أدب السجون أ. د. عادل الأسطة - السجن في رواية عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط»

قرأت رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط" في العام 1980، حين كنت طالب دراسات عليا في الجامعة الأردنية.
توفرت لي نسخة من طبعة أظنها صدرت في بغداد، ولما كنت أدرك أنها، لو أردت إحضارها إلى نابلس، ستصادر من الرقيب الإسرائيلي، فقد أهديتها إلى صديقة صديقتي المقيمة في إحدى مدن الجنوب في الأردن.
النسخة التي لدي من الرواية هي الطبعة السابعة (1989)، وقد صدرت عن المؤسسة العربية في بيروت، وقد اقتنيتها في 1992 وأنجزت عنها دراسة ومقالين، وفي ذلك العام قرأت الجزء الثاني من الرواية "الآن هنا.. أو شرق المتوسط مرة أخرى" (1991).
من 1980 حتى اليوم قرأت أعمالاً عديدة عن تجربة السجن، وشاهدت حلقات كثيرة تحدث فيها السجناء عن تجاربهم، ومرة وأنا أصغي إلى سجين مغربي في حلقة من "شاهد على العصر" بكيت حقاً، ولقد تذكرت رجب إسماعيل الشخصية الأساسية في رواية منيف "شرق المتوسط".
في أثناء قراءاتي لفتت نظري أعمال عديدة منها سيرة عائشة عودة في جزأيها، ومنها رواية مصطفى خليفة "القوقعة"، ومع إعجابي بهذه الأعمال إلاّ أن رواية منيف تظل تشدني حقاً.
كان السؤال الذي يراودني وأنا أقرأ الرواية هو: هل مرّ الكاتب نفسه بتجربة السجن، أم أن أوراق رجب بطل الرواية وصلت إلى المؤلف فقرأها واعتمد عليها في بناء روايته؟
وسأعرف أن الكاتب سجن فترة محددة، ولكنه كان يزور أصدقاء سجناء له، وأنه أصغى إلى مئات السجناء الذين ترددوا على بيته، ومن خلال قصة هؤلاء، ومن خلال تجربته كتب روايتيه، وعرفت أكثر من هذا: أن أم رجب في رواية "شرق المتوسط" لم تكن بعيدة عن أمه هو، وكانت هي من تغرس فيه ـ في المؤلف ـ قيم الرجولة. ببساطة: لقد استوحى شخصية أم رجب من أمه هو. وهنا يتذكر المرء مقولة نقدية مهمة: "ليس المهم الحكاية، بل كيف تروى الحكاية"، وبالتالي فإن "شرق المتوسط" حتى لو كانت تروي حكايات آخرين تظل رواية كاتبها، لأنه هو من أنجزها، في النهاية، بأسلوب فني من ابتكاره، وبلغة تعود إليه هو شخصياً.
حين يبحث المرء عن صورة السجن في الرواية فإنه يقف أمام صورة السجين، وهي متعددة، وأمام صورة السجان، وتكاد تكون واحدة، وهي صورة نمطية، وأمام العالم الخارجي وتأثير السجن عليه.
ثمة سجناء عديدون، فصورتهم ليست صورة نمطية، كما هي صورة السجّان الذي يبدو ساديّاً.
هناك سجين يعترف من أول لحظة، وآخر يصمد إلى حين، ثم ينهار من شدة التعذيب، ثالث يصمدُ حتى النهاية ويدفع حياته ثمناً دون أن يضعف أمام السجّان.
لم يكتفِ منيف بروايته في تصوير عالم السجن من الداخل: السجّان، السجين، الأقبية، حفلات التعذيب، الدم و.. و.. وإنما أتى على تأثير هذا العالم على العالم الخارجي، فصور معاناة أهل السجين: الأم والأخت وزوج الأخت وابنها. ببساطة إنّ السجن في الرواية لا يدمّر عالم السجين الشخصي، بل ينسحب إلى عالمه المحيط به: أسرته، ويدمّر العلاقات الأسريّة، أيضاً.
هذا الكلام الذي أكتبه كلام خاض فيه دارسو الرواية، وربما لم يأتِ بجديد، وقد يطالعه المرء بالتفصيل في كتاب د. سمر روحي الفيصل "السجن السياسي في الرواية العربية" (1981ط1، 1994ط2) وفي دراسات أخرى.
ولكن ما يلفت النظر هو عودة الروائي منيف إلى الخوض في الموضوع ثانية، ليس فقط من خلال إصدار جزء ثانٍ للرواية (1991) وإنما من خلال كتابته في العام 1998 مقدمة للطبعة الثانية عشرة.
وهذا يعني أن الرواية تبدو متميزة بين الروايات، فقد صدر منها أربع عشرة طبعة، عدا الطبعات المزوّرة. وهذا يعني أيضاً أن عالم السجن في العالم العربي، حتى 1998 ـ تاريخ كتابة التقديم ـ ما زال قائماً ومرعباً أيضاً.
يرى منيف في مقدمته أنه لم يقل "كل ما يجب أن يقال حول عالم السجن السياسي وما يتعرض له السجين من قسوة ومهانة في الزنازين الممتدة على كامل حوض المتوسط الجنوبي والشرقي، والتي تتزايد وتتسع سنة بعد أخرى، ما جعل الرواية توحي ولا تحكي، تشير ولا تتكلم".
ولهذا فقد عاد وكتب عن السجن مرة ثانية، ومع ما كتبه ثانية فإنه يرى أن الموضوع لا يزال "بحاجة إلى مساهمات الكثيرين". لماذا؟ "لأن عار السجن السياسي أكبر عار عربي معاصر، وقد يفوق الهزائم العسكرية، من بعض الجوانب، لأنه لا يمكن أن يواجه الهزيمة العسكرية، وحتى الهزيمة السياسية إلاّ مواطن حر".
هل كان منيف مُحِقّـاً في قوله؟
يأتي منيف في المقدمة على العنف والدكتاتورية وعدم تبادل السلطة، ويرى أن السجن سيؤدي إلى العنف، وهذا سينعكس بدوره على البلاد كلها.
توفي الكاتب بعد سقوط بغداد (2003) ولم يشهد الربيع العربي، ويخيل إليّ أنه كان صاحب رؤية بصيرة في استكشاف الآتي. لقد قاد القمع إلى ما يحدث الآن و.. و.. و.. .


أ. د. عادل الأسطة
2017-04-09




1642331327011.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى