مقالات في أدب محمود شاهين (1/12)
تقديم عمل فكري/فلسفي يستدعي من المُقدم استخدام أشكال أدبية وطريقاً تُسهل على المتلقي تناول هذا الفكر/الفلسفة، فالشكل هنا مهم وحيوي كحال الفكرة المُقدمة، من هنا سندخل إلى رواية "قصة الخلق" والتي يأخذنا عنوانها إلى الأسطورة السومرية "في العلا عندما، الأينوما ايليش" فهناك تشابه في فكرة الرواية والملحمة، فهما تتحدثنان عن الخلق وكيف تم خلق الكون، ولم يقتصر التشابه في الفكرة فحسب، بل طال أيضا أحداثا، فكلتاهما تحدثتا عن عالم السماء والآلهة/الله، والحوار بين الله الخالق والمخلوق، لكن بالتأكيد الخيال والصراع/الحوار بين الآلهة "في العلا عندما" كان أوسع، بينما في "قصة الخلق" لا نجده إلا في بضع مواضع من الرواية.
السرد :
السرد الروائي هو الذي حمل إلينا أفكار "محمود أبو الجدايل" عن الخلق والخالق، وبما أن هناك أفكاراً جديدة وتحتاج إلى وقفة وتأمل من القارئ، فقد أوجد السارد طريقة الحوار بينه وبين "أسيل القمر" من خلال إجراء لقاءات تلفزيونية بينهما، وكان يتخلل هذه الحلقات أسئلة تطرح على "محمود أبو الجايل" وهو يجيب عليها.
لكن هذه الحوارات لا تكفي لإعطاء المتلقي فسحة ليفكر فيما يطرح من أفكار فلسفية كونية، فأوجد السارد أحدثاَ "اجتماعية" تجري له ولمحبوبته "لمى"، يخفف بها من (حدة) الأفكار التي يطرحها، فكانت هذه الأحداث بمثابة (فاكهة) في الرواية، رغم ما فيها من قسوة وألم.
كما أن سرد الأحداث في الرواية لم يقتصر على شخص بعينه، فهناك السارد الخارجي/العليم: "فوجئ أبو الجدايل بآنسة جميلة ستجري معه اللقاء" ص16، وأبو الجدايل: " قابلتني أسيل بمرح ووجه مشرق وجمال أخاذ يتوهج كنور يغمر الكون بهالة ربانية" ص78، ولمى: "مر على رحيل أبي في البحر الميت قرابة عام ونصف، قلت لمحمود" ص67، وأسيل: "...لكن ما لا أفهمه أن اشتهاء محمود لي في هذا اللقاء بعد الزواج، قد اختفى تماما" ص175، وأحيانا في الفصل الواحد كان السرد يتوزع على مجموعة شخصيات كما هو الحال في "(19) أم بشير تتبتل إلى الله!" ص184 حيث نجد أكثر من سارد في هذا الفصل، "أم بشير، لمى، الإرهابيين، أسيل/ السارد الخارجي/العليم" كما تنوعت الأحداث، وهذا التشكيل في السرد جاء (ليخفف) على المتلقي ويخرجه من دائرة (صعوبة الأفكار) التي تحملها الرواية.
لهذا نجد أن تعدد الرواة في سرد الأحداث أسهم في التخفيف على القارئ، وإعطائه مجالاً ليستريح ويفكر فيما يطرح من أفكار، كما أن هذا التشكيل والتنوع في السرد أسهم في إيصال فكرة ضرورة الإستماع إلى الرأي الأخر، فكان السارد حامل/خادم لفكرة التعدد والتنوع التي حملتها فكرة الرواية.
كما أن تعدد الرواة منح الرواية لمسة ناعمة جعلت القارئ يتمتع بتلك الأصوات، ويتعاطف مع كل نساء الرواية، وينحاز لقضاياهن، لأنهن كن ضحايا المجتمع الذكوري، وهذه ميزة أخرى تحسب لأفكار الرواية، فالرواية عندما وصفها "فلسفية اجتماعية" كانت قضايا المرأة أهم المسائل التي طرحتها بالإضافة إلى "الإرهاب".
وإذا أخذنا النسق الذي جاءت به الرواية نجده مرتباً، فكان الفصل الفلسفي/اللقاء مع أسيل، يتبعه فصل اجتماعي/الأحداث التي تجري مع أبو الجدايل ولمى، استمر هذا الترتيب حتى الصفحة 112، "10 فاسق وبغي وقواد" والذي يتحدث فيه عن أم بشير زوجة الشخص الذي حاول اغتيال "أبو الجدايل"، في هذا الفصل كانت القسوة شديدة الوقع على المتلقي، حيث تحدث السارد عن مجزرة دير ياسين، والحياة القاسية التي مرت بها "أم بشير، وكيف أن زوجها فرض عليها القيام بدور المومس وأمام عينيه، وكيف استغل "الشيخ" سجن زوجها، وجعلها تقوم بدور البغي. هذا الفصل من أصعب فصول الرواية، لهذا عندما شعر السارد أنه أثقل كاهل المتلقي بالأحداث الدامية، والحديث عن الوحشية التي تعرضت لها "أم بشير" تجاوز النسق والترتيب الذي بدأ به الرواية، وأوجد فصلا لاحقا مباشرة "(11) أحلى وأجمل وأعظم أخ" ص123، والذي حل/فك فيه كل مشاكل "أم بشير وأسرتها، من خلال إيجاد بيت جديد لتسكنه بدل مسكنها الذي تحول إلى مبغى، وأعطائها شكاً بقيمة ثلاثة آلاف دينار لتبدأ به حياتها بشكل سوي، بعيداً عن الشيوخ والإرهاب والدعارة.
نبل السارد:
وهذا الموقف يحسب للسارد الذي (راعى) مشاعر القارئ، فأبى أن يتركه بحالة ألم ووجع على ما تعرضت له أسرة "أم بشير" فالموقف النبيل لم يقتصر على انهاء أزمة ومشكلة الشخصيات الروائية، بل طال القارئ نفسه. بهذا الشكل الإنساني استطاع السارد أن يوصل لنا فكرة نبيله، إضافة إلى كرم أبي الجدايل ومشاعره الإنسانية، ليس تجاه ابطال روايته فحسب، بل تجاه المتلقين لعمله أيضا، وهذه إحدى الأفكار الأخلاقية التي تحملها الرواية.
الخيال:
تخفيفا على القارئ، وتسهيلا لإيصال الأفكار التي جاءت في الرواية يستخدم السارد الخيال/التخيل، وأخذه إلى عالم متخيل، فهناك أربعة مواضع تم فيها الهيام في عالم السماء والخروج من الواقع، تحدثنا "لمى" عن أحد هذه المواضع بقولها: "يحب محمود أحيانا أن يخرج من العالم الواقعي الكريه ليعيش في عالمه الأدبي المتخيل، ومن أحب الشخصيات له شخصية الملك لقمان وشخصية أخرى لأديب يحيله الله إلى ابن له ... فراح يخاطبني على أنني مليكته نور السماء وهي بطلة ملحمة الملك لقمان.. وبناء عليه طلبت مائدة ملكية مهولة: تنبه العمال إلى أننا نتخاطب كملك وملكة فاحتاروا في أمرنا، ولم يجدوا مفراً من مخاطبتنا كملك وملكة" ص35، كلنا يعلم أن الخيال والفانتازيا يمتع المتلقي، ويخرجه من دائرة الأحداث القاسية، من هنا نجد هذا الخروج من الواقع تم من خلال إيجاد شخصيات متخيلة "الملك لقمان ونور السماء" ومن خلال تقمص هذه الشخصيات، بحيث يجعلها تعيش الدورين معا، دور التخيل/السماوي ودور الواقع/الأرضي.
يتبع
تقديم عمل فكري/فلسفي يستدعي من المُقدم استخدام أشكال أدبية وطريقاً تُسهل على المتلقي تناول هذا الفكر/الفلسفة، فالشكل هنا مهم وحيوي كحال الفكرة المُقدمة، من هنا سندخل إلى رواية "قصة الخلق" والتي يأخذنا عنوانها إلى الأسطورة السومرية "في العلا عندما، الأينوما ايليش" فهناك تشابه في فكرة الرواية والملحمة، فهما تتحدثنان عن الخلق وكيف تم خلق الكون، ولم يقتصر التشابه في الفكرة فحسب، بل طال أيضا أحداثا، فكلتاهما تحدثتا عن عالم السماء والآلهة/الله، والحوار بين الله الخالق والمخلوق، لكن بالتأكيد الخيال والصراع/الحوار بين الآلهة "في العلا عندما" كان أوسع، بينما في "قصة الخلق" لا نجده إلا في بضع مواضع من الرواية.
السرد :
السرد الروائي هو الذي حمل إلينا أفكار "محمود أبو الجدايل" عن الخلق والخالق، وبما أن هناك أفكاراً جديدة وتحتاج إلى وقفة وتأمل من القارئ، فقد أوجد السارد طريقة الحوار بينه وبين "أسيل القمر" من خلال إجراء لقاءات تلفزيونية بينهما، وكان يتخلل هذه الحلقات أسئلة تطرح على "محمود أبو الجايل" وهو يجيب عليها.
لكن هذه الحوارات لا تكفي لإعطاء المتلقي فسحة ليفكر فيما يطرح من أفكار فلسفية كونية، فأوجد السارد أحدثاَ "اجتماعية" تجري له ولمحبوبته "لمى"، يخفف بها من (حدة) الأفكار التي يطرحها، فكانت هذه الأحداث بمثابة (فاكهة) في الرواية، رغم ما فيها من قسوة وألم.
كما أن سرد الأحداث في الرواية لم يقتصر على شخص بعينه، فهناك السارد الخارجي/العليم: "فوجئ أبو الجدايل بآنسة جميلة ستجري معه اللقاء" ص16، وأبو الجدايل: " قابلتني أسيل بمرح ووجه مشرق وجمال أخاذ يتوهج كنور يغمر الكون بهالة ربانية" ص78، ولمى: "مر على رحيل أبي في البحر الميت قرابة عام ونصف، قلت لمحمود" ص67، وأسيل: "...لكن ما لا أفهمه أن اشتهاء محمود لي في هذا اللقاء بعد الزواج، قد اختفى تماما" ص175، وأحيانا في الفصل الواحد كان السرد يتوزع على مجموعة شخصيات كما هو الحال في "(19) أم بشير تتبتل إلى الله!" ص184 حيث نجد أكثر من سارد في هذا الفصل، "أم بشير، لمى، الإرهابيين، أسيل/ السارد الخارجي/العليم" كما تنوعت الأحداث، وهذا التشكيل في السرد جاء (ليخفف) على المتلقي ويخرجه من دائرة (صعوبة الأفكار) التي تحملها الرواية.
لهذا نجد أن تعدد الرواة في سرد الأحداث أسهم في التخفيف على القارئ، وإعطائه مجالاً ليستريح ويفكر فيما يطرح من أفكار، كما أن هذا التشكيل والتنوع في السرد أسهم في إيصال فكرة ضرورة الإستماع إلى الرأي الأخر، فكان السارد حامل/خادم لفكرة التعدد والتنوع التي حملتها فكرة الرواية.
كما أن تعدد الرواة منح الرواية لمسة ناعمة جعلت القارئ يتمتع بتلك الأصوات، ويتعاطف مع كل نساء الرواية، وينحاز لقضاياهن، لأنهن كن ضحايا المجتمع الذكوري، وهذه ميزة أخرى تحسب لأفكار الرواية، فالرواية عندما وصفها "فلسفية اجتماعية" كانت قضايا المرأة أهم المسائل التي طرحتها بالإضافة إلى "الإرهاب".
وإذا أخذنا النسق الذي جاءت به الرواية نجده مرتباً، فكان الفصل الفلسفي/اللقاء مع أسيل، يتبعه فصل اجتماعي/الأحداث التي تجري مع أبو الجدايل ولمى، استمر هذا الترتيب حتى الصفحة 112، "10 فاسق وبغي وقواد" والذي يتحدث فيه عن أم بشير زوجة الشخص الذي حاول اغتيال "أبو الجدايل"، في هذا الفصل كانت القسوة شديدة الوقع على المتلقي، حيث تحدث السارد عن مجزرة دير ياسين، والحياة القاسية التي مرت بها "أم بشير، وكيف أن زوجها فرض عليها القيام بدور المومس وأمام عينيه، وكيف استغل "الشيخ" سجن زوجها، وجعلها تقوم بدور البغي. هذا الفصل من أصعب فصول الرواية، لهذا عندما شعر السارد أنه أثقل كاهل المتلقي بالأحداث الدامية، والحديث عن الوحشية التي تعرضت لها "أم بشير" تجاوز النسق والترتيب الذي بدأ به الرواية، وأوجد فصلا لاحقا مباشرة "(11) أحلى وأجمل وأعظم أخ" ص123، والذي حل/فك فيه كل مشاكل "أم بشير وأسرتها، من خلال إيجاد بيت جديد لتسكنه بدل مسكنها الذي تحول إلى مبغى، وأعطائها شكاً بقيمة ثلاثة آلاف دينار لتبدأ به حياتها بشكل سوي، بعيداً عن الشيوخ والإرهاب والدعارة.
نبل السارد:
وهذا الموقف يحسب للسارد الذي (راعى) مشاعر القارئ، فأبى أن يتركه بحالة ألم ووجع على ما تعرضت له أسرة "أم بشير" فالموقف النبيل لم يقتصر على انهاء أزمة ومشكلة الشخصيات الروائية، بل طال القارئ نفسه. بهذا الشكل الإنساني استطاع السارد أن يوصل لنا فكرة نبيله، إضافة إلى كرم أبي الجدايل ومشاعره الإنسانية، ليس تجاه ابطال روايته فحسب، بل تجاه المتلقين لعمله أيضا، وهذه إحدى الأفكار الأخلاقية التي تحملها الرواية.
الخيال:
تخفيفا على القارئ، وتسهيلا لإيصال الأفكار التي جاءت في الرواية يستخدم السارد الخيال/التخيل، وأخذه إلى عالم متخيل، فهناك أربعة مواضع تم فيها الهيام في عالم السماء والخروج من الواقع، تحدثنا "لمى" عن أحد هذه المواضع بقولها: "يحب محمود أحيانا أن يخرج من العالم الواقعي الكريه ليعيش في عالمه الأدبي المتخيل، ومن أحب الشخصيات له شخصية الملك لقمان وشخصية أخرى لأديب يحيله الله إلى ابن له ... فراح يخاطبني على أنني مليكته نور السماء وهي بطلة ملحمة الملك لقمان.. وبناء عليه طلبت مائدة ملكية مهولة: تنبه العمال إلى أننا نتخاطب كملك وملكة فاحتاروا في أمرنا، ولم يجدوا مفراً من مخاطبتنا كملك وملكة" ص35، كلنا يعلم أن الخيال والفانتازيا يمتع المتلقي، ويخرجه من دائرة الأحداث القاسية، من هنا نجد هذا الخروج من الواقع تم من خلال إيجاد شخصيات متخيلة "الملك لقمان ونور السماء" ومن خلال تقمص هذه الشخصيات، بحيث يجعلها تعيش الدورين معا، دور التخيل/السماوي ودور الواقع/الأرضي.
يتبع