نوح والطوفان في رواية " عديقي اليهودي "
مقالات في أدب محمود شاهين (10/4)
نوح والطوفان
وبخصوص الطوفان، يقتبس "عارف" نص من ملحمة جلجامش الذي يتحدث عن الطوفان، مؤكدا أنه يسبق العهد القديم بما يزيد عن ألف وخمسمئة عام، ثم يحلل حالة الكائنات التي خرجت من السفينة بعد انحسار الطوفان: " فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه وكل الحيوانات، وكل الدبابات، ، كل ما يدب على الارض، وكل الطيور كأنواعها خرجت من الفلك.
المؤسف أن نوحا وأسرته والكائنات الأخرى لن يجدوا ما يقتاتون عليه بعد فعلة الله،
فكل شيء قد أبيد خلال ما يقارب من نصف عام من الطوفان" ص130، أيضا نجد خللأ في حبكة قصة الطوفان، ولو أن القصة جاءت بشكل أسطوري، لكنا أوجدنا مبررا/تحليلا يساعدنا على فهم الخلل في النص الأسطوري ـ لكن أن يأتي الخلل في كتاب مقدس، فهذه جريمة بحق المؤمنين.
وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث. وحام هو ابو كنعان
. ولا نعرف أين كان كنعان
وشرب نوح من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه. وأصبح لديه خمر أيضا؟ عجيب هذا المؤلف، بهذه السرعة يغرس نوح كرما ويثمر ليصنع من الثمر خمرا ويسكر فابصر حام ابو كنعان عورة ابيه، واخبر اخويه خارجا.
لاحظ التركيز على اسم كنعان االذي ظهر فجأة ولم يكن له وجود من قبل.. ولماذا يركز المؤلف على العورة؟ ثم هل تستدعي هذه الحادثة ذكرها في كتاب يفترض أنه مقدس؟ ...
25 فقال: «ملعون كنعان! عبد العبيد يكون لاخوته».
عجيب أمر الكاتب! اختلق كنعان ليصب نقمته عليه مع أن أباه هو الذي رأى العورة!" ص137-139، لو قارنا قصة نوح في العهد القديم بتلك التي جاءت في ملحمة جلجامش، لوجدنا الحبكة والخيال وطريقة التقديم أفضل بكثير مما جاءت في العهد القديم، يكفي أنها اقتصرت على الخلاف بين البشر والآلهة، ولم يتم المساس أخلاقيا بشخصية "أوبشتيم"، ولم يتم تناول أولاده بأي سوء.
إبراهيم وأرض الميعاد
قصة الوعد الإلهي بأرض الميعاد، عليها الكثير من النقاط، فقد تم تطوير وتكبير الوعد بشكل تدريجي، فبدت القصة وكأنه كلما جاء شخص جديد أضاف أرض جديدة للوعد
الإلهي، يبدأ الوعد بهذا الشكل: "
لان جميع الارض التي انت ترى لك اعطيها ولنسلك الى الابد.15
الوعد هنا يتعلق فقط بما يستطيع إبراهيم أن يراه بعينيه من الأرض الكنعانية، وليس الأرض الكنعانية كلها، وهذه المساحة من الأرض لا تكاد تذكر مع البلاد الشاسعة من النيل إلى الفرات" ص155، تحليل منطقي ويتفق مع العقل، فالأرض التي يمكن أن يراها أي إنسان في أي موقع من فلسطين، لا يمكن إلا أن يشاهد جزءا صغيرأ منها، خاصة إذا عرفنا أن تضاريس وطبيعة فلسطين لا تسمح لأي مشاهد أن يحيط بها مجتمعة.
والنقلة النوعية في قصة إبراهيم التوراتية ذهابه إلى دمشق " 2
فقال ابرام: «ايها السيد الرب، ماذا تعطيني وانا ماض عقيما، ومالك بيتي هو اليعازر الدمشقي؟»
لا نعرف أين ذهبت ثروة إبراهيم الهائلة ومئات غلمانه بحيث أصبح يسكن في بيت لدمشقي، ولا نعرف من أين جاء هذا الآخر، وكيف ظهر على المسرح" ص157، القفزات البعيدة هي من تؤكد على أن النص كتبه أكثر من كاتب، فالفجوات في الأحداث غير متسلسلة ولا متنامية بشكل منطقي، بل تأتي فجأة، وعلى القارئ أن يتقبلها، لأنها نصوص مقدسة!!.
8- واعطي لك ولنسلك من بعدك ارض غربتك، كل ارض كنعان ملكا ابديا. واكون الههم!
يبدو أن أرض كنعان أصبحت الكرة الأرضية كلها، ففي كل وعد تختلف الأرض، ويختار يهوه أن يكون إلها لنسل إبراهيم، المؤسف أنه ليس للنسل كله، لأنه سيتحول إلى نسل يعقوب الذي سيغير اسمه إلى إسرائيل" ص162، بدأت مساحة الأرض الموعودة تتوسع، فشملت كل أرض كنعان، لكن هل يكتفي من كتب التوراة بأرض كنعان، أم أنه يريد مزيدا من الأرض؟.
للإجابة لابد من أيجاد (سلالة) تتكاثر وتنتشر لتقدر أن تهيمن على الأرض، وهنا يأخذنا السارد إلى الحديث عن نسل إبراهيم: "
23 فأخذ ابراهيم اسماعيل ابنه، وجميع ولدان بيته، وجميع المبتاعين بفضته، كل ذكر من اهل بيت ابراهيم، وختن لحم غرلتهم في ذلك اليوم عينه كما كلمه الله. لم يمر معنا
أن إبراهيم ابتاع أطفالا،
وكان ابراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن في لحم غرلته. غريب كيف يعرف الكاتب الأعمار بدقة متناهية، ولا نعرف هل هو نفسه الذي كتب عن خلق آدم وحواء، أم الكاتب الذي تحدث عن خلق ذاتي من آدم، أم غيرهما" ص165، أيضا يتم اختلاق ناس/جماعة دون أية مقدمات، أليس إبراهيم من اختاره الله ليعطيه الأرض؟، فلا داعي لأي تفسير أو تبرير، فبما أن الكتاب مقدس، فلا يجوز لنا البحث فيه ولا في المعلومات أو الأحداث التي تقدم!!.
ومن المفارقات في قصة إبراهيم هذا الحدث: "
20 وقال الرب: «ان صراخ سدوم وعمورة قد كثر، وخطيتهم قد عظمت جدا. 21
فقد نسي المؤلف الصورة الأولى ويريد أن يقدم يهوه هنا كرب رحيم وعادل! أو أننا هنا أمام مؤلف آخر" ص172، إذا ما قارنا هذه القصة مع الطوفان سنجد فروقات كبيرة بينهما، فهنا الله يعفو ويتجاوز عن الخطايا.
! وقال ابراهيم عن سارة امراته: «هي اختي». فارسل ابيمالك ملك جرار واخذ سارة
يبدو أن الكاتب أعاد سارة إلى الصبا بضعة عقود إلى الوراء، ونسي أنها أصبحت عجوزا غير قابلة للزواج.
فجاء الله الى ابيمالك في حلم الليل وقال له: «ها انت ميت من اجل المراة التي اخذتها، فانها متزوجة ببعل"
إبراهيم يرتب الخطأ والله يعاقب الضحية! منطق عجيب، والعقاب تهديد بالموت هذه المرة، يلاحظ أن النص التوراتي يستخدم مفردة (أبيمالك) كما ترد هنا في كافة المواضيع" ص180، انحياز الله إلى إبراهيم بهذا الشكل، يشير إلى عدم عدالته، فمن المفترض أن تكون العدالة الإلهية عدالة مطلقة، فما بالنا عندما تكون ظلما وجورا؟.
3- فاستحلفك بالرب اله السماء واله الارض ان لا تاخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين انا ساكن بينهم!
... والأغرب أن لا يرغب إبراهيم في تزويج اسحق من بنات الكنعانيين الذين استضافوه وأكرموه!،
" بل الى ارضي والى عشيرتي تذهب وتاخذ زوجة لابني اسحاق»
المفترض أن أرض إبراهيم وعشيرته في أور الكلدانية وليس في حاران آرام كما سنرى" ص196، يبدو أن تيه اليهود لم يكن في سيناء فقط، بل سبقة تيه جغرافي يتمثل في تحديد وطن إبراهيم، كما أن النص التوراتي يشوه صورة النبي والإنسان معا في إبراهيم، فبعد كرم الضيافة نجده يوصي ابنه بعدم الزواج من الكنعانيين، رغم ما أبدوه من أخلاق وعطاء.
ويعقوب:
يعقوب هو المؤسس لبني إسرائيل، حتى أنهم نسبوا له، فهو بعد أن تصارع مع الله حتى بزوغ الفجر أصبح اسمه إسرائيل وليس يعقوب، لكن العهد القديم يقدم لنا هذا النبي المؤسس بصورة مشوهة، تصور أنه يسرق البركة من أخيه "عيسو" وحادثة سرقة البركة لا تطال يعقوب فحسب، بل تشوة أيضا اسحاق، الذي لا يملك إلا بركة واحدة فقط، ورغم شكه في صاحب اليد التي يتحسسها إلا أنه يعطي البركة ليعقوب، ليهيم "عيسو" على وجهه. وحدث عندما فرغ اسحاق من بركة يعقوب، ويعقوب قد خرج من لدن اسحاق ابيه ان عيسو اخاه اتى من صيده،
فصنع هو ايضا اطعمة ودخل بها الى ابيه وقال لابيه: «ليقم ابي وياكل من صيد ابنه حتى تباركني نفسك"
و فقال له اسحاق ابوه: «من انت؟» فقال: «انا ابنك بكرك عيس" » 33
فارتعد اسحاق ارتعادا عظيما جدا وقال: «فمن هو الذي اصطاد صيدا واتى به الي فاكلت من الكل قبل ان تجيء، وباركته؟ نعم، ويكون مباركا"». 34
فعندما سمع عيسو كلام ابيه صرخ صرخة عظيمة جدا، وقال لابيه: 35
«باركني انا ايضا يا ابي"
" فقال: «قد جاء اخوك بمكر واخذ بركتك
وماذا يحدث لو أنه بارك عيسو أيضا؟ هل ستنقلب الدنيا؟ ...يفترض أن الباكورة للإثنين كونهما ولدا معا حتى أن يعقوب كان ممسكا بعقب عيسو .فهل كون عيسو نزل من الرحم أولا، يكون بكرا، ولا يكون يعقوب كذلك.. هل هذا منطق المؤلف أم منطق الأبوين أم منطق يهوه؟" ص216، لو توقف أي إنسان عند هذه القصة لن يصدق أنها مقدسة، وأنها متعلقة بأنبياء، وحتى بأشخاص أسوياء، فكيف تقرأ إذن على أنها مقدسة؟.
أما مسألة التسمية بإسرائيل، فهي أيضا تبدو مضحكة: "
وقال:
«اطلقني، لأنه قد طلع الفجر». فقال: «لا اطلقك ان لم تباركني"
وماذا يعني لو طلع الفجر؟ هل يخاف يهوه طلوع الفج أم أن لديه موعدا ما؟!، ثم أنه كإله كان بمقدوره أن يؤخر طلوع الفجر" ص242، ولم تقتصر عملية التشويه على قدرة يهوه الجسدية، بل طالت قدرته المعرفية: "
فقال له: «ما اسمك؟» فقال: «يعقوب»
عجيب أمر يهوه لا يعرف أن من يصارعه هو
يعقوب فيسأله عن اسمه" ص243، اعتقد أن هذا القدر يكفي، ليجعل أي قارئ يعيد قراءة العهد القديم، ليكون هو الحكم على قدسيته أو خرافته.
تقنية السرد
المادة الفكرية كثيرة ومتنوعة، وتدخل في تفاصيل التفاصيل، لهذا كان لا بد من وجود وسيلة تخفف على القارئ من (نشاف) المادة الدينية، فكان الترطيب يأتي من خلال تعدد الروايات في الرواية، حتى أننا نجد في بعض الفصول أكثر من راو، وأحيانا كان يخلي عارف أو يعقوب أو سارة المجال للسارد الرئيس، ليقوم بعملية السرد، لكن هذا الإخلاء لم يأت فجأة، بل على مراحل، ففي الفصول الأخيرة، وقُبيل مقتل عارف وسارة، وجدنا حضور للسارد (الخارجي) الذي أخذ يروي الأحداث بعد قتل "عارف وسارة".
ولكن السارد لم يكتف بهذا الأمر، بل نجده كان يُسمعنا تعليق عارف أو يعقوب أو سارة على تحليله للعهد القديم، وبما أن التعليقات كانت أحيانا كثيرة تأتي بشكل ساخر، فإن هذا أسهم كثيرا في قبول القارئ للمادة التحليلية المطروحة في الرواية، وجعلته يتقدم منها باندفاع ورغبة لمعرفة المزيد.
وإذا أضفنا إلى ما سبق، نهاية وبداية كل فصل، والتي جاءت قريبة من طريقة تقديم حكايات ألف ليلة وليلة، يتأكد لنا عبقرية السارد الذي استطاع أن يقدم مادة فكرية بشكل روائي، وبما أن ما يقارب من ربع الرواية، أكثر مائة صفحة تتحدث عن أحداث روائية، بعيدا عن التحليل والمادة التاريخية، يتأكد، أننا أمام رواية تمتلك كل مقومات الرواية.
بين زمن الخراب وعديقي اليهودي :
اللافت أن السارد يتحدث عن شخصية "عارف" كما تحدث عن شخصية "محمود أبو الجدايل" في رواية " زمن الحراب"، فكلاهما تجاوز الستين، كما أن كلا من "لمى وسارة" وهما فتاتان ترغبان في ممارسة الحب، رغم فارق العمرالكبير.. حتى أننا نجد (طقوس) الجلسة الرومنسية ، فهناك المكسرات والفاكهة والمشروبات، وأيضا نجد عين فكرة الخلق والخالق في الروايتين، حتى أننا نجد مقاطع من قصيدة الخلق والخالق والوجود في كلتا الروايتين، كل هذا يجعلنا نقول أن "محمود شاهين" يسعى ليقدم أفكاره عن الوجود بأعماله الروائية، متجاوزا روايات الأحداث فقط، فهو يركز على الفكر وعلى أن يقدم للقارئ طروحات جديدة، حتى لو اختلفت وتباينت مع معتقداته.
الرواية من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى 2018.
****
مقالات في أدب محمود شاهين (10/4)
نوح والطوفان
وبخصوص الطوفان، يقتبس "عارف" نص من ملحمة جلجامش الذي يتحدث عن الطوفان، مؤكدا أنه يسبق العهد القديم بما يزيد عن ألف وخمسمئة عام، ثم يحلل حالة الكائنات التي خرجت من السفينة بعد انحسار الطوفان: " فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه وكل الحيوانات، وكل الدبابات، ، كل ما يدب على الارض، وكل الطيور كأنواعها خرجت من الفلك.
المؤسف أن نوحا وأسرته والكائنات الأخرى لن يجدوا ما يقتاتون عليه بعد فعلة الله،
فكل شيء قد أبيد خلال ما يقارب من نصف عام من الطوفان" ص130، أيضا نجد خللأ في حبكة قصة الطوفان، ولو أن القصة جاءت بشكل أسطوري، لكنا أوجدنا مبررا/تحليلا يساعدنا على فهم الخلل في النص الأسطوري ـ لكن أن يأتي الخلل في كتاب مقدس، فهذه جريمة بحق المؤمنين.
وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث. وحام هو ابو كنعان
. ولا نعرف أين كان كنعان
وشرب نوح من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه. وأصبح لديه خمر أيضا؟ عجيب هذا المؤلف، بهذه السرعة يغرس نوح كرما ويثمر ليصنع من الثمر خمرا ويسكر فابصر حام ابو كنعان عورة ابيه، واخبر اخويه خارجا.
لاحظ التركيز على اسم كنعان االذي ظهر فجأة ولم يكن له وجود من قبل.. ولماذا يركز المؤلف على العورة؟ ثم هل تستدعي هذه الحادثة ذكرها في كتاب يفترض أنه مقدس؟ ...
25 فقال: «ملعون كنعان! عبد العبيد يكون لاخوته».
عجيب أمر الكاتب! اختلق كنعان ليصب نقمته عليه مع أن أباه هو الذي رأى العورة!" ص137-139، لو قارنا قصة نوح في العهد القديم بتلك التي جاءت في ملحمة جلجامش، لوجدنا الحبكة والخيال وطريقة التقديم أفضل بكثير مما جاءت في العهد القديم، يكفي أنها اقتصرت على الخلاف بين البشر والآلهة، ولم يتم المساس أخلاقيا بشخصية "أوبشتيم"، ولم يتم تناول أولاده بأي سوء.
إبراهيم وأرض الميعاد
قصة الوعد الإلهي بأرض الميعاد، عليها الكثير من النقاط، فقد تم تطوير وتكبير الوعد بشكل تدريجي، فبدت القصة وكأنه كلما جاء شخص جديد أضاف أرض جديدة للوعد
الإلهي، يبدأ الوعد بهذا الشكل: "
لان جميع الارض التي انت ترى لك اعطيها ولنسلك الى الابد.15
الوعد هنا يتعلق فقط بما يستطيع إبراهيم أن يراه بعينيه من الأرض الكنعانية، وليس الأرض الكنعانية كلها، وهذه المساحة من الأرض لا تكاد تذكر مع البلاد الشاسعة من النيل إلى الفرات" ص155، تحليل منطقي ويتفق مع العقل، فالأرض التي يمكن أن يراها أي إنسان في أي موقع من فلسطين، لا يمكن إلا أن يشاهد جزءا صغيرأ منها، خاصة إذا عرفنا أن تضاريس وطبيعة فلسطين لا تسمح لأي مشاهد أن يحيط بها مجتمعة.
والنقلة النوعية في قصة إبراهيم التوراتية ذهابه إلى دمشق " 2
فقال ابرام: «ايها السيد الرب، ماذا تعطيني وانا ماض عقيما، ومالك بيتي هو اليعازر الدمشقي؟»
لا نعرف أين ذهبت ثروة إبراهيم الهائلة ومئات غلمانه بحيث أصبح يسكن في بيت لدمشقي، ولا نعرف من أين جاء هذا الآخر، وكيف ظهر على المسرح" ص157، القفزات البعيدة هي من تؤكد على أن النص كتبه أكثر من كاتب، فالفجوات في الأحداث غير متسلسلة ولا متنامية بشكل منطقي، بل تأتي فجأة، وعلى القارئ أن يتقبلها، لأنها نصوص مقدسة!!.
8- واعطي لك ولنسلك من بعدك ارض غربتك، كل ارض كنعان ملكا ابديا. واكون الههم!
يبدو أن أرض كنعان أصبحت الكرة الأرضية كلها، ففي كل وعد تختلف الأرض، ويختار يهوه أن يكون إلها لنسل إبراهيم، المؤسف أنه ليس للنسل كله، لأنه سيتحول إلى نسل يعقوب الذي سيغير اسمه إلى إسرائيل" ص162، بدأت مساحة الأرض الموعودة تتوسع، فشملت كل أرض كنعان، لكن هل يكتفي من كتب التوراة بأرض كنعان، أم أنه يريد مزيدا من الأرض؟.
للإجابة لابد من أيجاد (سلالة) تتكاثر وتنتشر لتقدر أن تهيمن على الأرض، وهنا يأخذنا السارد إلى الحديث عن نسل إبراهيم: "
23 فأخذ ابراهيم اسماعيل ابنه، وجميع ولدان بيته، وجميع المبتاعين بفضته، كل ذكر من اهل بيت ابراهيم، وختن لحم غرلتهم في ذلك اليوم عينه كما كلمه الله. لم يمر معنا
أن إبراهيم ابتاع أطفالا،
وكان ابراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن في لحم غرلته. غريب كيف يعرف الكاتب الأعمار بدقة متناهية، ولا نعرف هل هو نفسه الذي كتب عن خلق آدم وحواء، أم الكاتب الذي تحدث عن خلق ذاتي من آدم، أم غيرهما" ص165، أيضا يتم اختلاق ناس/جماعة دون أية مقدمات، أليس إبراهيم من اختاره الله ليعطيه الأرض؟، فلا داعي لأي تفسير أو تبرير، فبما أن الكتاب مقدس، فلا يجوز لنا البحث فيه ولا في المعلومات أو الأحداث التي تقدم!!.
ومن المفارقات في قصة إبراهيم هذا الحدث: "
20 وقال الرب: «ان صراخ سدوم وعمورة قد كثر، وخطيتهم قد عظمت جدا. 21
فقد نسي المؤلف الصورة الأولى ويريد أن يقدم يهوه هنا كرب رحيم وعادل! أو أننا هنا أمام مؤلف آخر" ص172، إذا ما قارنا هذه القصة مع الطوفان سنجد فروقات كبيرة بينهما، فهنا الله يعفو ويتجاوز عن الخطايا.
! وقال ابراهيم عن سارة امراته: «هي اختي». فارسل ابيمالك ملك جرار واخذ سارة
يبدو أن الكاتب أعاد سارة إلى الصبا بضعة عقود إلى الوراء، ونسي أنها أصبحت عجوزا غير قابلة للزواج.
فجاء الله الى ابيمالك في حلم الليل وقال له: «ها انت ميت من اجل المراة التي اخذتها، فانها متزوجة ببعل"
إبراهيم يرتب الخطأ والله يعاقب الضحية! منطق عجيب، والعقاب تهديد بالموت هذه المرة، يلاحظ أن النص التوراتي يستخدم مفردة (أبيمالك) كما ترد هنا في كافة المواضيع" ص180، انحياز الله إلى إبراهيم بهذا الشكل، يشير إلى عدم عدالته، فمن المفترض أن تكون العدالة الإلهية عدالة مطلقة، فما بالنا عندما تكون ظلما وجورا؟.
3- فاستحلفك بالرب اله السماء واله الارض ان لا تاخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين انا ساكن بينهم!
... والأغرب أن لا يرغب إبراهيم في تزويج اسحق من بنات الكنعانيين الذين استضافوه وأكرموه!،
" بل الى ارضي والى عشيرتي تذهب وتاخذ زوجة لابني اسحاق»
المفترض أن أرض إبراهيم وعشيرته في أور الكلدانية وليس في حاران آرام كما سنرى" ص196، يبدو أن تيه اليهود لم يكن في سيناء فقط، بل سبقة تيه جغرافي يتمثل في تحديد وطن إبراهيم، كما أن النص التوراتي يشوه صورة النبي والإنسان معا في إبراهيم، فبعد كرم الضيافة نجده يوصي ابنه بعدم الزواج من الكنعانيين، رغم ما أبدوه من أخلاق وعطاء.
ويعقوب:
يعقوب هو المؤسس لبني إسرائيل، حتى أنهم نسبوا له، فهو بعد أن تصارع مع الله حتى بزوغ الفجر أصبح اسمه إسرائيل وليس يعقوب، لكن العهد القديم يقدم لنا هذا النبي المؤسس بصورة مشوهة، تصور أنه يسرق البركة من أخيه "عيسو" وحادثة سرقة البركة لا تطال يعقوب فحسب، بل تشوة أيضا اسحاق، الذي لا يملك إلا بركة واحدة فقط، ورغم شكه في صاحب اليد التي يتحسسها إلا أنه يعطي البركة ليعقوب، ليهيم "عيسو" على وجهه. وحدث عندما فرغ اسحاق من بركة يعقوب، ويعقوب قد خرج من لدن اسحاق ابيه ان عيسو اخاه اتى من صيده،
فصنع هو ايضا اطعمة ودخل بها الى ابيه وقال لابيه: «ليقم ابي وياكل من صيد ابنه حتى تباركني نفسك"
و فقال له اسحاق ابوه: «من انت؟» فقال: «انا ابنك بكرك عيس" » 33
فارتعد اسحاق ارتعادا عظيما جدا وقال: «فمن هو الذي اصطاد صيدا واتى به الي فاكلت من الكل قبل ان تجيء، وباركته؟ نعم، ويكون مباركا"». 34
فعندما سمع عيسو كلام ابيه صرخ صرخة عظيمة جدا، وقال لابيه: 35
«باركني انا ايضا يا ابي"
" فقال: «قد جاء اخوك بمكر واخذ بركتك
وماذا يحدث لو أنه بارك عيسو أيضا؟ هل ستنقلب الدنيا؟ ...يفترض أن الباكورة للإثنين كونهما ولدا معا حتى أن يعقوب كان ممسكا بعقب عيسو .فهل كون عيسو نزل من الرحم أولا، يكون بكرا، ولا يكون يعقوب كذلك.. هل هذا منطق المؤلف أم منطق الأبوين أم منطق يهوه؟" ص216، لو توقف أي إنسان عند هذه القصة لن يصدق أنها مقدسة، وأنها متعلقة بأنبياء، وحتى بأشخاص أسوياء، فكيف تقرأ إذن على أنها مقدسة؟.
أما مسألة التسمية بإسرائيل، فهي أيضا تبدو مضحكة: "
وقال:
«اطلقني، لأنه قد طلع الفجر». فقال: «لا اطلقك ان لم تباركني"
وماذا يعني لو طلع الفجر؟ هل يخاف يهوه طلوع الفج أم أن لديه موعدا ما؟!، ثم أنه كإله كان بمقدوره أن يؤخر طلوع الفجر" ص242، ولم تقتصر عملية التشويه على قدرة يهوه الجسدية، بل طالت قدرته المعرفية: "
فقال له: «ما اسمك؟» فقال: «يعقوب»
عجيب أمر يهوه لا يعرف أن من يصارعه هو
يعقوب فيسأله عن اسمه" ص243، اعتقد أن هذا القدر يكفي، ليجعل أي قارئ يعيد قراءة العهد القديم، ليكون هو الحكم على قدسيته أو خرافته.
تقنية السرد
المادة الفكرية كثيرة ومتنوعة، وتدخل في تفاصيل التفاصيل، لهذا كان لا بد من وجود وسيلة تخفف على القارئ من (نشاف) المادة الدينية، فكان الترطيب يأتي من خلال تعدد الروايات في الرواية، حتى أننا نجد في بعض الفصول أكثر من راو، وأحيانا كان يخلي عارف أو يعقوب أو سارة المجال للسارد الرئيس، ليقوم بعملية السرد، لكن هذا الإخلاء لم يأت فجأة، بل على مراحل، ففي الفصول الأخيرة، وقُبيل مقتل عارف وسارة، وجدنا حضور للسارد (الخارجي) الذي أخذ يروي الأحداث بعد قتل "عارف وسارة".
ولكن السارد لم يكتف بهذا الأمر، بل نجده كان يُسمعنا تعليق عارف أو يعقوب أو سارة على تحليله للعهد القديم، وبما أن التعليقات كانت أحيانا كثيرة تأتي بشكل ساخر، فإن هذا أسهم كثيرا في قبول القارئ للمادة التحليلية المطروحة في الرواية، وجعلته يتقدم منها باندفاع ورغبة لمعرفة المزيد.
وإذا أضفنا إلى ما سبق، نهاية وبداية كل فصل، والتي جاءت قريبة من طريقة تقديم حكايات ألف ليلة وليلة، يتأكد لنا عبقرية السارد الذي استطاع أن يقدم مادة فكرية بشكل روائي، وبما أن ما يقارب من ربع الرواية، أكثر مائة صفحة تتحدث عن أحداث روائية، بعيدا عن التحليل والمادة التاريخية، يتأكد، أننا أمام رواية تمتلك كل مقومات الرواية.
بين زمن الخراب وعديقي اليهودي :
اللافت أن السارد يتحدث عن شخصية "عارف" كما تحدث عن شخصية "محمود أبو الجدايل" في رواية " زمن الحراب"، فكلاهما تجاوز الستين، كما أن كلا من "لمى وسارة" وهما فتاتان ترغبان في ممارسة الحب، رغم فارق العمرالكبير.. حتى أننا نجد (طقوس) الجلسة الرومنسية ، فهناك المكسرات والفاكهة والمشروبات، وأيضا نجد عين فكرة الخلق والخالق في الروايتين، حتى أننا نجد مقاطع من قصيدة الخلق والخالق والوجود في كلتا الروايتين، كل هذا يجعلنا نقول أن "محمود شاهين" يسعى ليقدم أفكاره عن الوجود بأعماله الروائية، متجاوزا روايات الأحداث فقط، فهو يركز على الفكر وعلى أن يقدم للقارئ طروحات جديدة، حتى لو اختلفت وتباينت مع معتقداته.
الرواية من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى 2018.
****