أي مريدي
أوصيك بالمسارح تمارس فيها القنص، فما أسخاها إشباعاً لرغباتك.
هنا ستجد ضالتك المنشودة عشقاً وغزلاً:
إن شئت تذوقتها مرة، وإن شئت تذوقتها دهراً.
هل رأيت أرتال النمل غادية رائحة وهي تحمل غذاءها إلى مساكنها؟
هل تابعت أسرابَ النحل ترفرف فوق الأزهار وحول شجيرات الزعتر،
خلال الخمائل التي تؤثرها في أطيب الوديان شذى؟....
هكذا تخطر أسرابُ الحسناوات إلى حلبة الألعاب الحافلة.
ووسط تلك الشحود كثيراً ما طاش حكمي في اختيار إحداهنّ،
يمضين جماعات يتشوّقن إلى الرجال، كما يطمعن في أن يتشوّف الرجال إليهن.
حذار أيتها العفة أن تُطلي، فسوف يكون في هذه الساحة حتفك.
كنت يا رومولوس أول من بثّ الفوضى في هذا الموقع.
حين أمست من اختطفن من عشيرة «سابين»(1)، متعة للأعزاب من رجالك،
وحين كان المسرح المرمري لا تزال تعوزه الخيام الرائعة،
ولم تكن ردهاته تتوهج بعد بطلاء الزعفران الذهبي الوردي،
بل كانت كل ما تزدان به ورقات أشجار البالاتينوس(2)، التي تتناثر عليه عرضاً،
وكانت المنصة عارية من أية زينة.
كما كان القوم يجلسون على درجات معشوشبة،
تتراكم على رؤوسهم بشعرها الأشعب أوراق الأشجار المتساقطة.
ويتلفت كل منهم يمنة ويسرة،
لعله تقرّ عيناه برؤية من يتشهّاها من النسوة،
ويمتلئ بلهفته إليها قلبه.
في ذلك اليوم المشهود [يوم اختطف الرومان السابينات].
هبّ الراقص يضرب أرض المسرح بقدميه مرات ثلاث،
وحين بدأ عازف الناي يرسل أنغامه الساذجة
دوّى تصفيق القوم يجلجل جلجلة نابية.
وأومأ الملك إلى أتباعه المتلهّفين إلى اختطاف «السابينات» بالبدء،
فما أسرعَ ما وثبوا وكأنهم وحوش كاسرة، وقد تحشرجت حناجرهم بشبق عارم.
وأخذت أيديهم تهوى على مفاتن أجساد العذراوات لهفة نهمة:
كُنَّ يمامات مذعورات ينشدن الإفلات من بين مخالب صقور جارحة،
أو حملان رُضَّع يلمحن الذئب المفترس الجائع،
فزعات يهرولن هرباً بفرائص مرتعدة، وفي أعقابهن البرابرة المختطفون.
ومن فرط الخوف علاهن شحوب، وانطمس لون البشرة.
وإذا هنّ جميعاً يتولاهنّ خوف واحد، وإن كان لكل منهن مع الرعب مسلكها:
فمنهن من أخذن يشددن جدائلهن،
ومنهن من جمدن ذهلات لا يتحركن،
وواحدة تنتحب صامتة،
وثانية تصرخ عبثاً «يا أماه»،
وثالثة تجس دمعتها وتُنَهْنِه،
ورابعة تخالفهن مستسلمة، وأخرى تولي هاربة.
والموكب يمضي بعرائسه الأسيرات، يزددن فتنة رغم الذعر.
وحين تحاول إحداهن أن تتأبّى على آسرها، يضمّها إلى صدره الولهان،
يرفعها بذراعيه إلى أعلى ويناجيها:
«لِمَ تطمسين سحر عينك بالدمع،
وأنا لن أتجاوز ما فعل أبوك بأمك».
أي رومولوس
لك تهنئتي،
كنت فريداً.... تعلم وحدك كيف تسوق الأسلاب، يستملحُها كل محارب.
ومن أجل الأسلاب، أحببتُ أنا أيضاً أن أنخرط في سلك الجندية.
إذ انتقلت تلك التقاليد إلينا،
فغدت مسارحنا محفوفة بما يقع للجميلات من مخاطر.
فلا تفوتنك الحلبة حيث الجياد العريقة تتبارى،
وحيث تجد وسط الزحام مكمناً تتطلع منه إلى الحسناوات.
ولا حاجة بك إلى إيماءة رأس أو إشارة كفّ،
فأنت في غنى عن التلميح والمكاتيب.
قَرْ إلى جوارِ فاتنتك، فلا حَرَجَ عليك.
واقترب لصقَها قدر طاقتك،
واشكر زحمة الجالسين فوق الدرجات،
إذا أغلقوا السبل أمامها
فلم تجد مفرّاً من الاستسلام لدف جوارك.
بادر بتلمس موضوع يجذبها لمحاورتك.
وابدأ بما هو محط الاهتمام.
سلها في شغف مفرط:
«سيدتي، أيّ رهط من الجياد نشهد؟
واستحسن قولتها مهما كانت.
وحذار حذار،
أن تنسى التصفيق بحماس لتمثال فينوس صاحبة الجلالة.
لحظة يشرق في الموكب(3) محمولاً فوق أعناق المتبارين.
وحين تلمح ذرة غبار تهبط على ثوبها فوق الفخذ،
فبأناملك في رفق ادفعها.
وإن لم تهبط تلك الذرة،
فتوهم واحدة هبطت... وادفعها أيضاً.
مباحٌ لك كل ما تتذرع به لشدّ انتباهها.
فإذا الثوب على الأرض تدلّى وشابَهُ قذى،
فثبْ وارفعه بيديك الحاذقتين،
فقد تجزيك لقاء ما أسديت،
بما لم تنله غيرك من متعة النظر إلى ساقيها.
وتطلع حولك لتطمئن إلى أن أحداً من الجالسين خلفك
لا يلمس منكبها النعم بساقيه غزلاً،
فأهون اللفتات قد تغرى عقولهن النزقة.
وتجديك كثيراً يدك الأريبة حين تسوى حشيّتها،
أو حين تميل بمروحة تدفع عنها لفْحَ القيظِ،
أو أن ترسى لقدميها متكأ.
هذي حيلٌ من غزل العصر، يبسطها سخيّاً جوّ الملعب.
و«الفُورم» أيضاً يمنحك الفرصة كاملة،
رغم رمال الأرض المبتلة حزناً، سخطاً
حيث تراق دماء لتسري عن الجمع.
ما أكثر ما يقتحم كيوبيد الساحة،
يطلق سهماً يردي أحد النظارة،
يصرعه وهو يتحسس كفّ فتاته ويثرثر معها،
يسألها عن البرنامج، وعن أيّ فريق فاز؟
بينا هو لم يدفع ما راهن به إلا من لحظة،
وإذا السهم يعاجله، فيرسل أنّاتٍ إثر الطعنة،
وينقلب لساعته فصلاً بين فصول العرض.
*****
من عهد غير بعيد قدّم القيصر عرضاً.
يحكى معركة سالاميس البحرية بين الفرس واليونان(4)
وفدت جموع الفتية والفتيات من مشارق الأرض ومغاربها،
وكأن الخلق جميعاً قد حشروا في روما حشراً،
واعجبا
أيفتقر امرؤ في مثل هذا الجمع الغفير إلى خليل!
كم من لمسة حب غزت قلوب نفرٍ من أهل روما بسهام العاشقين الغرباء!
******
قيصر يتأهب كي يطوي تحت لوائه ما بقي من العالم خارج سطوته.
وأنت أيها المشرق النائي، لسوف تجثو إلْيوم «طرواده» تحت أقدامنا.
أبشر يا كراسوس أنت وولدك في لحديكما.
لتدفعن الجزية أيها البارثي.
وأنت أيتها البيارق التي دنسها البرابرة،
آن لك أن تنضي عنك الخزي، و ترفرفي ثانية في الأجواء(5).
فالآخذ بالثأر لنا قائد لا يبارى
يتأهب رغم حداثة سنه(6) ليشن حرباً يهابها الفتيان.
كفوا يا من تنخلع قلوبكم خشية
عن إحصاء أعياد ميلاد آلهتكم.
أنسيتم أن الإقدام ثمرة مبكرة لا يؤتاها سوى القياصرة؟
هل فاتكم أن قدرة الأرباب تنمو بخطى تسبق سني أعمارها،
فلا تبالي في انطلاقها بالعقبات الكأْداء.
فهرقل رضيعاً خنق بقبضتيه الثعبانين،
وبات جديراً بأن يعزى لأبيه جوبيتر.
وأنت يا باكخوس، كنت مازلت صبياً
عندما أرهب صولجانك الهند، فغزوتها.
أي قيصر الفتىّ
ببركات جدك وبوحي من شجاعته ستحذق توجيه جندك.
وبرعاية جدك وبوحي من شجاعته سوف يكلل النصر جبينك.
ومادام لك هذا الاسم الجليل، فالنصر حليفك.
أنت اليوم أمير الشباب(7)، وغداً أمير الشيوخ.
اذكر أخوة لك(8) سامهم العدو سوءاً،
وذُدْ عن حقوق جدّك،
بعد أن اغتصب العدو ركناً من عرشه، مستهيناً بخالد مشيئته.
لقد قلّدك جدّك السلاح، وسلاحك مشروع،
فباسم الحق والواجب يرتفع لواؤك، بينا سلاح خصمك السهام الغادرة.
قضية البارثيين خاسرة لا يساندها حق، فلتذقهم ويل الهزيمة في الحرب.
أي أبانا مارس
أي أبانا قيصر(24)
ناشدتكم وهو ينفر إلى القتال، أن تسبغا عليه البركة،
كي يضيف كنز الشرق إلى ملك لاتيوم،
فأحدكما إله، والثاني صاعد إلى الألوهية.
هاكم نبوءة فاشهدوا:
النصر نصيبك،
ونصيبي... شَدْوي أغنية النصر،
ودينك عندي أن ألهج جهراً بثنائك.
كالطود الراسخ تمضي تردد كلماتي، تُذكي بها حماس الجند.
ناشدتك، ألا تقصر همتك عن مقالي.
وأعاهدك أن أشيد بإقدام الرومان، وأندد بفرار البراثيين،
وبسهامهم تفلت منهم ذعراً من فوق صهوات جيادهم المتقهقرة.
إذا كان الفرار أيها البارثي هو سبيلك الوحيد للنصر،
فماذا تراك للهزيمة أبقيت؟
إن حربك أيها البارثي تحمل الشؤم إليك.
ولينبلجنّ لك يوم يا قيصر،
تتألق فيه بوسامتك في حلّتك الذهبية.
متصدّراً مركبتك، تجرها جياد أربعة ناصعة البياض كالجليد،
بينا يساق إليك سادتهم مكبّلين بالأغلال، وقد قطعت عليهم سبل النجاة،
فلا يفرّون كما هو دأبهم.
ليفدن الشباب المرح فتية وفتيات،
تخفق قلوبهم وهم يستشرقون موكب النصر.
فإن سألتك عذراء من بينهن عن أسماء الملوك،
أو رموز الأقاليم والجبال والأنهار المحمولة على الأكتاف،
بادر وأسهب في الوصف، ولا تقصر إجابتك على ما تسأل عنه.
وإذا غاب عنك ما تجيب به فلا تتهيب،
وأسرع بالتلفيق، وكأنك بكل أمر عليم:
«انظري
هذا التمثال الذي اكتنفت جبهته القصبات هو الفرات،
وذاك الذي تنسدل خصلاته الزرقاء الداكنة هو دجلة.
ولا تثريب عليك يا صاح إن قلت عن قوم إنهم الأرمن.
وإليك بلاد فارس التي شادها برسيس حفيد جوبيتر وداناي(25)،
وتلك مدينة في الوديان الأخمينية».
وهذا وذاك من القادة والزعماء؛
من تيبنته من بينهم فسمّه باسمه،
ومن جهلته فاخلع عليه اسماً يناسبه
******
وما أكثر ما تتيح الولائم من فرص،
ترشفون فيها إلى جوار النبيذ نشوة أخرى.
وربّ الهوى المتألق البشرة،
بذراعيه الغضتين يلفّ معانقاً
قرني باكخوس الثمل المسترخي.
وعندما يغمر النبيذ أجنحة كيوبيد العطشى،
يذعن أسيراً وينوء بحمله عاجزاً لا يبرح(11)،
ثم ما يلبث أن ينفض جناحيه ينضو عنهما البلل،
فتتطاير قطرات تقع على الصدور
وتنفذ إلى القلوب وكأنها سهامه.
النبيذ يهب الشجاعة، ويؤجج في الرجال لواعج العاطفة المشبوبة.
ينتحر الهم غريقاً في بحر من خمر، وتشرق الوجوه ضاحكة
حتى المكدود منا، تشرق روحه.. وينبض قلبه فرحاً،
انحسر الحزن عنه وانبسط جبينه.
فإله الخمر يجلو ما يخبئ معاقرها ويحل لسان الثمل،
فيثرثر في صراحة، ما أندرها في هذا العصر.
لحظتها تستلب الأنثى لبّ الذكر،
فينوس في كأس الخمر نارٌ تتوهّج في نار.
وحذار أن يستهويك خداع المصباح الخافت ساعة تثمل،
فالخمرة والعتمة يغشيان الأعين، فيطيش صواب الرائي.
وباريس لم يقض لفينوس بالتفاحة الذهبية [جائزة الجمال]،
قائلاً: «إن جمالك لا يتألق فوق جمال جونو ومينرفا»
إلا في أوج الظهيرة.
احذر فالليل يستر العيوب،
والظلمة قد تعير الشمطاء صباً.
وكما تحتكم إلى ضوء النهاء حين تنتقي الجواهر، أو تختار الصوف الأرجواني،
لًُذْ بالمثل حكماً، لتجتلي سمات الوجه واستدارة الجسد.
*****
ما أغناني عن أن أحصي لك منتديات الصيد وهي كالرمال عدّا.
ماذا أحكي عن باياي(12) وعن ساحلها،
وعن الينابيع التي تطلق أبخرة الكبريت الدافئ.
هل بلغك نبأ التعس العائد من عند النبع،
يحمل جرحاً في القلب ويصرخ: واقلباه..
واخيبة أملي، تلك مياه لا تشفي كما زعموا؟
انظر،
على مرمى البصر من روما أجمةٌ تضم معبد ديانا(13)،
مملكة يحكمها بالكف الآثم
من يجهز بالسيف على سلفه.
لاذت الربّة ديانا بالعذرية، ونفرت من كيوبيد وسهمه.
ومضت تلحق الطعنات بالعشاق.
ولن تتوقف.
*****
خطّت ثاليا ربة الفن
ـ منطلقة على عجلتين تكبر إحداهما الأخرى(14) ـ
خريطة للحب ما زالت حتى اليوم
تكشف كل مكان يمكن أن تنشر فيه شباكك.
والآن استمعوا يا صحاب، أيا كنتم وأنّى تكونون،
أصغوا لي بعقول تستوعب.
لأجودن بحذقي كله، ولأكشفن حيلاً لا تفلت منها من تستهوي القلب.
بادئ ذي بدء، لتقر الطمأنينة بين جوانحكم.
فالمرأة مهما تتأبى صيد يقتنص.
انصب شركك تظفر.
فلقد يسكن تغريد الطير في الربيع،
وينقطع صرير الجندب في الصيف،
ويعدو كلب الصيد فراراً من الأرنب البري،
قبلما تنجح المرأة في صد عاشق يجيد الغزل.
حتى من تخالها تتمنع، يمكن أن ترضخ.
وكما أن الحب المختلس للرجل لذة، فكذلك هو للمرأة لذة.
يخفق الرجل عن إخفاء مشاعره، بينا تفضله المرأة في إخفاء رغبتها.
آه، لو أمكننا أن نتماسك، ونكبح أنفسنا،
فلا نبدأ بالإقدام، ولا نسعى للمرأة نتوسل،
إذن، لا نقلب الحال وتوسّلت المرأة.
لو أنّا نتأمل دروس الكون، لسمعنا في المرج الناعم
خوار البقرة يدعو الثور،
وصهيل الفرس تنادي الجواد ذا الحوافر الصلدة.
الشهوة فينا أضعف، إن قيست بسعار المرأة،
والشعلة فينا مهما اتقدت لا تعدو حدوداً مرسومة.
وما أن بحاجة أن أحدثكم عن «بيبليس»
التي التهبت مشاعرها بعشق محرّم لأخيها(15)،
ثم كفّرت عن خطيئتها بشنق نفسها غير هيّابة.
وعن «مورْها» التي تولّهت بأبيها عن ولهٍ محظور،
لا عن حب معهود من بنت لأبيها،
فمسختها الآلهة شجيرة تحمل دمعتها اسم المر مازلنا نتضمّخ بشذاها العطر.
وفي الويدان الظليلة من غابات إيدا الكريتية،
كان فخر القطيع ثور أبيض بياض اللبن،
لا تشوبه سوى حلكة بين قرنيه،
تتمنى بقرات جنوسيا وسيدونيا أن يعلوها.
ولكم تاقت [الملكة] باسيفاي شغفاً أن تصبح يوماً للثور خدينة
وكم حقدت على البقرات الوسيمة، تتفرّسهن حاسدة واجدة؟
وما بوسع كريت ذات المائة مدينة،
أن تنكر ما كان، على أية صورة كان كذبها(16).
فلقد قيل إن باسيفاي كانت تجمع بيديها المرهفتين الأعشاب الغضة
من أنحاء المرج، تعلف بها آسر قلبها،
ولم يثنها عن أن تنخرط في القطيع ما كان لزوجها من مكانة.
وهكذا أتاحت لثور أن يستهين بمليكها مينوس.
لم تعد ثياب الملك الأرجوانية ذات جدوى لك يا باسيفاي.
أتتجملين بها وحبيبك ثور، لا يلقي بالاً للزينة؟
وما غناء المرآة عندك، آبقةً بين القطعان على سفوح الجبال؟
أتخالين أيتها العاشقة الطائشة أن جمال جدائلك المضفورة يلفت إليك معشوقك.
هلا ردّتك إلى وعيك مرآتك!
وهل تراءيت فيها غير واحدة من البشر... لا البقر؟
كيف تمنيت أيتها الملكة أن ينبت بجبينك قرنان!
أي باسيفاي،
كيف تبغين الخنا، ولدى زوجك ما يغنيك؟
وإذا كان لا معدي لك عن أن تفجري،
فلتختاري لك فاجراً من البشر.
وما تلبث الملكة أن تهجر قصرها إلى الغابات والوديان،
وكأنها على موعد في حفل صاخب أعدّه الإله باكخوس.
تحملق في كل بقرة تقع عليها عيناها وتردد:
«تبّاً لك حين تستمتعين دوني بعشيقي ومالك قلبي
أي لعوب أنت تتأودين أمامه،
فوق العشب الناعم كي تستلبي لبّه!»
وإذا الملكة تأمر ظلماً فتساق البقرة تلو البقرة،
إما للحقل لتنوء بنير المحراث،
أو للمذبح كي تنحر قربانا.
وما أكثر ما فتكت بغريماتها باسم الآلهة خداعاً ورياء،
تنشد زيفاً أن تشفى غلتها
تميل على غريمتها المذبوحة، تنتزع قلبها وتعتصره في نشوة،
وتتمتم بشماتة: هيا وأريني الآن كيف تستهوينه».
حست أوربا [أميرة فينيقيا] أن ضاجعها جوبيتر في هيئة ثور،
وتمنّت لو مسخت بقرة شأن إيو عندما واقعها رب الأرباب.
واحتالت على الثور الفاتن حتى جامعها وأودعها نطفته،
مستخفية في بقرة من خشب،
ونسلت منه دنساً لوثت به سلالتها.
لو أن إيروبي الكريتية لم تذعن لغواية ثيستيس
لا نطلق فويبوس إله الشمس في دورته(17)،
لم يكبح خيل مركبته،
ولم يرتد سريعاً صوب الفجر.
[ما أنفسه عطاء أن تقصر أنثى ملاذ هواها على رجل وحده].
«سكيللا» المولهة عشقاً(18) استلبت أباها نيسوس
حين غفا سر قواه، خصلة شعره الذهبية،
منحتها خصم أبيها عربون هواها.
فجازتها الآلهة بزمرة من كلاب مسعورة تحيط بخصرها.
وكليتمنسترا، ما إن عاد زوجها أجاممنون سالماً
من المعارك التي يشنها «مارس» براً،
ومن العواصف التي يثيرها «نبتون» بحراً،
حتى سقط صريع غدرها.
و«ميديا» الساحرة،
ما كاد زوجها [ثيسيوس] يهجرها إلى «كريوسا»(19) الكورنثية،
حتى غلا جوفها وأوغر صدرها.
[فأهدت كريوسا ثوب زفاف مسموماً] أضرم فيها النار لساعتها،
ومن ذا الذي لم يذرف على كريوسا دمعه!
لكن غليل ميديا لم يشف،
فانقضت على فلذات كبدها [من ثيسيوس] وخضّبت بدمائهم كفيها.
و«هيبوداميا» زوجة أمينتور الموتورة،
اسْتَعْدَت ولدها فينيكس(20) ليغوي عشيقة والده،
وصب أبوه عليه اللعنة، فذرف دموعاً من مقل غاض نورها.
وأنت أيتها الجياد المذعورة،
ألم تمزقي هيبوليتوس إرباً إرباً؟(21)
وأنت يا فينيوس
أو لم تسمل عيون أبنائك الأبرياء
لعمري سوف تكابد المصير عينه(22).
*****
هذي كلها جرائم بشعة، ارتكبتها نسوة أعماهن العشق.
فسعار الأنثى محموم
يسلمها إلى جنون محتوم.
هيا صاحبي لا تتردّد، فالمرأة رهنُ إشارتك.
ما أندر أن تتأبى إحداهن.
ولا تخشى هزيمة، فجميعهن بالغزل يسعدن،
من قبلت منهن، ومن تأبّت.
استعرض كل جديد من الألاعيب تستهويهن.
فما لا نملك أكثر إغراء مما نملك.
ومحاصيل حقول الآخرين أوفى،
وضروع قطيع الجار أسخى.
ابدأ بالتقرّب إلى وصيفة فاتنتك، فهي الآخذة بيدك إليها.
وتأكّد أنها كاتمة أسرار سيدتها،
وأنها جديرة بثقتك حين تأتمنها على لهوك المختلس.
أغرها بالوعود والرجاء،
فإن صدقت نيتها باتت ضالتك قريبة المنال.
وستحسن هي اختيار الموعد في ساعات الصفاء
ـ مثلما يجيد اختياره الطبيب البارع ـ
عندما تغدو السيدة مشبوبة النشوة،
كأعواد القمح المتأودة في الحقل الوفير،
وعندما يطرح القلب أشجانه ويتفتح طرباً،
فتتهيأ الفرصة لفينوس كي تتسلل بفنون الغواية.
أو لم تصمد طرواده تحت وطأة الحصار وهي مقهورة،
وما كادت تستروح [حين أوهمها العدو بالانسحاب]،
حين استقبلت الحصان مرحّبة،
بينا خصومها مستخفون في جوفه؟
على هذا النحو، بيدك أن تملك فاتنتك إن أحنقها غريمك فخانها مع أخرى
فلتأخذ على عاتقك أن تنال آسرة قلبك ثأرها منه على يديك.
حضّ وصيفتها على أن تذكى نار حنقها وهي تمشط خصلات شعرها في الصباح.
وضم إلى دفعة الشراع قوة المجداف،
وأوص الوصيفة أن ترسل زفرات الإشفاق عليها،
وهي تهمس لها وكأنما تناجي نفسها:
«من أسفٍ أنك لن تقوى على أن تردى له الصنيع بمثله!(23)»،
وأن تثير إعجابها بك،
مقسمة أن الهوى يعتصر قلبك والجوى يستعبدك.
ولكن حذار أن تتباطأ.
أسرع قبل أن يهبط الشراع وتهمد الريح،
فقد تكون عاصفة الغضب كالثلج الهش سرعان ما يذوب.
وإذا راودك شعور بأن إغواء الوصيفة قد يجديك... فتمهّل.
قد يحمل هذا الطيش بين طياته مخاطرة.
فمطارحة الغزل لأكثر من واحدة
قد تشغل حماس وصيفة بينا تصيب أخرى بالخدر
وهذه قد تحتفظ بك لنفسها،
ولا تهدأ تلك حتى تسلمك سيدتها
وهكذا قد ينتهي بك المطاف إلى حيث لم ترد.
وقد تكون هذه مخاطرة جديرة بالتجربة،
إلا أن أخلصك النصح أن تكف عن خوضها.
فلست ممن يضربون في قمم الجبال أو يسلكون السفوح الهاوية،
فلم تزل قدم شباب مضى على هدى خطاي.
ومع ذلك فإن أحسست خلال مسعاها بينكما
أن لقوامها جاذبية حماستها
فتعجل الظفر بسيدتها مرجئاً أمر وصيفتها إلى ما بعد،
وإذا لم يكن لك معدى عن مغازلتها فالزم الحذر.
إذا وثقت بنصحي فلا تدع الرياح الهوج تذرو كلماتي صوب البحر.
أيقن بقدرتك على الفوز بها قبل أن تغامر،
فمن شاركتك الإثم لن تشي برفيق خطيئتها.
والطائر يعجز عن الإفلات بعد أن يحطّ في الشباك.
والخنزير البري يخفق في التملص إن وقع في الشراك.
دع السمكة جريحة الشص عالقة به،
فإذا أخذت في الهجوم فأعاد الكرة،
ولا تبرح ساحة الوغى حتى تكلل بالنصر هامتك.
ولا تخشى غدرها متى توطأت معك في المعصية.
واستق عن طريقها أسرار سيدتها،
واحتفظ بخبيئة أمركما في الأغوار.
إن أنت فعلت،
فلن تغيب عنك لفتة تصدر عن آسرتك.
*****
ولا يخطرن ببالك أن معرفة المواسم والفصول
حكر على الملاحين ما حرى العباب،
أو على الفلاحين الكادحين في حرث حقولهم.
وكما أنت لا تنثر الحنطة في التربة العاقة في كل المواسم،
ولا تأمين لقاربك المقعر أن يكون نهباً للخضم الأخضر(24) في كل الفصول.
كذلك ليس اصطياد الصبايا مأمون العاقبة في كل الأوقات.
فهذا الذي يحسن التوقيت هو وحده من يفوز.
فلا تسع إليها يوم عيد ميلادها،
وتجنب أيام ترقب الهدايا حين يأفل شهر مارس ويولد شهر فينوس(25).
وسواء كانت حلبة الملعب كما كانت في الماضي خالية من الصور والتماثيل،
أو كانت عامرة بغنائم الملوك يتقاطر الناس إليها،
تراخ أنت والتمس مهرباً.
واعلم أن هذا الوقت مهدد بمخاطر العواصف،
لأن كوكبتي الثريا والجديين تلتقيان بأمواج البحر قرب الأفق،
فمن الحكمة أن ترجئ خطوك.
فالملاح الذي يسلم آنذاك مركبه إلى موج الخضم العميق،
قد يشقّ عليه أن ينجو ببقايا قاربه المحطم.
صل سعيك حين يفيض نهر الآليا المشئوم، بدماء جروح اللاتين،
وفي نهاية أسبوع يهود الشام حين يكفون عن البيع والشراء(26)
ولتحذر ذكرى يوم مولد فاتنتك،
ما أغبره يوماً لا مهرب فيه من تقديم هدية،
فالمرأة بارعة في سلب عشيق متلهف ثروته.
سيمر بباب عشيقتك بائع من الطغام جائل،
يعرض ما يحمله من سلع، وهي تهفو نفساً للشراء،
بينا تجلس أنت إليها مذعور الجنان.
ستحاول إيقاعك، إذ تسألك الرأيَ فيما هو معروض،
وتذكى فيك خيلاءك كي تبدو خبيراً ذوّاقة.... وتجيب.
ستغمر وجهك بالقبلات، تستجديك شراء ما يستهويها،
مقسمة ألف يمين أن سيكفيها سنين طويلة.
وما أنسبه يوماً فالسعر موات، والحاجة ماسة.
ومهما راوغت مدّعيا أنك لا تحمل في جيبك ثمنه،
ستقول «لا حرج عليك، وقع صكاً بالمبلغ».
عندها ستندم أن تعلّمت الكتابة.
وستستهديك هدية، تدعوها «كعكة مولدها».
وتعيد الكرة، لا تتحرج من اختلاق عيد آخر لمولدها
كلما شاءت اقتناء هدية.
هبها فجأة سكبت دمعاً زاعمة فقدان شيء لم يفقد.
ماذا تفعل إن قالت: «من قرطي سقط اللؤلؤ»،
بينا تعلم أن القرط من اللؤلؤ عارٍ؟
في النسوة شرهٌ إلى الاقتراض دون نية إلى السداد
تفقدك مالك ولا تمنحك حق الدائن.
عشرة أفواه، بل عشرة ألسن.
لا تكفي يا صاح كي أحصي أحابيلهن الماكرة.
*****
ابسط الشمع فوق ألواح الكتابة الملساء قبل أن تخطّ عليها الكلمات.
واهمس لكتابك بنواياك،
حمله نبض وجدانك، وانبهارك بمفاتنها،
وأضف ضراعات الحب عربوناً لتستميلها.
فمن قبل استمالت الضراعة قلب أخيل، فأعاد جثة هكتور إلى أبيه بريام.
والآلهة الغضبى، لا يحرك قلوبها غير ضراعات الضارعين.
امنح الوعود، فليس عليها حساب، وبالوعود يغدو كل امرئ ثرياً.
والأمل يعشش طويلاً في القلوب إذا غزاها،
فهو رب خادع حيناً، وحيناً نافع.
ولا تدع السكينة تخالجك إذا أنت قدمت لعشيقتك هدية.
ما أيسر أن تخذل مطمعك مادام عطاؤك قد بات في حوزتها،
دون أن تنيلك جزاء ما قدمت.
وخير لك أن تبدو دوماً وكأنك على وشك عطاء لن تمنحه،
كالحقل الجدب يضلل صاحبه،
وكالمقامر الجشع لا يتوقف عن قذف النرد إذا خسر،
لعله يرد عنه مزيداً من خسارة.
بلا هدايا مسبقة، اظفر بحب معشوقتك،
«هذا هو العناء بعينه، وهذا هو العمل الجاد»(27).
ثِق أنها ستهبك المزيد، مخافة أن يضيع ما قدمته لك عبثاً.
عجّل إذن برسالة منمقة تهزّ كلماتها أعماق وجدانها،
ولتكن رسالتك رسول هواك.
أوَ لم تقرأ سيديبي الرسالة المسطورة على التفاحة،
فإذا هي تقع أسيرة ما فاهت به؟(28)
*****
أي شباب روما،
عليكم بفنون القول الرفيعة،
لا تقصروها على موكّليكم المتوجّسين خيفة [في ساحات القضاء]،
فليست المرأة أقلّ استسلاماً لسحر البلاغة،
من القاضي الجاد أو الشيوخ المنتخبين أو جموع المستمعين.
ولكن احذر الإغراق في بلاغتك أو الإسراف في فصاحتك.
فليس غير الأحمق هو الذي يفرغ حديثاً طناناً في أذن حبيبته الرقيقة
وكأنه يخطب في حشد؟
كم من رسالة تنبض بالحماس الجيّاش أورثت النفور!
فليوح أسلوبك بالثقة والبساطة،
ولتنتق من الألفاظ المألوفة أعذبها،
لتجعلها تحسّ صوتك عند قراءتها.
فإن ردّت مكتوبك غير مقروءٍ، فلا تيأسْ،
وازدد أملاً أنها ستطالعه يوماً.
فالثور العنيد لا يقبل على الحرث إلاّ بعد الدربة،
والفرس الجموع تلفظ العنان، ثم ما تلبث أن تتقبله طيعة،
والخاتم المصوغ من حديد يتأكّل بطول المدى،
وتكرار الحرث يثلم نصل المحراث المقوس.
وأي شيء أصلب من الصخر،
وأي شيء ألين من الماء!
ومع ذلك فالماء اللين، يخرق الصخر الصلب.
ثابرْ، فبالمثابرة قد تقهر بنيلوبي نفسها(29).
وطروادة البرجامية ظلّت صامدة سنوات عشراً،
ومع ذلك سقطت.
هب أن فتاتك قرأت مخطوطك وتهاونت في الرد عليك.
فلا تهن عزيمتك.
ولا تقرها واحرص أن تتبع المخطوط بثان يحمل مزيداً من ثناء.
فمن قبلت أن تقرأ ستقبل يوماً الرد على ما قرأت.
سيأتي ذاك اليوم على رأسه.
ولا تقنط إن حاءك أول مكتوب ينهاك في عنف عن مضايقتها.
واعلم أن ما تنهاك عنه هو ما تخشى أن يقع بينا هي تهفو إليه.
وأن ما لا تنهاك عنه هو أن تلاحق سعيك.
امض في إلحاحك،
ولتحظين يوماً بضالتك.
وفي انتظار أن يجيء هذا اليوم،
إن لمحت محبوبتك تتكىء على وسادة الهودج المحمول،
اقترب منها بحرص خشية أن تسترق أذن متطفلة الاستماع إلى همساتك.
أخف مقاصد الكلمات، غلّفها ما استطعت بالغموض الماكر.
وإذا وطئت قدماها المتهاديتان أرض الرواق الفسيح،
اقترب منها وشاركها خطوها المتهادي مداعباً.
اسبقها مرة واتبعها أخرى.
أسرع تارة وتلكأ أخرى.
ولا تتردد في التسلل بين الأعمدة التي تفصل بينكما،
قاطعاً عليها خط السير أو ملصقاً جنبك بجنبها.
ولا تدعها تحسب فتنتها قد ذهبت في المسرح بدداً،
دون أن تشد إليها انتباهاً،
فثمة فوق كتفيها ما يجد بك أن ترنو إليه.
طاردها بنظرات تفصح عن إعجابك.
صل غزلك بإشارات يديك وإيماءات حاجبيك.
صفق حين يحاكي الممثل رقصة أنثى،
وزدْ تصفيقاً حين يؤدي دون العاشق أياً كان
وانهض ما نهضت
واقعد أيضاً إذا ما قعدت.
طوّع وقتك برفق مشيئة فاتنتك.
*****
ولا حاجة بك أن تصفف شعرك بالمكواة،
ولا أن ترفق سيقانك بحجر الخفاف.
دع هذا للخصيان المهللين لربتهم كوبيلي(30)
بإنشادهم المحموم الفريجي النغمات،
فالأحرى بالرجل ألا يغالي في تجمله.
فقديماً غزا ثيسيوس قلب أريداني ابنة مينوس(31)،
دون أن تُجمّل دبابيس الشعر فوديه،
ووقعت فيدرا في هوى هيبوليتوس(32) ولم يك يسرف في أناقته،
وحظي أدونيس ابن الغاب(33) والفطرة بقلب ربه الهوى فينوس.
آيتك النظافة، واترك وجنتيك لريح الحقول تلوّحهما.
ولتكن عباءة التوجا مناسبة لقدّك،
وثوبك خالياً من الشوائب،
وأربطة نعلك مشدودة.
ولتجل صفرة أسنانك حتى تتألق.
واخترك لقدمك حذاء لا تغرق فيه ولا تضل.
ولا تسلم شعرك الجعد وذقنك المهوشة ليد حلاّق خامل.
قلّم أظافرك البارزة، واطرح عنها القذى،
وانزع الشعيرات المطلة من تجوف أنفك.
ناشدتك الرفق بالناس من بخر يفوح به فمك.
ولا تحاك برائحتك عطن القطيع وراعيه، يثب إلى خياشيم الناس.
واترك ما عدا ذلك من ضروب الزينة والتأنق للغانيات،
وللذكور المتيّمين بإرضاء شهوات نظرائهم.
*****
ها هو ذا باكخوس نصير العشاق يدعو إليه منشده،
يذكي الشعلة التي احترق بها من قبل.
طوّفت أردياني ذهلة فوق رمال لم تطأها قدم
بجزيرة ناكسوس الصغيرة التي تلطم شطآنها الأمواج.
تهرول مذْ نهضت من سباتها في قميصها المسدل الفضفاض،
عارية القدمين، مسترسلة الشعر الأشقر،
معولة في وجه الأمواج الصماء
نادبة هجران حبيبها ثيسيوس.
بلل وجنتيها الرقيقتين دمع طاهر،
وما أجداها الدمع ولا العويل، وما نالا من جمالها.
كما دقّت صدرها البضّ صارخة:
«خلّفني الغادر وحدي، أي مصير يرتصدني؟»
وعبر رمال الشاطئ دوي صكّ صنوجٍ مسعورة وقرع طبولٍ محمومة.
روّعها، خنق الكلمات في فمها.
سقطت مغشياً عليها،
وتخاذل في أطرافها مسرى الدم
وإذا موكب باكخوس يطل،
يهل أتباعه بضفائرهم المتهدلة على ظهورهم،
تتقدمهم «جوقة» الساتير الداعرين،
تتلوهم ثلة تبشر بطلعة الإله.
ها هو ذا أبونا العجوز سيلينوس راعي الإله باكخوس،
ثملاً يقبض على معرفة جحشه المحدودب الظهر خشية أن يسقط،
والحورياتُ يشاغبنه فيطاردُهنّ، يهربن منه ثم يعدْ يعاكسنه.
وفارسُنا المترهّل يحثّ دابته بعصاه عبثاً،
ويسقط فوق الأرض عن صهوة جحشه الطويل الأثنين،
يتعلق برأسه، فتهلل جوقة الساتير من حوله:
«قم.. انهض يا أبانا سيلينوس».
وتطل طلعة الإله من بين عناقيد الكروم،
التي تكسو مركبة تجرها النمور المكمومة الخطم،
يقودها بأعنة من ذهب.
لم تفقد أريادني ثيسيوس وحده حين ولّى،
بل فقدت معه لون بشرتها ونبرات صوتها.
ومرات ثلاثاً حاولت أن تولّي الأدبار،
ومرات ثلاثاً أحبط الخوف مسعاها،
وارتعدت كما ترتعدُ الأعواد الجافة أمام الريح،
وارتجفت كما ترتجف قصبات الغاب وسط مياه المستنقع.
وناداها الإله بقوله:
«ما خطبك؟ وبين يديك عاشق.... أشد من ثيسيوس وفاء.
فيم الخوف يا فتاتي؟
لأهبنك السموات مهراً حتى يتطلع الناس إليك نجماً مضيئاً في السماء،
ويغدو تاجك الكريتي منارة يهتدي بها القارب الضال الحائر».
وخشية أن تراع الفتاة من نُمُورْه، وثب الإلهُ من مركبته،
فلانت الرمال تحت قديمه وهو يطؤها،
واحتواها في صدره،
[مستسلمة، إذا كانت عاجزة عن أن تقاوم].
وحملها ومضى ليختلي بها بعيداُ.
«ما أيسر على الإله أن تمضي قدرته حيث يشاء»!
في هذا المقام أنشد البعض «عشت ياهيمينايوس»!.
وهللّ البعض الآخر له «إيوهيه»(34).
بينا كان الإله يغشى عروسه فوق أريكته المقدسة.
*****
حين يتيح لك سخاء باكخوس أن تجاور امرأة في حفل شراب،
اضرع لرب شعائر الليل الماجنة، أن يحول دون أن تدير الخمر رأسك،
حتى تملك القول في كلمات مقنعة،
تلفت انتباه جارتك إلى أنك تعنيها بحديثك.
ولترسم بالخمر على المائدة كلمات الإطراء الرقيقة،
كي تطالع فيها أنها ملكت قلبك.
أرْن إلى عينيها بمقلتين تحملان الاعتراف بما يشتعل في صدرك من جوى،
فرب نظرة صامتة حبلى بأبلغ الكلم.
وكن أول من يقبض على الكأس التي لثمتها شفتاها،
وارشف من حيث رشفت،
وسارع بتناول الطعام من الصفحة التي امتدت إليها يدها،
وإذا لامست أناملها فاهصرها في رفق.
*****
واحرص أن تكسب زوجها صديقا،
ذلك أجدى لك.
تنح له عن النخب الأول إذا كان الشراب اقتراعاً(35)،
وبنفسك اخلع عليه إكليل الغار الذي يعلو هامتك.
وساء كان في مكانتك أو أدنى ادعه إلى تناول ما يطيب له من مائدتك.
ولا يفوتك أن تمنحه الصدارة في الحديث،
فالخداع تحت ستار الصداقة نهج آمن مطروق،
وإن كان نهجاً آثماً.
وارع زوج محبوبتك رعاية نظار الضياع،
يبالغون في الاهتمام بما وكل إليهم، ليستنزفوا من أصحابها مزيداً.
*****
أي مريدي
هاك نوس الشراب، فاتبعه تأمن.
احتس من الخمر ما لا يذهب بصفاء ذهنك، أو يخلّ بتوازن قدميك
واحذر نشوة تجرك إلى العراك،
وتدفع الأيدي إلى وحشي القتال.
واذكر القنطور يروريثيوس حين هوى فوق الأرض إثر ما تجرعه طيشاً من خمر(36)
فأمتع الطعام والراح ما جمع الناس على مرح لا على شجار.
عن إن كنت رخيم الصوت،
وارقص إن وهبت الرشاقة،
أسعد من حولك بما منحت من مواهب.
السكر المفرط وخيم العاقبة،
والتظاهر بالسكر زيفاً حلو الجنى.
فليتعثر لسانك البارع في حديث متلعثم،
حتى إذا بدر منك ما يعدّ تجاوزاً للياقة،
وقع وزره على الإفراط في الشراب.
ارفع كأسك وقل: «نخب سيدتي... ونخب من ينعم بجوارها في الفراش»،
بينا تسر في نفسك اللعنة على زوجها.
وحين ترفع الصحاف، ويبدأ الصحاب في الانصراف
بادر بالاقترب منها في الزحمة، فهذا أوان مبادلتها الحديث.
اجذب في رفق أطراف الكم، ومس قدمها بقدمك،
واطرح عنك حياء أهل الريف.
فما تقدم «فورتونا» ربة الحظ و«فينوس» ربة الهوى عونهما لغير المقدام الجسور.
لا ترقب أن يهبط وحي الشعر عليك،
بل ابدأ، وستأتيك الطلاقة طواعية.
مثل دور العاشق، زيف شجن الحب بمعسول القول،
فلن تلبث هي حين تؤمن بما تردده لها أن تنيلك ما تبغى.
ولا تخل أن تصديقك أمرٌ متعذّر،
فما من امرأة إلا ترى في نفسها مدعاة للعشق.
وهي مهما بلغت من القبح شأواً،
مؤمنة بأنه لم يخلق بعد من يفلت من سحر فتنتها.
ومع ذلك ما أكثر ما يقع مدعي الحب في شراك الحب حقاً،
ويتحول مؤمناً بما كان ينتحل.
وصيّتي إليكن أيتها النساء، أن تغدون لمدّعي الحب ألين عريكة،
فقد تظفرن به عاشقاً مشتعل الوجد.
آن أن يقع الفؤاد في شرك المديح البارع،
وقوع نتوءات الشاطئ في سيل الماء الجارف.
ولا تتوان عن التشبيب بسحر عينيها وجمال شعرها
ودقة أناملها ورشاقة قدميها.
فحتى أطهر العذارى يتقن إلى الإصغاء بلا انقطاع إلى من يطرى محاسنهن
والعفيفات كذلك، يغرهن أن يكون جمالهن مثار احتفاءٍ،
وإلاّ لما استخزت كل من جونو ومنيرفا،
بعد أن فازت عليهما فينوس في مباراة الجمال التي انعقدت في الغابات الفريجية
فحينما تطرى امرأة، ينشر طاووس جونو جناحيه زهواً وخيلاء.
أما إذا قنعت بالحملقة إليها في جمود، فلسوف تحجب عنك مفاتنها.
حتى فرس السباق العريقة في حلبة المباراة،
تهفو إلى أن تمشط لها معرفتها، وتهدهد عنقها.
ولتسرفْ في وعود، فطالما خدعت الوعود النساء،
واختر أي إلهٍ شئت تشهده على قسمك.
فجوبيتر في عليائه يضحك ملءَ شدقيه، على قسم العشاق الكاذب
ثم ما يلبثُ أن يأمر رياح أيولوس بأن تذروه أدراجها.
ولكم أقسم لجونو بنهر ستيكس زيفاً،
فما أحراه الآن أن يناصر من هم على شاكلته.
حقاً إنه من الخير أن تكون ثمة آلهة.
فلنؤمن إذن بوجودهم[1]،
ولنحرق لهم البخور،
ولنسكب النبيذ على المذابح العريقة،
فما كان الآلهة في سمائهم غافلين كالنيام لا يبالون.
640 وحذار أي تسيء إلى غيرك، لأنهم يرقبون أفعالك عن كثب.
رد الوديعة إلى صاحبها، والتزام بما وعدت دون احتيال،
ولا تلوث يديك آثماً بسفك دم
وإن كنت حكيماً فلا تخدع سوى النساء، كي تخلص من المتاعب.
واحفظ عهد إلا فيما تقطعه لهنّ،
فلا بأس عليك أن تخدع الخادعات:
ففي أغلبهن الشر، فلندعهن يقعن فيما ينصبنه من فخاخ.
يحكى أن مصر قد نضب من سمائها المطر،
وعاشت أرضها ظمأى تسع سنوات عجاف،
فاقترب ثراسيوس من بوزيريس،
يعرض استرضاء رب الأرباب بسفح دم غريب.
فرد بوزيريس قائلاً: «لأنت الغريب،
ولتكونن اول ضحية لرب الأرباب، وبك تمنح مصر الماء».
وقضى فالاريس بأن يحشر بيريلوس في جوف الثور، ليكتوى بما صنعت يداه[2]
فكان صانع الشؤم أول من اختبر صنيع يديه.
بوزيريس وفالاريس، كلاهما عادل،
فليس أكثر عدالة من قانون يقضي بموت من أملت عبقريته عليه صنع الموت.
وليس أكثر عدالة من أن تجزى الخيانة بخيانة مثلها،
ومن أن تذوق المرأة ألم الخيانة الذي أذاقته غيرها من قبل.
الدمع سلاح يفل الحديد.
فهيئ لفتنتك ما وسعك الجهد أن تشهد وجنتيك منداتين.
660 وإن أخفقت في استدراك دمك
[فقد لا يستجيب إليك طيعاً حين تريد]،
بلل عينيك بقطرة ماء.
أي حكيم لا يمزج بين القبلات والملاطفة؟
إن تمنعا عنك القبلة، حاول أن تجنيها قسراً،
قد تلقى منها مقااومة وتسبك قائلة «يا وغد»،
بينا هي في الحق تتوق لأن تستسلم بين يديك.
ولكن إياك أن تغلظ في القبلة المخطوفة، كي لا تدمى شفتيها الرهيفتين،
وتتيح لها أن تندد بغلظتك.
القبلة وحدها ليست غاية،
فمن لا يظفر بها يتبعها، غير جدير بأن ينعم حتى بما منح.
فيم انتظارك بعد القبلة؟
إن لم تصل السعي لبلوغ المأرب، فلا تتعلل بالحشمة، فالسر ما ينتابك من خور،
ولا ضير إن جنحت للعنف أحياناً، فكم تستطيبه النساء،
يفضلن أن يهبن مكرهات ما هن راغبات في منحه.
وما أسعدها تلك التي تأخذها على غرة،
فهي تفسر جرأتك على أنها خير تحية لها.
أما تلك التي تمضي دون أن تمسها، وكان في وسعك أن تعنف بها لتخضعها
فصدقني، أنها شقية وإن بدت سعيدة.
680 لقد ذاقت فويبي وشقيقتها هيلايرا مع السبى عنف التوأمين كاستور وبوللكس،
ومع هذا ظفرتا بأعذب متعة في كنف الأسر.
فكل مغتصبة تحس متعة مع مغتصبها
ومع أن قصة العذراء دايداميا الإسكيرية وعشيقها أخيل الهايموني ذائعة الشهرة
إلا أن ذكراها جديرة بالإلماح.
وما إن أهدت فينوس لباريس حب هيلينا،
نظير حكمه لها بجائزة الجمال تفوقاً عى جونو ومنيرفا،
ووفدت هيلينا الإغريقية إلى قصر بريام الطروادي،
حتى أقسم أمراء الإغريق جميعاً يمين الولاء لمنيلاوس زوج هيلينا جريح الفؤاد،
ومضوا معه للأثر من طرواده، فغدا عذاب فرد قضية أمة.
وعلى نحو مخز أذعن أخيل لضراعات أمه ثيتيس،
واستخفى في زي امرأة، حتى يفلت من مصير مشئوم في حرب طروادة.
أي أخيل،
ما كان غزل الصوف حرفتك،
بل شهرتك فنّ آخر... ترعاه «باللاس»،
ما لك وصناعة السلات، فما أخلق ذراعك بحمل الترس؟
وما لكفك التي ستصرع بها هيكتور «وشلات» الصوف؟
طوح بالمغزل ولفافاته المضنية بعيداً،
فقبضتك جديرة بأن تسدد رمحاً من خشب أشجار جبل بيليون.
وكانت الأميرة دايداميا في قاعة تضم أخيل متخفياً في زي أنثى،
ولم تكتشف أمره إلا بعد أن نالها غصبا.
وما كان من الممكن أن ترضخ لو لم يخمد بالعنف مقاومتها.
700 ولكن ما أسرع ما نسيت عنفه وتاقت أن يعاود الكرة،
بل لقد ناشدته أن يمكث حين اعتزم الرحيل عنها.
لكن أخيل نحى المغزل،
خلع ثياب الأنثى، وامتشق سلاح الأبطال.
ما خطبك يا دايداميا، أتستبقين هاتك عرضك قسراً بنداءات مغويوة؟
قد تخجل المرأة أحياناً من أن تبدأ،
ولكن ما اشرع أن تغمرها النشوة ساعة يأخذ الرجل بزمام المبادرة.
العاشق المغرور وحده يرقب أن تبدأ محبوبته بمغازلته.
اخط الخطوة الأولى واضرع إليها،
فكم يطيب للمرأة ما تنطوي عليه الضراعة من إطراء.
دبر لها ضريعة تحفظ لها حياءها، إذن تمنحك ما تصبو إليه.
وقديماً مضى جوبيتر نفسه ضارعاً إلى بطلات الزمن الغابر،
فلم نسمع عن إحداهن بدأت بمغازلة رب الأرباب.
ولتتراجع خطوة إذا اكتشفت أن ضراعاتك تزيدها عنتاً.
ومن النساء من يتشبثن بمن يبادر بهجرهن،
وينفرن ممن يرتمي لاصقاً بأعتابهن.
فرافقهن هوناً حتى لا يسأمنك
ولا تكشف في ضراعاتك عن رغبة في تملكهن.
وليشق الحب طريقه مقنعاً بخمار الصداقة.
فقد صادفت امرأة متمنعة ذات مرة، خدعتها الوسيلة عينها،
720 فاستحال الإعجاب عشقاً مدلهاًَ.
*****
عار أن تبقى بشرة الملاح بيضاء صافية.
الملاح الحق من يلوح بشرته وهج الشمس وملح البحر،
والفلاح الكادح وسط عراء الحقل لا تبقى بشرته بيضاء صافية
بينما يفلح الأرض بمحراثه المحدب ومسحاته الثقيلة.
والرياضي الطامح في أن يتوج هامته إكليل غار الربة بالاس،
يحرص على ألا يبدو جسده أبيض صافياً.
أما العشق فيغشى بشرة العشاق بشحوب الوجه،
وما أحمق من يتصور أن شحوب البشرة يزري بالعاشقين!
أو لم ينعم أوريون الشاحب الوجه بفتيات غابات ديركي[3]؟
وهل رفضت دافنيس[4] الشاحب غير حورية واحدة [بعدما خانها]؟
وليكن الهزال أيضاً دليل معاناتك،
ولا تستح أن تحجب خصلات شعرك اللامع تحت قلنسوة.
وليالي السهاد كفيلة بيت السقم في أجساد العشاق،
كما يبث فيها الجوى المشبوب القلق والشجن.
ولكي تبلغ تصبو إليه، تظاهر بما يبعث على الإشفاق عليك،
حتى يدرك من يصادفك أنك عاشق معنى.
أتراني أشكو أم أحذر من امتزاج الخطأ والصواب حين أقول:
740 ما أكثر ما تكون الصداقة اسماً والوفاء خرافة.
لذا، ليس من الفطنة النسيب بمحبوبتك أمام صديقك.
فما إن يقف على أوصافها، حتى يتسلل ليغتصب مكانك.
حقاً لم يدنس باتروكلوس بن أكترو[5] فراش صديقه أخيل،
والتزمت فيدرا بالعفة في علاقتها ببيريثوس[6].
وكذلك أحب بيلاديس هيرميونيه الحب الطاهر[7]،
الحب نفسه الذي حمله فويبوس لشقيقته باللاس،
والتوأمان كاستور وبوللكس لشقيقتهما هيلينا.
ولكني أنذرك:
إذا كان هناك من يتعلق بهذا الأمل،
فدعه يأمل أن تثمر شجرة الطرفاء تفاحاً،
ودعه يبحث عن الشهد في مجرى النهر.
فالمرء لا يعبأ بغير متعته،
وأروع متعة هي أكثرها مجلبة للعار،
تحلو إن نبعت من آلام الغير،
مهما أورثتنا من لوم أو تأنيب،
فما أغنى العاشق عن أن يكون له غريم.
أهجر حتى من تثق في وفائهم تأمن.
واحذر قريبك وأخاك ونديمك،
إنهم واخجلاها مكمن الخطر!
كنت أهم بأن أختم حديثي، لولا أن النساء قلب،
ولا مهرب من أن نتزود بألف وسيلة
كي نقوى على مواجهة أنماطهن المختلفة.
فالحقول لا تتماثل عطاء،
هذا ينتج كرماً وذاك يغل زيتوناً، والآخر يغمرنا حنطة.
وكذلك تتباين أنماط القلوب تباين ما في العالم من أشكال.
760 الحكيم هو من يكيف نفسه لوفق شتى المواقف،
وله أسوة في بروتيوس الذي يتشكل كيف شاء،
تارة موجاً أو أسداً، وتارة شجرة أو خنزيراً برياً فظاً.
ونحن نصيد السمك هنا بالرمح، وهنا بالشص،
وهناك بالحبال المشدودة في الشباك البعيدة الغور.
ونفس الحيلة لا تنجح مع كل فريسة،
فالوعل اليافع يلمح الفخ من بعد بعيد.
ناشدتك ألا تتحذلق أمام ساذجة أو تتماجن مع محصنة،
وإلا زعزعت ثقتهما بنفسيهما.
فما لتبث الأنثى التي تتهيب عاشقاً مهذباًَ
أن تؤثر الانحدار إلى أحضان وغد داعر.
*****
والآن وقد فرغت من نشيدي الأول،
فلنلق بالمرساة هنا هنيهة،
كي يخلد قاربنا للراحة قبل أن نصل الرحلة.
* أوفيد
ترجمة: د. ثروت عكاشة
راجعه على الأصل اللاتيني: د. مجدي وهبة
أوصيك بالمسارح تمارس فيها القنص، فما أسخاها إشباعاً لرغباتك.
هنا ستجد ضالتك المنشودة عشقاً وغزلاً:
إن شئت تذوقتها مرة، وإن شئت تذوقتها دهراً.
هل رأيت أرتال النمل غادية رائحة وهي تحمل غذاءها إلى مساكنها؟
هل تابعت أسرابَ النحل ترفرف فوق الأزهار وحول شجيرات الزعتر،
خلال الخمائل التي تؤثرها في أطيب الوديان شذى؟....
هكذا تخطر أسرابُ الحسناوات إلى حلبة الألعاب الحافلة.
ووسط تلك الشحود كثيراً ما طاش حكمي في اختيار إحداهنّ،
يمضين جماعات يتشوّقن إلى الرجال، كما يطمعن في أن يتشوّف الرجال إليهن.
حذار أيتها العفة أن تُطلي، فسوف يكون في هذه الساحة حتفك.
كنت يا رومولوس أول من بثّ الفوضى في هذا الموقع.
حين أمست من اختطفن من عشيرة «سابين»(1)، متعة للأعزاب من رجالك،
وحين كان المسرح المرمري لا تزال تعوزه الخيام الرائعة،
ولم تكن ردهاته تتوهج بعد بطلاء الزعفران الذهبي الوردي،
بل كانت كل ما تزدان به ورقات أشجار البالاتينوس(2)، التي تتناثر عليه عرضاً،
وكانت المنصة عارية من أية زينة.
كما كان القوم يجلسون على درجات معشوشبة،
تتراكم على رؤوسهم بشعرها الأشعب أوراق الأشجار المتساقطة.
ويتلفت كل منهم يمنة ويسرة،
لعله تقرّ عيناه برؤية من يتشهّاها من النسوة،
ويمتلئ بلهفته إليها قلبه.
في ذلك اليوم المشهود [يوم اختطف الرومان السابينات].
هبّ الراقص يضرب أرض المسرح بقدميه مرات ثلاث،
وحين بدأ عازف الناي يرسل أنغامه الساذجة
دوّى تصفيق القوم يجلجل جلجلة نابية.
وأومأ الملك إلى أتباعه المتلهّفين إلى اختطاف «السابينات» بالبدء،
فما أسرعَ ما وثبوا وكأنهم وحوش كاسرة، وقد تحشرجت حناجرهم بشبق عارم.
وأخذت أيديهم تهوى على مفاتن أجساد العذراوات لهفة نهمة:
كُنَّ يمامات مذعورات ينشدن الإفلات من بين مخالب صقور جارحة،
أو حملان رُضَّع يلمحن الذئب المفترس الجائع،
فزعات يهرولن هرباً بفرائص مرتعدة، وفي أعقابهن البرابرة المختطفون.
ومن فرط الخوف علاهن شحوب، وانطمس لون البشرة.
وإذا هنّ جميعاً يتولاهنّ خوف واحد، وإن كان لكل منهن مع الرعب مسلكها:
فمنهن من أخذن يشددن جدائلهن،
ومنهن من جمدن ذهلات لا يتحركن،
وواحدة تنتحب صامتة،
وثانية تصرخ عبثاً «يا أماه»،
وثالثة تجس دمعتها وتُنَهْنِه،
ورابعة تخالفهن مستسلمة، وأخرى تولي هاربة.
والموكب يمضي بعرائسه الأسيرات، يزددن فتنة رغم الذعر.
وحين تحاول إحداهن أن تتأبّى على آسرها، يضمّها إلى صدره الولهان،
يرفعها بذراعيه إلى أعلى ويناجيها:
«لِمَ تطمسين سحر عينك بالدمع،
وأنا لن أتجاوز ما فعل أبوك بأمك».
أي رومولوس
لك تهنئتي،
كنت فريداً.... تعلم وحدك كيف تسوق الأسلاب، يستملحُها كل محارب.
ومن أجل الأسلاب، أحببتُ أنا أيضاً أن أنخرط في سلك الجندية.
إذ انتقلت تلك التقاليد إلينا،
فغدت مسارحنا محفوفة بما يقع للجميلات من مخاطر.
فلا تفوتنك الحلبة حيث الجياد العريقة تتبارى،
وحيث تجد وسط الزحام مكمناً تتطلع منه إلى الحسناوات.
ولا حاجة بك إلى إيماءة رأس أو إشارة كفّ،
فأنت في غنى عن التلميح والمكاتيب.
قَرْ إلى جوارِ فاتنتك، فلا حَرَجَ عليك.
واقترب لصقَها قدر طاقتك،
واشكر زحمة الجالسين فوق الدرجات،
إذا أغلقوا السبل أمامها
فلم تجد مفرّاً من الاستسلام لدف جوارك.
بادر بتلمس موضوع يجذبها لمحاورتك.
وابدأ بما هو محط الاهتمام.
سلها في شغف مفرط:
«سيدتي، أيّ رهط من الجياد نشهد؟
واستحسن قولتها مهما كانت.
وحذار حذار،
أن تنسى التصفيق بحماس لتمثال فينوس صاحبة الجلالة.
لحظة يشرق في الموكب(3) محمولاً فوق أعناق المتبارين.
وحين تلمح ذرة غبار تهبط على ثوبها فوق الفخذ،
فبأناملك في رفق ادفعها.
وإن لم تهبط تلك الذرة،
فتوهم واحدة هبطت... وادفعها أيضاً.
مباحٌ لك كل ما تتذرع به لشدّ انتباهها.
فإذا الثوب على الأرض تدلّى وشابَهُ قذى،
فثبْ وارفعه بيديك الحاذقتين،
فقد تجزيك لقاء ما أسديت،
بما لم تنله غيرك من متعة النظر إلى ساقيها.
وتطلع حولك لتطمئن إلى أن أحداً من الجالسين خلفك
لا يلمس منكبها النعم بساقيه غزلاً،
فأهون اللفتات قد تغرى عقولهن النزقة.
وتجديك كثيراً يدك الأريبة حين تسوى حشيّتها،
أو حين تميل بمروحة تدفع عنها لفْحَ القيظِ،
أو أن ترسى لقدميها متكأ.
هذي حيلٌ من غزل العصر، يبسطها سخيّاً جوّ الملعب.
و«الفُورم» أيضاً يمنحك الفرصة كاملة،
رغم رمال الأرض المبتلة حزناً، سخطاً
حيث تراق دماء لتسري عن الجمع.
ما أكثر ما يقتحم كيوبيد الساحة،
يطلق سهماً يردي أحد النظارة،
يصرعه وهو يتحسس كفّ فتاته ويثرثر معها،
يسألها عن البرنامج، وعن أيّ فريق فاز؟
بينا هو لم يدفع ما راهن به إلا من لحظة،
وإذا السهم يعاجله، فيرسل أنّاتٍ إثر الطعنة،
وينقلب لساعته فصلاً بين فصول العرض.
*****
من عهد غير بعيد قدّم القيصر عرضاً.
يحكى معركة سالاميس البحرية بين الفرس واليونان(4)
وفدت جموع الفتية والفتيات من مشارق الأرض ومغاربها،
وكأن الخلق جميعاً قد حشروا في روما حشراً،
واعجبا
أيفتقر امرؤ في مثل هذا الجمع الغفير إلى خليل!
كم من لمسة حب غزت قلوب نفرٍ من أهل روما بسهام العاشقين الغرباء!
******
قيصر يتأهب كي يطوي تحت لوائه ما بقي من العالم خارج سطوته.
وأنت أيها المشرق النائي، لسوف تجثو إلْيوم «طرواده» تحت أقدامنا.
أبشر يا كراسوس أنت وولدك في لحديكما.
لتدفعن الجزية أيها البارثي.
وأنت أيتها البيارق التي دنسها البرابرة،
آن لك أن تنضي عنك الخزي، و ترفرفي ثانية في الأجواء(5).
فالآخذ بالثأر لنا قائد لا يبارى
يتأهب رغم حداثة سنه(6) ليشن حرباً يهابها الفتيان.
كفوا يا من تنخلع قلوبكم خشية
عن إحصاء أعياد ميلاد آلهتكم.
أنسيتم أن الإقدام ثمرة مبكرة لا يؤتاها سوى القياصرة؟
هل فاتكم أن قدرة الأرباب تنمو بخطى تسبق سني أعمارها،
فلا تبالي في انطلاقها بالعقبات الكأْداء.
فهرقل رضيعاً خنق بقبضتيه الثعبانين،
وبات جديراً بأن يعزى لأبيه جوبيتر.
وأنت يا باكخوس، كنت مازلت صبياً
عندما أرهب صولجانك الهند، فغزوتها.
أي قيصر الفتىّ
ببركات جدك وبوحي من شجاعته ستحذق توجيه جندك.
وبرعاية جدك وبوحي من شجاعته سوف يكلل النصر جبينك.
ومادام لك هذا الاسم الجليل، فالنصر حليفك.
أنت اليوم أمير الشباب(7)، وغداً أمير الشيوخ.
اذكر أخوة لك(8) سامهم العدو سوءاً،
وذُدْ عن حقوق جدّك،
بعد أن اغتصب العدو ركناً من عرشه، مستهيناً بخالد مشيئته.
لقد قلّدك جدّك السلاح، وسلاحك مشروع،
فباسم الحق والواجب يرتفع لواؤك، بينا سلاح خصمك السهام الغادرة.
قضية البارثيين خاسرة لا يساندها حق، فلتذقهم ويل الهزيمة في الحرب.
أي أبانا مارس
أي أبانا قيصر(24)
ناشدتكم وهو ينفر إلى القتال، أن تسبغا عليه البركة،
كي يضيف كنز الشرق إلى ملك لاتيوم،
فأحدكما إله، والثاني صاعد إلى الألوهية.
هاكم نبوءة فاشهدوا:
النصر نصيبك،
ونصيبي... شَدْوي أغنية النصر،
ودينك عندي أن ألهج جهراً بثنائك.
كالطود الراسخ تمضي تردد كلماتي، تُذكي بها حماس الجند.
ناشدتك، ألا تقصر همتك عن مقالي.
وأعاهدك أن أشيد بإقدام الرومان، وأندد بفرار البراثيين،
وبسهامهم تفلت منهم ذعراً من فوق صهوات جيادهم المتقهقرة.
إذا كان الفرار أيها البارثي هو سبيلك الوحيد للنصر،
فماذا تراك للهزيمة أبقيت؟
إن حربك أيها البارثي تحمل الشؤم إليك.
ولينبلجنّ لك يوم يا قيصر،
تتألق فيه بوسامتك في حلّتك الذهبية.
متصدّراً مركبتك، تجرها جياد أربعة ناصعة البياض كالجليد،
بينا يساق إليك سادتهم مكبّلين بالأغلال، وقد قطعت عليهم سبل النجاة،
فلا يفرّون كما هو دأبهم.
ليفدن الشباب المرح فتية وفتيات،
تخفق قلوبهم وهم يستشرقون موكب النصر.
فإن سألتك عذراء من بينهن عن أسماء الملوك،
أو رموز الأقاليم والجبال والأنهار المحمولة على الأكتاف،
بادر وأسهب في الوصف، ولا تقصر إجابتك على ما تسأل عنه.
وإذا غاب عنك ما تجيب به فلا تتهيب،
وأسرع بالتلفيق، وكأنك بكل أمر عليم:
«انظري
هذا التمثال الذي اكتنفت جبهته القصبات هو الفرات،
وذاك الذي تنسدل خصلاته الزرقاء الداكنة هو دجلة.
ولا تثريب عليك يا صاح إن قلت عن قوم إنهم الأرمن.
وإليك بلاد فارس التي شادها برسيس حفيد جوبيتر وداناي(25)،
وتلك مدينة في الوديان الأخمينية».
وهذا وذاك من القادة والزعماء؛
من تيبنته من بينهم فسمّه باسمه،
ومن جهلته فاخلع عليه اسماً يناسبه
******
وما أكثر ما تتيح الولائم من فرص،
ترشفون فيها إلى جوار النبيذ نشوة أخرى.
وربّ الهوى المتألق البشرة،
بذراعيه الغضتين يلفّ معانقاً
قرني باكخوس الثمل المسترخي.
وعندما يغمر النبيذ أجنحة كيوبيد العطشى،
يذعن أسيراً وينوء بحمله عاجزاً لا يبرح(11)،
ثم ما يلبث أن ينفض جناحيه ينضو عنهما البلل،
فتتطاير قطرات تقع على الصدور
وتنفذ إلى القلوب وكأنها سهامه.
النبيذ يهب الشجاعة، ويؤجج في الرجال لواعج العاطفة المشبوبة.
ينتحر الهم غريقاً في بحر من خمر، وتشرق الوجوه ضاحكة
حتى المكدود منا، تشرق روحه.. وينبض قلبه فرحاً،
انحسر الحزن عنه وانبسط جبينه.
فإله الخمر يجلو ما يخبئ معاقرها ويحل لسان الثمل،
فيثرثر في صراحة، ما أندرها في هذا العصر.
لحظتها تستلب الأنثى لبّ الذكر،
فينوس في كأس الخمر نارٌ تتوهّج في نار.
وحذار أن يستهويك خداع المصباح الخافت ساعة تثمل،
فالخمرة والعتمة يغشيان الأعين، فيطيش صواب الرائي.
وباريس لم يقض لفينوس بالتفاحة الذهبية [جائزة الجمال]،
قائلاً: «إن جمالك لا يتألق فوق جمال جونو ومينرفا»
إلا في أوج الظهيرة.
احذر فالليل يستر العيوب،
والظلمة قد تعير الشمطاء صباً.
وكما تحتكم إلى ضوء النهاء حين تنتقي الجواهر، أو تختار الصوف الأرجواني،
لًُذْ بالمثل حكماً، لتجتلي سمات الوجه واستدارة الجسد.
*****
ما أغناني عن أن أحصي لك منتديات الصيد وهي كالرمال عدّا.
ماذا أحكي عن باياي(12) وعن ساحلها،
وعن الينابيع التي تطلق أبخرة الكبريت الدافئ.
هل بلغك نبأ التعس العائد من عند النبع،
يحمل جرحاً في القلب ويصرخ: واقلباه..
واخيبة أملي، تلك مياه لا تشفي كما زعموا؟
انظر،
على مرمى البصر من روما أجمةٌ تضم معبد ديانا(13)،
مملكة يحكمها بالكف الآثم
من يجهز بالسيف على سلفه.
لاذت الربّة ديانا بالعذرية، ونفرت من كيوبيد وسهمه.
ومضت تلحق الطعنات بالعشاق.
ولن تتوقف.
*****
خطّت ثاليا ربة الفن
ـ منطلقة على عجلتين تكبر إحداهما الأخرى(14) ـ
خريطة للحب ما زالت حتى اليوم
تكشف كل مكان يمكن أن تنشر فيه شباكك.
والآن استمعوا يا صحاب، أيا كنتم وأنّى تكونون،
أصغوا لي بعقول تستوعب.
لأجودن بحذقي كله، ولأكشفن حيلاً لا تفلت منها من تستهوي القلب.
بادئ ذي بدء، لتقر الطمأنينة بين جوانحكم.
فالمرأة مهما تتأبى صيد يقتنص.
انصب شركك تظفر.
فلقد يسكن تغريد الطير في الربيع،
وينقطع صرير الجندب في الصيف،
ويعدو كلب الصيد فراراً من الأرنب البري،
قبلما تنجح المرأة في صد عاشق يجيد الغزل.
حتى من تخالها تتمنع، يمكن أن ترضخ.
وكما أن الحب المختلس للرجل لذة، فكذلك هو للمرأة لذة.
يخفق الرجل عن إخفاء مشاعره، بينا تفضله المرأة في إخفاء رغبتها.
آه، لو أمكننا أن نتماسك، ونكبح أنفسنا،
فلا نبدأ بالإقدام، ولا نسعى للمرأة نتوسل،
إذن، لا نقلب الحال وتوسّلت المرأة.
لو أنّا نتأمل دروس الكون، لسمعنا في المرج الناعم
خوار البقرة يدعو الثور،
وصهيل الفرس تنادي الجواد ذا الحوافر الصلدة.
الشهوة فينا أضعف، إن قيست بسعار المرأة،
والشعلة فينا مهما اتقدت لا تعدو حدوداً مرسومة.
وما أن بحاجة أن أحدثكم عن «بيبليس»
التي التهبت مشاعرها بعشق محرّم لأخيها(15)،
ثم كفّرت عن خطيئتها بشنق نفسها غير هيّابة.
وعن «مورْها» التي تولّهت بأبيها عن ولهٍ محظور،
لا عن حب معهود من بنت لأبيها،
فمسختها الآلهة شجيرة تحمل دمعتها اسم المر مازلنا نتضمّخ بشذاها العطر.
وفي الويدان الظليلة من غابات إيدا الكريتية،
كان فخر القطيع ثور أبيض بياض اللبن،
لا تشوبه سوى حلكة بين قرنيه،
تتمنى بقرات جنوسيا وسيدونيا أن يعلوها.
ولكم تاقت [الملكة] باسيفاي شغفاً أن تصبح يوماً للثور خدينة
وكم حقدت على البقرات الوسيمة، تتفرّسهن حاسدة واجدة؟
وما بوسع كريت ذات المائة مدينة،
أن تنكر ما كان، على أية صورة كان كذبها(16).
فلقد قيل إن باسيفاي كانت تجمع بيديها المرهفتين الأعشاب الغضة
من أنحاء المرج، تعلف بها آسر قلبها،
ولم يثنها عن أن تنخرط في القطيع ما كان لزوجها من مكانة.
وهكذا أتاحت لثور أن يستهين بمليكها مينوس.
لم تعد ثياب الملك الأرجوانية ذات جدوى لك يا باسيفاي.
أتتجملين بها وحبيبك ثور، لا يلقي بالاً للزينة؟
وما غناء المرآة عندك، آبقةً بين القطعان على سفوح الجبال؟
أتخالين أيتها العاشقة الطائشة أن جمال جدائلك المضفورة يلفت إليك معشوقك.
هلا ردّتك إلى وعيك مرآتك!
وهل تراءيت فيها غير واحدة من البشر... لا البقر؟
كيف تمنيت أيتها الملكة أن ينبت بجبينك قرنان!
أي باسيفاي،
كيف تبغين الخنا، ولدى زوجك ما يغنيك؟
وإذا كان لا معدي لك عن أن تفجري،
فلتختاري لك فاجراً من البشر.
وما تلبث الملكة أن تهجر قصرها إلى الغابات والوديان،
وكأنها على موعد في حفل صاخب أعدّه الإله باكخوس.
تحملق في كل بقرة تقع عليها عيناها وتردد:
«تبّاً لك حين تستمتعين دوني بعشيقي ومالك قلبي
أي لعوب أنت تتأودين أمامه،
فوق العشب الناعم كي تستلبي لبّه!»
وإذا الملكة تأمر ظلماً فتساق البقرة تلو البقرة،
إما للحقل لتنوء بنير المحراث،
أو للمذبح كي تنحر قربانا.
وما أكثر ما فتكت بغريماتها باسم الآلهة خداعاً ورياء،
تنشد زيفاً أن تشفى غلتها
تميل على غريمتها المذبوحة، تنتزع قلبها وتعتصره في نشوة،
وتتمتم بشماتة: هيا وأريني الآن كيف تستهوينه».
حست أوربا [أميرة فينيقيا] أن ضاجعها جوبيتر في هيئة ثور،
وتمنّت لو مسخت بقرة شأن إيو عندما واقعها رب الأرباب.
واحتالت على الثور الفاتن حتى جامعها وأودعها نطفته،
مستخفية في بقرة من خشب،
ونسلت منه دنساً لوثت به سلالتها.
لو أن إيروبي الكريتية لم تذعن لغواية ثيستيس
لا نطلق فويبوس إله الشمس في دورته(17)،
لم يكبح خيل مركبته،
ولم يرتد سريعاً صوب الفجر.
[ما أنفسه عطاء أن تقصر أنثى ملاذ هواها على رجل وحده].
«سكيللا» المولهة عشقاً(18) استلبت أباها نيسوس
حين غفا سر قواه، خصلة شعره الذهبية،
منحتها خصم أبيها عربون هواها.
فجازتها الآلهة بزمرة من كلاب مسعورة تحيط بخصرها.
وكليتمنسترا، ما إن عاد زوجها أجاممنون سالماً
من المعارك التي يشنها «مارس» براً،
ومن العواصف التي يثيرها «نبتون» بحراً،
حتى سقط صريع غدرها.
و«ميديا» الساحرة،
ما كاد زوجها [ثيسيوس] يهجرها إلى «كريوسا»(19) الكورنثية،
حتى غلا جوفها وأوغر صدرها.
[فأهدت كريوسا ثوب زفاف مسموماً] أضرم فيها النار لساعتها،
ومن ذا الذي لم يذرف على كريوسا دمعه!
لكن غليل ميديا لم يشف،
فانقضت على فلذات كبدها [من ثيسيوس] وخضّبت بدمائهم كفيها.
و«هيبوداميا» زوجة أمينتور الموتورة،
اسْتَعْدَت ولدها فينيكس(20) ليغوي عشيقة والده،
وصب أبوه عليه اللعنة، فذرف دموعاً من مقل غاض نورها.
وأنت أيتها الجياد المذعورة،
ألم تمزقي هيبوليتوس إرباً إرباً؟(21)
وأنت يا فينيوس
أو لم تسمل عيون أبنائك الأبرياء
لعمري سوف تكابد المصير عينه(22).
*****
هذي كلها جرائم بشعة، ارتكبتها نسوة أعماهن العشق.
فسعار الأنثى محموم
يسلمها إلى جنون محتوم.
هيا صاحبي لا تتردّد، فالمرأة رهنُ إشارتك.
ما أندر أن تتأبى إحداهن.
ولا تخشى هزيمة، فجميعهن بالغزل يسعدن،
من قبلت منهن، ومن تأبّت.
استعرض كل جديد من الألاعيب تستهويهن.
فما لا نملك أكثر إغراء مما نملك.
ومحاصيل حقول الآخرين أوفى،
وضروع قطيع الجار أسخى.
ابدأ بالتقرّب إلى وصيفة فاتنتك، فهي الآخذة بيدك إليها.
وتأكّد أنها كاتمة أسرار سيدتها،
وأنها جديرة بثقتك حين تأتمنها على لهوك المختلس.
أغرها بالوعود والرجاء،
فإن صدقت نيتها باتت ضالتك قريبة المنال.
وستحسن هي اختيار الموعد في ساعات الصفاء
ـ مثلما يجيد اختياره الطبيب البارع ـ
عندما تغدو السيدة مشبوبة النشوة،
كأعواد القمح المتأودة في الحقل الوفير،
وعندما يطرح القلب أشجانه ويتفتح طرباً،
فتتهيأ الفرصة لفينوس كي تتسلل بفنون الغواية.
أو لم تصمد طرواده تحت وطأة الحصار وهي مقهورة،
وما كادت تستروح [حين أوهمها العدو بالانسحاب]،
حين استقبلت الحصان مرحّبة،
بينا خصومها مستخفون في جوفه؟
على هذا النحو، بيدك أن تملك فاتنتك إن أحنقها غريمك فخانها مع أخرى
فلتأخذ على عاتقك أن تنال آسرة قلبك ثأرها منه على يديك.
حضّ وصيفتها على أن تذكى نار حنقها وهي تمشط خصلات شعرها في الصباح.
وضم إلى دفعة الشراع قوة المجداف،
وأوص الوصيفة أن ترسل زفرات الإشفاق عليها،
وهي تهمس لها وكأنما تناجي نفسها:
«من أسفٍ أنك لن تقوى على أن تردى له الصنيع بمثله!(23)»،
وأن تثير إعجابها بك،
مقسمة أن الهوى يعتصر قلبك والجوى يستعبدك.
ولكن حذار أن تتباطأ.
أسرع قبل أن يهبط الشراع وتهمد الريح،
فقد تكون عاصفة الغضب كالثلج الهش سرعان ما يذوب.
وإذا راودك شعور بأن إغواء الوصيفة قد يجديك... فتمهّل.
قد يحمل هذا الطيش بين طياته مخاطرة.
فمطارحة الغزل لأكثر من واحدة
قد تشغل حماس وصيفة بينا تصيب أخرى بالخدر
وهذه قد تحتفظ بك لنفسها،
ولا تهدأ تلك حتى تسلمك سيدتها
وهكذا قد ينتهي بك المطاف إلى حيث لم ترد.
وقد تكون هذه مخاطرة جديرة بالتجربة،
إلا أن أخلصك النصح أن تكف عن خوضها.
فلست ممن يضربون في قمم الجبال أو يسلكون السفوح الهاوية،
فلم تزل قدم شباب مضى على هدى خطاي.
ومع ذلك فإن أحسست خلال مسعاها بينكما
أن لقوامها جاذبية حماستها
فتعجل الظفر بسيدتها مرجئاً أمر وصيفتها إلى ما بعد،
وإذا لم يكن لك معدى عن مغازلتها فالزم الحذر.
إذا وثقت بنصحي فلا تدع الرياح الهوج تذرو كلماتي صوب البحر.
أيقن بقدرتك على الفوز بها قبل أن تغامر،
فمن شاركتك الإثم لن تشي برفيق خطيئتها.
والطائر يعجز عن الإفلات بعد أن يحطّ في الشباك.
والخنزير البري يخفق في التملص إن وقع في الشراك.
دع السمكة جريحة الشص عالقة به،
فإذا أخذت في الهجوم فأعاد الكرة،
ولا تبرح ساحة الوغى حتى تكلل بالنصر هامتك.
ولا تخشى غدرها متى توطأت معك في المعصية.
واستق عن طريقها أسرار سيدتها،
واحتفظ بخبيئة أمركما في الأغوار.
إن أنت فعلت،
فلن تغيب عنك لفتة تصدر عن آسرتك.
*****
ولا يخطرن ببالك أن معرفة المواسم والفصول
حكر على الملاحين ما حرى العباب،
أو على الفلاحين الكادحين في حرث حقولهم.
وكما أنت لا تنثر الحنطة في التربة العاقة في كل المواسم،
ولا تأمين لقاربك المقعر أن يكون نهباً للخضم الأخضر(24) في كل الفصول.
كذلك ليس اصطياد الصبايا مأمون العاقبة في كل الأوقات.
فهذا الذي يحسن التوقيت هو وحده من يفوز.
فلا تسع إليها يوم عيد ميلادها،
وتجنب أيام ترقب الهدايا حين يأفل شهر مارس ويولد شهر فينوس(25).
وسواء كانت حلبة الملعب كما كانت في الماضي خالية من الصور والتماثيل،
أو كانت عامرة بغنائم الملوك يتقاطر الناس إليها،
تراخ أنت والتمس مهرباً.
واعلم أن هذا الوقت مهدد بمخاطر العواصف،
لأن كوكبتي الثريا والجديين تلتقيان بأمواج البحر قرب الأفق،
فمن الحكمة أن ترجئ خطوك.
فالملاح الذي يسلم آنذاك مركبه إلى موج الخضم العميق،
قد يشقّ عليه أن ينجو ببقايا قاربه المحطم.
صل سعيك حين يفيض نهر الآليا المشئوم، بدماء جروح اللاتين،
وفي نهاية أسبوع يهود الشام حين يكفون عن البيع والشراء(26)
ولتحذر ذكرى يوم مولد فاتنتك،
ما أغبره يوماً لا مهرب فيه من تقديم هدية،
فالمرأة بارعة في سلب عشيق متلهف ثروته.
سيمر بباب عشيقتك بائع من الطغام جائل،
يعرض ما يحمله من سلع، وهي تهفو نفساً للشراء،
بينا تجلس أنت إليها مذعور الجنان.
ستحاول إيقاعك، إذ تسألك الرأيَ فيما هو معروض،
وتذكى فيك خيلاءك كي تبدو خبيراً ذوّاقة.... وتجيب.
ستغمر وجهك بالقبلات، تستجديك شراء ما يستهويها،
مقسمة ألف يمين أن سيكفيها سنين طويلة.
وما أنسبه يوماً فالسعر موات، والحاجة ماسة.
ومهما راوغت مدّعيا أنك لا تحمل في جيبك ثمنه،
ستقول «لا حرج عليك، وقع صكاً بالمبلغ».
عندها ستندم أن تعلّمت الكتابة.
وستستهديك هدية، تدعوها «كعكة مولدها».
وتعيد الكرة، لا تتحرج من اختلاق عيد آخر لمولدها
كلما شاءت اقتناء هدية.
هبها فجأة سكبت دمعاً زاعمة فقدان شيء لم يفقد.
ماذا تفعل إن قالت: «من قرطي سقط اللؤلؤ»،
بينا تعلم أن القرط من اللؤلؤ عارٍ؟
في النسوة شرهٌ إلى الاقتراض دون نية إلى السداد
تفقدك مالك ولا تمنحك حق الدائن.
عشرة أفواه، بل عشرة ألسن.
لا تكفي يا صاح كي أحصي أحابيلهن الماكرة.
*****
ابسط الشمع فوق ألواح الكتابة الملساء قبل أن تخطّ عليها الكلمات.
واهمس لكتابك بنواياك،
حمله نبض وجدانك، وانبهارك بمفاتنها،
وأضف ضراعات الحب عربوناً لتستميلها.
فمن قبل استمالت الضراعة قلب أخيل، فأعاد جثة هكتور إلى أبيه بريام.
والآلهة الغضبى، لا يحرك قلوبها غير ضراعات الضارعين.
امنح الوعود، فليس عليها حساب، وبالوعود يغدو كل امرئ ثرياً.
والأمل يعشش طويلاً في القلوب إذا غزاها،
فهو رب خادع حيناً، وحيناً نافع.
ولا تدع السكينة تخالجك إذا أنت قدمت لعشيقتك هدية.
ما أيسر أن تخذل مطمعك مادام عطاؤك قد بات في حوزتها،
دون أن تنيلك جزاء ما قدمت.
وخير لك أن تبدو دوماً وكأنك على وشك عطاء لن تمنحه،
كالحقل الجدب يضلل صاحبه،
وكالمقامر الجشع لا يتوقف عن قذف النرد إذا خسر،
لعله يرد عنه مزيداً من خسارة.
بلا هدايا مسبقة، اظفر بحب معشوقتك،
«هذا هو العناء بعينه، وهذا هو العمل الجاد»(27).
ثِق أنها ستهبك المزيد، مخافة أن يضيع ما قدمته لك عبثاً.
عجّل إذن برسالة منمقة تهزّ كلماتها أعماق وجدانها،
ولتكن رسالتك رسول هواك.
أوَ لم تقرأ سيديبي الرسالة المسطورة على التفاحة،
فإذا هي تقع أسيرة ما فاهت به؟(28)
*****
أي شباب روما،
عليكم بفنون القول الرفيعة،
لا تقصروها على موكّليكم المتوجّسين خيفة [في ساحات القضاء]،
فليست المرأة أقلّ استسلاماً لسحر البلاغة،
من القاضي الجاد أو الشيوخ المنتخبين أو جموع المستمعين.
ولكن احذر الإغراق في بلاغتك أو الإسراف في فصاحتك.
فليس غير الأحمق هو الذي يفرغ حديثاً طناناً في أذن حبيبته الرقيقة
وكأنه يخطب في حشد؟
كم من رسالة تنبض بالحماس الجيّاش أورثت النفور!
فليوح أسلوبك بالثقة والبساطة،
ولتنتق من الألفاظ المألوفة أعذبها،
لتجعلها تحسّ صوتك عند قراءتها.
فإن ردّت مكتوبك غير مقروءٍ، فلا تيأسْ،
وازدد أملاً أنها ستطالعه يوماً.
فالثور العنيد لا يقبل على الحرث إلاّ بعد الدربة،
والفرس الجموع تلفظ العنان، ثم ما تلبث أن تتقبله طيعة،
والخاتم المصوغ من حديد يتأكّل بطول المدى،
وتكرار الحرث يثلم نصل المحراث المقوس.
وأي شيء أصلب من الصخر،
وأي شيء ألين من الماء!
ومع ذلك فالماء اللين، يخرق الصخر الصلب.
ثابرْ، فبالمثابرة قد تقهر بنيلوبي نفسها(29).
وطروادة البرجامية ظلّت صامدة سنوات عشراً،
ومع ذلك سقطت.
هب أن فتاتك قرأت مخطوطك وتهاونت في الرد عليك.
فلا تهن عزيمتك.
ولا تقرها واحرص أن تتبع المخطوط بثان يحمل مزيداً من ثناء.
فمن قبلت أن تقرأ ستقبل يوماً الرد على ما قرأت.
سيأتي ذاك اليوم على رأسه.
ولا تقنط إن حاءك أول مكتوب ينهاك في عنف عن مضايقتها.
واعلم أن ما تنهاك عنه هو ما تخشى أن يقع بينا هي تهفو إليه.
وأن ما لا تنهاك عنه هو أن تلاحق سعيك.
امض في إلحاحك،
ولتحظين يوماً بضالتك.
وفي انتظار أن يجيء هذا اليوم،
إن لمحت محبوبتك تتكىء على وسادة الهودج المحمول،
اقترب منها بحرص خشية أن تسترق أذن متطفلة الاستماع إلى همساتك.
أخف مقاصد الكلمات، غلّفها ما استطعت بالغموض الماكر.
وإذا وطئت قدماها المتهاديتان أرض الرواق الفسيح،
اقترب منها وشاركها خطوها المتهادي مداعباً.
اسبقها مرة واتبعها أخرى.
أسرع تارة وتلكأ أخرى.
ولا تتردد في التسلل بين الأعمدة التي تفصل بينكما،
قاطعاً عليها خط السير أو ملصقاً جنبك بجنبها.
ولا تدعها تحسب فتنتها قد ذهبت في المسرح بدداً،
دون أن تشد إليها انتباهاً،
فثمة فوق كتفيها ما يجد بك أن ترنو إليه.
طاردها بنظرات تفصح عن إعجابك.
صل غزلك بإشارات يديك وإيماءات حاجبيك.
صفق حين يحاكي الممثل رقصة أنثى،
وزدْ تصفيقاً حين يؤدي دون العاشق أياً كان
وانهض ما نهضت
واقعد أيضاً إذا ما قعدت.
طوّع وقتك برفق مشيئة فاتنتك.
*****
ولا حاجة بك أن تصفف شعرك بالمكواة،
ولا أن ترفق سيقانك بحجر الخفاف.
دع هذا للخصيان المهللين لربتهم كوبيلي(30)
بإنشادهم المحموم الفريجي النغمات،
فالأحرى بالرجل ألا يغالي في تجمله.
فقديماً غزا ثيسيوس قلب أريداني ابنة مينوس(31)،
دون أن تُجمّل دبابيس الشعر فوديه،
ووقعت فيدرا في هوى هيبوليتوس(32) ولم يك يسرف في أناقته،
وحظي أدونيس ابن الغاب(33) والفطرة بقلب ربه الهوى فينوس.
آيتك النظافة، واترك وجنتيك لريح الحقول تلوّحهما.
ولتكن عباءة التوجا مناسبة لقدّك،
وثوبك خالياً من الشوائب،
وأربطة نعلك مشدودة.
ولتجل صفرة أسنانك حتى تتألق.
واخترك لقدمك حذاء لا تغرق فيه ولا تضل.
ولا تسلم شعرك الجعد وذقنك المهوشة ليد حلاّق خامل.
قلّم أظافرك البارزة، واطرح عنها القذى،
وانزع الشعيرات المطلة من تجوف أنفك.
ناشدتك الرفق بالناس من بخر يفوح به فمك.
ولا تحاك برائحتك عطن القطيع وراعيه، يثب إلى خياشيم الناس.
واترك ما عدا ذلك من ضروب الزينة والتأنق للغانيات،
وللذكور المتيّمين بإرضاء شهوات نظرائهم.
*****
ها هو ذا باكخوس نصير العشاق يدعو إليه منشده،
يذكي الشعلة التي احترق بها من قبل.
طوّفت أردياني ذهلة فوق رمال لم تطأها قدم
بجزيرة ناكسوس الصغيرة التي تلطم شطآنها الأمواج.
تهرول مذْ نهضت من سباتها في قميصها المسدل الفضفاض،
عارية القدمين، مسترسلة الشعر الأشقر،
معولة في وجه الأمواج الصماء
نادبة هجران حبيبها ثيسيوس.
بلل وجنتيها الرقيقتين دمع طاهر،
وما أجداها الدمع ولا العويل، وما نالا من جمالها.
كما دقّت صدرها البضّ صارخة:
«خلّفني الغادر وحدي، أي مصير يرتصدني؟»
وعبر رمال الشاطئ دوي صكّ صنوجٍ مسعورة وقرع طبولٍ محمومة.
روّعها، خنق الكلمات في فمها.
سقطت مغشياً عليها،
وتخاذل في أطرافها مسرى الدم
وإذا موكب باكخوس يطل،
يهل أتباعه بضفائرهم المتهدلة على ظهورهم،
تتقدمهم «جوقة» الساتير الداعرين،
تتلوهم ثلة تبشر بطلعة الإله.
ها هو ذا أبونا العجوز سيلينوس راعي الإله باكخوس،
ثملاً يقبض على معرفة جحشه المحدودب الظهر خشية أن يسقط،
والحورياتُ يشاغبنه فيطاردُهنّ، يهربن منه ثم يعدْ يعاكسنه.
وفارسُنا المترهّل يحثّ دابته بعصاه عبثاً،
ويسقط فوق الأرض عن صهوة جحشه الطويل الأثنين،
يتعلق برأسه، فتهلل جوقة الساتير من حوله:
«قم.. انهض يا أبانا سيلينوس».
وتطل طلعة الإله من بين عناقيد الكروم،
التي تكسو مركبة تجرها النمور المكمومة الخطم،
يقودها بأعنة من ذهب.
لم تفقد أريادني ثيسيوس وحده حين ولّى،
بل فقدت معه لون بشرتها ونبرات صوتها.
ومرات ثلاثاً حاولت أن تولّي الأدبار،
ومرات ثلاثاً أحبط الخوف مسعاها،
وارتعدت كما ترتعدُ الأعواد الجافة أمام الريح،
وارتجفت كما ترتجف قصبات الغاب وسط مياه المستنقع.
وناداها الإله بقوله:
«ما خطبك؟ وبين يديك عاشق.... أشد من ثيسيوس وفاء.
فيم الخوف يا فتاتي؟
لأهبنك السموات مهراً حتى يتطلع الناس إليك نجماً مضيئاً في السماء،
ويغدو تاجك الكريتي منارة يهتدي بها القارب الضال الحائر».
وخشية أن تراع الفتاة من نُمُورْه، وثب الإلهُ من مركبته،
فلانت الرمال تحت قديمه وهو يطؤها،
واحتواها في صدره،
[مستسلمة، إذا كانت عاجزة عن أن تقاوم].
وحملها ومضى ليختلي بها بعيداُ.
«ما أيسر على الإله أن تمضي قدرته حيث يشاء»!
في هذا المقام أنشد البعض «عشت ياهيمينايوس»!.
وهللّ البعض الآخر له «إيوهيه»(34).
بينا كان الإله يغشى عروسه فوق أريكته المقدسة.
*****
حين يتيح لك سخاء باكخوس أن تجاور امرأة في حفل شراب،
اضرع لرب شعائر الليل الماجنة، أن يحول دون أن تدير الخمر رأسك،
حتى تملك القول في كلمات مقنعة،
تلفت انتباه جارتك إلى أنك تعنيها بحديثك.
ولترسم بالخمر على المائدة كلمات الإطراء الرقيقة،
كي تطالع فيها أنها ملكت قلبك.
أرْن إلى عينيها بمقلتين تحملان الاعتراف بما يشتعل في صدرك من جوى،
فرب نظرة صامتة حبلى بأبلغ الكلم.
وكن أول من يقبض على الكأس التي لثمتها شفتاها،
وارشف من حيث رشفت،
وسارع بتناول الطعام من الصفحة التي امتدت إليها يدها،
وإذا لامست أناملها فاهصرها في رفق.
*****
واحرص أن تكسب زوجها صديقا،
ذلك أجدى لك.
تنح له عن النخب الأول إذا كان الشراب اقتراعاً(35)،
وبنفسك اخلع عليه إكليل الغار الذي يعلو هامتك.
وساء كان في مكانتك أو أدنى ادعه إلى تناول ما يطيب له من مائدتك.
ولا يفوتك أن تمنحه الصدارة في الحديث،
فالخداع تحت ستار الصداقة نهج آمن مطروق،
وإن كان نهجاً آثماً.
وارع زوج محبوبتك رعاية نظار الضياع،
يبالغون في الاهتمام بما وكل إليهم، ليستنزفوا من أصحابها مزيداً.
*****
أي مريدي
هاك نوس الشراب، فاتبعه تأمن.
احتس من الخمر ما لا يذهب بصفاء ذهنك، أو يخلّ بتوازن قدميك
واحذر نشوة تجرك إلى العراك،
وتدفع الأيدي إلى وحشي القتال.
واذكر القنطور يروريثيوس حين هوى فوق الأرض إثر ما تجرعه طيشاً من خمر(36)
فأمتع الطعام والراح ما جمع الناس على مرح لا على شجار.
عن إن كنت رخيم الصوت،
وارقص إن وهبت الرشاقة،
أسعد من حولك بما منحت من مواهب.
السكر المفرط وخيم العاقبة،
والتظاهر بالسكر زيفاً حلو الجنى.
فليتعثر لسانك البارع في حديث متلعثم،
حتى إذا بدر منك ما يعدّ تجاوزاً للياقة،
وقع وزره على الإفراط في الشراب.
ارفع كأسك وقل: «نخب سيدتي... ونخب من ينعم بجوارها في الفراش»،
بينا تسر في نفسك اللعنة على زوجها.
وحين ترفع الصحاف، ويبدأ الصحاب في الانصراف
بادر بالاقترب منها في الزحمة، فهذا أوان مبادلتها الحديث.
اجذب في رفق أطراف الكم، ومس قدمها بقدمك،
واطرح عنك حياء أهل الريف.
فما تقدم «فورتونا» ربة الحظ و«فينوس» ربة الهوى عونهما لغير المقدام الجسور.
لا ترقب أن يهبط وحي الشعر عليك،
بل ابدأ، وستأتيك الطلاقة طواعية.
مثل دور العاشق، زيف شجن الحب بمعسول القول،
فلن تلبث هي حين تؤمن بما تردده لها أن تنيلك ما تبغى.
ولا تخل أن تصديقك أمرٌ متعذّر،
فما من امرأة إلا ترى في نفسها مدعاة للعشق.
وهي مهما بلغت من القبح شأواً،
مؤمنة بأنه لم يخلق بعد من يفلت من سحر فتنتها.
ومع ذلك ما أكثر ما يقع مدعي الحب في شراك الحب حقاً،
ويتحول مؤمناً بما كان ينتحل.
وصيّتي إليكن أيتها النساء، أن تغدون لمدّعي الحب ألين عريكة،
فقد تظفرن به عاشقاً مشتعل الوجد.
آن أن يقع الفؤاد في شرك المديح البارع،
وقوع نتوءات الشاطئ في سيل الماء الجارف.
ولا تتوان عن التشبيب بسحر عينيها وجمال شعرها
ودقة أناملها ورشاقة قدميها.
فحتى أطهر العذارى يتقن إلى الإصغاء بلا انقطاع إلى من يطرى محاسنهن
والعفيفات كذلك، يغرهن أن يكون جمالهن مثار احتفاءٍ،
وإلاّ لما استخزت كل من جونو ومنيرفا،
بعد أن فازت عليهما فينوس في مباراة الجمال التي انعقدت في الغابات الفريجية
فحينما تطرى امرأة، ينشر طاووس جونو جناحيه زهواً وخيلاء.
أما إذا قنعت بالحملقة إليها في جمود، فلسوف تحجب عنك مفاتنها.
حتى فرس السباق العريقة في حلبة المباراة،
تهفو إلى أن تمشط لها معرفتها، وتهدهد عنقها.
ولتسرفْ في وعود، فطالما خدعت الوعود النساء،
واختر أي إلهٍ شئت تشهده على قسمك.
فجوبيتر في عليائه يضحك ملءَ شدقيه، على قسم العشاق الكاذب
ثم ما يلبثُ أن يأمر رياح أيولوس بأن تذروه أدراجها.
ولكم أقسم لجونو بنهر ستيكس زيفاً،
فما أحراه الآن أن يناصر من هم على شاكلته.
حقاً إنه من الخير أن تكون ثمة آلهة.
فلنؤمن إذن بوجودهم[1]،
ولنحرق لهم البخور،
ولنسكب النبيذ على المذابح العريقة،
فما كان الآلهة في سمائهم غافلين كالنيام لا يبالون.
640 وحذار أي تسيء إلى غيرك، لأنهم يرقبون أفعالك عن كثب.
رد الوديعة إلى صاحبها، والتزام بما وعدت دون احتيال،
ولا تلوث يديك آثماً بسفك دم
وإن كنت حكيماً فلا تخدع سوى النساء، كي تخلص من المتاعب.
واحفظ عهد إلا فيما تقطعه لهنّ،
فلا بأس عليك أن تخدع الخادعات:
ففي أغلبهن الشر، فلندعهن يقعن فيما ينصبنه من فخاخ.
يحكى أن مصر قد نضب من سمائها المطر،
وعاشت أرضها ظمأى تسع سنوات عجاف،
فاقترب ثراسيوس من بوزيريس،
يعرض استرضاء رب الأرباب بسفح دم غريب.
فرد بوزيريس قائلاً: «لأنت الغريب،
ولتكونن اول ضحية لرب الأرباب، وبك تمنح مصر الماء».
وقضى فالاريس بأن يحشر بيريلوس في جوف الثور، ليكتوى بما صنعت يداه[2]
فكان صانع الشؤم أول من اختبر صنيع يديه.
بوزيريس وفالاريس، كلاهما عادل،
فليس أكثر عدالة من قانون يقضي بموت من أملت عبقريته عليه صنع الموت.
وليس أكثر عدالة من أن تجزى الخيانة بخيانة مثلها،
ومن أن تذوق المرأة ألم الخيانة الذي أذاقته غيرها من قبل.
الدمع سلاح يفل الحديد.
فهيئ لفتنتك ما وسعك الجهد أن تشهد وجنتيك منداتين.
660 وإن أخفقت في استدراك دمك
[فقد لا يستجيب إليك طيعاً حين تريد]،
بلل عينيك بقطرة ماء.
أي حكيم لا يمزج بين القبلات والملاطفة؟
إن تمنعا عنك القبلة، حاول أن تجنيها قسراً،
قد تلقى منها مقااومة وتسبك قائلة «يا وغد»،
بينا هي في الحق تتوق لأن تستسلم بين يديك.
ولكن إياك أن تغلظ في القبلة المخطوفة، كي لا تدمى شفتيها الرهيفتين،
وتتيح لها أن تندد بغلظتك.
القبلة وحدها ليست غاية،
فمن لا يظفر بها يتبعها، غير جدير بأن ينعم حتى بما منح.
فيم انتظارك بعد القبلة؟
إن لم تصل السعي لبلوغ المأرب، فلا تتعلل بالحشمة، فالسر ما ينتابك من خور،
ولا ضير إن جنحت للعنف أحياناً، فكم تستطيبه النساء،
يفضلن أن يهبن مكرهات ما هن راغبات في منحه.
وما أسعدها تلك التي تأخذها على غرة،
فهي تفسر جرأتك على أنها خير تحية لها.
أما تلك التي تمضي دون أن تمسها، وكان في وسعك أن تعنف بها لتخضعها
فصدقني، أنها شقية وإن بدت سعيدة.
680 لقد ذاقت فويبي وشقيقتها هيلايرا مع السبى عنف التوأمين كاستور وبوللكس،
ومع هذا ظفرتا بأعذب متعة في كنف الأسر.
فكل مغتصبة تحس متعة مع مغتصبها
ومع أن قصة العذراء دايداميا الإسكيرية وعشيقها أخيل الهايموني ذائعة الشهرة
إلا أن ذكراها جديرة بالإلماح.
وما إن أهدت فينوس لباريس حب هيلينا،
نظير حكمه لها بجائزة الجمال تفوقاً عى جونو ومنيرفا،
ووفدت هيلينا الإغريقية إلى قصر بريام الطروادي،
حتى أقسم أمراء الإغريق جميعاً يمين الولاء لمنيلاوس زوج هيلينا جريح الفؤاد،
ومضوا معه للأثر من طرواده، فغدا عذاب فرد قضية أمة.
وعلى نحو مخز أذعن أخيل لضراعات أمه ثيتيس،
واستخفى في زي امرأة، حتى يفلت من مصير مشئوم في حرب طروادة.
أي أخيل،
ما كان غزل الصوف حرفتك،
بل شهرتك فنّ آخر... ترعاه «باللاس»،
ما لك وصناعة السلات، فما أخلق ذراعك بحمل الترس؟
وما لكفك التي ستصرع بها هيكتور «وشلات» الصوف؟
طوح بالمغزل ولفافاته المضنية بعيداً،
فقبضتك جديرة بأن تسدد رمحاً من خشب أشجار جبل بيليون.
وكانت الأميرة دايداميا في قاعة تضم أخيل متخفياً في زي أنثى،
ولم تكتشف أمره إلا بعد أن نالها غصبا.
وما كان من الممكن أن ترضخ لو لم يخمد بالعنف مقاومتها.
700 ولكن ما أسرع ما نسيت عنفه وتاقت أن يعاود الكرة،
بل لقد ناشدته أن يمكث حين اعتزم الرحيل عنها.
لكن أخيل نحى المغزل،
خلع ثياب الأنثى، وامتشق سلاح الأبطال.
ما خطبك يا دايداميا، أتستبقين هاتك عرضك قسراً بنداءات مغويوة؟
قد تخجل المرأة أحياناً من أن تبدأ،
ولكن ما اشرع أن تغمرها النشوة ساعة يأخذ الرجل بزمام المبادرة.
العاشق المغرور وحده يرقب أن تبدأ محبوبته بمغازلته.
اخط الخطوة الأولى واضرع إليها،
فكم يطيب للمرأة ما تنطوي عليه الضراعة من إطراء.
دبر لها ضريعة تحفظ لها حياءها، إذن تمنحك ما تصبو إليه.
وقديماً مضى جوبيتر نفسه ضارعاً إلى بطلات الزمن الغابر،
فلم نسمع عن إحداهن بدأت بمغازلة رب الأرباب.
ولتتراجع خطوة إذا اكتشفت أن ضراعاتك تزيدها عنتاً.
ومن النساء من يتشبثن بمن يبادر بهجرهن،
وينفرن ممن يرتمي لاصقاً بأعتابهن.
فرافقهن هوناً حتى لا يسأمنك
ولا تكشف في ضراعاتك عن رغبة في تملكهن.
وليشق الحب طريقه مقنعاً بخمار الصداقة.
فقد صادفت امرأة متمنعة ذات مرة، خدعتها الوسيلة عينها،
720 فاستحال الإعجاب عشقاً مدلهاًَ.
*****
عار أن تبقى بشرة الملاح بيضاء صافية.
الملاح الحق من يلوح بشرته وهج الشمس وملح البحر،
والفلاح الكادح وسط عراء الحقل لا تبقى بشرته بيضاء صافية
بينما يفلح الأرض بمحراثه المحدب ومسحاته الثقيلة.
والرياضي الطامح في أن يتوج هامته إكليل غار الربة بالاس،
يحرص على ألا يبدو جسده أبيض صافياً.
أما العشق فيغشى بشرة العشاق بشحوب الوجه،
وما أحمق من يتصور أن شحوب البشرة يزري بالعاشقين!
أو لم ينعم أوريون الشاحب الوجه بفتيات غابات ديركي[3]؟
وهل رفضت دافنيس[4] الشاحب غير حورية واحدة [بعدما خانها]؟
وليكن الهزال أيضاً دليل معاناتك،
ولا تستح أن تحجب خصلات شعرك اللامع تحت قلنسوة.
وليالي السهاد كفيلة بيت السقم في أجساد العشاق،
كما يبث فيها الجوى المشبوب القلق والشجن.
ولكي تبلغ تصبو إليه، تظاهر بما يبعث على الإشفاق عليك،
حتى يدرك من يصادفك أنك عاشق معنى.
أتراني أشكو أم أحذر من امتزاج الخطأ والصواب حين أقول:
740 ما أكثر ما تكون الصداقة اسماً والوفاء خرافة.
لذا، ليس من الفطنة النسيب بمحبوبتك أمام صديقك.
فما إن يقف على أوصافها، حتى يتسلل ليغتصب مكانك.
حقاً لم يدنس باتروكلوس بن أكترو[5] فراش صديقه أخيل،
والتزمت فيدرا بالعفة في علاقتها ببيريثوس[6].
وكذلك أحب بيلاديس هيرميونيه الحب الطاهر[7]،
الحب نفسه الذي حمله فويبوس لشقيقته باللاس،
والتوأمان كاستور وبوللكس لشقيقتهما هيلينا.
ولكني أنذرك:
إذا كان هناك من يتعلق بهذا الأمل،
فدعه يأمل أن تثمر شجرة الطرفاء تفاحاً،
ودعه يبحث عن الشهد في مجرى النهر.
فالمرء لا يعبأ بغير متعته،
وأروع متعة هي أكثرها مجلبة للعار،
تحلو إن نبعت من آلام الغير،
مهما أورثتنا من لوم أو تأنيب،
فما أغنى العاشق عن أن يكون له غريم.
أهجر حتى من تثق في وفائهم تأمن.
واحذر قريبك وأخاك ونديمك،
إنهم واخجلاها مكمن الخطر!
كنت أهم بأن أختم حديثي، لولا أن النساء قلب،
ولا مهرب من أن نتزود بألف وسيلة
كي نقوى على مواجهة أنماطهن المختلفة.
فالحقول لا تتماثل عطاء،
هذا ينتج كرماً وذاك يغل زيتوناً، والآخر يغمرنا حنطة.
وكذلك تتباين أنماط القلوب تباين ما في العالم من أشكال.
760 الحكيم هو من يكيف نفسه لوفق شتى المواقف،
وله أسوة في بروتيوس الذي يتشكل كيف شاء،
تارة موجاً أو أسداً، وتارة شجرة أو خنزيراً برياً فظاً.
ونحن نصيد السمك هنا بالرمح، وهنا بالشص،
وهناك بالحبال المشدودة في الشباك البعيدة الغور.
ونفس الحيلة لا تنجح مع كل فريسة،
فالوعل اليافع يلمح الفخ من بعد بعيد.
ناشدتك ألا تتحذلق أمام ساذجة أو تتماجن مع محصنة،
وإلا زعزعت ثقتهما بنفسيهما.
فما لتبث الأنثى التي تتهيب عاشقاً مهذباًَ
أن تؤثر الانحدار إلى أحضان وغد داعر.
*****
والآن وقد فرغت من نشيدي الأول،
فلنلق بالمرساة هنا هنيهة،
كي يخلد قاربنا للراحة قبل أن نصل الرحلة.
* أوفيد
ترجمة: د. ثروت عكاشة
راجعه على الأصل اللاتيني: د. مجدي وهبة