نشأت البلاغة في خضم المحاكمات قيد التداول، ولكل مقام مقال: إذ سيخصص هذا الفصل للبلاغة القضائية.
لننظر، بادئ ذي بدء، في البرهان المعتمد في العدالة، ثم لنفحص الحجج الأكثر نمطية المستعملة في المحاكمة.
1 – العدالة بوصفها برهانا
أ- إطار منطقي واستراتيجية بلاغية
1. القياس القضائي
كيف تبرهن العدالة؟ لنتصور أن شخصين في خصومة حول فعل ما. إنهما يلجآن إلى القاضي. فما هي الإجراءات التي سيتخذها القضاة؟ بداية، سيحاولون بناء الوقائع حسب المعطيات التي أدلى بها طرفا الدعوى ومحامي كل منهما. وفور الانتهاء من التحقيق في الوقائع، سيعطونها تكييفا قانونيا: مثل هذا الفعل سيتم تكييفه على أنه قتل خطأ أو قتل عمد مثلا. في النهاية سيطبقون على الشخص المسؤول على الفعل الإجرامي العقوبة المتوقعة حسب القانون الجاري به العمل.
تشبه هذه الخطوة، من وجهة نظر منطقية، القياس المضمر، الذي سنعرضه على الشكل التالي:
المقدمة الكبرى: تُعَرِّف القاعدة القانونية الفعل المقترف بشكل تجريدي وتضفي عليه الآثار القانونية؛
المقدمة الصغرى: الوقائع المبنية تستجيب للشروط التي حددتها هذه القاعدة ؛
النتيجة: إذن نطبق عليها المقتضيات القانونية التي حددتها هذه القاعدة.
في الواقع، يُسَجَّلُ هذا التسلسل المنطقي في علاقة بلاغية بين القضاة والمتقاضين، وكلا منهم يوجه إستراتيجيته الحجاجية حسب متلقيه.
2 . التكييف حسب المتلقي:
إن المتلقي القضائي ليس واحدا أبدا. فبالنسبة إلى القاضي، إنهم أطراف الجلسة القضائية، والمجتمع في كليته، والمتابع عبر وسائل الإعلام المفروضة. ويحسب القاضي ألف حساب لهذه الأخيرة لأنه كيفما كانت الرجاحة القضائية لحكمه، إذا لم يحصل على موافقة المجتمع، فإنه بلا شك سوف يُرْفَضُ من لدن الهيئات القضائية المتَابِعَة حين معالجة قضايا أخرى مشابهة. أما بالنسبة إلى متلقي المتقاضين، فإن القضاة تضاف إليهم هيئة محلفين شعبية، في حالة دعوى في محكمة الجنايات، ويضاف إليهم أيضا المجتمع في كليته.
إن القاضي ليس سلطة مجردة من العواطف، لكنه سواء أكان رجلا أو امرأة، ومهما أرادا الحفاظ على حيادهما التام، فإنهما قد ينحازان إلى طرف معين. وعلى المحامي أن يبحث عن المعلومات شخصيا؛ فعليها يتوقف نجاح مرافعته. فهناك قضاة يجب تركهم يتكلمون، ولا ينبغي إصابتهم بالملل بسبب مرافعات طويلة جدا، على سبيل المثال.
ب. الاختزال الخاطئ للاستدلال القانوني بالنسبة إلى القياس
1- مشروع علم القانون: القانون الوضعي
كنا نريد، ولمدة طويلة، تبسيط الاستدلال القضائي لهذه الطريقة القياسية. وكانت الغاية هي استبعاد اعتباطية القاضي وتقريب القانون من العلم. في إطار هذا المنطق الرسمي، فإن القاضي ليست له حرية التصرف في القاعدة القانونية، التي يتوفر عليها في المقدمة الكبرى من لدن النظام القضائي، ولا في الوقائع التي مُنِحَتْ له في المقدمة الصغرى من لدن الطرفين صاحبي الشأن اللذين يثبتان صحتها، ولا في آخر المطاف في الحل الذي ينتج بطريقة ميكانيكية عن القياس المنطقي.
وُلِدَ هذا المفهوم المسمى بالقانون الوضعي في عصر الثورة الفرنسية وظل مفروضا لما يربو على قرن من الزمن. إن القانون الذي هو تعبير عن الإرادة الوطنية، قد تم تقديسه؛ فالقاضي يتقيد بتطبيقه دون محاولة تأويله. وهكذا كان يتم الحصول، كما كان يعتقد، على أحكام قضائية جد موضوعية وموحدة مثل عملية حسابية أو مكيال.
كان هذا المذهب ممثلا في فرنسا من طرف مدرسة تعنى بالتفسير اللاهوتي. حيث كانت تنكر على القاضي أي حرية تصرف، وكانت تفترض أن القانون يشمل كل الحقوق، مما يؤدي إلى العمل على تفسير النصوص لسد ثغراتها أو شرح غموضها.
هذا المذهب الوضعي كان يُعنى بأن يجعل من القانون علماً، يتماشى مع المشروع العام للعصرنة قصد توسيع الأسلوب العلمي ليشمل كل قطاعات المعرفة. وكان القاضي الألماني هانس كيلْسْنHans Kelsen هو الممثل الأعلى لهذا التيار.
إن إرادة تحويل القانون إلى علم سرعان ما ثَبُت على أنها غير واقعية وخطيرة.
2- اللا واقعية والخطر
إن القياس القانوني لا يتضمن الرهان الحقيقي للمحاكمة. فهو ليس إلا جزءًا بسيطا جدا من الاستدلال القضائي، وخاصة المرحلة النهائية المتبقية منه. لأنه قبل تطبيق هذا التسلسل المنطقي، وقبل المرور من الفرضيات إلى الخواتم، يلزم بناء الوقائع، ثم تكييفها مرة أخرى. إن اختزال الاستدلال القضائي في القياس هو افتراض مسألة هذه الفرضيات سهلة الحل. إذن هذه ليست هي الحالة. فالقاضي لا يتوفر دائما على قاعدة واضحة ولا على وقائع موثقة بوضوح. ونتيجة لذلك، فإن موضوع الحجاج القضائي هو بناءُ الفرضيات ذوات الدافع الأكبر والتي تثير أقل الاعتراضات.
المحاكمة القضائية هي أساسا سلسلة من المجدالات حول عناصر وقائع القانون المتعلق بالنزاع قيد المحاكمة. هذه المجادلات تُقحِم حُججاً محتملة. فالوقائع المثبتة، والقاعدة التي تم اختيارها لا يمكن الجدال فيها أبدا. إن القياس القضائي الذي ينشئون عليه الفرضيات ليس، إذن، إلا قياسا مضمرا بلاغيا تكون نتيجته قابلة للنقاش وتتطلب سلطة القاضي لفرضها.
أخيرا، إن المذهب الوضعي خطير، لأنه يضحي بالعدالة من أجل علموية مزيفة. ولكي يطابق النظام القضائي بالمنطق، يفترض أن الحق في كليته مُضَمَّن في القانون ولا يقدر إلا هذا الأخير. إنه نسيان بأن العدالة مؤسسة على القيم وليس على إجراء بسيط، إنها صارمة جدا. إن هذا التصور، بالتأكيد، يبدو متناسبا مع المثالية القضائية. إن العدالة ممثلة رمزيا بامرأة معصوبة العينين وبيدها اليسرى ميزان وبيدها اليمنى سيف. فالسيف يشير إلى عزيمتها في تطبيق الحكم، والميزان يشير إلى أن لكل ذي حق حقه، وتشير العصابة إلى حياد العدالة. لكن المذهب الوضعي قد أوَّل هذا الحياد بأنه سلبية، بينما يفرض الحياد فقط على القاضي أن لا يدرج الانشغالات الشخصية، ولا يلتفت إلى الغنى أو الفقر، ولا إلى قوة أو ضعف المتقاضين. إن الحياد يستبعد بعض معايير الحكم، وليس كل المعايير.
* منشورة في عدد اليوم السبت 15 يناير 2022 بجريدة الشمال الأسبوعية الورقية التي تصدر بمدينة طنجة.
*
لننظر، بادئ ذي بدء، في البرهان المعتمد في العدالة، ثم لنفحص الحجج الأكثر نمطية المستعملة في المحاكمة.
1 – العدالة بوصفها برهانا
أ- إطار منطقي واستراتيجية بلاغية
1. القياس القضائي
كيف تبرهن العدالة؟ لنتصور أن شخصين في خصومة حول فعل ما. إنهما يلجآن إلى القاضي. فما هي الإجراءات التي سيتخذها القضاة؟ بداية، سيحاولون بناء الوقائع حسب المعطيات التي أدلى بها طرفا الدعوى ومحامي كل منهما. وفور الانتهاء من التحقيق في الوقائع، سيعطونها تكييفا قانونيا: مثل هذا الفعل سيتم تكييفه على أنه قتل خطأ أو قتل عمد مثلا. في النهاية سيطبقون على الشخص المسؤول على الفعل الإجرامي العقوبة المتوقعة حسب القانون الجاري به العمل.
تشبه هذه الخطوة، من وجهة نظر منطقية، القياس المضمر، الذي سنعرضه على الشكل التالي:
المقدمة الكبرى: تُعَرِّف القاعدة القانونية الفعل المقترف بشكل تجريدي وتضفي عليه الآثار القانونية؛
المقدمة الصغرى: الوقائع المبنية تستجيب للشروط التي حددتها هذه القاعدة ؛
النتيجة: إذن نطبق عليها المقتضيات القانونية التي حددتها هذه القاعدة.
في الواقع، يُسَجَّلُ هذا التسلسل المنطقي في علاقة بلاغية بين القضاة والمتقاضين، وكلا منهم يوجه إستراتيجيته الحجاجية حسب متلقيه.
2 . التكييف حسب المتلقي:
إن المتلقي القضائي ليس واحدا أبدا. فبالنسبة إلى القاضي، إنهم أطراف الجلسة القضائية، والمجتمع في كليته، والمتابع عبر وسائل الإعلام المفروضة. ويحسب القاضي ألف حساب لهذه الأخيرة لأنه كيفما كانت الرجاحة القضائية لحكمه، إذا لم يحصل على موافقة المجتمع، فإنه بلا شك سوف يُرْفَضُ من لدن الهيئات القضائية المتَابِعَة حين معالجة قضايا أخرى مشابهة. أما بالنسبة إلى متلقي المتقاضين، فإن القضاة تضاف إليهم هيئة محلفين شعبية، في حالة دعوى في محكمة الجنايات، ويضاف إليهم أيضا المجتمع في كليته.
إن القاضي ليس سلطة مجردة من العواطف، لكنه سواء أكان رجلا أو امرأة، ومهما أرادا الحفاظ على حيادهما التام، فإنهما قد ينحازان إلى طرف معين. وعلى المحامي أن يبحث عن المعلومات شخصيا؛ فعليها يتوقف نجاح مرافعته. فهناك قضاة يجب تركهم يتكلمون، ولا ينبغي إصابتهم بالملل بسبب مرافعات طويلة جدا، على سبيل المثال.
ب. الاختزال الخاطئ للاستدلال القانوني بالنسبة إلى القياس
1- مشروع علم القانون: القانون الوضعي
كنا نريد، ولمدة طويلة، تبسيط الاستدلال القضائي لهذه الطريقة القياسية. وكانت الغاية هي استبعاد اعتباطية القاضي وتقريب القانون من العلم. في إطار هذا المنطق الرسمي، فإن القاضي ليست له حرية التصرف في القاعدة القانونية، التي يتوفر عليها في المقدمة الكبرى من لدن النظام القضائي، ولا في الوقائع التي مُنِحَتْ له في المقدمة الصغرى من لدن الطرفين صاحبي الشأن اللذين يثبتان صحتها، ولا في آخر المطاف في الحل الذي ينتج بطريقة ميكانيكية عن القياس المنطقي.
وُلِدَ هذا المفهوم المسمى بالقانون الوضعي في عصر الثورة الفرنسية وظل مفروضا لما يربو على قرن من الزمن. إن القانون الذي هو تعبير عن الإرادة الوطنية، قد تم تقديسه؛ فالقاضي يتقيد بتطبيقه دون محاولة تأويله. وهكذا كان يتم الحصول، كما كان يعتقد، على أحكام قضائية جد موضوعية وموحدة مثل عملية حسابية أو مكيال.
كان هذا المذهب ممثلا في فرنسا من طرف مدرسة تعنى بالتفسير اللاهوتي. حيث كانت تنكر على القاضي أي حرية تصرف، وكانت تفترض أن القانون يشمل كل الحقوق، مما يؤدي إلى العمل على تفسير النصوص لسد ثغراتها أو شرح غموضها.
هذا المذهب الوضعي كان يُعنى بأن يجعل من القانون علماً، يتماشى مع المشروع العام للعصرنة قصد توسيع الأسلوب العلمي ليشمل كل قطاعات المعرفة. وكان القاضي الألماني هانس كيلْسْنHans Kelsen هو الممثل الأعلى لهذا التيار.
إن إرادة تحويل القانون إلى علم سرعان ما ثَبُت على أنها غير واقعية وخطيرة.
2- اللا واقعية والخطر
إن القياس القانوني لا يتضمن الرهان الحقيقي للمحاكمة. فهو ليس إلا جزءًا بسيطا جدا من الاستدلال القضائي، وخاصة المرحلة النهائية المتبقية منه. لأنه قبل تطبيق هذا التسلسل المنطقي، وقبل المرور من الفرضيات إلى الخواتم، يلزم بناء الوقائع، ثم تكييفها مرة أخرى. إن اختزال الاستدلال القضائي في القياس هو افتراض مسألة هذه الفرضيات سهلة الحل. إذن هذه ليست هي الحالة. فالقاضي لا يتوفر دائما على قاعدة واضحة ولا على وقائع موثقة بوضوح. ونتيجة لذلك، فإن موضوع الحجاج القضائي هو بناءُ الفرضيات ذوات الدافع الأكبر والتي تثير أقل الاعتراضات.
المحاكمة القضائية هي أساسا سلسلة من المجدالات حول عناصر وقائع القانون المتعلق بالنزاع قيد المحاكمة. هذه المجادلات تُقحِم حُججاً محتملة. فالوقائع المثبتة، والقاعدة التي تم اختيارها لا يمكن الجدال فيها أبدا. إن القياس القضائي الذي ينشئون عليه الفرضيات ليس، إذن، إلا قياسا مضمرا بلاغيا تكون نتيجته قابلة للنقاش وتتطلب سلطة القاضي لفرضها.
أخيرا، إن المذهب الوضعي خطير، لأنه يضحي بالعدالة من أجل علموية مزيفة. ولكي يطابق النظام القضائي بالمنطق، يفترض أن الحق في كليته مُضَمَّن في القانون ولا يقدر إلا هذا الأخير. إنه نسيان بأن العدالة مؤسسة على القيم وليس على إجراء بسيط، إنها صارمة جدا. إن هذا التصور، بالتأكيد، يبدو متناسبا مع المثالية القضائية. إن العدالة ممثلة رمزيا بامرأة معصوبة العينين وبيدها اليسرى ميزان وبيدها اليمنى سيف. فالسيف يشير إلى عزيمتها في تطبيق الحكم، والميزان يشير إلى أن لكل ذي حق حقه، وتشير العصابة إلى حياد العدالة. لكن المذهب الوضعي قد أوَّل هذا الحياد بأنه سلبية، بينما يفرض الحياد فقط على القاضي أن لا يدرج الانشغالات الشخصية، ولا يلتفت إلى الغنى أو الفقر، ولا إلى قوة أو ضعف المتقاضين. إن الحياد يستبعد بعض معايير الحكم، وليس كل المعايير.
* منشورة في عدد اليوم السبت 15 يناير 2022 بجريدة الشمال الأسبوعية الورقية التي تصدر بمدينة طنجة.
*