د. عبدالجبار العلمي - الحبات الستون وذكريات عن الحمامة البيضاء

إلى صديق الزمن الجميل الشاعر الإنسان النبيل أحمد الطريق أحمد إحياء لذكريات الحبات العشرين في زمن فاس المحروسة وعهد الحمامة البيضاء ، عهد الصفاء والبراءة وغناء الشحرورة من لحن محمد عبدالوهاب : " عالضيعة يامة عالضيعة .. جينا نبيعو كبوش التوت / ضيعنا القلب ببيروت.. لحنت الأغنية سنة 1967 ، أيام كنا لا نعُدُّ حبات المسبحة ، نعب من معين الشعر العذب المتدفق من أعالي ظهر المهراز .

****

الحبات الستون وذكريات عن الحمامة البيضاء
إلى الصديق الشاعر أحمد الطريبق أحمد
بقلم : عبدالجبار العلمي


يوحي سن الستين إلى الكثير من الكتاب : أدباء وشعراء ، بالكتابة عن حياتهم خلال تلك السنوات التي مرت بحلوها ومرها ، فكأنهم يريدون بذلك أن يقيدوا ذلك الزمن المنفلت من بين أيديهم كعصفور جميل ، ويضعونه في قفص قضبانه من حروف وكلمات. ، فيعملون على تسجيل سيرتهم الذاتية ، أو أهم مراحل حياتهم. فالشاعر أحمد الطريبق أحمد الذي "كلمه البحر" بأحاديث عميقة عجيبة منذ سنوات الستين ، عن وهرقل والنِّفري والحلاج والششتري، وأسرار الشعر الخفية ، وعناق البحرين أمام أنظار الأميرة طنجيس، كتب سيرتَه الذاتيةَ شعراً بعنوان " الحبات الستون ". كل سنة مجرد حبة يلتقطها الزمن بمنقاره الحاد ، ويبتلعها إلى غير رجعة :
تنفرط الحبات الستون ْ
من سبحة عمر محدودٍ
بقيودٍ
وقوافٍ
وعقودْ
وكتب الأديب الشاعر المغربي الكبير محمد الصباغ سيرته في ثلاثة أسفار بعنوان " الطفولة الستون " بلغته الجميلة وأسلوبه الذي يضاهي أدب المهجر الأمريكي الذي كان معجباً به وبأدبائه وشعرائه ومنهم ميخائيل نعيمة الذي كانت له به صلة متينة عن طريق المراسلة. كتَبَ عملَه السيري الباذخ بعد تجربته الأدبية الغنية التي بدأها بديوانيه الرائدين " شجرة النار "( سنة 1955 ) و" أنا والقمر"
( سنة 1956 ) اللذين يضمان نصوصا من الشعر المنثور أو ما يسمى اليوم بقصيدة النثر أو النثيرة حسب التسمية التي أطلقها عليها الناقد نجيب العوفي. كتب سيرته هاته بعد انتهائه من عمله في وزارة الثقافة بالرباط. ولعل الحنين عاد به إلى مدينته ومسقط رأسه تطوان التي كانت حقاً حمامة بيضاء في عهد شبابه ، وعهد طفولتي وصباي. من أعماله القصصية مجموعة " نقطة نظام " التي يحكي في بعض نصوصها" عن مدينته العتيقة ودروبها وأزقتها وفضاءاتها الأندلسية، حيث تدور أحداث قصصها المتسربلة بغلائل البيان الساحر.نقرأ مشهدين من قصة " وصية " : المشهد الأول : " الديك يصيح . يلتقط بمنقاره بذور بنفسج الفجر. يفرك احمرار عرفه ويصيح . نور باهت ينبعث من نافذة سحيقة لبيت عجوز توقد الفحمَ في مجمار بفتيلة مغموسة في الزيت. "الحاج تومات "يخرج من " الجامع الكبير " وعلى جبينه خطوط تحكي زخرفة الحصير ، حاملاً في يمناه قفته الكبيرة المملوءة بزرقة الفجر .. خريطته معروفة . توا يتوجه نحو حي " المطامر ". ينحني هنا وهناك بقامته المديدة ... القفة تمتلئ بالأوراق المكتوبة بالعربية . خليط من حروف عربية تنتظر الاحتراق . لن يدوسها قدم .. لن يعبث بها حذاء . الحروف العربية مقدسة . بها نزل القرآن وسطر (ن ) والقلم وما يسطرون ..." / المشهد الثاني : " بعض طلاب الكتاتيب ، وعابري السبيل : حلقات حلقات أمام دكاكين "السفاجين " في انتظار حظهم من " العباسية " المبروكة . السفاجون يكورون العجين ، ويضغطون عليه في أكفهم المشدودة ، فتخرج كرات من الثغرة التي بين السبابة والإبهام ، ويلقون بها في زيت المقلاة الحار ، ثم يقدمونها إلى حلقات الطلاب مجاناً ، تبركاً بحفظ القرآن الكريم وتيمناً ببراءة طفولتهم ." . يحدثنا الصباغ في قصته هذه ، وفي قصص أخرى من مجموعته القصصية، عن بَرَكَة تطوان وتقاليدها الإيجابية وتكافلها الاجتماعي ، فيجعلك تقارن بين ماض أصيل ، وحاضر تسوده قيم الابتذال ، ويعود بك إلى واقع جميل عشتَه في طفولتك وصباك بين دروبها العتيقة المفعمة بالخير والبركة ..
تطوان بفضاءيها العربي الأندلسي والأوروبي الإسباني، وبياض لونها الذي يشبه لون الفل والياسمين وزهر النارنج والليمون ، ألهمت العديد من الكتاب والشعراء بالكتابة عنها. وما زلت أذكر بإعجاب ذلك الديوان الشعري الجميل الذي كتبه أستاذ اللغة الإسبانية الذي كان يدرسنا في ثانوية القاضي عياض بعنوان " تطوان البيضاء " :
TETUAN LA BLANCA الذي أصدرته على ما أذكر مطبعة " كريماديس " العتيدة.
لقد كان هذا الأستاذ الإسباني قدوة ودافعاً لنا، ـ نحن طلبته وجيرانه ـ إلى الولع بالقراءة. ذلك أنني كلما مررت بشارع الوحدة الجانبي الذي كنت أقطن به في تلك الفترة مع العائلة ، ألفي أستاذي الشاعر عاكفاً على المطالعة في مكتبته العامرة ، فقد كان يترك نافذة غرفة المكتبة مفتوحة على الشارع ، بحيث يمكن للمار على الرصيف الأيسر المحاذي للنافذة أن يراه وهو منكب على القراءة ، فقد كان المكتب في أسفل العمارة. ولا أخفي أن منظر الأستاذ وهو عاكف على المطالعة في مكتبته المنظمة المليئة رفوفها بالكتب والمجلدات ، كان يجعلني أحلم ـ وأنا مازلت وقتذاك تلميذاً بالثانوي ـ بأن يكون لي مكتب ببيتي يضم خزانة زاخرة بما أعشقه من كتب ومجلات.
ومن أبرز من كتب عن مدينة تطوان في عهدها الأبيض بياض الفل والياسمين والحمام ، الصديق القاص الروائي الدكتور محمد أنقارـ رحمه الله ـ في روايتيه : " المصري " و" باريو مالقا " ، فرصد الأولى لفضاءات تطوان العتيقة ، والثانية لفضاء حي شعبي كان يسكنه الإسبان إلى جانب المغاربة في تعايش وانسجام. وكثيراً ما وددت لو أن أديبنا محمداً أنقار أضاف رواية أخرى تدور أحداثها في فضاء المدينة العصرية ليكون بذلك قد كتب ثلاثية تطوان.
وأقصد بالعهد الأبيض كما ألمحت إلى ذلك أعلاه ، أيام كانت حقاً حمامة بيضاء في نقائها وجمالها المعماري . مدينة تمتزج فيها الحضارة العربية الأندلسية في المدينة العتيقة، بالحضارة الأوروبية بمظاهرها الحديثة في الحي العصري. ففي دروب وأزقة المدينة القديمة ووراء أسوارها السبعة ، تتنسم عبق التاريخ العربي الإسلامي وحضارة الأندلس. أما في المدينة العصرية ، فتجد نفسك في شوارع مدينة ذات طابع أوروبي حديث ، ومعمار ذي ملامح إسبانية. ومن أجمل مظاهر الحداثة التي كانت تبهرنا ـ ونحن أطفال أو شباب يافعون ـ هي دور السينما المنتشرة في كل أرجاء المدينة ، وأهم شوارعها الأنيقة. ناهيك عن ذلك الشارع السحري الذي كان يسمى " شارع لونيتا " القريب من ساحة" الفدان"الذي كان يكتظ بالمتاجر ذات الواجهات البراقة التي كان يملكها التجار الهنود ، وتباع فيها الساعات السويسرية الأنيقة ، وأجهزة الراديو الهولاندية الصنع ، وتعرضُ في شكل منظم بديع. أما في الليل ، فتشتعل أضواء النيون الزاهية الألوان الصادرة من حروف أسماء المتاجر، فتبهرك ببريقها ولمعانها وألوانها المختلفة. وأما شارع محمد الخامس ، فقد كان منتزها حقيقياً وفضاءً ترفيهياً بالإضافة إلى " ساحة الفدان " ، ففي المساء يقطع فيه مرور السيارات ، ليبقى مكاناً مخصصاً للمارة والجالسين على كراسي المقاهي الفاخرة المصطفة على طول رصيفي الشارع.
حيا الله ذلك الزمن الجميل ، ولعلها الحبات الستون التي التهمها منقار الزمن هي التي تدفعنا إلى الحنين والقبض على الأزمنة المنفلتة من بين أيدينا ، ولكن بدون جدوى..بدون جدوى ..






1644140599386.png





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى