من طبائع النفس الإنسانية أن تتطلع إلى معرفة ما غاب عنها، وما سيكون عليه المستقبل. والاستشراف ينحصر في التطلع إلى ما سيأتي بالاستناد إلى المعطيات التي تتصل بالموضوع الذي يتطلب تكوين رؤية مستقبلية عنه، وتُستمد هذه المعطيات من ملاحظة شؤون الناس والتأمل في الأمور الغيبية والخيالية. والاستشراف الآن نوع من دراسة المستقبل دراسة تجمع بين العقل والفن، أي تعتمد على التخصصات المختلفة، وبخاصة الاجتماعية والتاريخية وغيرها، أو ما يسمى الدراسات البينية.
نحن نعلم بأننا لا نقدر على معرفة المستقبل، ولكن نستطيع صناعته، كما يقول العالم البلجيكي إيليا بريجوجين. لقد بُنيت مأساة أوديب على نبوءة بأن يقتل أوديب أباه ويتزوج أمه، وكان في الحقيقة اختياره وليس قدره، فكان بإمكانه أن يختار طريقه، وينصاع إلى ما كان مكتوبًا في معبد دلفي" اعرف نفسك"
هذا الفهم للاستشراف يقودنا إلى إدراك علاقة الاستشراف بالرواية؛ فهي الفن الذي ينظر إلى المستقبل الذي هو زمن الانتظار والأمل والتوقع من خلال تقديمه لعالم من الواقع والخيال، والذي يسمح بتداخل العلوم المختلفة فيه، إنها، أي الرواية، كيان زمني يصور الحياة الاجتماعية والنفسية للشخوص الروائية.
إذا كان علماء المستقبل يلجؤون بشكل كبير لمعرفة المستقبل إلى التخصصات العقلية والعلمية المختلفة فإن الروائي يلجأ إلى الخيال والحدس وعرض المجتمع وأحداثه الواقعية، وشخوصه وما يعانون في الحياة من قلق وكآبة، وبوساطة هذه العناصر كلها يخلق عالمًا تخييليًا يشير إلى واقع جديد، إلى عالم مستقبلي يخالف الواقع الموجود.
هكذا بدأ توماس مور في روايته "يوتوبيا" التي صدرت عام 1516 يمهد لعصر النهضة وإنقاذ أوروبا من أزماتها الأخلاقية، ثم يأتي هربرت جورج ويلز الذي يعود الفضل له في وضع علم المستقبل، وجاءت معظم رواياته وأعماله الأخرى تحمل تنبؤات علمية، منها: " آلة الزمن" 1895، و" جزيرة الدكتور مورو" 1896 التي تحكي عن عالم يحول الحيوانات إلى بشر، و"الرجل الخفي" 1897 التي تتكلم على نجاح عالم في إخفاء نفسه ، و"حرب العوالم " 1898 عن غزو الأرض لكائنات من المريخ. وتتنبأ روايته" أوائل الرجال على القمر" 1901 في أساليب ريادة الفضاء. ومن أهم كتبه كتاب" توقعات"1901الذي نجح بالتنبؤ فيه بتطور السيارات والقطارات وانحلال العلاقات الجنسية، وفشل النازية الألمانية، ونشوء الاتحاد الأوروبي؛ لكنه فشل في بعض توقعاته مثل اعتقاده باستحالة نجاح الغواصات.
وبدأت الرواية العربية بالقيام بدورها التنبؤي لتحل محل الشعر الذي كان يتنبأ بما سيحدث. كما نجد ذلك في شعر عمر أبي ريشة وعبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان الذين حذروا مما يحاط بالعرب من مؤامرات خارجية في العصر الحديث، خاصة فيما يتصل بالقضية الفلسطينية.
وبرز دور الرواية العربية الاستشرافي بالتخوف من المستقبل بتصوير ما في الواقع العربي من مظالم ومفاسد وتخلف. نكتفي بالحديث عن مثالين في الرواية العربية التي حاولت استشراف المستقبل: الأولى رواية عبد الرحمن منيف "مدن الملح" بأجزائها الخمسة، والثانية " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي.
في "مدن الملح" تجلى الاستشراف على شكل نبوءة تحتمل الحدوث وعدمه، تتمثل فيما يمكن أن يحدث للمدن التي ظهرت مع ظهور النفط في خمسينيات القرن الماضي؛ فهذه المدن كما ترى الرواية ستذوب في الرمال كما تذوب أقراص الملح في الماء، وهذا ما تفصح عنه أحداثها وعنوانها.
أما رواية " الوقائع الغريبة.." فهي تهتم بالمستقبل بإظهار الخوف مما يأتي، وتحليل الحاضر لمعرفة ما فيه. إنها تنظر إلى المستقبل في رفض للواقع، وتبحث عن واقع أفضل وتصوير نظرة الصهيوني المستقبلية في السيطرة على كامل التراب الفلسطيني.
هكذا نرى بأن الرواية من أفضل الأجناس الإبداعية في استشراف المستقبل؛ باستنادها إلى الحدس والخيال والتأمل في تحليل الواقع، وهي بذلك تساهم مع الدراسات المستقبلية في معرفة ما سيحدث مما تجعل الناس يتعرفون ما يحيط بهم، وما ينتظرهم في الغد من أجل اتخاذ الحيطة، وتدبر الأمور قبل حدوثها، والمساهمة في صنع مستقبلهم.
نحن نعلم بأننا لا نقدر على معرفة المستقبل، ولكن نستطيع صناعته، كما يقول العالم البلجيكي إيليا بريجوجين. لقد بُنيت مأساة أوديب على نبوءة بأن يقتل أوديب أباه ويتزوج أمه، وكان في الحقيقة اختياره وليس قدره، فكان بإمكانه أن يختار طريقه، وينصاع إلى ما كان مكتوبًا في معبد دلفي" اعرف نفسك"
هذا الفهم للاستشراف يقودنا إلى إدراك علاقة الاستشراف بالرواية؛ فهي الفن الذي ينظر إلى المستقبل الذي هو زمن الانتظار والأمل والتوقع من خلال تقديمه لعالم من الواقع والخيال، والذي يسمح بتداخل العلوم المختلفة فيه، إنها، أي الرواية، كيان زمني يصور الحياة الاجتماعية والنفسية للشخوص الروائية.
إذا كان علماء المستقبل يلجؤون بشكل كبير لمعرفة المستقبل إلى التخصصات العقلية والعلمية المختلفة فإن الروائي يلجأ إلى الخيال والحدس وعرض المجتمع وأحداثه الواقعية، وشخوصه وما يعانون في الحياة من قلق وكآبة، وبوساطة هذه العناصر كلها يخلق عالمًا تخييليًا يشير إلى واقع جديد، إلى عالم مستقبلي يخالف الواقع الموجود.
هكذا بدأ توماس مور في روايته "يوتوبيا" التي صدرت عام 1516 يمهد لعصر النهضة وإنقاذ أوروبا من أزماتها الأخلاقية، ثم يأتي هربرت جورج ويلز الذي يعود الفضل له في وضع علم المستقبل، وجاءت معظم رواياته وأعماله الأخرى تحمل تنبؤات علمية، منها: " آلة الزمن" 1895، و" جزيرة الدكتور مورو" 1896 التي تحكي عن عالم يحول الحيوانات إلى بشر، و"الرجل الخفي" 1897 التي تتكلم على نجاح عالم في إخفاء نفسه ، و"حرب العوالم " 1898 عن غزو الأرض لكائنات من المريخ. وتتنبأ روايته" أوائل الرجال على القمر" 1901 في أساليب ريادة الفضاء. ومن أهم كتبه كتاب" توقعات"1901الذي نجح بالتنبؤ فيه بتطور السيارات والقطارات وانحلال العلاقات الجنسية، وفشل النازية الألمانية، ونشوء الاتحاد الأوروبي؛ لكنه فشل في بعض توقعاته مثل اعتقاده باستحالة نجاح الغواصات.
وبدأت الرواية العربية بالقيام بدورها التنبؤي لتحل محل الشعر الذي كان يتنبأ بما سيحدث. كما نجد ذلك في شعر عمر أبي ريشة وعبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان الذين حذروا مما يحاط بالعرب من مؤامرات خارجية في العصر الحديث، خاصة فيما يتصل بالقضية الفلسطينية.
وبرز دور الرواية العربية الاستشرافي بالتخوف من المستقبل بتصوير ما في الواقع العربي من مظالم ومفاسد وتخلف. نكتفي بالحديث عن مثالين في الرواية العربية التي حاولت استشراف المستقبل: الأولى رواية عبد الرحمن منيف "مدن الملح" بأجزائها الخمسة، والثانية " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي.
في "مدن الملح" تجلى الاستشراف على شكل نبوءة تحتمل الحدوث وعدمه، تتمثل فيما يمكن أن يحدث للمدن التي ظهرت مع ظهور النفط في خمسينيات القرن الماضي؛ فهذه المدن كما ترى الرواية ستذوب في الرمال كما تذوب أقراص الملح في الماء، وهذا ما تفصح عنه أحداثها وعنوانها.
أما رواية " الوقائع الغريبة.." فهي تهتم بالمستقبل بإظهار الخوف مما يأتي، وتحليل الحاضر لمعرفة ما فيه. إنها تنظر إلى المستقبل في رفض للواقع، وتبحث عن واقع أفضل وتصوير نظرة الصهيوني المستقبلية في السيطرة على كامل التراب الفلسطيني.
هكذا نرى بأن الرواية من أفضل الأجناس الإبداعية في استشراف المستقبل؛ باستنادها إلى الحدس والخيال والتأمل في تحليل الواقع، وهي بذلك تساهم مع الدراسات المستقبلية في معرفة ما سيحدث مما تجعل الناس يتعرفون ما يحيط بهم، وما ينتظرهم في الغد من أجل اتخاذ الحيطة، وتدبر الأمور قبل حدوثها، والمساهمة في صنع مستقبلهم.