لوركا النهاية الحزينة
د. محمد عبدالله القواسمة
عندما نذكر الشاعر والكاتب المسرحي الإسباني فديريكو غارثيا لوركا (1898-1936) الذي دخل فضاء الشعر العربي من خلال تأثره وتأثيره في هذا الشعر نأسى لنهايته الحزينة، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، ونحاول أن نبحث عن الأسباب التي أدت إلى تلك النهاية لشاعر من أعظم الشعراء الإسبان.
المعروف أن نهاية لوركا كانت على يد رجال من حزب الفالانج أو حزب الكتائب. وهو حزب سياسي فاشي أسس في إسبانيا عام 1934، وقد تزعمه الدكتاتور الجنرال فرانكو، وخاض الحزب مع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936 المعركة ضد حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية. لقد أعدمت العصابة الحزبية لوركا على تلة قريبة من غرناطة، ولم يعثر على جثته كما تنبأ في إحدى قصائده:
عرفت بأنني قتيل
فتشوا المقاهي، والمقابر، والكنائس،
فتحوا البراميل والخزائن،
سرقوا ثلاثة هياكل عظمية لينتزعوا أسنانها الذهبية
ولم يعثروا علي!
ألم يعثروا علي؟
(كتاب مختارات من شعر لوركا، ترجمة عدنان بغجاتي، دار دمشق، ص5-6)
لقد ظهر اتجاهان في بيان أسباب مقتل لوركا: الاتجاه الأول يرى أن سبب مقتله، هو ميوله اليسارية ومعاداته الدكتاتورية. وجاء مقتله في أثناء الحرب الأهلية على يد أتباع الجنرال فرانكو.
الاتجاه الثاني يرى أن مقتله لم يكن بسبب ميوله اليسارية؛ فهو لم يكن شيوعيًا، أو يشكل خطرًا على جماعة فرانكو، حتى إنه كان صديقًا لبعضهم من بينهم روزاليس أحد الشخصيات الفرنكوية المعروفة، وهو الذي اختبأ في بيته هربًا من القبض عليه، وقد حاول أن ينقذه من القتل فلم يستطع. إنما كان مقتله بسبب نزعته الأندلسية وانتمائه إلى الحضارة العربية الإسلامية. وقد تكونت تلك النزعة وذلك الانتماء منذ ولادته في مدينة غرناطة التي كان يسمّيها "مملكة غرناطة"، وفي ذلك إشارة إلى آخر معاقل العرب في الأندلس التي سقطت بيد المَلكيْن الإسبانيين الكاثوليكيين فرناندو وايزابيلا عام 1492. واللذين قاما بطرد سكانها المسلمين ليس من غرناطة فقط بل من الأندلس أيضًا، وبفرض الديانة المسيحية على من بقي منهم.
ولوركا يعبر عن فجيعته بما حدث لمدينته في مقالة تحت عنوان "غرناطة في عصر الإسلام" نشرها في مجلة "غالو" الأسبوعية، وورد فيها أن لحظة سقوط غرناطة لحظة مشؤومة فُقدت فيها حضارة تستحق الإعجاب، حضارة فيها الشعر، وعلم الفلك، والعمارة، والفنّ، لتتحول الأندلس إلى مدينة فقيرة، مجدبة تحت سيادة البرجوازية الإسبانية.
كما تجلت نزعته في إبراز المكون العربي في الهوية الثقافية الأندلسية في كتاباته ومواقف كثيرة من حياته. ففي قصيدته "العربيات الثلاث: أغنية من القرن الخامس عشر "، يشير لوركا في العنوان الفرعي للقصيدة بأنها تعود إلى القرن الخامس عشر حيث ازدهر في الأندلس فن الموشحات والأزجال. وتعبر القصيدة بطريقة غير مباشرة إلى محاكم التفتيش التي أجبرت تلك الفتيات الثلاث من خائين أو جيان باسمها العربي( وهي مدينة تقع على الطريق بين مدريد وقرطبة) على اتباع الديانة المسيحية مع احتفاظهن بأسمائهن العربية. وأظهرت الأبيات شحوب تلك النساء نتيجة المعاملة القاسية التي لقيها العرب من دوائر الحكم الأندلسي. تقول القصيدة كما ترجمها خليفة محمد التليسي ضمن ترجمة ديوانه:
العربيات الثلاث
عشقتهن في خائين
عائشة وفاطمة ومريم
ثلاث عربيات ظريفات
كن يذهبن لجني الزيتون
فوجدنه قد جني
ورجعن مهزولات
شاحبات الخدود
في خائين
عائشة وفاطمة ومريم
ثلاث عربيات جميلات
ذهبن لقطف التفاح
فوجدنه قد جني
في خائين
عائشة وفطمة ومريم
قلت من أنتن أيتها السيدات
الجميلات
يا سارقات حياتي
نحن مسيحيات
وكنا عربيات ذات يوم
في خائين
عائشة وفاطمة ومريم
وفي ديوانه الذي عنوانه "أريكة التماريت". نجد كثيرًا من الملامح العربية فتحيلنا كلمة" تماريت" إلى اسم قرية عربية قريبة من غرناطة و"أريكة تماريت" اسم ضيعة لعم لوركا واقعة في وادي غرناطة. ونجد في الديوان مفردات عربية مثل "قصيدة" و"غزالة".
وللوركا ديوان عن غناء الفلامنكو، وهو فن المسلمين الذين أجبروا على اعتناق المسيحية الكاثوليكية على يد محاكم التفتيش، التي أقامها الملك فرناندو، وأُطلق عليهم الموريسكيون.
ومن المواقف التي تدل على المكون العربي لهوية لوركا الثقافية اعترافه في أحاديثه وحواراته بأنه نهل من المرويات الشعبية العربية التي كانت تقصها عليه أمه وقريباته. وكان يجيب عندما يسأل عن المكان المحبب لقضاء إجازته بأنه سيغادر مدريد إلى "مملكة غرناطة"، وفي ذلك إشارة إلى ماضي العرب التليد التي كانت غرناطة آخر حصونه.
من الملاحظ أنه لا يوجد من ينكر حتى من الإسبان أنفسهم المؤثرات الاندلسية في حياة لوركا وشعره. ولا شك في أن جذوره الموريسكية الفلاحية ظهرت في شكله العربي حتى إن صديقه الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، يصفه في مذكراته « بنتاج عربي أندلسي ينير ويفوح مثل أيكة ياسمين " .
لعلنا من خلال الاطلاع على حياة الشاعر الإسباني لوركا ومواقفه وأعماله الشعرية والمسرحية نرجح أن سبب مقتله هو انتماؤه إلى الحضارة العربية الإسلامية، ودفاعه عن المسلمين أمام محاكم التفتيش التي لاحقت المسلمين أيام الدكتاتور فرانكو؛ ليتركوا دينهم، أو يطردوا من الأندلس، أو يقتلوا.
د. محمد عبدالله القواسمة
عندما نذكر الشاعر والكاتب المسرحي الإسباني فديريكو غارثيا لوركا (1898-1936) الذي دخل فضاء الشعر العربي من خلال تأثره وتأثيره في هذا الشعر نأسى لنهايته الحزينة، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، ونحاول أن نبحث عن الأسباب التي أدت إلى تلك النهاية لشاعر من أعظم الشعراء الإسبان.
المعروف أن نهاية لوركا كانت على يد رجال من حزب الفالانج أو حزب الكتائب. وهو حزب سياسي فاشي أسس في إسبانيا عام 1934، وقد تزعمه الدكتاتور الجنرال فرانكو، وخاض الحزب مع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936 المعركة ضد حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية. لقد أعدمت العصابة الحزبية لوركا على تلة قريبة من غرناطة، ولم يعثر على جثته كما تنبأ في إحدى قصائده:
عرفت بأنني قتيل
فتشوا المقاهي، والمقابر، والكنائس،
فتحوا البراميل والخزائن،
سرقوا ثلاثة هياكل عظمية لينتزعوا أسنانها الذهبية
ولم يعثروا علي!
ألم يعثروا علي؟
(كتاب مختارات من شعر لوركا، ترجمة عدنان بغجاتي، دار دمشق، ص5-6)
لقد ظهر اتجاهان في بيان أسباب مقتل لوركا: الاتجاه الأول يرى أن سبب مقتله، هو ميوله اليسارية ومعاداته الدكتاتورية. وجاء مقتله في أثناء الحرب الأهلية على يد أتباع الجنرال فرانكو.
الاتجاه الثاني يرى أن مقتله لم يكن بسبب ميوله اليسارية؛ فهو لم يكن شيوعيًا، أو يشكل خطرًا على جماعة فرانكو، حتى إنه كان صديقًا لبعضهم من بينهم روزاليس أحد الشخصيات الفرنكوية المعروفة، وهو الذي اختبأ في بيته هربًا من القبض عليه، وقد حاول أن ينقذه من القتل فلم يستطع. إنما كان مقتله بسبب نزعته الأندلسية وانتمائه إلى الحضارة العربية الإسلامية. وقد تكونت تلك النزعة وذلك الانتماء منذ ولادته في مدينة غرناطة التي كان يسمّيها "مملكة غرناطة"، وفي ذلك إشارة إلى آخر معاقل العرب في الأندلس التي سقطت بيد المَلكيْن الإسبانيين الكاثوليكيين فرناندو وايزابيلا عام 1492. واللذين قاما بطرد سكانها المسلمين ليس من غرناطة فقط بل من الأندلس أيضًا، وبفرض الديانة المسيحية على من بقي منهم.
ولوركا يعبر عن فجيعته بما حدث لمدينته في مقالة تحت عنوان "غرناطة في عصر الإسلام" نشرها في مجلة "غالو" الأسبوعية، وورد فيها أن لحظة سقوط غرناطة لحظة مشؤومة فُقدت فيها حضارة تستحق الإعجاب، حضارة فيها الشعر، وعلم الفلك، والعمارة، والفنّ، لتتحول الأندلس إلى مدينة فقيرة، مجدبة تحت سيادة البرجوازية الإسبانية.
كما تجلت نزعته في إبراز المكون العربي في الهوية الثقافية الأندلسية في كتاباته ومواقف كثيرة من حياته. ففي قصيدته "العربيات الثلاث: أغنية من القرن الخامس عشر "، يشير لوركا في العنوان الفرعي للقصيدة بأنها تعود إلى القرن الخامس عشر حيث ازدهر في الأندلس فن الموشحات والأزجال. وتعبر القصيدة بطريقة غير مباشرة إلى محاكم التفتيش التي أجبرت تلك الفتيات الثلاث من خائين أو جيان باسمها العربي( وهي مدينة تقع على الطريق بين مدريد وقرطبة) على اتباع الديانة المسيحية مع احتفاظهن بأسمائهن العربية. وأظهرت الأبيات شحوب تلك النساء نتيجة المعاملة القاسية التي لقيها العرب من دوائر الحكم الأندلسي. تقول القصيدة كما ترجمها خليفة محمد التليسي ضمن ترجمة ديوانه:
العربيات الثلاث
عشقتهن في خائين
عائشة وفاطمة ومريم
ثلاث عربيات ظريفات
كن يذهبن لجني الزيتون
فوجدنه قد جني
ورجعن مهزولات
شاحبات الخدود
في خائين
عائشة وفاطمة ومريم
ثلاث عربيات جميلات
ذهبن لقطف التفاح
فوجدنه قد جني
في خائين
عائشة وفطمة ومريم
قلت من أنتن أيتها السيدات
الجميلات
يا سارقات حياتي
نحن مسيحيات
وكنا عربيات ذات يوم
في خائين
عائشة وفاطمة ومريم
وفي ديوانه الذي عنوانه "أريكة التماريت". نجد كثيرًا من الملامح العربية فتحيلنا كلمة" تماريت" إلى اسم قرية عربية قريبة من غرناطة و"أريكة تماريت" اسم ضيعة لعم لوركا واقعة في وادي غرناطة. ونجد في الديوان مفردات عربية مثل "قصيدة" و"غزالة".
وللوركا ديوان عن غناء الفلامنكو، وهو فن المسلمين الذين أجبروا على اعتناق المسيحية الكاثوليكية على يد محاكم التفتيش، التي أقامها الملك فرناندو، وأُطلق عليهم الموريسكيون.
ومن المواقف التي تدل على المكون العربي لهوية لوركا الثقافية اعترافه في أحاديثه وحواراته بأنه نهل من المرويات الشعبية العربية التي كانت تقصها عليه أمه وقريباته. وكان يجيب عندما يسأل عن المكان المحبب لقضاء إجازته بأنه سيغادر مدريد إلى "مملكة غرناطة"، وفي ذلك إشارة إلى ماضي العرب التليد التي كانت غرناطة آخر حصونه.
من الملاحظ أنه لا يوجد من ينكر حتى من الإسبان أنفسهم المؤثرات الاندلسية في حياة لوركا وشعره. ولا شك في أن جذوره الموريسكية الفلاحية ظهرت في شكله العربي حتى إن صديقه الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، يصفه في مذكراته « بنتاج عربي أندلسي ينير ويفوح مثل أيكة ياسمين " .
لعلنا من خلال الاطلاع على حياة الشاعر الإسباني لوركا ومواقفه وأعماله الشعرية والمسرحية نرجح أن سبب مقتله هو انتماؤه إلى الحضارة العربية الإسلامية، ودفاعه عن المسلمين أمام محاكم التفتيش التي لاحقت المسلمين أيام الدكتاتور فرانكو؛ ليتركوا دينهم، أو يطردوا من الأندلس، أو يقتلوا.