محمد مندور - في الميزان الجديد

فأما أولى الخاصيتين، فهي ظاهرة الحب بل العشق، والحب ليس وقفا على الغزل الجنسي كا قد يظن، فلغته من الناحية النفسية هي المنفذ الصادق لكل شعور حار، ومن عجب أن يفطن نقاد العرب أنفسهم إلى هذه الحقيقة الكبيرة فيحسون بلغة العشق عند أكبر شعراء العرب الخطابيين نفسه، وهو المتنبي، فيقول الثعالبي في "اليتيمة": إن المتنبي ققد خاطب الممدوح بمثل مخاطبة المحبوب، وإنه قد استعمل ألفاظ الغزل والنسيب في أوصاف الحرب والجد، وهو يرى في هذا مذهبا تفرد به شاعر الحمدانيين. وهذا حق، وإن يكن الثعالبي لم يستطع تعليل تلك الظاهرة؛ لأن النقد العربي بجملته لم يحاول أن يصل بين نفسية الشاعر وشعره، وذلك لسبب واضح، هو أنه يتضج إلا في العصر العباسي، وهو العصر الذي لم يعد يعبر فيه الشاعر التقليدي عن الحياة، وأصبح يرسف في محاكاة القديم، حتى لم يعد فضل للمحدثين في غير تجويد العبارة عن المعاني المطروقة والتفنن في "البديع". وجارى النقد الشعر فأصبح نقدا فنيا بحتا، ومن هنا لا ندهش عندما نرى الثعالبي يعلل استخدام المتنبي للغة الحب في غير الغزل بأن ذلك كان "اقتدارًا منه وتبحرا في الألفاظ والمعاني". ثم يضيف سببا آخر هو "رغبة الشاعر في رفع رأسه غن درجة الشعراء، والسمو بها إلى مماثلة الملوك"، وهذه الأسباب وإن تكن صحيحة إلا أنها لا تكفي، بل لعلها تعدو السبب الحقيقي الذي نجده في طبيعة المتنبي النفسية وفي ملابسات حياته، فقد كان الرجل قوي الانفعال سريع التأثر، زخرت نفسه بشتى المشاعر ففاضت في لغة الحب. ولقد أحب سيف الدولة حبا حقيقيا؛ إذ رأى فيه رجلا شهما كريما، وزاده حبا له كونه عربيا في زمن غلب فيه الأعاجم وسيطروا على العرب في كل مكان، إلا في حلب حيث كان يرابض الحمداني يحمي الثغور ضد الروم، ثم يخضع القبائل الثائرة، ويتبع النصر بالعفو عنهم ليضمهم إلى جانبه في دفاعه المجيد ضد أمراء بيزنطة أعداء العرب جميعا، ولقد ترك الشاعر أمير حلب مغضبا، ومكث في مصر عند أعداء بني حمدان أربع سنوات، ثم عاد إلى العراق، ومع ذلك لم يهج قط صديقه
الحبيب، ولا عدا في ذكره له حد العتاب الذي تفاوت لينا وشدة بتفاوت حالات الشاعر النفيسة، بل قد رأيناه يرثي أخته خولة رثاء مؤثرا يدل على حزن حقيقي ومشاطرة لأخيها في ألمه، ودعاه سيف الدولة إلى أن يعود إلى جواره فاعتذر، ومع ذلك لم يكتم فرحة بخطاب تلك الدعوة الكريمة التي أتته من صديقه القديم، ولقد عبر عن حزنه لفراق ذلك الصديق غير مرة في شعر صادق جميل مؤثر، وبخاصة أثناء إقامته بمصر:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
حببتك قلبي قبل حبك من نأى ... وقد كان غدَّارا فكن أنت وافيا
خُلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وقوله من قصيدة أخرى:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
أما تغلط الأيام فِيَّ بأن أرى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تُقرب
وقوله:
أود من الأيام ما لا توده ... وأشكو إليها بيننا وهي جنده
أبى خلق الدنيا حبيبا تديمه ... فما طلبي منها حبيبا ترده
أحب إذن شاعرنا سيف الدولة حبا حقيقيا، وحزن لفراقه حزنا موجعا:
ما لي أكتم حبا قد برى جسدي ... وتدعي حب سيف الدولة الأمم
إن كان يجمعنا حب لغرته ... فليت أنا بقدر الحب نقتسم
يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
وكذلك قوله:
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
... إلخ، مما يفيض غراما أو ما يشبه الغرام، وألف الشاعر تلك اللغة، فظهرت في مدحه لغير سيف الدولة، ككافور في قوله: "وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... " وقوله:
ولو لم يكن في مصر ما سرت نحوها ... بقلب المشوق المتسهام المتيم
وابن العميد بقوله:
تفضلت الأيام بالجمع بيننا ... فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد
فجد لي بقلبي إن رحلت فإنني ... مخلف قلبي عند من فضله عندي

وعضد الدولة بقوله:
أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت حفظت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
ولتعليل تلك اللغة في مخاطبة قوم لم يكن المتنبي يحبهم حبه الصادق لأمير حلب، يجب أن نفطن إلى حقائق نفسية أخرى عن الشاعر، وأخص تلك الحقائق اثنتان: الطموح والسذاجة، فالطموح من طبيعته أن يخلط بين الغايات والوسائل، فترى صاحبه يجب كل وسيلة إلى الغاية التي يستهدف، وكأن الغاية قد اختلطت بالوسيلة، وإذا اجتمعت السذاجة إلى الطموح -كما حدث عند المتنبي- لم يكن غريبا أن يحب الرجال الذين رأى فيهم كل وسائل إلى غاياته، وأن يسرف في هذا الحب عندما تخيل إليه سذاجته أن غاياته المحبوبة قد تحققت أو أصبحت في حكم المتحققة، ولعل في بيته الشهير:
وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب
وما يمثل نفسية الرجل الطموح خير تمثيل، فهو لا يحب إلا من يولي الجميل ولا يرى الطيب إلا حيث ينبت العز. وحن الآن لا نناقش قيمة هذا الإحساس من الناحية الأخلاقية، ولكننا نقرر حقيقة نفسية ثابتة، نجدها عند النفوس المندفعة الطموحة الساذجة في الغالب، والمتنبي من بينها.
وينتهي بنا هذا التحليل السريع إلى نقطة البدء، وهي مقدرة المتنبي على الانفعال، وبهذه المقدرة نعلل استخدامه لغة العشق أيضا في الكلام على الحر كقوله:
أعلى الممالك ما يبني على الأسل ... والطعن عند محبيهن كالقُبَل
وقوله:
شجاع كأن الحرب عاشقة له ... إذا زارها فدته بالخيل والرجل
فأنت ترى الطعن عنده كالقبل، وترى الحرب عاشقة للشجاع، وأمثال ذلك كثير في شعره.
هذه هي الظاهرة التي لاحظها الثعالبي وقد عللناها بما نراه متمشيا مع نفسية الشاعر، وهي بعد لا تقف عند المدح أو الفروسية، بل تكاد تمتد إلى معظم شعره. والقراء لا ريب يذكرون نظرية صديقنا الباحث العميق محمود شاكر، وهي التي يزعم فيها أن المتنبي قد أحب خولة حب غرام. ومن أكبر أدلته على ذلك ما في رثائه من حرارة الألم، ونحن وإن كنا غير واثقين من صحة هذا الفرض، إلا أننا مغتبطين إلى الظاهرة العامة التي لاحظها صاحب اليتيمة وأمَّنا عليها، فالمتنبي -ككل شاعر كبير- غني بنغمات الحب.

والحب هو الذي يمس نفوسنا عندما نستمع إلى أناشيد لبنان، وفي هذا تختلف أناشيدنا في جملتها عن أناشيدهم. فنحن نصدر، إما عن زهو كقولنا: "بلادك يا مصر بلاد الأسود" أو نحن "زوابع من نار في قوة الإعصار، في عزمه الجبار، كنا على الدنيا فنا" "نحن السيوف المشروعات". وإما أن ندعو إلى حروب كحروب دون كيشوت نحو: "يا قاعد في دارك والعالم في نار، ما تحمل سلاحك وتحمي الديار" أو "يا فرحتي، في الحرب حاخدم أمتي" بلغتها المخنثة السمجة التي يصدعنا بها الراديو المصري المشئوم صباح مساء.
وإما أن نستلهم "خضرة" الشجاعة في لغة لا أعرف لثقلها مثيلا: "مين زيك عندي يا خضرة1.. ما تجودي علي بنظرة.. وأنا رايح الميدان". وما إلى ذلك من استجداء لا يشعر بالحاجة إليه جندي حقيقي، يعرف أن البطولة الفذة ستجعل منه معقد أنظار "خضرات" الأرض جميعا، وما هكذا تكون الأناشيد وإنما تكون شعرًا، والشعر إحساس بجمال الوطن وحب لذلك الجمال. والأناشيد لا تحرك النفوس إلا بقدر ما فيها من تفاصيل حقيقية قادرة على استحضار صورة الوطن أمام الخيال. ثم التغني بتلك التفاصيل غناء مهموسا نافذا حارا، ومن هذا النوع "نشيد العروبة" الذي نريد أن نتحدث عنه.
عليك مني السلام ... يا أرض أجدادي
ففيك طاب المقام ... وطاب إنشادي
وهذان البيتان هما القرار الذي تردده الجوقة، وقوام الإحساس فيه ربط الوطن بمستقر الأجداد، ثم طيب المقام به ونشوة الانتماء إليه. وتأتي المقطوعة الأولى:
عشقت فيك السمر ... وبهجة النادي
عشقت ضوء القمر ... والكوكب الهادي
والليل لما اعتكر ... والنهر والوادي
والفجر لما انتشر ... بأرض أجدادي
وهذا شعر سهل قريب، ولكن تحس بلغة الحب تتقد بين مقاطعة، وكأن السمر وضوء القمر، والكوكب الهادي، والليل لما اعتكر، والنهر والوادي، والفجر لما انتشر ليست من الظواهر الشائعة بين البشر، بل شيء خاص، خاص بأرض أجدادي، يخيل إلَيَّ أن هذه الأشياء كلها غيرها في البقاع المغايرة للوطن الذي يتغنى به الشاعر، هناك شيء من التخصيص لا أدري من أين أتى، فهو يجري في المقطوعة كلها، يجري في الإحساس الصادق بالجمال، يجري في يسر العبارة، يجري في "فيك" بعد "عشقت" الأولى وفي "باء" "بأرض أجدادي" بعد "والفجر لما انتشر" يجري في موسيقى اللفظ، وحرارة القلب.
ويعود القرار: عليك مني السلام ... إلخ، ثم تأتي المقطوعة الثانية ولعلها أجمل ما في النشيد:
أهوى عيون العسل ... أهوى سواقيها
أهوى ثلوج الجبل ... ذابت لآليها
سالت كدمع المقل ... سبحان مجريها
ضاعت كرمز الأمل ... بأرض أجدادي
وهنا يجتمع الإحساس بالجمال الخاص، بالجمال الدال على وطن بعينه، الجبال ذات الثلوج تذوب كاللآلئ يجتمع إلى لوعة النفس، لوعة فيها روحية التصوف. سالت الثلوج كدمع المقل، سالت سبحان مجريها، ضاعت كرمز الأمل. ثروة روحية في تلك المعاني التي بلون بعضها وقد تدفقت في وحدة نفسية بالغة العمق! انظر إلى نار الوطنية تئج في تشبيه ثلوج الجبل الجميل كاللؤلؤ يدمع المقل، انظر إلى التصوف الديني في سبحان مجريها، انظر إلى العتاب القوي المثير للهمم في "ضاعت كرمز الأمل".
ويعود القرار مرة ثالثة، ثم تصل إلى المقطوعة الأخيرة:
يا قوم هذا الوطن ... نفسي تناجيه
فعالجوا في المحن ... جراح أهلية
إن تهجروه فمن ... في الخطب يحميه
ياما أحيلي السكن ... في أرض أجدادي
أوما يفعل هذا العتاب في النفس أكثر مما تفعل ألفاظنا الضخمة ونداءاتنا الغليظة المسرفة؟ فالنفس تناجي هذا الوطن، وقد نزلت به محن جرحت أهليه، هلا عالجتموها! وهأنتم تهاجرون التماسا لسعة الحياة، ولكن أما للوطن أن يلتمس فيكم حماته؟! هذا الوطن الجميل "ياما أحيلي السكن في أرض أجدادي"! عتبا فيه إغراء قوي حتى العبارة عذبة جميلة مؤثرة "ياما أحيلي السكن"، ياما أحيلاه في أرض أجدادي! هذا هو سحر الألفاظ، سحر مستمد من القلوب.
ذلك هو شعر الأناشيد الذي يخاطب النفس فيحركها؛ لأنه يقوم على الإحساس بجمال الوطن كما قلنا، على عشق هذا الجمال1، وأما الوطنية، وأما استنهاض العزائم، وأما الدعوة إلى الفداء، فكل تلك معانٍ لا يمسها الشاعر بظاهر اللفظ إلا في رفق يشبه الحياء، ولكن لكم نحسها قوية دامغة في حرارة النغمة، ولطف الإحساس، ونفاذ العبارة! وهذا هو سر الشعر، هوا لهمس إن أردت أن تعرف ما نقصد بذلك اللفظ الذي كأنه سر مغلق.
وبعد، فأنا أخشى أن يكون مصدر ما في أشعارنا من غلظ ضعف في الحاسة الفنية، حاسة الإحساس بالجمال، ثم نقص في القدرة الحقيقية على الحب بمعناه الإنساني الصحيح، ويزيد هذا الخوف في نفسي وضوحا ما ألاحظه من أن شعبنا لا يفطن إلى شيء اسمه جمال في شجرة أو نهر، فجر أو غسق، وإنما يعرف ذلك من سمع منا أو تعلم أن هناك شيئا بهذا الاسم، وأن الله لم يخلق الأشياء لما فيها من نفع مادي للإنسان فحسب، بل خلقها أيضا لمعانٍ روحية، سل مثلا فلاحا عن جمال شيء، تحس لساعتك أنك تخاطبه عن أمر خلا منه ذهنه على الإطلاق! وليس لذلك سبب غير الجهل.
فالإحساس بالجمال ذاته لا بد أن يوقظه العلم، واللبنانيون أكثر اتصالا منا بثقافة الغرب؛ ولذلك نضح إحساسهم، ورهفت أذواقهم، ونضجت نفوسهم، ومن هنا ترانا ندعو جاهدين إلى نقل الثقافة الغربية إن كنا نريد نهضة حقيقية، وما النهضة إلا نوع من الحياة لا أفكار تردد أو نظريات تسرد.


__________
1 لقد بلغني أن المقصود بخضرة هنا هو "وادي النيل" ولكن متى عرفت الأناشيد المصرية الرموز!

***

1 وهذا الاتجاه الصحيح في كتابة الأناشيد ليس خاصا بالأدب العربي، فهو واضح في معظم الأناشيد الغربية، ولقد سبق أن ترجمنا نشيد "الرين" للشاعر الألماني نيقولا بيكر بالثقافة "عدد 166" وفيه يتغنى الشاعر بجمال نهرهم وجمال نبيذه وجمال بناته.



.







* في الميزان الجديد
المؤلف: محمد مندور (المتوفى: 1385هـ)


.
أعلى