نور الدين صمود - هل تطور الكلام العادي إلى فن الخطابة؟

في حديث سابق رأينا أن طه حسين يؤكد سبْقَ الشعر للنثر في الوجود، وقد أثبت ذلك بأدلة مقنعة، ولاحظنا أن العقاد قد أخذ عنه هذه الفكرة بنفس الأدلة التي ساقها طه حسين، لأن الشعر فنٌّ يعتمد بَقاؤه وتداوله على الحفظ والشعر سهل الحفظ، أما النثر فإنه فن يعتمد في بقائه على الكتابة، وأكد أن الإنسان قد سجل، منذ أقدم العهود عواطفه، شعرا أو ما يشبه الشعر لضمان حفظه قبل أن يعرفَ الإنسانُ الكتابة، ثم دوَّن أفكاره نثرا عندما عرف الكتابة، وبهذه الحجة قرر طه حسين أن الشعرَ سبَق النثرَ إلى الوجود، وهذه النظرية نقتنع بصحتها إذا عرفنا أن الحديث اليومي العادي الذي يدور بين الناس ليس نثرا، وأن ما قاله البشر في جميع اللغات من حديث يومي منذ وجدوا على هذه البسيطة ليس أدبا.
هذا موجز ما قدمناه في حديث سابق، ولكن لا يجوز لنا أن نغمط حق «الكلام العادي» الذي يجب أن ننصفه، وأن نشيد بفضل بعض الحُذاق من المتكلمين الذين نرى أن كثيرا من أحاديثهم العادية ولغة التخاطب التي يتكلمون بها قد تطورت حتى (صار لها حظ خاص من جمال ولذة فنية خاصة) كما قال عميد الأدب العربي، وذلك عندما أصبح بعضُ البارعين في الكلام يخاطبون جموع الناس بهذا المستوى الراقي من الكلام فسُميَ كلامهم (خطبة)، وحُفظ بعضه وأصبح نوعا من أنواع الأدب سموه: «فن الخطابة»، لكنه ليس شعرا ولا نثرا، ومن أشهر ما جاء فيه خطب الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام وعلى رأسها خطبته في حجة الوداع، وخطب الصحابة رضوان الله عليهم، وأشهرها خطب الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومعظمها قريب جدا من الشعر، وسنتخذ خطبة «قُسِّ بن ساعدة الإيادي» نموذجا لتلك الخطب القديمة، ونتخذها نموذجا لهذا الفن القديم الذي نزعم أنه تطور عن الكلام العادي، وقد رُوِيَتْ هذه الخطبة بعدة روايات، وذُكرت في أكثر مصادر الأدب العربي، من بينها (الروائع) لأستاذنا فؤاد أفرام البستاني التي ننقل عنها نص هذه الخطبة:
(أيها الناس
اسمعوا، وعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا،
انظروا، واذكروا، من عاش مات، ومن مات فات،
وكل ما هو آتٍ آتْ،
ليلٌ داج، ونهار ساج، وسماء ذاتُ أبراج،
ألا إن أبلغ العِظاتْ، السير في الفلواتْ، والنظر إلى الأمواتْ،
إنَّ في السماء لَخَبَرا، وإن في الأرض لَعِبَرا،
مالي أرى الناس يذهبونْ، فلا يرجعونْ،
أ رَضُوا هناك بالمُقام فأقاموا؟ أم تُركوا فناموا؟.
يا معشر إيادْ، أين الآباء والأجداد؟
وأين المريض والعُوّاد؟ وأين الفراعنة الشِّدادْ؟
أين مَن بنى وشيَّدْ؟ وزخرف ونجّدْ؟ وغره المالُ والولدْ؟
أين من طغى وبغَى؟ وجمَعَ فأوعَى؟ وقال: أنا ربكم الأعلى؟
ألمْ يكونوا أكثرَ منكم أموالا؟ وأطول منكم آجالا؟
في الذاهبين الأولِين من القرون لنا بصائرْ
لَمَّا رأيت مواردًا للموت ليس لها مصادرْ
ورأيت قومي نحوها تمضي الأصاغرُ والأكابرْ
لا يَرجِع الماضي إليَّ، ولا من الباقين غابرْ
أيقنتُ أني،لا محالةَ، حيث صار القوم صائرْ
انظرها في (الروائع) لأستاذنا فؤاد أفرام البستاني العدد2 ص21/22 بعنوان (الشعر الجاهلي نشأته فنونه صفاته...)
لقد جعل هذا الخطيب العربي القديم القسم الأول من خطبته نثرا مسجوعا يحسبه الجاهل شعرا، ثم ختمه بخمسة أبيات على بحر مجزوء الكامل، وبهذا الأسلوب البعيد عن التقرير العلمي لأنه ممزوج بالشعر والنثر، وبذلك أمكن لنا أن نقول: إن الخطابة مَنْزلة بين الشعر والنثر، وهي لا تُبطل نظرية طه حسين الذي أثبت فيها أسبقية الشعر للنثر في الوجود، ومهما يكن نصيب هذا الرأي من الصحة فإننا نجزم بأن طه حسين قد سبق العقاد في طرحه على الناس، وأنه قد أخذه عنه بدليل أنه قدمه بنفس حججه وبراهينه دون أن يشير إلى أنه أخذه أخذا كاملا عنه ولا نقول إنه سرقه بحذافيره من محاضرته التي أوضح فيها هذه النظرية.
ومن خلال هذه الخطبة التي نجد فيها المقومات الأدبية التي تمكن بعض الرواة من حفظها، وهي السجع وقِصَرُ الفقرات... نرى أن ما ارتفع ببعض الخطب من مرتبة النثر إلى مرتبة الشعر جعل معظم من عاصروا نزول القرآن يقولون إنه شعر إما جهلا بالفرق بين الشعر والسجع، وإما تنفيرا من أن يؤمن به العامة من العرب التي لا تميز بين هذا وذاك.

نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 24 - 06 - 2012
أعلى