أ. د. عبد الجبار الرفاعي - نمط الحياة الامتلاكي ونمط الحياة الوجودي

يميز إريكُ فروم بين نمطين متضادّين لحياة الإنسان هما: "نمط الحياة الامتلاكي، ونمط الحياة الوجودي" ينفي كلُّ واحد منهما الآخر، وتتحدّد كيفيةُ عيش الإنسان ورؤيتُه للعالَم وشبكةُ علاقاته بما حوله على أساسهما.

نمطُ الحياة الوجودي هو أن يمتلك الإنسانُ الأشياءَ لا تمتلكه، ويشبع فيها احتياجاته المتنوعة بالحدود المتوازنة المعتدلة، ويتركز سعيُه في الحياة على عدم خسرانه لذاته، وعلى امتلاء وجوده وتكريسه، عبر بناء صلة لوجوده بالوجود الحقّ المستغني عن كلِّ شيء سواه. يصف إيكهارت النمطَ الوجودي كما ينقل إريك فروم: (الوجود هو طريقة "طبخ" لـ "الولادة الذاتية للذات"، أي ذاك الذي "يتدفق في ذاته وعلى ذاته").

نمطُ الحياة الامتلاكي كيفيةٌ يختفي فيها وجودُ الإنسان الحقيقي كإنسان، ولا يُعلِن عن حضوره في الحياة إلا كشيء يستهلك الأشياءَ المادية ويتهافت عليها. تمتلكُ الإنسانَ في هذا الحضور الأشياءُ لا يمتلكها، ويقع أسيرًا لها تتحكم باحتياجاته وكلِّ شيء في حياته. في هذا النمط تفتقر حياةُ الإنسان لوجودها الحقيقي، بعد أن يستنزفها امتلاكُ الأشياء، وينهكها الإفراطُ في استهلاكها.

من أسوأ ما رأيتُ مقطعَ فيديو يصوِّر لقاءَ أصدقاء في أحدِ مجتمعات التخمة العربية، وهم يشربون نوعًا خاصًا من الشاي، يُعلِنون فيه للمشاهد أن ثمنَ الكيس الواحد منه، الذي يعمل ابريقًا واحدًا للشاي لا يكفي إلا لبضعة أشخاص، أكثر من 3700 دولار. الغريب أنهم كانوا يتبجحون في الإعلان عن ذلك بوقاحة وصفاقة تُشعِر المشاهد كأنهم يحتفلون بوليمة بهيجة. وليمةٌ ماتَ فيها الإنسانُ داخلَ الإنسان وانطفأ لديه الضميرُ الأخلاقي. لحظةَ شاهدتُهم، وهم يتفاخرون بهذا السلوك المنحط، تَقَزّزتُ من هذا المحفل المُرِيع للإفلاس الأخلاقي. بعضُ الذين يمارسون هذا السلوك الذي ينكأ جراحَ الجياع ويرقص على مواجعهم ممَنْ يصلون الجمعة، وكأنهم لا يعلمون أن التديّنَ الأخلاقي لا يحضرُ إلا حيثما تحضرُ الغيرةُ على الإنسان ويتحسّس المتديّنُ عذابات الناس.

الإنسان الأخلاقي هو مَنْ يتحسّسُ عذاباتِ الناس ويُشفِق عليهم ويسعى بحدود إمكاناته لتخفيف آلامهم. الجوعُ من أقسى ألوان العذاب، الجوعُ يفتكُ بعدد كبير من المجتمعات والأفراد، وتُضافُ للجياع كلّ يوم أعدادٌ مريعة، خاصة بعد جائحة كورونا. "وبحسب تقرير منظمة الفاو، يستمر الجوعُ في العالم العربي بالارتفاع، مع زيادة بنسبة 91.1 في المائة منذ عام 2000 ... وفي عام 2020، كان 20.5 في المائة من الأطفال دون سن الخامسة في المنطقة يعانون من التقزّم، و7.8 في المائة يعانون من الهزال". ويشير تقرير منظمة الفاو الصادر في أكتوبر 2019 إلى: "أن الآثار المجتمِعة للأزمة الغذائية والاقتصادية قد دفعت بأعداد الجوعى في جميع أنحاء العالم إلى حدودٍ قياسية عُليا أرست سابقةً تاريخية، بعدما تجاوز عدد الجياع رقم المليار".

في نمط الحياة الامتلاكي يظلّ الكائنُ البشري يلهث وهو يسعى وراء ما هو ثمين ماديًا كي يمتلكه ويستهلكه، من دون أن يصلَ إلى حالة يمتلكُ فيها شيئًا يشعرُ معه أنه حقّق ذاتَه واستغنى واكتفى، وارتوى عطشُه للحياة الروحية وللمعنى الأخلاقي والجمالي، مهما كان الشيءُ المادي الذي يمتلكه ثمينًا ونادرًا وغريبًا. يغرقُ هذا الكائنُ كلَّ يوم في الاستحواذ على الأشياء وتكديسها، بلا أن يعثرَ على شيءٍ يرتوي به نهمُهُ، بل إن أفراطَه في الاستهلاك ما هو خارج احتياجاته الضرورية، يشعرُه أنه يهرول وراءَ سراب، ويغرقُه في الملل والسأم والضجر وانعدام المعنى، وكلّما تهافت على الامتلاك اختفى حضورُه الفاعل في بناء صورةٍ أجمل للعالَم، وفشل في أن يكون سعيدًا بعد خسرانه لوجوده الحقيقي كإنسان.

نمطُ الحياة الوجودي قليلٌ اليوم بعد طغيان واجتياح النمط الامتلاكي لكلِّ شيء في حياة الإنسان، وكما يقول إريك فروم: "بما أننا نعيش في مجتمع موجه نحو الامتلاك والربح، فإننا لا نرى إلا نادرًا وجود نمط الحياة الوجودية، وترى غالبية الناس أسلوب التملك أسلوبًا طبيعيًا في الحياة، بل أسلوبًا وحيدًا للوجود. وهذا هو السبب الذي يجعل نمط الحياة الوجودية صعب الفهم من طرف، وكون كلا المفهومين متجذران في التجربة الإنسانية، ولا يمكن دراسة أحدهما بطريقة مجردة مفهومة بمعزل عن الآخر. إنهما ينعكسان في الحياة اليومية، ولهذا السبب يكون في الإمكان دراستهما بالفعل". نمطُ الحياة الوجودي قليلٌ وليس نادرًا، وإلا فبماذا نفسِّر دوافع العطاء وأعمال الخير في الأرض، البعيدة عن الدعاية والإعلان والإعلام والأغراض غير الإنسانية. ففي الأرض مَنْ يتبرع اليوم بثروة تقدر بالمليارات للأعمال الخيرية، يتبرع من أجل الإنسان بوصفه إنسانًا وكفى، بلا أن ينظر لمعتقده أو لونه أو جنسه أو ثقافته أو بلده. يهدي ثروتَه البالغة عشرات المليارات لدعم النظام الصحي والتربوي والتعليمي في بلدان فقيرة، وغير ذلك من عطاء يجعل عيشَ الناس أسهل وحياتَهم أجمل. هؤلاء الأشخاص يسعدهم العطاءُ، تسعدهم سعادةُ الإنسان، وتلك هي أسمى المعاني الروحية والأخلاقية التي تتكشّف في نمط الحياة الوجودي، ولولا ذلك لا نجد مثل هذه المبادرات الإنسانية الأخلاقية.

نمطُ الحياة الامتلاكي تغرقُ فيه مجتمعاتُ التخمة المترفة. معظمُ الحاجات في هذه المجتمعات ليست أساسية، تفتعلُها أساليبُ تسويقٍ مراوغة تبرع في غواية الإنسان وغرسِ وتنميةِ شعورٍ كاذبٍ لديه بضرورة الأشياء المعروضة للتسوق بأسعار فاحشة، على الرغم من أنها لا تشبع حاجة حقيقية، بقدر ما تكون أداةً للإشهار وإعلان التميز والتفوق.

لا يتمكّنُ الإنسانُ من الخلاصِ من كثيرٍ من الألمِ إلا بالاستغناءِ عمَّا ليس ضروريًا في الامتلاك، والكفِّ عن الإفراطِ بالاستهلاك. من أهم بواعث طغيان التباهي والغطرسة في الاستهلاك الجهلُ بطبيعة الإنسان. إعادةُ تعريف الإنسان في ضوء معطيات الفلسفة وعلم النفس والعلوم الحديثة، الذي تحدثنا عنه، يُمهِّد لانبثاق حياةٍ روحية وأخلاقية يقظة، ويحمي الإنسانَ من خسران ذاته وإهدار كرامته، والاعتداء على حقوق غيره وحرياته.

نمطُ الحياة الامتلاكي ينتهي إلى ما اصطلحنا عليه بـ "الاغتراب الميتافيزيقي" الذي هو ضربٌ من الاغتراب الوجودي يختلف عن اغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والسياسي. إنه ضياعُ كينونة الإنسان وتشرّدُها عن أصلها الوجودي. يفتقرُ الإنسانُ في وجوده الفقير المحدود إلى اتصالٍ بوجودٍ غنيّ بذاته، وعندما لا تتحقّق له مثلُ هذه الصلة الوجودية الحيوية يسقطُ في اغترابٍ وجودي. الاغترابُ الميتافيزيقي يعني أن وجودَ الذات البشرية وكمالَها لا يتحقّقان ما دامتْ مغتربةً في منفىً عن أصلها الذي هو الوجود الحقّ.

الدينُ الذي يمنحُ حياةَ الإنسان معناها الوجودي هو الدينُ الذي يتجلّى في حياة الفرد والمجتمع بتديّن عقلاني روحاني أخلاقي، تُعلِن الغيرةُ على الله حضورَها فيه بالغيرةِ على الإنسان.

هذا النمط من التديّنِ قليلُ الحضور في الحياة، إلا انه التديّنُ الوحيد الذي يُحدِث أثرًا بالغًا بإثراءِ الحياةِ بالقيمِ وبتكريسِ حالة الاعتدال والتوازن في بناء الشخصية وترشيدِ سلوكها، وخفضِ الآثار المريرة للقلق الوجودي والألم والملل والضجر في حياة الإنسان. وإن كان لا يمكن للإنسان أن يتخلّص نهائيًا من الألمِ الذي يعبثُ بحياته، على الرغم من كلِّ الجهود العظيمة للأديانِ والثقافاتِ والفنون وقيمِها السامية في خلقِ طريقة عيشٍ أمثل للإنسان.

الإنسانُ اليوم في عطشٍ لصوتِ الله في الضمير، وإشراقاتِ أنواره في القلب، وتجلياتِ جماله في الوجود. الإنسانُ اليومَ في عطشٍ للحياة الروحية وللمعنى الأخلاقي والجمالي في حياته، لأنه يعيش في عالَم يشحُّ ‏فيه هذا المعنى. الحاجةُ للدين أساسيةٌ لدى الإنسان، أحيانًا الحاجة للدين تختفي بالتنكّر لها، حتى الإلحاد يستبطنُ موقفًا متنكّرًا للحاجة للدين، وإلا لو لم يشعر الملحدُ بذلك لأهمل الإيماَن والإلحاد، ولم يتخذ موقفا إنكاريًا. يقول شارل بودلير: "لو فُقِد الدين من هذا العالم، لَوُجِد في قلب مُلحد".

الدينُ ليس بديلًا عن الطب والعلاج النفسي. الدينُ ليس بديلًا عن العلم واكتشافاته واختراعاته، الدينُ ليس بديلًا عن العقل وتفكيره الخلّاق، الدينُ ليس بديلًا عن الفلسفة وأسئلتها العميقة وأجوبتها التي تتوالد منها على الدوام أسئلةٌ جديدة، الدينُ ليس بديلًا عن الإبداع الأدبي والفني.كلُّ هذه الأشياء خارج حدود الدين، وإن كان الدينُ يتأثر ويؤثر فيها، كلُّ منها بحسبها وعلى وفق كيفيةِ فهم الدين وطريقةِ قراءة وتفسير نصوصه.

لا يعرف الحاجةَ للدين إلا من يعرف شيئًا من تعقيد الطبيعة الإنسانية وتضادّها الداخلي العميق. أقرأ وأسمعُ كلماتٍ ومواقفَ إنكارية لكلِّ شيء ينتمي للدين، ممن يتكلمون ويكتبون في كلِّ شيء بلا تخصّص في علوم الدين والفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع. هذه المواقفُ والكلماتُ لا تصدر عن تفكيرٍ متأمِّل عميق، بل يتكشّفُ فيها في الغالب تفكيرٌ تبسيطي متعجِّل، وتعكس تجاربَ شخصية قاسية عاشها هؤلاء في مجتمعات دينية مغلقة في بعض محطات حياتهم. أتحدث عن أولئك الذين يكتبون ويتكلمون عن كلِّ شيء من دون معرفةٍ دقيقة بشيء، أولئك الذين يُنكرون الدينَ بوصفه ظاهرةً أبدية في الحياة، بلا تفكير هادئ صبور، وبلا أيّ دليل.



د. عبدالجبار الرفاعي

............................

ملاحظة: هذا المقال هو الحلقة الثانية عن نمط الحياة الامتلاكي والاستهلاك العبثي، الحلقة الأولى نشرت الشهر الماضي ديسمبر 2021، بعنوان: بؤس الذائقة الاستهلاكية وتشوهها.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى