فرج عبد الحسيب المالكي - يوم انتصار الدولة على النعاج..

شنَّ فرسان الدولة التي لم يُسقطها الانقلاب عام 1957 حملة عسكرية على القرية، فأطبقوا عليها من الجهات الأربع ،فاستقبلتهم كلاب الرعيان بالنباح وديوك العجائز بالصياح ، وتقدموا نحو أزقتها الضيقة وبيوتها الطينية المتلاصقة تهملج تحتهم البغال الضخمة تضرب حجارة تحتها بسنابك الحديد ، فخنس المخاتير ووجوه البلد أمام الدولة التي لا يلوي ذراعها أحد ، وشرع الفرسان بحملة اعتقالات استمرت أياما استهدفت النشطاء الحزبيين من البعثيين والشيوعيين، وخلال أيام ضيافتهم الثقيلة فرضوا على الأهالي إطعام الفرسان بيضا مقليا ولحما طريّّا ودجاجا مشويا ، أما بغالهم الضخمة فلها ما في خوابي الفلاحين من قمح وشعير وقطين.
ولما فشلوا في اعتقال المطلوب الأول عبد الله بن سليمان، أقاموا في دار العائلة ضيوفا ثقال المؤونة، ففرضوا على أهل البيت في كل يوم ذبيحة حتى يُسلّّم المطلوب نفسه للدرك، ولإنقاذ النعاج من الذبح الزؤام فر الراعي العسليني في غفلة من الفرسان بطرش دار سليمان ينقذه من الموت الزؤام تحت أضراس اللئام ، ولما تبيّن للوكيل حابس باشا فرار النعاج، ثار وهاج، وراح يبحث عن القطيع المتمرد كي يرده لحظيرة الذبح اليومية ، وقاد فرسانه نحو العين حيث يرد الرعيان لسقي القطعان .
وبينما كانت قطعان النعاج وشلايا الغنم للأهالي قد اتخذت مراقدها حول النبع، وتجمع الرعيان تحت ظل البطمة يقيلون ، وأخذ كل راعٍ يسلُّ الخبز المشرّّب بالزيت من الجراب الذي جاء به صاحب الحلال، ظهرت سرية الفرسان مستنفرة، وقد سبقتها أصوات حوافرها المحذوة بالحديد تدق حجارة الطريق الوعرة، تقدم الشاويش حابس يلوح بكرباجه نحو الرعيان ،فوقف الجميع احتراما لخيل الدولة، سأل وكيل الدولة الحشد ، وهو يشد لجام بغله:
ـ يا بَجَم، من فيكم راعي طرش دار سليمان؟
سكت الرعيان، وراحوا يتبادلون نظرات استهجان، أعاد الشاويش السؤال محتدا غاضبا ، فتطوع الراعي راشد البلوي، وقال بأدب جم وهو ينظر تحت قدميه :
ـ يا سيدي، راعي دار سليمان العسليني لم يرد معنا على النبع منذ يومين ، ولا ندري أين ذهب، لو سألت أهل الحلال قد يدلونك عليه.
ـ زين، يا فرسان أجمعوا لي أهل الحلال ..
انطلق الفرسان تنفيذا للأمر العسكري، وجمعوا رجال القرية الذين تواجدوا عند النبع ، ولما تجمعوا عنده ، شدَّ الوكيل لجام بغله ونهره في وجوههم المترقّبة، ونادى بصوت آمر:
ـ يا قليلي الدين والناموس، أين طرش دار سليمان؟ تطوع الحاج مصطفى ونقر بعصاه الأرض، وقال :
ـ والله يا بيك، طرش دار سليمان في موسكو ..
قفز الشاويش عن بغله يزفر غضبا، وقد استفزه الجواب، فأمسك بياقة قمباز الحاج، وهزّه محذرا:
ـ في موسكو، يا وجه النحس، الظاهر أنك لا تعرف مع من تتحدث؟ استجمع الحاج مصطفى رباطة جأشه:
ـ سلامة فهمك يا بيك، ألا تسمّّون سلفيت موسكو الصغرى؟ أُُسقط في يد االبيك، فأسقط يده عن الحاج، وركب بغله، وصعد عائدا إلى القرية يتبعه فرسانه، وصلوا الساحة وسط البلد حيث مجمع الدكاكين والمقاهي والجامع، وأعطى الوكيل حابس بيك أمرا عسكريا بجلب المخاتير والنواطير وأعيان القرية في التو والحال، وعلى رأسهم سليمان والد الهارب المتمرد على أسياده ، ولما مثل أمامه بادره بالسؤال:
ـ يا رافص نعمة أسيادك، أين ابنك الانقلابي الخائن العميل؟ كظم سليمان غيظه، ورد بهدوء:
ـ إذا أنتم الدولة صاحبة السلطان والهيلمان لا تعرفون، كيف لي أنا العبد الفقير أن أعرف؟
وأشار الوكيل لفرسانه، فانقضوا على سليمان، وطرحوه أرضا، وانهالوا عليه بأعقاب بنادقهم الثقيلة، وتناولوه بكرابيجهم الطويلة، ولما همدت مقاومة سليمان توجه الوكيل نحو الرجل المبعثر الثياب والأوصال المعفر بتراب الحارة ، ونعق كغراب يحط على دابة نافقة شاتما ومتوعدا، وأمام الناس المحتشدين ، داس ببسطاره على رقبة سليمان ،وتثاقل بجسمه فوق بسطاره، جحظت عينا العجوز ، وخرج زبد أبيض مع صراخه المكتوم ، فراح الوكيل يتلمظ بسباب فاحش ، ثار في المكان اللغط وتداخل صراخ الرجال بشحيح البغال، وجاءت من بعيد ابنة سليمان فارعة دارعة ، وهجمت على الوكيل الداعس على رقبة والدها ، جفل الشاويش ورفع بسطاره عن الرجل، ورفعت والدها عن الأرض، نظرت إليه لما أوقفته أمامها فصدمتها عيناه، وقد تحولت إلى جمرتين متوقدتين .
انفض الجمع، توجهت سرية الفرسان للمخفر، وهناك عقد حابس وكيل الدولة مجلسا حربيا، وأرسل على الفور قوة تعيد الطرش المتمرد من سلفيت .
في اليوم التالي وصلت مع العصر نعاج دار سليمان ، تسوقها خيول الدولة تتصبب عرقا، والنعاج منهكة كدها التعب والعطش من السفر الطويل بلا زاد ولا ماء، وصلت القافلة إلى الصيافير حيث يجفف الأهالي روث دوابهم على المقابي، تجمع الناس يرقبون مشهد الفرسان يقودون الغنائم من الأغنام، مئة وخمسون رأسا من النعاج والأكباش ومرياعها وحمارها ، حضر الوكيل حابس وفرسانه، وبدأت جولة جديدة من التنكيل بالنعاج ،فطاردوا على بغالهم القطيع، وراحوا يتناولون النعاج بالكرابيج، صارت النعاج تهبهب بأنفاسها المتعبة، وتجأر بثغاء البؤس وكأنها تنوح على حالها وحال راعيها العسليني الذي راح ينطنط بين البغال والنعاج كي يتلاشى حوافر الخيل الحوامة، وكأنها على بيدر قمح تطحن قشه ، ومع حلول المساء انتهت غزوة الدولة ضد قطيع النعاج ..
جلس الراعي العسليني يتفقد ما فيه من كدمات، وعندما خلع بسطاره ،كان الدم قد ملأ جلد البسطار المهترئ .
أعاد راعي الطرش لبس بسطاره، وعاد يحمل عصاه ويتفقد القطيع المنهك ،جاءت نساء من العائلة، وقررن تهريب القطيع تحت جنح الليل إلى قرية دير جرير المجاورة، وقبيل الفجر انطلق القطيع المقطوع العليق لاجئا يستجير بمختارها من سكاكين الذبح وكرابيج العسكر، وصل القطيع والفجر قد أسفر، كان بيت المختار أبي ظاهر هو المستقر، رأى المختار القطيع تسوقه النساء، والراعي العسليني يعرج وراءه، صاح المختار يستثير حمية من حوله من النساء:
ـ يا بنات، النعاج عطشى، همتكن نسقيها .
لبت قريبات المختار النداء، ورحن ينقلن الماء من الآبار القريبة، ويفرغن قرب الماء في مشارب من الحديد يسقين النعاج، كانت النعجة تغب الماء طويلا، وعندما تصد تمشي خطوات ثم تسقط، وكانت الكارثة، خمسة عشر رأسا من النعاج التي شربت سقطت ميتة، وكأن الماء صُب على نار العطش فأطفأ أنفاس النعاج، انتبه المختار لنفوق النعاج بعد الشرب، فأوقف السقي وبدأ السعي لإبعاد النعاج عن المشارب، وقد فرشت ساحة الدار بجثث النعاج النافقة .
عند الضحى جاءت سرية من الفرسان، وأعادت القطيع لدار سليمان ، واتخذ الفرسان الدار رهينة ومستقرا حتى يسلم ابنها المطارد نفسه للدولة ،وطالت الإقامة، وفي كل يوم تذبح النعاج للغداء، ويذبح الدجاج للعشاء ،وتُفرغ الجرار من الزيت والجبن والسمن للإفطار ..
وبعد أيام، قنط الفرسان من تحقيق مأربهم، ورحلوا ..
بعد تلك الحملة المشؤومة قرر سليمان المنكوب بنعاجه المستباحة، وابنه المطارد، وكرامته المذبوحة أن يتنصََّّر، فوضع في رقبته صليبا أصفر احتجاجا على انتصار الدولة على قطيع نعاجه


* من المجموعة القصصية قلادة القرنفل
أعلى