراح يقول لذلك الملحق الثقافي: لقد أردت أخذ بعض المعلومات عن الأديب التونسي محمد الحليوي صديق أبي القاسم الشابي الذي رافقه في شبابه وعاش بعده سنوات عديدة وكتبَ عنه كتابا صغيرا بعنوان «مع الشابي» وكتَب عنه عدة مقالات أصبح بواسطتها صاحب شهرة واسعة، وقد اكتسب من صلته بالشابي شهرة ذلك الصحفي الزائر يعطي ذلك الملحق الثقافي عن محمد الحليوي معلومات متنوعة لم يكن يعرفها، وختم كلامه بقوله: أنا أعرِفُ عن الشابي وعن صديقه محمد الحليوي كثيرا وقد أردت أن أحصل منك على معلومات أخرى تحتاج إلى زيادة توضيح وتعمق في أدب صديق الشابي، فَبُهِتَ الذي سَأل والذي سُئل.

وقد ظللت مدّة طويلة أعتقد أن هذا الخبر مجرد نكتة أطلقها بعض المثقفين ضد الذين ليست لهم ما يؤهلهم للقيام بهذه الخطة الثقافية على أحسن ما يرام، وطالما تندرتُ بذكره، وأضحك كلما سمعت هذه النكتة الطريفة، إلى أن كنت في دبي لحضور مهرجان شعري كبير، فجمعتني الصدفة بسفيرنا هناك المرحوم عبد الكريم موسى، وساقَنا الحديث إلى ذكر هذه الطرفة فقال لي: إن هذا الخبر واقِعِيٌّ قد جرى أمامي عندما كنت سفيرا في لبنان (أو غيرها من البلاد العربية)، وليس نكتة للتندُّر، فبُهِتُّ واستغربتُ وتعجبتُ، و(فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذب) مع الاعتذار للمتنبي، لأني خجلت من وقوعه، وما زلت أفضّل أن يكون نكتة نقدية لاذعة، وأن لا يكون خبرا صحيحا جرى أمام من رواه لي بدون عنعنة أو سندٍ.

هذا السفير التونسي الجزائري الأصل هو عبد الكريم موسى، نال الجنسية التونسية لطول إقامته في بلادنا، وللمصاهرة التي جرت بينه وبين التونسيين والتونسيات، فقد تزوج مِن تونسية وتزوج بعضُ التونسيين من بعض أخواته، هو الذي جرى الخبر الطريف أمامه عن ذلك الملحق الذي لا صلة له بالثقافة والمثقفين.
قد يسأل سائل عن سبب تعيين أناس ليس لهم صلةٌ بالثقافة والمثقفين في هذه الخطة؟ وهو سؤال وجيهٌ أجيب عنه بأن معظم الدول يتوجسون خيفة من الملحقين العسكريين، فيضطرون إلى تعيينهم في خطة ملحق ثقافي، ولكنه يقوم بدوره العسكري على حساب الثقافة، ولا يقوم بأي دورٍ ثقافي لعدم معرفته بالشؤون الثقافية، وليس معنى هذا أن جميع الذين يعيَّنون في خطة ملحق عسكري تحت غطاء الثقافة من أمثال ذلك الملحق الذي لا يعرف محمد الحليوي صديق الشابي، لأن عدم معرفة الملحق العسكري بشيء ليس في ميدانه لا يُعد عيبا لأنه ليس في ميدان اختصاصه، أما جهل كل ملحق ثقافي بشيء في صلب ميدانه، فيُعتبر عيبا كبيرا، وإهانة للثقافة والمثقفين، إلى جانب إعطاء حقِّ هذا لذلك، والطريف في الأمر أن جميع الدول التي يرسل إليها الملحقون الثقافيون إلى الدول الشقيقة والصديقة باسم ملحق ثقافي يعرفون جيدا هذا التمويه الذي يبقى سرا مفضوحًا إلى أن يُطردوا، وأخيرا يُطردون في ظرف وجيز لأنهم كانوا يعرفون وظيفتهم الأصلية.

وقد أدركتُ ذلك بنفسي، عندما كنتُ في قُطْرٍ عربي شقيق للمشاركة في مؤتمر للأدباء العرب ومهرجان للشعر العربي، وذات يوم اتصل بي شخص تونسي معروف وطلب مني أن أكَلِّم موظفا تونسيا يشتغل في السفارة التونسية في شأن من الشؤون، فقلت له: هذا الشخص لا صلة له بهذه الشؤون، فقال لي: نحن نعرف أنه يقوم بدور (ملحق عسكري) تحت عنوان (ملحق ثقافي) للتمويه على هذه الدولة، ولكنهم يعرفون ذلك جيدًا، لأنهم يقومون بنفس الدور في تونس وأنتم تعرفون ذلك جيّدا، ولهذا تراهم يراقبونهم مراقبة شديدة في حِلِّهمْ وترحالهم، أكثر مما يعرفون ما في جيوبهم، وكثيرا ما يشعرونهم بانتباههم إلى ما يقومون به في صميم اختصاصهم الأصلي، وبذلك يخسر الأدبُ ويتحسّر الأدباء والثقافة، وبذلك تصبح كل هذه الأشياء (كسراب بقيعة يحسبه الظمآء ماءً حتى إذا جاء لم يجده شيئًا)، وأود أن أضيف إلى ما سبق أنني كنت في الثمانيين من القرن الماضي في زيارة (للدار البيضاء بالمغرب الشقيق) فوجدت ملحقا ثقافيا نسيت عنوان خطته في السفارة وقد أعلمته أن وزير الثقافة التونسي قد طلب مني أن أتصل بشركة التوزيع الموجودة في الدار البيضاء لأعرف مصير المجلات التي أرستلها الوزارة إليهم، ولما ذهبت إلى المسؤول في تلك الوزارة قال لي بكل وضوح وصراحة: لقد بِِعْنا مجموعة من مجلاتكم وأعدنا الأعداد التي لم يقع بيعها، فالرجاء منكم أن ترسلوا إلينا من يصفي هذا الحساب، ويتسلم الأعداد التي لم يقع بيعها.

وعندما عدت إلى الرباط أخبرت الملحق الثقافي بما قال لي المكلف بالتوزيع في تلك الشركة واقترحت عليه أن يرسل إلى الرباط شاحنة لجلب تلك المجلات ويستلم المقابل المالي لما قد وقع بيعه منها فقال لي: هذا أمر يحتاج إلى موظف خاص ومكان في مقر الثقافة وإلى (ظُروفٍ) وكاتب وساع يوصلها إلى البريد... وظل يسرد لي المعوقات التي برر بها عدم قبوله لهذا الحل الثقافي الذي لم أعرف ماذا تمَّ في شأنه إلى الآن.
رحم الله محمد الحليوي الذي جرّنا ذكره إلى هذه المسالك، التي لم نَرَ فيها إلا المهالك.


نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 07 - 10 - 2012
أعلى