بشير أبوسن - محمد عبد الحي: الشعـرُ وعبءُ الرمز

ما أن تدخُل عالَم محمد عبد الحي الشعريّ، فسرعان ما ستكتشف أن قصائده تبقيكَ على سطحها لبعض الوقت، قبل أن تجد طريقَك إلى سبر أغوارها، تبقيك على سطحٍ جميلٍ وأخّاذ من التعابير الرفيعة، والكلمات الموحية، والأخيلة المدهشة، هذا السطح نسجَه عبد الحي بشاعرية فريدة، مستعينا بمجموعة من الأساطير والإشارات والإيماءات والرموز، ومبتعدا عن التعابير اليومية التي أفقدها الاستعمال الكثير قدرتَها على الإدهاش والإيحاء، الأمر الذي جعل عبد الحي أحد رواد الحداثة الشعرية في العالم العربي.

قصيدة مثل "العودة إلى سنار"، - وهي قصيدة مركزية في تجربته الشعرية، والتي ظلت كما يقول عبد الحي ذاته مركزا جاذبا لقواه الشعرية(1)، - تظهِر ذلك الاعتناء الفائق الذي أبداه عبد الحي بتشييد عالمه الشعري من الأساطير والرموز والإشارات، بلغة ممعنة في حسها الصوفي الأمر الذي أكسب القصيدة أصالةً فوق أصالتها. إن العودة إلى سنار قلعة من الرموز، ويمكن أن نقول إن معمارها إن جاز التعبير جاء بتركيبِ طبقاتٍ بعضها فوق بعض، كل طبقة تحيل إلى عالَم ما، ولكل عالَمٍ لغته وأجواؤه، وهذا ما جعل القصيدة تحمل ثلاثة مستويات من الوجود؛ وجود تاريخي - ذلك أن سنار هي المملكة السودانية ذات البعدين الزماني والمكاني في التاريخ، ووجود رمزي نبَع من ذلك الوجود التاريخي، إذ صارت سنار فيما بعد نواة للسودان الحديث، ثم إن سنار عند محمد عبد الحي "براءة أخرى، اسم يتجوهر في مملكة البراءة فهي عين نبصر بها وخلالها، والأشياء فيها كما هي في السماء(2)." هذه القصيدة تطلّبت من عبد الحي جهدا فكريا وتثقيفا عاليا وشحْذا متواصلا لموهبته، فقد أضاءها عبد الحي بمجموعة من الهوامش بلغ عددها اثني عشر هامشا، يعتبرها النقاد مدخلا لفهم أجواء القصيدة ذات الأناشيد الخمسة، وهو ما أدى إلى أن تصبح العودة إلى سنار قصيدةً متداخلةَ العوالم، وموحية العبارات، وكثيفة الدلالة، وذات قيمةٍ شعرية عالية لا تزال تحتفظ القصيدةُ بها منذ أن دفع بها عبد الحي للطباعة أول مرة عام1973م.

يكتب عبد الحي الشعرَ فكأنه يكتب في لحظةِ حلم، أو كأنه يصف حلما، أو حالةً صوفية تتعب اللغة في التعبير عنها، أو عوالمَ عذراء جديدة. لطالما عُد الأدب - والشعر خاصة - ابنا للأسطورة، ويمكن أن نرى في هذا اعترافاً بقوة هذه القصص وقدرتها على الإلهام، وسنلاحظ أن في الشعر العربي الحديث خاصة مع بدايات حركة التجديد، تناوُلاً كثيفا للأساطير الإغريقية والبابلية والعربية، ومن اللافت للنظر أن عبد الحي رغم دراسته للأدب الإنقليزي، وأطروحته التي خصصها عن الأسطورة الإغريقية في الشعر العربي (بين رأس القرن العشرين ومنتصفه) وتعرُّفه عليها عن كثب، دراسةً وتدريسا، واطّلاعا حرا، فإننا لا نجد تلك الأسماء اليونانية والبابلية مقحمةً في أعماله مثلما نجدها في أشعار أسماء كبيرة من شعراء عصره، لقد قام عبد الحي كما هو واضح من شعره، بهضم المعاني الكبرى التي تحيل إليها أساطير الشرق والغرب، وصهْرها وتحويلها إلى طاقة شعرية لا تفنـى، لأن الأسطورة أصلا تجذب اللاوعي عند الإنسان، والأسطورة والرمز والإشارة عند عبد الحي أمور غير مقصودة لذاتها، إنما لإسقاطها على الواقع، وإحداث هذه المفارقة، ومن ثَـم لإكْساب هذا الفن أبعادا جمالية، ولإثرائه بهذه الروح التي يمتزج فيها الماضي السحيق بالحاضر والمستقبل.

وما يثير الإعجاب أكثر بعبد الحي هو أنه عاد في قصيدته "العودة إلى سنار" التي كتبها أثناء دراسته الجامعية، إلى التراث السوداني الأصيل، مستعينا أيضا بالتراث العربي الإسلامي القديم - خاصة الصوفي منه الذي يشكل جانبا مهما في تكوين الثقافة السودانية -، وبمجموعة من الطقوس الدينية الإفريقية، وبنصوص أدبية سابقة، فجعل قوَام قصيدته ذات البناء الحداثي- (ويمكن أن نفتح قوسا هنا لنقول إن عبد الحي تأثّر كثيرا بالشاعر الإنقليزي ت. س إليوت في بناء قصيدته العودة إلى سنار(3)، وهو تأثرٌ لا يقلل من ابتكارات عبد الحي مطلقاً)- منسوجا من هذه الأجواء الساحرة، حيث يختلط الحلم بالصحو، والنور بالعتمة، وتتحول القصيدة إلى حلمٍ عُبّر عنه بلغةٍ صوفية، تخاطب أعماق شعور الإنسان، وهو يريد العودة إلى سلطنة البراءة، حيث اللغة الأولى، وهو في رغبته هذه يتخذ كل الأشكال؛ وثنيا مجّد الأرض، وصوفيا ضريرا، وعاشقا نبيلا، وتتحول القصيدة فجأة إلى دوامات تسحبك إلى أعماق بعيدة، تاركةً على قارئها ظمأ للمزيد، ونشوة وخدرا لذيذا:

"وكان أفق الوجهِ والقناع شكلا واحدا
يزهر في سلطنة البراءةْ
وحمأ البداءةْ
على حدود النور والظلمة
بين الصحو والمنام"(4)


في الوقت ذاته، وفي عودته إلى التراث السوداني الغني، أقام عبد الحي كثيرا من أشعاره بالاشتغال على سيرة الشيخ إسماعيل صاحب الربابة، الصوفي والشاعر المذكور في كتاب طبقات ود ضيف الله، وبالاشتغال فنيا أيضا على طائر السّمنْدل، الذي ذكره كثيرا في أشعاره وخصص ديوانا باسمه "السمندل يغني".

إن عودة عبد الحي للتراث السوداني هي عودة مهمة في تاريخ الأدب السوداني، ذلك لأنه أثرى بعودته هذه عالَـمه الشعري وجعله فريدا بين شعراء جيله، وأيضا لأنه أحيا هذا التراث وأنارَ مواضع قوته وإلهامه وغِنــاه، لقد قام عبد الحي مثلا بإكساب الشيخ إسماعيل صاحب الربابة أبعادا شاعريةً، بأخْــذِ الجانبَ الغرائبي العجائبي في شخصية الشيخ صاحب الربابة وطار بها إلى أبعد مدارات الشعر، وأكسبه ظلالا جمالية، حيث تعكس حياةُ الشيخ توقَ الإنسان إلى امتلاك قدرات عليا، ونزعته للخلود، وربما ذلك التشابهُ الكبير بين سيرة الشيخ إسماعيل صاحب الربابة وأورفيوس بن أبولو الموسيقي الذي كان – مثل الشيخ إسماعيل - عندما يعزف تتحرك كل الكائنات(5)، هو ما جعل عبد الحي ينتقي الشيخ إسماعيل من بين كل الأسماء التي حفل بها كتاب الطبقات ، إذ رأى فيه شخصية تكونت في خيال الجماعة، شخصية مليئة بالميثيولوجي، ولهذا أعطاه هذا الحيز الكبير في أشعاره.

أما السمندلُ الطائر المذكور كثيرا في أشعار عبد الحي، باسمه أو بما يدل عليه، فهو طائر يتجدد باحتراقه بالنار، ولذلك فهو خالد، شهِد التاريخ كله، وسيشهد المستقبل كله، ولقد ارتبط ذكره بالميثولوجيا الهندية والفارسية، ويكاد يتخلل جميعَ قصائد عبد الحي، ولهذا تكثر مفردات مثل النار والاحتراق والنور وغيرها في شعر عبد الحي، انظر مثلا قصيدة معلقة الإشارات، والسمندل ملك النهار.

يمكن للمرء تتبُّـع تكوين محمد عبد الحي الثقافي من خلال الاسترسال في إقامة التناصّات والإحالات في شعره، وهو شِعر غير كثير، وكذلك من خلال تفحُّص آرائه النقدية، والتي يصح فيها ما قاله هو عن آراء التجاني يوسف بشير النقدية مقتبسا من توماس إليوت ما معناه أن الشاعر يحاول في آرائه النقدية عامدا أو غير عامد الدفاعَ عن الطريقة التي يكتب بها هو الشعر، وعن علاقته بشعر سابِقيه(6). لقد تأثرَ عبد الحي مثلا بالشاعر ت. س. إليوت صاحب الأرض الخراب والرباعيات الأربعة، ويجمعه بشعر التجاني يوسف بشير ذلك الشعور التي تثيره فيك قصائده بأنها غامضة، وباللغة الصوفية، حيث مفردات مثل : رؤى، وهم، رمز، نقش، نار، نور وما إلى ذلك من المعجم الشعري الصوفي، وأثّرت نصوص صوفية وميثولوجية وأدبية في إبداع محمد عبد الحي (على سبيل المقال منها: طبقات ود ضيف الله، مقولات ابن عربي والنفّـري، الشعر الرومانسي الإنقليزي الأمريكي)، وقد كان هو واعيا بذلك، يمكن أن نقول إنه تزوّد بتلك الأساطير والرموز منها ولكنه لم يسمح لها أن تسلبه أصالته التي تتجلى دائما في شعره، وهو شعر لا يفصله عن الواقع كونه بُــنِــيَ ممعِنا في الأجواء الحلمية العجيبة، بل هو وثيق الصلة باليومي، فكلنا نثير أسئلة الموت والحياة والبراءة والخلود.

لطالما توقفتُ عند قول عبد الحي في النشيد الرابع "الحلم" من العودة إلى سنار، وهو يصف تلك الأجواء الغامضة المختلطة التي تتكوّن في أحلام الذات الشاعرة المتكلِّمة، مستفهما:

"حلمٌ!، رؤى وهميةٌ؟، حقٌّ؟
ماذا أكونُ بغير هذا الصوتِ
هذا الرمزِ هذا العبْءِ
يخلقني وأخلقه على وجه المدينةِ
تحت شمسِ الليل والحبّ العميقْ"(7)


لا شك قول مثل هذا، يمكن اعتباره تأسيسا لعلاقة عبد الحي برموزه وبالأساطير والرؤى التي يوظّفها، إن عبد الحي يدرك أن الرمز عبء!، أن السمندل وهو يضع تاجه ويخلع قميصه الناري عبء!، والشيخ إسماعيل وهو يخطر ويغني على ظهر فرسه ذات الحرْحر والأجراس عبء!، والزهرة والثعبان المقدس عبء!، وعبءٌ ذلك الرمز الذي يلمع بين النخلة والأبنوس!، وعبءٌ كل تلك الرؤى والأحلام والطقوس والإشارات! - وأن هذه الأعباء يخلقها هو، ثم تخلقه هي، ثم يختلط الأمر، حين يخلق المخلوقُ خالقه، فنصير نحن امتدادا لتلك الأساطير والرموز، ولأن الإنسان لا يمكنه المضي في هذه الحياة إلا باستصحاب الأساطير والرؤى أو بأسْطرة أشياء جديدة.

ورغم كل هذا العبء، فعبد الحي يريد هذا، يريد أن:

"(...) أرجع يوما
لابساً صحويَ حلما
حاملا حلمي هما
في دجى الذاكرة وأحلام القبيلة
بين موتاي وأشكال أساطير الطفولة."(8)


لكن هذا أعباء لا مهرب منها، لأن الذات التي ستحملها، اختارتها طوعا، فهي مشغولة بالوجود، بالخلود، وبالبراءة، وبالأسئلة الكبرى التي يتغذى عليها الشعر، وبجوهر الإنسان وهو يريد تلك اللحظة المستحيلة، لحظة يصادق فيها الموت:

"هنا أنا والموتُ جالسانْ
في حافة الزمانْ
وبيننا المائدةُ الخضراء
والنردُ والخمر والدخان
من مثلنا هذا المساء!"(9)


ينقذنا هذا الدفق الشعري الطاغي من الاستسلام لصيرورة الزمان، وما حال الإنسان عن عبد الحي، عامدا قال ذلك أو غير عامد، ساخرا قصد ذلك أو غير ساخر، إلا كحال تلك الفأرة الصغيرة التي ركنت للشعور بالخلود داخل آنية الخزف الصينية:

"حين انكسرتْ آنيةُ الخزف الصينية
كانت فأرتنا تسكن فيها
هل ظنتها رحمَ الأبدية!"(10)


هكذا سيركن الإنسانُ أيضا ويغفو، ثم سيتفاجأ بانكسار خزف الوقت، مثلما تفاجأنا بأن الموت لم يرضَ أن يقاسم عبد الحي المائدة الخضراء والنرد والدخان، تلك الليلةَ في مستشفى سوبا في الخرطوم، وأخذه إليه، لكن لم يأخذه تماما، ثم تركنا في فجوة الصمت التي تغور في دوائر الكلام.


بشير أبو سن
أغسطس 2021م.




الهوامش:

1- ذكَر عبد الحي هذا القول في رسالته إلى خالد المبارك. انظر: عجب الفيا، عبد المنعم. في الأدب السوداني الحديث، ص 254، دار مدارات للنشر، ط2، الخرطوم، 2019م.
2- المصدر السابق. ص 256-260
3- عجب الفيا، عبد المنعم، ت. س. إليوت والأدب العربي: دراسة في التأثير والتأثر، ص 168، دار نينوى للنشر، سوريا،2011م.
4- عبد الحي، محمد. العودة إلى سنار، ص 14، دار جامعة الخرطوم للنشر، ط2، الخرطوم 1985م.
5- انظر مختصر سيرة أورفيوس في: كورل، آرثر. قاموس أساطير العالم، ترجمة سهى الطريحي، ص 146، دار نينوى للنشر، سوريا، 2010م.
6- يوسف بشير، التجاني. الآثار النثرية الكاملة، السفر الأول، جمعه وأعده للنشر بكري بشير الكتيابي، قدمه ووضع حواشي عليه محمد عبد الحي، ص 5، شركة مطابع راي(لميتد)، الخرطوم، 1978م.
7- العودة إلى سنار، ذكر سابقا، ص 38
8- العودة إلى سنار، ذكر سابقا، ص 22
9- عبد الحي، السمندل يغني، مصلحة الثقافة، الخرطوم، 1977م.
10- المصدر السابق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى