الحبيب بوزكوره - نور الدين صمود كما عرفته

- شهادات ومذكرات وشخصيات



أخي نور الدين... متى عرفتك؟.. وكيف عرفتك؟..

سؤال غريب قد لا يخطر على البال.. ولكنه يمكن أن يُطرحَ..

ثمانون سنة مرّت... أو ما يقارب ذلك حين كنا نجلس جنبا إلى جنب ونحن طفلان صغيران بكتاب المرحوم محمد بن حميدة (عرفي الشايب) الذي يقع بالمدينة العتيقة قرب (صبّاط السعفي) المأسوف عليه... وهو الآن دكان لإصلاح الأحذية... وكان يجلس قربنا شقيقك الراحل منير...

كنا نجلس في ركن ملاصق (لدكانة) المؤدب يواجهنا زميلنا الممثل الراحل محمد رشيد قارة ثم التحق بكتابنا الحبيب الجنحاني إثر الحرب العالمية الثانية ولم نكن قد رأيناه قبل ذلك.

وبالإضافة إلى زمالتنا في الكتاب فقد كنا متجاورين. فمنزلنا يقع مواجها لحمام آل صمود أو(الصمامدة) ومنزلكم يقع بهذا الحيّ قرب قهوة الشيخ... حيث كنا نلتقي في أوقات دون مواعيد محدّدة، وكان يلازمنا باستمرار خارج ذلك الكتاب ابن عمّك وصديقي العزيز الراحل الحبيب.

كنت تحدثني دائما عن الأيام السعيدة التي كنت تقضيها مع أسرتك بالريف المسمى عندكم (هنشير القبة)، بحكم أن الأسرة كانت ترحل إليه في بداية فصل الربيع إلى نهاية موسم الحصاد... وتتخلل ذلك هواية صيد الطيور بمختلف أنواعها وطرق صيدها وتربية ما يستحق التربية لسماع أصواتها العذبة أو لصيدها والصيد بها ...

إنّ عائلة صمود اشتهرت بممارستها لهواية صيد الطيور وتربية الطيور الجارحة مثل الساف والصقر، ولم يشذَّ منهم عن هذه الهواية إلا نور الدين رغم اكتسابه لدراية واطلاع واسع بأصناف الطيور وطبائعها وخصائصها وتمييز ما بينها بمجرد سماع أصواتها .

وبانتهاء موسم الحصاد تبتدئ رحلة الصيف التي كنتَ تحدثني عنها حين تـنتـقل الأسرة إلى شاطئ البحر حيث يوجد منزلكم إلى الآن على شاطئ البحر الأبيض المتوسط ويقع على لسان صخري يُطلّ على بحر أزرقَ صاف تمتزج فيه الرمال بالصخور.. هناك حيث كنت تمرح مع أهلك وأقرانك تسبح جنبا إلى جنب مع الأسماك بجميع أنواعها وأشكالها إلى أن ينقضي فصل الصيف ثم تعود إلى قليبية مع الأسرة، لتقضوا الخريف والشتاء ثم تعود مع الأسرة إلى البادية، وهكذا دواليك قضيت الصبا وأوائل الشبيبة في هذا المحيط الرائع.

أيّام الربيع خضرة وأزهار وطيور وفراشات.. وفي أيّام الصيف بحر وأمواج وصخور ورمال وأسماك.. وفي هذا الجـوّ نشأت وترعرعت مواهب الشاعر الصديق.

ولا يفوتني في هذا المجال أن أشير إلى الإرث الشعري ـ إن صحّ هذا التعبير ـ الذي انتقل إلى نور الدين عن آبائه وأجداده، فوالده ـ رغم عدم دخوله المدارس الرسميّة ـ كان مهتما بالثقافة والأدب وقد أطلعني على مجلات وكتب أدبيّة كانت ترد من المشرق العربي يطالعها والده. كما أنّ لوالدة نور الدين أخوين شاعرين يتعاطيان كتابة الشعر الملحون ويحفظان منه الكثير وهما المرحومان: العربي صمود ومحمد صمود وهذا الأخير اشتهرت أشعاره وتغنّت بها المطربة نعمة وغيرها.

في هذا المحيط الأسري، والمحيط الطبيعي نشأ نور الدين صمود حيث أخذت براعمُ القريحة الشعريّة تنمو لتزهر فيما بعد ثمّ تثمر لتعطينا ذلك الشعر الرقيق الذي نستنشق منه عبق الريف ونسائم البحر... فتبدو الصور الشعريّة الخلابة التي تطير فيها الفراشات (وهو شاعر الفراشات كما يقال).. وما الفراشات إلاّ تلك الطيور التي عاشرها في صباه.

ويخاطب نور الدين الشاعر فيقول:

يا زورقا في نهر طيبْ * يسري به سربُ الفراشْ

كم ودّ لو ضلّ الدروبْ * في نهرها الهادي وعاشْ

كاللحن في شفة الطيور

وأوّل ديوان شعري لنور الدين صمود صدر بعنوان "رحلة في العبير" وما ذلك العبير إلاّ رواءح الريف الذي نشأ بين أحضانه ورتع فيه أيّام صباه.

ومن رحلة الصبا بريف قليبيــة وشواطئها إلى رحلة الشباب بمدينة تونس حيث انتقل نور الدين وانتقلنا معا وأصبحنا تلميذين بجامع الزيتونة نلبس الجبّة والشاشيّة وننتظم في حلقات الدرس أمام شيوخ أجلاء نتلقى عنهم تعليما تقليديا...

إلاّ أنّ الأخ نور الدين لم يكتف بما يتلقـاه من دروس جامع الزيتونة فانتظم بمدرسة التمثيل... وكان ذلك في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن الماضي وكان من أوّل طلبتها رفقة أصدقاء له منهم المرحومان جميل بن رجب، وأحمد الرمادي وغيرهما. وأعتقد أنّ لهذه المدرسة دورا هاما في ثقافة نور الدين صمود وتوجهه نحو الأدب والشعر فهناك انفتحت له آفاق أخرى.. خاصّة وأنّ تلك المدرسة كان يديرها ويشرف عليها أساتذة كبار لهم باع وإطلاع واسع في كل ما يتعلق بالأدب والمسرح خاصّة والفنّ بصفة عامّة...

وكان نور الدين يحدثني باستمرار عن دروس عبد العزيز العقربي وحسن الزمرلي ومحمد الحبيب وغيرهم. وأظنّ أنّ دروس علم العروض والقوافي والأوزان قد ترسَّخَتْ لديه وهو طالب إلى أن صار في هذا العلم مرجعا من مراجعه.

كان ختام مرحلة الزيتونة ومدرسة التمثيل شهادة التحصيل في العلوم، والمقصود بالعلوم هنا هي علوم اللغة والبلاغة والفقه مما يدرس بالزيتونة حين ذاك.

وهنا أصِلُ إلى مرحلة حاسمة من حياة نور الدين وحياتي أنا وحياة زميلين آخرين وهما: الزميل والصديق المرحوم الأستاذ صلاح الدين الغربي، ورفيق الدرس الأستاذ الزميل عبد السلام النمر.

وصلنا جميعا إلى مرحلة التعليم العالي فهل نواصله بتونس ولا مجال لذلك. ففي سنة 1955 لم تكن هناك جامعات ولا تعليم عال يتماشى مع تكويننا ومطامحنا، وهكذا قررنا نحن الأربعة شدّ الرحال إلى الشرق العربي وإلى القاهرة بالذات. نزعنا ثوب الزيتونة الجبّة والشاشيّة ولبسنا البدلة العصرية...

كان الأخ نور الدين يبدو نحيفا في بدلته... ولكنّه أنيق رقيق الملامح.

من جامع الزيتونة، في تونس 1947/48، إلى جامعة القاهرة بمصر1955-1958 ثم الجامعة اللبنانية في بيروت.1958/59حيث نال الإجازة في الأدب العربي وتاريخه.

وفي القاهرة التحق نور الدين وابن عمته صلاح الدين بجامعة القاهرة، والتحق كاتب هذه السطور بجامعة عين شمس، وبقينا متلازمين نسكن شقة واحدة إلى آخر مرحلة من تعليمنا العالي يجمعنا الوفاق والاحترام المتبادل وتجمعنا يوميا مائدة الطعام، ويفرّقنا الدرس أو النوم أو الشؤون الخاصّة.

في هذه المرحلة من الحياة كنت أنا ونور الدين متلازمين أشدّ التلازم منسجمين أذواقنا وطباعنا متقاربة إلى أقصى حدّ.. شاهدنا حفلات أم كلثوم بمسرح الأزبكية وقصر النيل، كما حضرنا حفلات لكبار المطربين والمطربات..والتقينا معا بعديد الفنانين والأدباء مثل طه حسين ومحمود بيرم التونسي وأحمد رامي وتوفيق الحكيم ومحمد القصبجي وأم كلثوم من مصر وغيرهم من اللبنانيين وفي مقدمتهم فؤاد أفرام البستاني صاحب سلسلة الروائع التي عرّف فيها بمعظم أعلام الأدب والفكر العربي.

انفتحت أمام نور الدين في هذه المرحلة من حياته آفاق جديدة سواء في دراسته الجامعيّة حيث درس على أساتذة كبار منهم طه حسين وشوقي ضيف وحسين مؤنس وسهير القلماوي وغيرهم.. أو في الحياة التي كنا نعيشها بمدينة القاهرة حيث كانت لنا صلات هنا وهناك ببعض الكتاب والشعراء والفنانين.

كان نور الدين يقرض الشعر في صمت حين ينعزل في غرفته بالشقة التيي كنا نسكنه وكان يطلعني أحيانا فيقرأ لي شيئا مما جادت به قريحته. وكنت دائما ومازلت معجبا ومشجّعا.

مرّت ثلاث سنوات بمدينة القاهرة على هذا المنوال..

وفي مستـَهَلِّ سنتنا الدراسية الرابعة والأخيرة، ونحن نعدّ أنفسنا للإجازة، حدثت أحداث سياسيّة ـ يضيق المجال لذكرها ـ اضطرتنا نحن الأربعة إلى الانتقال من مصر إلى لبنان ومن القاهرة إلى بيروت ـ وربّ ضارّة نافعة كما يقال، ـ فقد التحقنا بالجامعة اللبنانيّة التي انفتحت لنا فيها آفاق أخرى لم نكن نحلم بها. والحقيقة أنّ إخواننا في لبنان راعوا ظروفنا وساعدونا على إتمام ما جئنا من أجله وهو إحراز الإجازة في اللغة العربية وآدابها...

وتلقينا المحاضرات والدروس على أساتذة كبار منهم: :فؤاد إفرام البستاني صاحب سلسلة الروائع في الأدب العربي وبطرس البستاني، وأنطوان كرم، وبطرس ذيب وغيرهم من الأساتذة الذين ذاع صيتهم في مجال البحث في اللغة والآداب العربيّة والتاريخ.

وفي بيروت أخذ نور الدين يبرز للعيان شاعرا حيث شارك في بعض الأمسيات الشعريّة ـ فيما أذكر ـ ونال صدى وإعجابا، وفي بيروت بدأ لنور الدين حضور ثقافي "أدبي" أذكر أننا حضرنا معا إحدى الأمسيات الشعرية للأديب الشاعر الكبير بولس سلامة وسعيد عقل وغيرهما من الأدباء والشعراء..

وهكذا مرّت مرحلة بيروت سريعا كالحلم.. وعدنا إلى الوطن حاملين شهائدنا، والتحق نور الدين بالمعهد الثانوي ببنزرت والتحقت أنا بالمعهد الثانوي بصفاقس، سنة 1959.

فرقتنا ظروف العمل لكن كنّا دائما على اتصال بالمراسلة، ولديّ مجموعة من الرسائل أعتزّ بامتلاكها فقد كان نور الدين يحدّثني فيها عن ظروف عمله الجديدة وعن حياته الخاصة ونشاطه الأدبي. كما كنا نلتقي دائما أثناء العطل في مناسبات قد نختلقها.

وفي هذه الفترات من الحياة تبلورت شخصيته ونضجت قريحته الشعريّة وازداد نشاطه الأدبي. فكانت أشعاره تصدر تباعا بمجلة الفكر ومجلة الإذاعة وبعض الصحف والمجلات التونسية والمشرقيّة، وتكثف نشاطه الأدبي خلال الأمسيات الشعريّة والمحاضرات، وحضور الملتقيات والمؤتمرات الأدبية في المشرق والمغرب.

وفي مجال التعليم واصل دراساته العليا إلى أن أحرز شهادة الدكتوراه وأصبح من أبرز أساتذة كليّة الشريعة وأصول الدين.

وفي الأثناء كانت دواوينه الشعريّة تصدر الواحد تلو الآخر، وكتاباه في علم العروض هي الآن مرجع للتلاميذ والأساتذة.

وفي مجال التعليم أيضا لا يفوتني أن أشير إلى تجربة خضناها معا.

كان ذلك في صيف 1972 حين صدر إعلام من وزارة التربية في الصحف التونسيّة لمن يرغب في العمل بالتدريس بليبيا وذلك في نطاق التعاون وتشجيع البعثات التعليميّة بين البلدين، وباختصار قررنا معا خوض هذه التجربة والتحقنا للعمل بالمدارس الليبيّة، وكان لنور الدين أيضا نشاط أدبي هناك إلى جانب عمله بالتدريس ونشر بعض القصائد بجريدة الفجر الجديد وغيرها لكنه فضل عدم مواصلة عمله بليبيا. فلم يبق هناك إلاّ سنة دراسيّة واحدة.

ولا أريد أن أتوسع أكثر في الحديث عما كتبه ونشره نور الدين صمود ولا ما أذاعته الإذاعة والتلفزة التونسية من حوارات ومناقشات وأحاديث، فهذه ناحية قد يتناولها غيري من الدارسين والباحثين إلاّ أنني أريد أن أشير إلى موضوع كنت تناولته وكتبت حوله مقالا صدر في جريدة الصباح بتاريخ 05 ديسمبر 2004، تحت عنوان "الشاعر الظريف" هذا الموضوع تناول جانب الظرف والطرافة وروح النكتة في مجالس نور الدين صمود، قلت إنه كان مَعينا لا ينضب من الطرائف والنكت والنوادر.. فقد كان دائما يتميز بهذه الروح الطريفة والذاكرة الحادة والقدرة العجيبة على سرد الطرائف والنكت، وهو على مرّ السنين قد اتسعت دائرة إطلاعه، وذلك لما عرف به من تنقيب وبحث في الكتب والمجلات قديمِها وحديثها، فامتلأ زاده وازدادت خبرته في الرواية والحديث حتّى صار ـ في نظري ـ نجم كل مجلس يجمعه بأصدقائه ومريديه وإلى جانب ذلك ، فنور الدين رجل هادئ الطبع مسالم بعيد عن الحدّة حتى في أشدّ حالات النقاش.. فهو يؤمن بقوّة الحجّة لا بحجة القوّة، كما يقال. وهو أيضا ذو شخصية جذّابة يلفت نظرك بقامته الفارعة ولباسه الأنيق ولحيته السوداء قبل أن يشتعل فيها الشيب.. تراه فتجزم أنه من أهل الشعر والأدب والفنّ..

هذا هو نورالدين صمود الرجل والإنسان والشاعر كما عرفته ويمكن أن أدّعي بأنني أكثر الناس معرفة له والتصاقا به منذ طفولتنا إلى أن بلغنا هذا العمر.

تحدث عنه وحاولت ـ قدر المستطاع ـ أن ألتزم الموضوعيّة وأن لا أترك المجال لعواطفي الشخصيّة نحوه وعلاقتي الخاصّة به تطغى لتعطي صورة غير مطابقة للأصل.



بقلم الأستاذ: الحبيب بوزكوره
أعلى