عشنا سنواتٍ طويلة في حالة رفضٍ للتفكير وتغيير المفاهيم التي توارثناها وهي جوهر المشاكل وسبب السطحية التي تغرق فيها مجتمعاتنا، حيث يسعى الكثير جاهداً إلى إظهار ماليس فيه أو إنكار حقيقته حتى وإن كانت جميلة ً ونقية ليواكب ما يريده الناس فلا يرضون ولا يسعد..
وجزءٌ كبير من مشكلتنا هو كذبنا على أنفسنا قبل أن نكذب على غيرنا، ولا يخفى على أحد ٍمنا ما تمر به المجتمعات العربية على كل الأصعدة خاصة ً في العقد الأخير والذي تزامن مع المتغيرات التي عصفت ببلادنا، فطفت على السطح أمراضٌ اجتماعية لا تقل خطورةً عن الواقع السياسي لأن كليهما مرتبط ببعضه ويؤثران في كل شيء إن أمعنا النظر..
ومن هذه المفاهيم التي اعتدنا سماعها منذ الطفولة جميعاً هي التنميط والمبالغة في صورة كلٍ من الفقير والغني.. وتصوير جميع الفقراء والذين يعيشون في وضع مزري (ولا أهاجمهم لأني خرجت من أسرة فقيرة) بأنهم رمزٌ للشرف والكرامة والخلق والوطنية فيما تلصق جميع الرذائل بالأغنياء، وننسى كثيراً أن الامتحان الحقيقي لمبادىء أي إنسان هو سلوكه في لحظة اختيار، فلا أحد منا اختار أن يولد فقيراً أو غنياً، كما أن الكثير من الأغنياء كانوا فقراء لكنهم تعبوا وكدحوا على مدار سنوات، وبكل أسف لا يتذكر ذلك أحد ليركز على واقعه الميسور ويغفل تعبه للوصول إلى هذا الواقع (واستثني من حديثي كل من حقق مالاً بطرق غير مشروعة)، وأغلبنا بالمجمل ننتمي إلى الطبقة الوسطى التي دائماً ما يعول عليها أن تحدث التغيير الإيجابي في المجتمع وتعطيه دفعةً للأمام عن طريق تنوير العقول وشحذ الهمم والإبتعاد عن كل تطرف وتنبيهه لخطورة الموجات التي تأتيه من الخارج..
فأذكر وجود بعض الفقراء الذين كانوا يعيشون في نفس ظروفي في مدرستي، وكانوا لا يتورعون عن القيام بأي شيء لتحقيق أطماعهم، فيما عايشت أيضاً أغنياءاً كانوا يترفعون عن الكثير من المفاسد مع قدرتهم على الوصول إليها بكل سهولة، ورأينا الكثير من الأشخاص الذين ينتقدون بعض الأغنياء وأحياناً الفاسدين لكنهم لا يخجلون من تلميعهم والتذلل لهم والتغطية على أفعالهم وتبريرها، بل وإقناع البعض بها والتضحية بأصدقائهم وأحياناً أهلهم للتقرب منهم مع معرفتهم بحقيقتهم بغية تحقيق مكاسب مادية أو معنوية لهم أو لعائلاتهم، والذين لو أتيحت الفرصة لهم لإفترسوا جميع من حولهم..
وفي الواقع تحولت المسافة بين الطبقة الوسطى والفقيرة إلى عددٍ من الطبقات، وأصبح كل منها يمارس الحكم على الآخر ودور الرقيب والوصي الوطني والديني والأخلاقي في غيابٍ لرؤية تغلب المصلحة العامة على المصالح الشخصية، فيتهم الآخر بأنه أقل وطنيةً أو تديناً أو أخلاقاً تبعاً لأهوائه، في شكلٍ من أشكال الترهيب الإجتماعي الذي يمارسه كل طرف ضد الآخر، فعلى سبيل المثال وفي بلادنا هناك تراشق يتم من وقتٍ لآخر بين المغترب والمقيم في وطنه دون معرفة أي منهم لأسباب الآخر وظروفه وماذا سيفعل لو كان في مكانه.. وينطبق هذا على الكثير من الأمور التي يمارس الجميع فيها حكماً على الغير، وينسب الفضيلة فيها لنفسه أو الفئة التي ينتمي إليها..
والمحزن في مجتمعاتنا والذي كثيراً ما يحدث هو تنكر البعض لأصوله وبيئته التي أتى منها مع تشدقه سابقاً بحقوقها، لإعتقاده أن النجاح والرقي يكمن في تغيير الشخص لجلده والتحدث بلغة أجنبية دون داعي، ومحاكاة الطبقة الثرية من المجتمع للإندماج فيها من خلال المظهر وتصنع بعض السلوكيات، مع أننا أيضاً كبرنا وكنا نرى أسراً مشرفة وشباباً راقياً ومثقفاً ومتحضراً حسن المظهر رغم أنه كان لا يملك سوى قطعتين من الثياب يقوم بالتبديل بينهما ببساطة ودون خجل مع قناعة واعتزازٍ بالنفس، أو حتى ارتداء ثياب من محلات الملابس المستعملة (البالة) عكس ما نسمع من اقتران كلمة (الشعبي) بالمسف والمتدني من الأجواء والألفاظ والسلوك والأعمال التي لا تستحق إطلاق اسم (فن) عليها، إن كان من الأفلام أو الأغاني التي تلقى اليوم رواجاً ويسمعها أيضاً الكثير من الأغنياء ويعتبرها نوعاً من المرح.. فالأعمال الشعبية هي الأعمال التي تنبع من بيئة الشعب وذوقه وثقافته، وأهم وأكبر وأرقى الأسماء الفنية والثقافية العربية قدمت أعمالاً شعبية طبعت في وجدان الناس دون أن تكون مرادفاً لتدني الذوق كما يردد البعض دون وعي، بل ساهمت في رفع ذائقة المواطن العربي..
وفي كل الأحوال لا تمتحن مبادىء أي إنسان سواءاً كان غنياً أم فقيراً إلا في لحظة اختيار تتضح فيها الرؤية، تتحدد فيها الوجهة، وتتعرى فيها الأرواح لتختصر سنواتٍ من الكلمات وتترجمها إلى موقف يهوي بصاحبه أو يرتقي به، فالفقر لا يحني الهامات العظيمة والثراء لا يرفع النفوس الذليلة، والرقي يكمن في رداء الكرامة والصدق لا المصالح التي تزيف الحقيقة لتتخفى خلف أكثر من قناع، فتجعل من الجاني بريئاً يرى في سقطته الإرتفاع ..
خالد جهاد..
وجزءٌ كبير من مشكلتنا هو كذبنا على أنفسنا قبل أن نكذب على غيرنا، ولا يخفى على أحد ٍمنا ما تمر به المجتمعات العربية على كل الأصعدة خاصة ً في العقد الأخير والذي تزامن مع المتغيرات التي عصفت ببلادنا، فطفت على السطح أمراضٌ اجتماعية لا تقل خطورةً عن الواقع السياسي لأن كليهما مرتبط ببعضه ويؤثران في كل شيء إن أمعنا النظر..
ومن هذه المفاهيم التي اعتدنا سماعها منذ الطفولة جميعاً هي التنميط والمبالغة في صورة كلٍ من الفقير والغني.. وتصوير جميع الفقراء والذين يعيشون في وضع مزري (ولا أهاجمهم لأني خرجت من أسرة فقيرة) بأنهم رمزٌ للشرف والكرامة والخلق والوطنية فيما تلصق جميع الرذائل بالأغنياء، وننسى كثيراً أن الامتحان الحقيقي لمبادىء أي إنسان هو سلوكه في لحظة اختيار، فلا أحد منا اختار أن يولد فقيراً أو غنياً، كما أن الكثير من الأغنياء كانوا فقراء لكنهم تعبوا وكدحوا على مدار سنوات، وبكل أسف لا يتذكر ذلك أحد ليركز على واقعه الميسور ويغفل تعبه للوصول إلى هذا الواقع (واستثني من حديثي كل من حقق مالاً بطرق غير مشروعة)، وأغلبنا بالمجمل ننتمي إلى الطبقة الوسطى التي دائماً ما يعول عليها أن تحدث التغيير الإيجابي في المجتمع وتعطيه دفعةً للأمام عن طريق تنوير العقول وشحذ الهمم والإبتعاد عن كل تطرف وتنبيهه لخطورة الموجات التي تأتيه من الخارج..
فأذكر وجود بعض الفقراء الذين كانوا يعيشون في نفس ظروفي في مدرستي، وكانوا لا يتورعون عن القيام بأي شيء لتحقيق أطماعهم، فيما عايشت أيضاً أغنياءاً كانوا يترفعون عن الكثير من المفاسد مع قدرتهم على الوصول إليها بكل سهولة، ورأينا الكثير من الأشخاص الذين ينتقدون بعض الأغنياء وأحياناً الفاسدين لكنهم لا يخجلون من تلميعهم والتذلل لهم والتغطية على أفعالهم وتبريرها، بل وإقناع البعض بها والتضحية بأصدقائهم وأحياناً أهلهم للتقرب منهم مع معرفتهم بحقيقتهم بغية تحقيق مكاسب مادية أو معنوية لهم أو لعائلاتهم، والذين لو أتيحت الفرصة لهم لإفترسوا جميع من حولهم..
وفي الواقع تحولت المسافة بين الطبقة الوسطى والفقيرة إلى عددٍ من الطبقات، وأصبح كل منها يمارس الحكم على الآخر ودور الرقيب والوصي الوطني والديني والأخلاقي في غيابٍ لرؤية تغلب المصلحة العامة على المصالح الشخصية، فيتهم الآخر بأنه أقل وطنيةً أو تديناً أو أخلاقاً تبعاً لأهوائه، في شكلٍ من أشكال الترهيب الإجتماعي الذي يمارسه كل طرف ضد الآخر، فعلى سبيل المثال وفي بلادنا هناك تراشق يتم من وقتٍ لآخر بين المغترب والمقيم في وطنه دون معرفة أي منهم لأسباب الآخر وظروفه وماذا سيفعل لو كان في مكانه.. وينطبق هذا على الكثير من الأمور التي يمارس الجميع فيها حكماً على الغير، وينسب الفضيلة فيها لنفسه أو الفئة التي ينتمي إليها..
والمحزن في مجتمعاتنا والذي كثيراً ما يحدث هو تنكر البعض لأصوله وبيئته التي أتى منها مع تشدقه سابقاً بحقوقها، لإعتقاده أن النجاح والرقي يكمن في تغيير الشخص لجلده والتحدث بلغة أجنبية دون داعي، ومحاكاة الطبقة الثرية من المجتمع للإندماج فيها من خلال المظهر وتصنع بعض السلوكيات، مع أننا أيضاً كبرنا وكنا نرى أسراً مشرفة وشباباً راقياً ومثقفاً ومتحضراً حسن المظهر رغم أنه كان لا يملك سوى قطعتين من الثياب يقوم بالتبديل بينهما ببساطة ودون خجل مع قناعة واعتزازٍ بالنفس، أو حتى ارتداء ثياب من محلات الملابس المستعملة (البالة) عكس ما نسمع من اقتران كلمة (الشعبي) بالمسف والمتدني من الأجواء والألفاظ والسلوك والأعمال التي لا تستحق إطلاق اسم (فن) عليها، إن كان من الأفلام أو الأغاني التي تلقى اليوم رواجاً ويسمعها أيضاً الكثير من الأغنياء ويعتبرها نوعاً من المرح.. فالأعمال الشعبية هي الأعمال التي تنبع من بيئة الشعب وذوقه وثقافته، وأهم وأكبر وأرقى الأسماء الفنية والثقافية العربية قدمت أعمالاً شعبية طبعت في وجدان الناس دون أن تكون مرادفاً لتدني الذوق كما يردد البعض دون وعي، بل ساهمت في رفع ذائقة المواطن العربي..
وفي كل الأحوال لا تمتحن مبادىء أي إنسان سواءاً كان غنياً أم فقيراً إلا في لحظة اختيار تتضح فيها الرؤية، تتحدد فيها الوجهة، وتتعرى فيها الأرواح لتختصر سنواتٍ من الكلمات وتترجمها إلى موقف يهوي بصاحبه أو يرتقي به، فالفقر لا يحني الهامات العظيمة والثراء لا يرفع النفوس الذليلة، والرقي يكمن في رداء الكرامة والصدق لا المصالح التي تزيف الحقيقة لتتخفى خلف أكثر من قناع، فتجعل من الجاني بريئاً يرى في سقطته الإرتفاع ..
خالد جهاد..
