شاكر مجيد سيفو - ذاكرة ثانية ونص السيرة، نثيث دموع دجلة يغسل سوق الغزل

تبغددت في سوق الغزل في عام 1954، فانفجرت الانهار في صدري،وارتجّ دجلة في شرياني الابهر وامتدت البلاد الي حيث السماوات الثامنة، وتعرق جسدي فأصبحت عراقيا منذ تلك اللحظة، هكذا يقوي الأسم علي تأسيس تاريخه الشخصي في سجل البشرية برقم سحري يتحدث عنه فيما بعد فلاسفة الكون وكتّاب السير الذاتية، وشعراء الأزل الخالدين أمثال والت ويتمان وبابلو نيرودا واراغون وبول ايلوار ومايكوفسكي وبوشكين بعد ان يكون قد طلّق غجره خارج منطقة الثلج وبودلير ـ طبعا ـ بعيدا ًعن أزهار شره ورامبو بعيداًعن فصله الجحيمي وقريباً من اشراقاته المحتشدة في جبينه وت أس اليوت بعيدا عن الارض الخراب وقريباً من أربعاء الرماد وسان جون بيرس في كل أحتفالاته المعقدة، وريلكة بعيداًعن مراثيه و لوركا وكمنجز، ومالارمية قريباً من صفحته البيضاء………….
احتشدت الاعوام الرمادية في ركن ما من أركان منطقة سوق الغزل، لا أتذكر شيئاً واضح الملامح هناك، لكنني أستطيع أن أعود قليلاً الي الوراء، ذات يوم ـ من ايام السبعينيات عندما نزلت ضيفاً في بيت عمتي (م)قدمت الي بغداد لأنجز معاملة الجنسية العراقية، لا أتذكر ملامح الدار التي كانت تسكنها عائلة عمتي (م)، ربما كانت تقع في ركن ما وسط سوق الغزل،دار صغيرة لا تسع لأكثر من ثلاثة أفراد………..
كانت عمتي (م)من الماهرات في صناعة الكبة، اما زوجها فكان الأمهر الاول في الأدمان علي الخمرة الرديئة لهذا مات بالسكتة القلبية مثلما يموت أي ديك يصاب بأنفلونزا العذاب والفاقة والحرمان ……
في سوق الغزل عشنا سنوات لا اعرف كيف مرت، من أين أبتدأت والي أين ذهبت مثل لمحة بصر،عشت اربعة أعوام فقط، لا استطيع تفسيرها وبيان ملامحها وأهرءات ضجيجها وعبثها وملوكيتها وممتلكاتنا وعذاباتنا وحماماتها التي أسشتهدت بفعل الأنفجار الأخير الذي طال الناس والازقة والسطوح البريئة والطفولات والعصافير وطيور الحب التي ماتت في عيد الحب، الي الشمال من سوق الغزل وصولاً الي باب المعظم..ومن هناك نمرّ بمنطقة شهيرة وأسمها اللامع – عقدالنصاري، هذه هي أسماء أحياء بغداد أسماء لامعة ممتلئة بمعانيها وزاهية بمخلوقاتها وضجيج أزقتها، وبراءة طفولاتها ونقاء اناشيد مدارسها وطقوس عائلاتها ايام الاعيادالارضية والسماوية….
كان الناس الكسبة أنذاك ولا زالوا يجمعون الليل والنهار في ضجيج أسطوري يسترخي في مكان يتدفق مثل مصابيح حولاء، تحرسها مصابيح جاحظة، اتذكر تلك الفوانيس العتيقة المعلقة في اركان المدينة، مدينتنا (بغديدا)،
قره قوش، كان (متي ب)يوقد تلك الفوانيس، يأتي في المساء، حين تخيم الظلمة علي الارض، يصعد سلمه القديم المكون من درجتين او ثلاث،
لم انس ذلك المشهد المسائي طوال ايام حياتي…….
الان وبعد عشرات السنين من تلك الوحشة خطفتني الحماقات الي متاهات وسط غرباء دخلوا بلادنا واحتلوها وسرقوا ماء دجلة وعبثوا ببساطيلهم بماء الفرات وخطفواحمامات((المربعة وسوق الغزل وتحرشوا بحمامات بغداد الجديدة والبتاوين والمشتل )) انهم لا يمتون بأية صلة بمصابيحنا العزلاء هؤلاء ضجوا بعجلاتهم الهمر وهي تخترق أصواتنا وتحياتنا واعيادنا…صيفنا وشتاءنا وهي تصيب بسهامها اجساد الفاتنات من حي المنصور والبلديات وحي المعلمين و….و….و….
عشنا في سوق الغزل بشراكة نظيفة، كانت لنا دكانا لبيع الكبة يشاركنا في رزقها (العم ي س ابو(ع) والعم (أ)، وانتهي رزقنا، عندما جاءت البلدية بشفلاتها ومكائنها قصمت نصف الدكان، كانت هذه الحادثة أيام الجمهورية بزعامة الزعيم الاوحد عبد الكريم قاسم (شكرا لسدارته والخمسة فلوس التي عثروا عليها يوم رحل الي الدنيا الخالدة)،وبعد عام او ربما اكثر من الحيرة والغرابة والندم عدنا الي بغديدا،قره قوش، الي بيت قديم صغير في محلة مرحانا لا يكاد يتسع لأكثر من خمسة أفراد…. البيت القديم كان يقع مقابل بيت جدي القصاب (ش د)ويلاصق بيت ككي باهو بربر الشهير بحكاياته التاريخية وزوجته (ز ـ جيجو)الحكيمة الماهرة بطب الاعشاب، ولربما تركت خلفها كل صيدليتها العشبية، ولاتزال ابنتها (ش)تعمل علي خطي أمها (ز)..بمهارة…
عشنا في هذه الدار الي ان شاءت الاقدار والأشجار ان تقصد الخريف الذي ظل علامة فارقة في حياة تلك المرحلة، وانا الذي بنيت من تلك الشجرة علامات ليست للربيع ولا للشتاء ولا للخريف، كان الشتاء يتفرع كأغصان من بين سيان الأزقة، ويجري كما كان صوت جدي القصاب يلعلع وهو ينادي زبائنه ليقصدوا دكانه وكان ذلك كل يوم أحد يأتي الفقراء
لشراء ربع كيلو او نصف كيلو لحم ليتلذذ اولادهم الذين حرموا من الربيع الذي سقط وسط الفصول السماوية ولم يفكر به الشعراء يوم جرت الرياح عكس ما أشتهت السفن، ظل الشاعر يفكر بهرم الدار وخمول ترابها وأندثار السنوات الرمادية……
هي المحلة او الحي القديم من مدينة الشاعر الذي نشأ وترعرع فيه.



أعلى