مقالات في أدب محمود شاهين (12/2)
في موضع آخر في الرواية يحررمحمود أبو الجدايل جسده من الأرض ويحلق في السماء: "... يطلق العنان لخياله ليحلق فيها مبتدئاً بالتجرد من ثقل جسده متوغلا في أعماق نفسه، ليغدو بوزن الريشة.. يطير متجولا في الفضاء، تحف به أسراب من نجوم سماوية، يبحر بعيدا في أغوار الكون، ممتطيا متن سرير ملائكي... يسبح في هالات من الأنوار مختلفة الألوان... يتلون جسمه بكل الألوان التي مر سريره عبرها.. يهتف صوت مألوف له، طالما سمعه وهو يغرق في تأملاته .. إنه صوت الله دون شك:
"إلى أين أنت ذاهب يا محمود؟
"أبحث عنك يا إلهي
"تبحث عني؟ أنت تعرف أنني في كل مكان
"أريد أن أراك مجسدا
"تعرف أنني مجسد في كل شيء، فليس هناك من هو مجسد بغير مادتي
"أريد أن اراك أمامي في أجمل جسد تحبه" ص196،
نلاحظ أن هناك خيالاً جامحأ، من خلال تحرر الجسد من الأرض واطلاقه نحو السماء، وأيضا نجد أفكار السارد عن الخالق، وبهذا يكون الخيال قد أمتع المتلقي، وساهم في تسهيل إيصال فكرة الرواية للمتلقي.
يتجرأ السارد أكثر في تقديم فكرته عن الخالق فيقدمه بهذه الصورة: "وخلال لحظات رأى محمود هيكلاً من ألوان متلألئة تنبثق في فضاء من النجوم المتوهجة ، راحت الألوان تنحسر عن الهيكل شيئا فشيئا لتتجلى عن فتاة ملائكية خارقة الجمال ترفل بثياب من السندس والاستبرق ، تجلس على كرسي وثير، تحيط بها هالة نورانية، تضفي على وجهها جمالا ساحرأً، وتضع على رأسها تاجاً مرصعاً بالجواهر، مطلقة شعراً طويلا على جانبي صدرها وعلى ظهرها .
انبهر محمود للحظات بجمالها الخلّاق وراح يهتف "ما أجملك يا إلهتي" وأحنى رأسه تحية واحتراما لها ، وخاطبها كإلهة طالبا إليها أن تتيح له تقبيل يدها. مدت الربة يدها فأخذها محمود وقبلها .. خاطبها متسائلا عما إذا كانت إلها أم إلهة. قالت :
- بل أنا الألوهة التي تكمن فيها الذكورة والأنوثة! أو الربوبية بشقيها الأنثوي والذكوري! دون أن تكون ذكرا أو تكون انثى .
- ماذا تكونين اذن يا ربتي ؟
- أكون الألوهة أو الله إن شئت !
- وبأي صفة سأخاطب جلالك ؟
- كما تشاء ، يمكن أن تخاطبني كربة أو كرب ، الأمرجائز ..
- ألا تفضلين جلالتك الأنوثة كونك اخترت جسدا وشكلا أقرب إلى الأنثى منه إلى الذكر؟
- صحيح . أنا أفضل الأنوثة فيّ على الذكورة ، وإن كانت غير انثوية !
- لكن كيف تكون الأنوثة غير أنثوية يا ربتي؟
- أنسيت انني طاقة يا محمود وأنني مصدر كل الأشياء كما أكون في كل الأشياء، دون أن أكون شيئا محدداً، فأنا كل شيء: أنا مصدر البصر مثلا دون أن يكون لي عيون ، ومصدر السمع دون أن يكون لي آذان ، ومصدر العقل دون أن يكون لي دماغ، ومصدر الكلام دون أن يكون لي لسان، وبالتالي أنا مصدر الذكورة دون أن يكون لي عضو ذكورة ، ومصدر الأنوثة دون أن يكون لي عضو أنوثة . وهذا الشكل الأنثوي الطارئ الذي ظهرت فيه بمساعدتك أحببت أن أظهر فيه لمحبتي للأنثى في الكون." ص198و199،
الدخول إلى ماهية الخالق مسألة أكبر من البشر، ولا يمكن للعقل البشري أن يلم بها او يستوعبها، لهذا قلة هم الذين تناولوا هذا الموضوع، لكن السارد يقتحم هذا الماهية، ويقدمها بالصورة غير المحددة، لا ذكر ولا أنثى، وهذا يوصل فكرة أن الخالق أكبر/أبعد من أن يستوعب تكوينه/ماهيته البشر، فرغم أن هناك تجسيدا للخالق، إلا أن أن تركيبته/طبيعته لا تتوافق وطبيعة التكوين البشري.
الأسئلة:
قلنا أن الحوار الذي جرى بين "أبو الجدايل وأسيل" وبينه وبين "لمى" تخلله بعض الأسئلة، والأسئلة لم تكن موجهة لأبو الجدايل فقط، بل أراد السارد توجيهها للقارئ أيضا، ليشرح/يوضح الأفكار التي يحملها، من هذه الأسئلة: "ما لا أفهمه لماذا يخاف المسلمون على إلههم من إنسان يفكر بعقل حر، هل يمكن أن يخاف الله من انسان؟ بصرف النظر عن ماهية الله!" ص8 هذا السؤال جاء على لسان "لمى" وبما أنه جاء في بداية الرواية، فقد أراد به السارد (تحرر) القارئ من الأفكار التي يحملها ويجعله مهيئاً ليتقبل الاستماع/قراءة الأفكار التي تحملها الراوية.
والحوار الذي دار بينه وبين أسيل فيه مجموعة الأسئلة متعلقة بالوجود وماهية الخالق "- استاذ محمود . يكثر الحديث بين المثقفين عن الوجود والعدم دون التوصل إلى إجابات قاطعة ونتائج مرضية ، فهل جاء الوجود من العدم ؟
- عفواً، السؤال خطأ !
فوجئت أسيل القمر بالإجابة. تساءلت:
- أف! لماذا ؟
- لأن العدم نقيض الوجود ، أي لا شيئ على الاطلاق، فكيف يأتي منه وجود، أو خلق، وكيف يمكن لسائل أن يسأل سؤالا كسؤالك ؟
- هل لك أن توضح لي ، فأنا أشعر أن سؤالي ليس خطأ !
- لنفترض أنك تعيشين في بلدة نائية ، ليس فيها جزار، لكنك حصلت على لحم بطريقة ما ، فهل يمكن أن يسألك أحد أبناء البلدة الذين يعرفون أنه لا يوجد في البلدة جزار" هل أتيت باللحم من الجزار؟ "
- أكيد سؤال كهذا من قبل انسان يعرف أنه لا يوجد في البلدة جزار، ليس منطقيا ! لكن ما هو السؤال المنطقي في هذه الحال؟
- من أين أتيت باللحم ؟
- وفي مسألتنا يتوجب علي أن أسأل : من أين جاء الوجود ؟" ص18و19، فالأفكار جاءت من خلال الاسئلة، وأسئلة مضادة، وبما انها أسئلة تسند على العقل والمنطق، فبالتأكيد ستفتح آفاق العقل وتحرره وتجعله يحسن الإستماع لما يطرح، فالسارد هناك لا يفرض أفكاره على المستمع/القارئ، بل يقدمها، وعلى من يقرأها التفكير بها والتوقف عندها، وله أن يطرح أسئلة أخرى، وله أن يرفضها أو يأخذ بها، فالحوار هنا هو السيد والحكم والمعيار الذي تقاس به الأفكار.
أما عن غاية/الهدف من الوجود: "ص105، فثمة بعض الاختلاف بين ما يطرحه السارد وبين ما جاء في الأديان، التي أقرنت وجود الإنسان بغاية، بهدف معين، كما في الأديان القديمة حيث نجد أن الهدف هو خدمة الآلهة والعمل بدلا عنها، وفي الديانات السماوية عبادة الخالق. أما عند محمود أبو الجدايل فالغاية من الخلق هي رؤية الخالق لذاته في الوجود ، إضافة إلى مساعدة الخالق في عملية الخلق بحد ذاتها لبناء حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال . فالخالق دون خلقه الانساني لا يمكنه بناء مدن وإقامة حضارة.
أما عن ماهية وجوهر الخالق نفسه فهو عند محمود أبو الجدايل : "عقل طاقوي عظيم غير طقمادي-أي طاقة لا تنطبق عليها شروط ومواصفات الطاقة والمادة - يتصف بالوعي والحكمة" ) ص 50 )
وهذه الأفكار قرأناها كثيرا في مقالات وخواطر محمود شاهين نفسه (شاهينيات التي بلغت الآلاف ) . ويمكن القول أن محمود أبو الجدايل هو محمود شاهين نفسه وإن اختلفت الوقائع ، لكن الفكر هو نفسه فكر محمود شاهين وفلسفته.
وبما أن هناك كوناً مخلوقاً فلا بد من وجود زمن له، يحدثنا السارد عن زمن الخلق بهذا القول: "- هل هذا يعني أن عملية الخلق وتجسدها ما تزال في بداياتها؟
- بل إنها ما تزال تحبو مقارنة بعمرالوجود البالغ أربعة عشر مليار سنة . فإذا كان خلق الكائنات الحية لم يتم إلا منذ بضعة ملايين من السنين من هذا الزمن الهائل ، وأن خلق الانسان (العاقل) لم يتم إلا من قرابة أربعين ألف سنة، فإن الخلق الأقرب إلى المنشود قد يحتاج إلى مليارات السنين وليس مجرد ملايين."ص29،وبما أن هذا الزمن تم تحديده للكائنات الحية بضع ملايين، وللإنسان العاقل بأربعين الف سنة، والكون أيضا حدده أربعة عشر مليار سنة، فإن هذه الارقام تبقى قابلة للتغيير والتبديل حسب ما يكتشفه العلماء، وهذا ما جعل فكرة السارد عن زمن الخلق تبدو غير مقنعة، لأن التحديد يجعل الفكرة (محصورة/محددة) ضمن (جدار مقدس)، ومن ثم ستكون (مقدسة) للآخرين الذي يؤمنون بها، وهذا سيستدعي ـ في المستقبل ـ وجود مبشر/مفكر يعمل على نقض ما آمن به (أتباع) "أبو الجدايل". ومن الجدير بالذكر أن محمود شاهين في بعض أفكاره اعتبر أن الانسان العاقل بمعنى الكلمة لم يوجد بعد . فالعقلانية عند محمود شاهين تتطلب وجود انسان غير الانسان المعاصر . أي الانسان المحب للخير والعدل والجمال والبشر والوجود بالمعنى الإطلاقي.
أما عن ماهية الخالق وخلق الكون والحياة، يقول السارد: "فعقل الخالق مسألة مختلفة تماما، لأنه لا شكل له يمكن أن نعرفه، ولا زمان ومكان خارج مسألة زمكانه...يمكننا تصور عقل الخالق، على أنه مسألة اعجازية بكل ما تعنيه الكلمة، بحيث يمكنه أن يتواجد في كل زمكان، وفي كل كائن، من أصغر جسيم دون الذري، إلى أكبر مجرة، دون أن يفقد أي جزيء في الوجود علاقته بكل الأجزاء الأخرى وعلاقته بالكون ككل، من هنا ياتي فهمنا للوجود الإنساني وارتباطه بالوجود الكوني" ص102، إن اتفقنا أو اختلفنا مع طرح السارد، يبقى الشكل والطريقة التي قدمت بها الأفكار سهلة وسلسة، وهذا ما يجعلها قابلة للنقاش والحوار، فلم تأت كمسلمات مقدسة، لا يمكن البحث فيها أو المساس بها.
الرواية من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى 2021.
******
في موضع آخر في الرواية يحررمحمود أبو الجدايل جسده من الأرض ويحلق في السماء: "... يطلق العنان لخياله ليحلق فيها مبتدئاً بالتجرد من ثقل جسده متوغلا في أعماق نفسه، ليغدو بوزن الريشة.. يطير متجولا في الفضاء، تحف به أسراب من نجوم سماوية، يبحر بعيدا في أغوار الكون، ممتطيا متن سرير ملائكي... يسبح في هالات من الأنوار مختلفة الألوان... يتلون جسمه بكل الألوان التي مر سريره عبرها.. يهتف صوت مألوف له، طالما سمعه وهو يغرق في تأملاته .. إنه صوت الله دون شك:
"إلى أين أنت ذاهب يا محمود؟
"أبحث عنك يا إلهي
"تبحث عني؟ أنت تعرف أنني في كل مكان
"أريد أن أراك مجسدا
"تعرف أنني مجسد في كل شيء، فليس هناك من هو مجسد بغير مادتي
"أريد أن اراك أمامي في أجمل جسد تحبه" ص196،
نلاحظ أن هناك خيالاً جامحأ، من خلال تحرر الجسد من الأرض واطلاقه نحو السماء، وأيضا نجد أفكار السارد عن الخالق، وبهذا يكون الخيال قد أمتع المتلقي، وساهم في تسهيل إيصال فكرة الرواية للمتلقي.
يتجرأ السارد أكثر في تقديم فكرته عن الخالق فيقدمه بهذه الصورة: "وخلال لحظات رأى محمود هيكلاً من ألوان متلألئة تنبثق في فضاء من النجوم المتوهجة ، راحت الألوان تنحسر عن الهيكل شيئا فشيئا لتتجلى عن فتاة ملائكية خارقة الجمال ترفل بثياب من السندس والاستبرق ، تجلس على كرسي وثير، تحيط بها هالة نورانية، تضفي على وجهها جمالا ساحرأً، وتضع على رأسها تاجاً مرصعاً بالجواهر، مطلقة شعراً طويلا على جانبي صدرها وعلى ظهرها .
انبهر محمود للحظات بجمالها الخلّاق وراح يهتف "ما أجملك يا إلهتي" وأحنى رأسه تحية واحتراما لها ، وخاطبها كإلهة طالبا إليها أن تتيح له تقبيل يدها. مدت الربة يدها فأخذها محمود وقبلها .. خاطبها متسائلا عما إذا كانت إلها أم إلهة. قالت :
- بل أنا الألوهة التي تكمن فيها الذكورة والأنوثة! أو الربوبية بشقيها الأنثوي والذكوري! دون أن تكون ذكرا أو تكون انثى .
- ماذا تكونين اذن يا ربتي ؟
- أكون الألوهة أو الله إن شئت !
- وبأي صفة سأخاطب جلالك ؟
- كما تشاء ، يمكن أن تخاطبني كربة أو كرب ، الأمرجائز ..
- ألا تفضلين جلالتك الأنوثة كونك اخترت جسدا وشكلا أقرب إلى الأنثى منه إلى الذكر؟
- صحيح . أنا أفضل الأنوثة فيّ على الذكورة ، وإن كانت غير انثوية !
- لكن كيف تكون الأنوثة غير أنثوية يا ربتي؟
- أنسيت انني طاقة يا محمود وأنني مصدر كل الأشياء كما أكون في كل الأشياء، دون أن أكون شيئا محدداً، فأنا كل شيء: أنا مصدر البصر مثلا دون أن يكون لي عيون ، ومصدر السمع دون أن يكون لي آذان ، ومصدر العقل دون أن يكون لي دماغ، ومصدر الكلام دون أن يكون لي لسان، وبالتالي أنا مصدر الذكورة دون أن يكون لي عضو ذكورة ، ومصدر الأنوثة دون أن يكون لي عضو أنوثة . وهذا الشكل الأنثوي الطارئ الذي ظهرت فيه بمساعدتك أحببت أن أظهر فيه لمحبتي للأنثى في الكون." ص198و199،
الدخول إلى ماهية الخالق مسألة أكبر من البشر، ولا يمكن للعقل البشري أن يلم بها او يستوعبها، لهذا قلة هم الذين تناولوا هذا الموضوع، لكن السارد يقتحم هذا الماهية، ويقدمها بالصورة غير المحددة، لا ذكر ولا أنثى، وهذا يوصل فكرة أن الخالق أكبر/أبعد من أن يستوعب تكوينه/ماهيته البشر، فرغم أن هناك تجسيدا للخالق، إلا أن أن تركيبته/طبيعته لا تتوافق وطبيعة التكوين البشري.
الأسئلة:
قلنا أن الحوار الذي جرى بين "أبو الجدايل وأسيل" وبينه وبين "لمى" تخلله بعض الأسئلة، والأسئلة لم تكن موجهة لأبو الجدايل فقط، بل أراد السارد توجيهها للقارئ أيضا، ليشرح/يوضح الأفكار التي يحملها، من هذه الأسئلة: "ما لا أفهمه لماذا يخاف المسلمون على إلههم من إنسان يفكر بعقل حر، هل يمكن أن يخاف الله من انسان؟ بصرف النظر عن ماهية الله!" ص8 هذا السؤال جاء على لسان "لمى" وبما أنه جاء في بداية الرواية، فقد أراد به السارد (تحرر) القارئ من الأفكار التي يحملها ويجعله مهيئاً ليتقبل الاستماع/قراءة الأفكار التي تحملها الراوية.
والحوار الذي دار بينه وبين أسيل فيه مجموعة الأسئلة متعلقة بالوجود وماهية الخالق "- استاذ محمود . يكثر الحديث بين المثقفين عن الوجود والعدم دون التوصل إلى إجابات قاطعة ونتائج مرضية ، فهل جاء الوجود من العدم ؟
- عفواً، السؤال خطأ !
فوجئت أسيل القمر بالإجابة. تساءلت:
- أف! لماذا ؟
- لأن العدم نقيض الوجود ، أي لا شيئ على الاطلاق، فكيف يأتي منه وجود، أو خلق، وكيف يمكن لسائل أن يسأل سؤالا كسؤالك ؟
- هل لك أن توضح لي ، فأنا أشعر أن سؤالي ليس خطأ !
- لنفترض أنك تعيشين في بلدة نائية ، ليس فيها جزار، لكنك حصلت على لحم بطريقة ما ، فهل يمكن أن يسألك أحد أبناء البلدة الذين يعرفون أنه لا يوجد في البلدة جزار" هل أتيت باللحم من الجزار؟ "
- أكيد سؤال كهذا من قبل انسان يعرف أنه لا يوجد في البلدة جزار، ليس منطقيا ! لكن ما هو السؤال المنطقي في هذه الحال؟
- من أين أتيت باللحم ؟
- وفي مسألتنا يتوجب علي أن أسأل : من أين جاء الوجود ؟" ص18و19، فالأفكار جاءت من خلال الاسئلة، وأسئلة مضادة، وبما انها أسئلة تسند على العقل والمنطق، فبالتأكيد ستفتح آفاق العقل وتحرره وتجعله يحسن الإستماع لما يطرح، فالسارد هناك لا يفرض أفكاره على المستمع/القارئ، بل يقدمها، وعلى من يقرأها التفكير بها والتوقف عندها، وله أن يطرح أسئلة أخرى، وله أن يرفضها أو يأخذ بها، فالحوار هنا هو السيد والحكم والمعيار الذي تقاس به الأفكار.
أما عن غاية/الهدف من الوجود: "ص105، فثمة بعض الاختلاف بين ما يطرحه السارد وبين ما جاء في الأديان، التي أقرنت وجود الإنسان بغاية، بهدف معين، كما في الأديان القديمة حيث نجد أن الهدف هو خدمة الآلهة والعمل بدلا عنها، وفي الديانات السماوية عبادة الخالق. أما عند محمود أبو الجدايل فالغاية من الخلق هي رؤية الخالق لذاته في الوجود ، إضافة إلى مساعدة الخالق في عملية الخلق بحد ذاتها لبناء حضارة انسانية تتحقق فيها قيم الخير والعدل والمحبة والجمال . فالخالق دون خلقه الانساني لا يمكنه بناء مدن وإقامة حضارة.
أما عن ماهية وجوهر الخالق نفسه فهو عند محمود أبو الجدايل : "عقل طاقوي عظيم غير طقمادي-أي طاقة لا تنطبق عليها شروط ومواصفات الطاقة والمادة - يتصف بالوعي والحكمة" ) ص 50 )
وهذه الأفكار قرأناها كثيرا في مقالات وخواطر محمود شاهين نفسه (شاهينيات التي بلغت الآلاف ) . ويمكن القول أن محمود أبو الجدايل هو محمود شاهين نفسه وإن اختلفت الوقائع ، لكن الفكر هو نفسه فكر محمود شاهين وفلسفته.
وبما أن هناك كوناً مخلوقاً فلا بد من وجود زمن له، يحدثنا السارد عن زمن الخلق بهذا القول: "- هل هذا يعني أن عملية الخلق وتجسدها ما تزال في بداياتها؟
- بل إنها ما تزال تحبو مقارنة بعمرالوجود البالغ أربعة عشر مليار سنة . فإذا كان خلق الكائنات الحية لم يتم إلا منذ بضعة ملايين من السنين من هذا الزمن الهائل ، وأن خلق الانسان (العاقل) لم يتم إلا من قرابة أربعين ألف سنة، فإن الخلق الأقرب إلى المنشود قد يحتاج إلى مليارات السنين وليس مجرد ملايين."ص29،وبما أن هذا الزمن تم تحديده للكائنات الحية بضع ملايين، وللإنسان العاقل بأربعين الف سنة، والكون أيضا حدده أربعة عشر مليار سنة، فإن هذه الارقام تبقى قابلة للتغيير والتبديل حسب ما يكتشفه العلماء، وهذا ما جعل فكرة السارد عن زمن الخلق تبدو غير مقنعة، لأن التحديد يجعل الفكرة (محصورة/محددة) ضمن (جدار مقدس)، ومن ثم ستكون (مقدسة) للآخرين الذي يؤمنون بها، وهذا سيستدعي ـ في المستقبل ـ وجود مبشر/مفكر يعمل على نقض ما آمن به (أتباع) "أبو الجدايل". ومن الجدير بالذكر أن محمود شاهين في بعض أفكاره اعتبر أن الانسان العاقل بمعنى الكلمة لم يوجد بعد . فالعقلانية عند محمود شاهين تتطلب وجود انسان غير الانسان المعاصر . أي الانسان المحب للخير والعدل والجمال والبشر والوجود بالمعنى الإطلاقي.
أما عن ماهية الخالق وخلق الكون والحياة، يقول السارد: "فعقل الخالق مسألة مختلفة تماما، لأنه لا شكل له يمكن أن نعرفه، ولا زمان ومكان خارج مسألة زمكانه...يمكننا تصور عقل الخالق، على أنه مسألة اعجازية بكل ما تعنيه الكلمة، بحيث يمكنه أن يتواجد في كل زمكان، وفي كل كائن، من أصغر جسيم دون الذري، إلى أكبر مجرة، دون أن يفقد أي جزيء في الوجود علاقته بكل الأجزاء الأخرى وعلاقته بالكون ككل، من هنا ياتي فهمنا للوجود الإنساني وارتباطه بالوجود الكوني" ص102، إن اتفقنا أو اختلفنا مع طرح السارد، يبقى الشكل والطريقة التي قدمت بها الأفكار سهلة وسلسة، وهذا ما يجعلها قابلة للنقاش والحوار، فلم تأت كمسلمات مقدسة، لا يمكن البحث فيها أو المساس بها.
الرواية من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى 2021.
******