أي مصادفةٍ هذه التي ساقتني لأقرأ كتاب الرغيف الأسود، للكاتب المغربي، حسن المصلوحي اليوم، والغيوم حالكة السواد، ترمي شوارع وبيوت مدينتي، الناصرة، بكل ما في جوفها من مطرٍ وبَرَد وربما ثلج، في أقصى مرتفعاتها. إنه يوم عاصف، شديد البرودة، حالك، لم نعتد عليه كثيرًا في مدينتنا، فلَزِمنا بيوتنا (وبالذات مَن لا حاجة له بالخروج من بيته)، ونشدنا الدفء، وراح الكثيرون يعبّرون عن هذه الأجواء برومانسية. وحتى لا يُتهم بعض هؤلاء بغياب الضمير وقسوة المشاعر، نشروا على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، صورًا لأطفال لاجئين قد تركوا أوطانهم مع عائلاتهم نتيجة الحروب ومآسيها، وتشتتوا في بلاد الغربة. أكاد أن أجزم، أن البعض من هؤلاء قد نشروا صور الطفولة البائسة، وهم يحتسون شرابهم المفضّل الساخن، ويجلسون على الأريكة الدافئة أمام المدفأة. لقد نشروا صورًا لأطفالٍ ونساء لاجئين من سوريا، واليمن، والعراق، وأفغانستان وغيرها من البلاد المنكوبة؛ نشروا صور أطفال وهم يتجمدون من شدة البرد، ويبتهلون، ربما، الى "الرحمن الرحيم" بأن يأخذهم إليه ويريحهم من العذاب. أي نفاقٍ هذا!؟ وأي إنسانية زائفة هذه!؟
صور الطفولة البائسة التي نشرها الأصدقاء على صفحاتهم، أثارت بي الغضب والسخط، فكيف بمَن عاش هذه الطفولة أو ما زال يعيشها؟! مؤلف كتاب "الرغيف الأسود"، حسن المصلوحي، وأصدقائه في "دوار بو غابات" قد عاشوا هذه الطفولة البائسة، وكشف لنا الكاتب المصلوحي عن ذلك في كتابه، "الرغيف الأسود".
كتاب "الرغيف الأسود"، هو برأيي، عبارة عن لوحاتٍ انتزعها حسن المصلوحي من مخزنها في ذاكرته، أو الأدق قد انتقاها، لتخرج الى النور على شكل كتاب. وأقول انتقاها، لأن الكاتب حدثّنا عن أصدقائه، وجيرانه في دوار "بو غابات"، وعن جدّته حنّة وحنانها وكرمها، وعن مدرسّيه، ووصف لنا شظف العيش في الدوار الذي سكنه، وعلاقته بأصدقائه وجيرانه، وصيده للعقارب والطيور، ووصف لنا نهج المدرسين في عقاب التلاميذ؛ لكنّه، لم يبُح، ولم يكتب عن والدته، ووالده، وأخته خديجة، وأخوته الثلاثة الآخرين، الا النزر القليل، وفي سياق أحداث أخرى، دون أن يخصّص لهم مذكّرة (لوحة) خاصة بهم، كما فعل مع غيرهم كجدته حنّة مثلًا. هذا يعني أن الكاتب ما زال لديه الكثير ليقوله عن طفولته؛ لكنه اختار أن لا يكتب عنها في هذه المرحلة.
إن مضمون كتاب " الرغيف الأسود"، وما جاء فيه من وصفٍ لحي فقير، يقاسي ساكنوه من العوَز، والقهر، وقسوة الحياة؛ ليس غريبًا على القرّاء؛ فقد سبق وأن كتب كتّاب آخرون عن الطفولة البائسة، وعن الأحياء الفقيرة، ووصفوا صعوبة العيش فيها... عندما قرأت عنوان، "الرغيف الأسود" وعرفت أن كاتبه مغربيّ الأصل، تبادر الى ذهني فورًا كتاب "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمد شكري، وحسبت لأول وهلةٍ، أن "الرغيف الأسود" يشبهه من حيث المضمون وأسلوب السرد؛ لكن سرعان ما تبيّن لي الاختلاف بين الكتابيْن، ولو أنهما يلتقيان بوصف طفولة بائسة، مع فارق كبير في سير الأحداث. فعلى سبيل المثال، إن شظف العيش والفقر في دوّار "بو غابات" لم يؤديا الى انحراف أطفاله، كما عرفنا من كتاب " الرغيف الأسود"، مثل ما حدث مع محمد شكري وأصدقائه وقرأنا عن ذلك في الخبز الحافي. على أي حال لست الآن بصدد إجراء مقارنة بين الكتابيْن، وإنما ما أثار تعجبي هو أن كتاب" الرغيف الأسود" صدر عام 2020 ومؤلفه، حسن المصلوحي، يصف فيه طفولته القاسية، أي أنه يتحدث عن سنوات التسعينات، وهي فترة ليست ببعيدة عنّا زمنيًا؛ فهل يعقل أن في هذه السنوات ما زال يعيش الناس في مناطق من دولة المغرب، هذه الحياة القاسية؟ هل يُعقل أن المدرسين في سنوات التسعينات في هذه المنطقة من المغرب، ما زالوا يستعملون الفلقة لمعاقبة تلاميذهم؟ لقد أحزنني وأثر في نفسي كإنسانة أولًا وتربوية ثانية؛ أن ما كتبه المصلوحي عن عقاب المعلم له ولغيره من أقرانه بالفلقة، والجو قارس البرودة. لكن مهلًا؛ لماذا أتعجب وأستغرب من حياة البؤس هذه، والطفولة ما زالت مسروقة، وحقوق الأطفال منتهكة في البلدان العربية، والبلدان المحتلّة، وبلدان العالم الثالث!
برأيي، تكمن قيمة كتاب، " الرغيف الأسود" ليس بموضوعه، أو وصفه حياة الشقاء لشريحة من الناس في المغرب في سنوات التسعين، وإنما تكمن في أنه وثّق هذه الحياة في بقعة معينة من المغرب. لقد وثّق صورة العلاقات بين الأفراد في هذه البقعة، وأنواع الأكلات فيها، وأنواع الألعاب التي يلعبها الأطفال، وطريقة الاحتفال بذكرى المولد النبوي صلّ الله عليه وسلم .... وهنا، كان من المفضّل برأيي، أن يذيّل الكاتب بعض صفحات كتابه بشرح لبعض المصطلحات غير المعروفة للقارئ غير المغربي ليتسنى له فهمها. كذلك كان من المفضّل تقديم شرح بسيط لأنواع الأكلات والألعاب التي ذكرها الكاتب والمتعارف عليها في المغرب، ليتعرف على ماهيتها، القارئ غير المغربي.
لقد أسهب الكاتب المصلوحي، في وصفه مشقة العمل لفئات الناس المستضعفة في لوحته (مذكرته)" لاقطات البطاطس أو الموقف". هذه المذكرة، ذكرتني برواية "الحرام" ليوسف أدريس، والتي حوّلها المخرج المبدع، يوسف شاهين الى تحفة سينمائية، بطلتها سيدة الشاشة، فاتن حمامة. هذه القصة صدرت عام 1959، وها هو حسن المصلوحي بعد خمسين عامًا تقريبًا، يصدر كتابه، " الرغيف الأسود (عام 2020) ويصف فيه ذات القهر، وذات الطبقية الاجتماعية، وذات حياة البؤس والفقر، لفئات مستضعفة تعيش في المغرب بعيدًا عن وهج الحياة في العاصمة، الرباط.
في اللوحة الأخيرة من كتاب، الرغيف الأسود، والمعنونة "برقصة الموت"، ينتظر الكاتب المصلوحي، الموت. يقول في صفحة 112 من الكتاب: "على موعد مع "الموت". أخبرني قبل عام ونصف تقريبًا، أنه سيزورني ليلًا، لكنّه لم يأتِ". وفي ذات الصفحة يكتب: "الليلة أيضًا يبدو أنك لن تأتي، وأنا سئمت الانتظار على حافة شرفتي". وهنا يسأل السؤال: لماذا يُنهي الكاتب كتابه بهذا اليأس؟ وهو شاب قد تعلّم ونجح، ويعيش اليوم في إيطاليا، ووالدته وأقرانه وجيرانه في دوّار "بو غابات" في المغرب يفخرون به. لماذا يقف على حافة شرفته ويستذكر طفولته البائسة في دوار بو غابات وينتظر الموت؟ هل يعاني تأنيب الضمير بسبب ما يقاسيه أبناء منطقته في المغرب؟ لكن، هو ليس مسؤولا عن الظروف القاسية التي تسود مناطق في وطنه المغرب. ألم يكن من الأجدى بأن ينهي الكتاب ببصيص من أمل، وبالنية لمحاربة الظلم ومكافحة القهر والتصدي للغبن بقلمه...؟! إنّ المواطن الذي يعيش في هذه البقعة من المغرب، ليس مسؤولا عن الظروف القاسية التي يعيشها، وإنما المسؤول عن بؤس الأطفال في وطنهم، وتعاسة وفقر ذويهم؛ هم أولئك الذين يسكنون في أبراجهم العاجية وقد نسوا الفئات المستضعفة من شعبهم، وتنكّروا لتحمّل المسؤولية عن فقر، وبؤس هذه الفئات.
***
قدّمت هذه القراءة في ندوة، "اليوم السابع"، في القدس، بتاريخ 27.1.2022
صور الطفولة البائسة التي نشرها الأصدقاء على صفحاتهم، أثارت بي الغضب والسخط، فكيف بمَن عاش هذه الطفولة أو ما زال يعيشها؟! مؤلف كتاب "الرغيف الأسود"، حسن المصلوحي، وأصدقائه في "دوار بو غابات" قد عاشوا هذه الطفولة البائسة، وكشف لنا الكاتب المصلوحي عن ذلك في كتابه، "الرغيف الأسود".
كتاب "الرغيف الأسود"، هو برأيي، عبارة عن لوحاتٍ انتزعها حسن المصلوحي من مخزنها في ذاكرته، أو الأدق قد انتقاها، لتخرج الى النور على شكل كتاب. وأقول انتقاها، لأن الكاتب حدثّنا عن أصدقائه، وجيرانه في دوار "بو غابات"، وعن جدّته حنّة وحنانها وكرمها، وعن مدرسّيه، ووصف لنا شظف العيش في الدوار الذي سكنه، وعلاقته بأصدقائه وجيرانه، وصيده للعقارب والطيور، ووصف لنا نهج المدرسين في عقاب التلاميذ؛ لكنّه، لم يبُح، ولم يكتب عن والدته، ووالده، وأخته خديجة، وأخوته الثلاثة الآخرين، الا النزر القليل، وفي سياق أحداث أخرى، دون أن يخصّص لهم مذكّرة (لوحة) خاصة بهم، كما فعل مع غيرهم كجدته حنّة مثلًا. هذا يعني أن الكاتب ما زال لديه الكثير ليقوله عن طفولته؛ لكنه اختار أن لا يكتب عنها في هذه المرحلة.
إن مضمون كتاب " الرغيف الأسود"، وما جاء فيه من وصفٍ لحي فقير، يقاسي ساكنوه من العوَز، والقهر، وقسوة الحياة؛ ليس غريبًا على القرّاء؛ فقد سبق وأن كتب كتّاب آخرون عن الطفولة البائسة، وعن الأحياء الفقيرة، ووصفوا صعوبة العيش فيها... عندما قرأت عنوان، "الرغيف الأسود" وعرفت أن كاتبه مغربيّ الأصل، تبادر الى ذهني فورًا كتاب "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمد شكري، وحسبت لأول وهلةٍ، أن "الرغيف الأسود" يشبهه من حيث المضمون وأسلوب السرد؛ لكن سرعان ما تبيّن لي الاختلاف بين الكتابيْن، ولو أنهما يلتقيان بوصف طفولة بائسة، مع فارق كبير في سير الأحداث. فعلى سبيل المثال، إن شظف العيش والفقر في دوّار "بو غابات" لم يؤديا الى انحراف أطفاله، كما عرفنا من كتاب " الرغيف الأسود"، مثل ما حدث مع محمد شكري وأصدقائه وقرأنا عن ذلك في الخبز الحافي. على أي حال لست الآن بصدد إجراء مقارنة بين الكتابيْن، وإنما ما أثار تعجبي هو أن كتاب" الرغيف الأسود" صدر عام 2020 ومؤلفه، حسن المصلوحي، يصف فيه طفولته القاسية، أي أنه يتحدث عن سنوات التسعينات، وهي فترة ليست ببعيدة عنّا زمنيًا؛ فهل يعقل أن في هذه السنوات ما زال يعيش الناس في مناطق من دولة المغرب، هذه الحياة القاسية؟ هل يُعقل أن المدرسين في سنوات التسعينات في هذه المنطقة من المغرب، ما زالوا يستعملون الفلقة لمعاقبة تلاميذهم؟ لقد أحزنني وأثر في نفسي كإنسانة أولًا وتربوية ثانية؛ أن ما كتبه المصلوحي عن عقاب المعلم له ولغيره من أقرانه بالفلقة، والجو قارس البرودة. لكن مهلًا؛ لماذا أتعجب وأستغرب من حياة البؤس هذه، والطفولة ما زالت مسروقة، وحقوق الأطفال منتهكة في البلدان العربية، والبلدان المحتلّة، وبلدان العالم الثالث!
برأيي، تكمن قيمة كتاب، " الرغيف الأسود" ليس بموضوعه، أو وصفه حياة الشقاء لشريحة من الناس في المغرب في سنوات التسعين، وإنما تكمن في أنه وثّق هذه الحياة في بقعة معينة من المغرب. لقد وثّق صورة العلاقات بين الأفراد في هذه البقعة، وأنواع الأكلات فيها، وأنواع الألعاب التي يلعبها الأطفال، وطريقة الاحتفال بذكرى المولد النبوي صلّ الله عليه وسلم .... وهنا، كان من المفضّل برأيي، أن يذيّل الكاتب بعض صفحات كتابه بشرح لبعض المصطلحات غير المعروفة للقارئ غير المغربي ليتسنى له فهمها. كذلك كان من المفضّل تقديم شرح بسيط لأنواع الأكلات والألعاب التي ذكرها الكاتب والمتعارف عليها في المغرب، ليتعرف على ماهيتها، القارئ غير المغربي.
لقد أسهب الكاتب المصلوحي، في وصفه مشقة العمل لفئات الناس المستضعفة في لوحته (مذكرته)" لاقطات البطاطس أو الموقف". هذه المذكرة، ذكرتني برواية "الحرام" ليوسف أدريس، والتي حوّلها المخرج المبدع، يوسف شاهين الى تحفة سينمائية، بطلتها سيدة الشاشة، فاتن حمامة. هذه القصة صدرت عام 1959، وها هو حسن المصلوحي بعد خمسين عامًا تقريبًا، يصدر كتابه، " الرغيف الأسود (عام 2020) ويصف فيه ذات القهر، وذات الطبقية الاجتماعية، وذات حياة البؤس والفقر، لفئات مستضعفة تعيش في المغرب بعيدًا عن وهج الحياة في العاصمة، الرباط.
في اللوحة الأخيرة من كتاب، الرغيف الأسود، والمعنونة "برقصة الموت"، ينتظر الكاتب المصلوحي، الموت. يقول في صفحة 112 من الكتاب: "على موعد مع "الموت". أخبرني قبل عام ونصف تقريبًا، أنه سيزورني ليلًا، لكنّه لم يأتِ". وفي ذات الصفحة يكتب: "الليلة أيضًا يبدو أنك لن تأتي، وأنا سئمت الانتظار على حافة شرفتي". وهنا يسأل السؤال: لماذا يُنهي الكاتب كتابه بهذا اليأس؟ وهو شاب قد تعلّم ونجح، ويعيش اليوم في إيطاليا، ووالدته وأقرانه وجيرانه في دوّار "بو غابات" في المغرب يفخرون به. لماذا يقف على حافة شرفته ويستذكر طفولته البائسة في دوار بو غابات وينتظر الموت؟ هل يعاني تأنيب الضمير بسبب ما يقاسيه أبناء منطقته في المغرب؟ لكن، هو ليس مسؤولا عن الظروف القاسية التي تسود مناطق في وطنه المغرب. ألم يكن من الأجدى بأن ينهي الكتاب ببصيص من أمل، وبالنية لمحاربة الظلم ومكافحة القهر والتصدي للغبن بقلمه...؟! إنّ المواطن الذي يعيش في هذه البقعة من المغرب، ليس مسؤولا عن الظروف القاسية التي يعيشها، وإنما المسؤول عن بؤس الأطفال في وطنهم، وتعاسة وفقر ذويهم؛ هم أولئك الذين يسكنون في أبراجهم العاجية وقد نسوا الفئات المستضعفة من شعبهم، وتنكّروا لتحمّل المسؤولية عن فقر، وبؤس هذه الفئات.
***
قدّمت هذه القراءة في ندوة، "اليوم السابع"، في القدس، بتاريخ 27.1.2022