فضاء النقد
"تَغَرُّبُ الّذّاتِ ومركزيةُ الانتماءِ"
قراءة في ديوانِ " عصفورٌ منْ مصرَ" لـ " وحيد زايد"
محمد عبدالله الخولي / مصر
إنَّ النقدَ الأدبيَّ أو الفنيَّ كلامٌ على الكلامِ، فهو فنٌ موازٍ يحاولُ التنقيبَ في النصِّ أو العملِ الأدبيِّ عن مضمونِه؛ للوقوفِ على رؤية/ رؤيا المبدعِ، وليس السعيُ وراء المعنى أو الموضوع النصيِّ هدفَ النقدِ، بل المبتغى الأساسيُّ للنقدِ هو الكشف عن عمليتي التمثيلِ اللغويِّ وغيرِ اللغويِّ التي قام بها المبدع؛ ليعبر عن مكنونات الذات، ورؤيةِ هذه الذاتِ للعالمِ، فالذات المبدعة التي تتخذُ من اللغة معبراً ومتنفّسًا لها، عندما تكتبُ أو تبدعُ فهي تكتبُ نفسَهَا، ولذا نستطيعُ القولَ: أن المعمارَ اللغويَّ أو البناءَ الهندسيَّ للنصِّ هو صورةٌ موازيةٌ -تماما- لما انطوت عليه الذاتُ المبدعةُ، فالكشف عن عمليةِ التمثيلِ اللغويِّ هو كشفٌ عن الذات المبدعةِ التي اتخذت من اللغةِ قناعًا لها؛ كي لا تتبدَّى الذاتُ عاريةً -تمامًا- أمامَ المتلقي. وأظن أن الذاتَ التي تسلمُ نفسها بسهولةٍ للمتلقي هي ذات غير مبدعةٍ تمامًا- فالجمال الفنيُّ عمومًا والشعريُّ خاصةً مَبْنِّيٌّ على فكرة الترميزِ، إذ اللغةُ نفسُهَا وسيطٌ رمزيٌ بين الإنسانِ والعالمِ، وبين الذواتِ الفاعلةِ في النصِّ إن إبداعًا أو تأويلًا، بل اللغةُ هي الوسيطُ بينَ الإنسانِ ونفسهِ إذ لولا اللغةُ لمَا استطاع الإنسانُ التفكيرَ، فعمليةُ التفكيرِ النفسيِّ أو الداخليِّ تتمُ بواسطةِ اللغةِ، فالإنسان عمومًا وهو يفكر يستحضرُ الأشياءَ بمسمياتِها اللغويةِ، وأظن أن هذه السِّمَةَ تميَّزَ بها الإنسانُ عمَّنْ سواه من المخلوقاتِ، ولنا أن نرجعَ في ذلكَ إلى تلك المفاضلةِ التي كانتْ بين سيدنا "آدم" -عليه السلام- والملائكةِ الكرامِ في قول الله -تعالى- في سورةِ البقرةِ: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ] يقول الحافظ ابن كثير: "هذا مقام ذكرَ الله تعالى فيه شرفَ آدم -عليه السلام- على الملائكةِ يعني: بالعلم، وهذا العلم كما ذكرَ الحافظُ ابن كثير ليس مُخْتَصَّا بالعلومِ الشرعيةِ كالعلم بالله وأسمائِه وذاتِه وصفاتِه وأفعالِه وأحكامِه وشرعِه، وإنَّما عَلَّمَه أسماءَ كلِّ شيءٍ من المسمياتِ، فكان ذلكَ تشريفاً له"، فاللغةُ إذاً وسيطٌ به يَتَعرَّفُ به الإنسانُ على العالم وبها تعي الذاتُ وجودَهَا.
فعمليةُ التمثيلِ اللغويَّ سَبَقَتْهَا عمليةُ تمثيلٍ ذهنيٍّ داخليةٍ، فالذات المبدعةُ تنقلُ لنا -عبر اللغة- ما تمَّ داخلَ النفسِّ البشريةِ من عمليات سايكولوجية معقدة، وبعد اختمار الفكرة ما بين الوعي واللاوعي تأتي عملية التمثيل النصي.
والنقدُ من خلالِ الكشفِ عن عمليةِ التمثيل اللغوي يقوم بتفكيك الهيكل النصي بآلياتٍ مختلفة -إذ لكل مدرسةٍ نقديَّةٍ آلياتٌ وتقنياتٌ تختلفُ في أدائيتها عن المدارسِ النقديةِ الأخرى- فالناقدُ يفككُ النصَّ الأدبيَّ أو العملَ الفنيَّ؛ ليعيدَ بناءه مرةً أخرى وهو مصطبغٌ برؤيةِ الذاتِ المبدعةِ للعالمِ. فالبحث النقدي هو بحث عن الذات وكشفٌ ماهيتِها وكينونَتِهَا واستنطاقٌ لها عبر بنائها النصيِّ.
ولعلَّ ما سبقَ مِنْ تقديمٍ يكونُ ذاتَ علاقةٍ وطيدةٍ بالعمل الأدبي الموسوم بــ " عُصْفُورٌ مِنْ مِصْرَ" للكاتبِ والشاعرِ الدكتور/ وحيد زايد. إذْ يتجلَّى وجودُ الذاتِ المبدعةِ في هذا العملِ الفنيِّ بدايةً من "الغلاف" فقد انقسمَ الغلافُ إلى نصفين، النصف الأول/ الأعلى وقد احتلَّ أرضيَّتَه اللونُ البنيُّ بمساحةٍ تبدو أكبرَ من النصف الثاني الذي احتلَّ أرضيَّتَه اللونُ الأبيضُ، فنحن أمام غلاف لديوان شعريٍّ منقسمٍ إلى نصفين، نصف يتمركز في خلفيته اللونُ البنيُّ الغامقُ، ونصف يتمركز في خلفيّتِه اللونُ الأبيضُ، وقد توزعت ألوانُ أخرى بين القسمين وهذه الألوان هي: (الذهبي- الأبيض- الرصاصي- الأخضر- البرتقالي- الأسود- النِّيلي) ولذا يتوجب علينا تحليل هذه الألوان تحليلاً سيميائياً يترجم لنا هذه الألوانَ ترجمةً تَشِي بالذاتِ المبدعةِ وتصوراتِها الإبداعية والفنية.
- سيميائية العتبات النصية:
العتباتُ النصيَّةُ متعددةٌ ولكلِّ عتبةٍ نصيَّةٍ مغزاها ومبتغاها التواصليُّ، فالذات المبدعةُ تفرض نفسَها بداية من الغلاف كعتبةٍ أولى تتصدر العملَ الفنيَّ، ويحتوي الغلافُ على عنوانِ الدِّيوانِ، واسمِ المؤلفِ، وتحديد الجنسِّ الأدبيِّ للعملِ الفنيِّ "شعر فصحى"، ودارِ النَّشرِ، واسمي الأستاذين الجليلين اللَّذَيْنِ قاما بدراسةِ هذا العملِ الأدبيَّ، إضافةً إلى الألوان التي ذكرتُهَا -آنفاً- ولذا يتوجبُ علينا دراسة الألوان ودلالاتها، ثم دراسة العنوان "عصفورٌ من مصرَ" كعنوان عام لهذا الديوان.
أ- الغلاف وسيميائية اللون والصورة:
القسم الأعلى من الغلاف، والذي تمايزت خليفته باللون البنيِّ الغامقِ، يمثِّل لنا تلك الفترةَ التي قضَّاها الشاعرُ في الغربةِ وقد اختارَ لتلكَ السنواتِ اللونَ البنيَّ الغامقَ الذي احتلَّ النصيبَ الأكبرَ من صفحةِ الغلافِ مقارنةً باللون الأبيضِ، واختيار اللونِ البنيِّ بهذه الدرجةِ التي نراها على صفحةِ الغلافِ هو تمثيل تصويري عبرَ تِقَنيَّةِ الألوانِ لسنوات الغربة والاغتراب عن الوطن، أما النيقض/ اللونُ الأبيضُ هو تمثيل تصويري عبر رمزية اللون الأبيض للوطن/ مصر بكل بهائها وجلالها.
أمَّا عنوان الدِّيوانِ "عصفورٌ منْ مصرَ" وقد ارتُسِمَ على صفحةِ الغلافِ باللون الذهبيِّ. وقد توزَّعَ اللون الذهبيُّ بين أعلى الغلافِ وأدناه، أي بين القسمين، فقد جاء عنوان الديوان بنفس اللون الذي أتت به معالم مصر الحضارية كالأهرامات وأبي الهول، والقلعةِ وبرجِ القاهرةِ، ورافعةِ الأحمال التي توسطت القلعةَ وبرج القاهرةِ، فانسحابُ اللونِ الذهبيِّ -الذي تّزّيَّتْ به المعالمُ الحضاريةُ المصريةُ- إلى العنوان "عصفورٌ منْ مصرَ" يدل على هيمنة الوطنِ على الذاتِ المبدعةِ التي مهما ارتحلتْ وتغرَّبَتْ فهي تحمل الوطنَ بكل ما فيه من بهاءٍ وجلالٍ معها وفيها، فالاغترابُ لا يعني بالضرورة- نسيان الأوطانِ وهجرانها، فانتقال اللون الأخضرِ الذي يدل على خيرات مصرَ ونمائها وبركة النيل التي تمتد منه إلى أعماق مصر كما هو واضح في صفحة الغلاف بصورة لا متناهية، فقد انسحب اللونُ الأخضرُ -أيضاً- إلى اللونِ البنيِّ الذي يمثل سنوات الغربةِ على شكل عصفور، كدليلٍ قطعيٍّ آخرَ يؤكدُ هيمنة الوطنِ بكل صوره وتاريخه ومعالمه على الذاتِ المبدعةِ، ولعل رمزية العصفور المهاجر تحمل في طياتها معنى آخر وهو معنى " العودة" فالذاتُ ربما تحقق مآربَهَا في الغربة، ولكن تظلُّ العودةُ إلى الوطنِ حلمًا يراود الذات مهما تغرَّبَتْ، فاختراق المآذن والقبابِ وبرجِ القاهرةِ لمجالِ الصورة ونفاذهم من مركزيةِ اللون الأبيضِ/ الوطن، إلى اللون البنيِّ/ الغربة، هو دليلٌ سيميائيٌّ آخر على اختراق جدار العزلة/ الغربةِ من خلال فعل تأثير الهوية الوطنيةِ على الذاتِ المغتربةِ، فكأنَّ الذاتَ حال تحققِها ووعيها تحمل الوطن في طياتها يرتحل معها وفيها، وبه وله تعود الذات.
اللونُ البرتقالي على صورة الغلافِ هو الحدُّ الفاصل بين الغربة التي تجلَّتْ في لونِها البنيِّ، والوطن الذي دلَّ عليه اللون الأبيض برمزيته التي تفتّقَت عنها صورة الوطنِ بكلِّ معالمه وتاريخه. واللون البرتقالي: هو مزيجٌ من لونين قويين هما: ( الأحمر- الأصفر) ومن خلالِ تداخلِ اللونِ البرتقاليِّ مع اللونين: ( البنيِّ- الأبيضِ)، تختلف دلالاته، فكلما اقترب اللونُ البرتقاليُّ من اللونِ البنيِّ يميل إلى الاحمرار الذي يشبه -تماما- غروب الشمسِ ولونِ شَفَقِهَا الأحمر، وهذا يدل على اغتراب الذات وجنوحها نحو الغربة، فكأن هجرةَ الذات شمسٌ حال غروبها، فلن تشرق الذات مرةً أخرى إلا بعودتها إلى الوطن، وهذا ما نراه جليًّا عندما يمتزج اللون البرتقالي ويقتربُ من اللون الأبيض، فهو بامتزاجه وتداخله مع اللون الأبيض يميل إلى اللون الأصفر، والذي يدل على شروق الشمسِ بعدَ غروبها، فكلما تدرَّج اللون البرتقاليُّ ومالَ إلى الصُّفْرَةِ دلَّ على الراحةِ النفسيَّةِ والابتهاجِ والسرور، وهذا ما يدلُّ عليه قولُ الله تعالى في سورة البقرة: [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين] ، وقد استخدم علماء النفس مزيجَ اللونين: (الأبيض- والأصفر) في علاج بعض الأمراض النفسية. ولذا قد تجلَّى اللون البرتقالي مرةً أخرى، في كتابة اسم المؤلف، وهو يحتضن ماء النيلِ على صفحة الوطنِ البيضاءِ، وكأن الشاعرَ يريدُ أن يقولَ لنا: " أن الذات لن تتحققَ من وجودِها الفعليِّ إلا بمعانقةِ نهرِ النِّيلِ، وأنَّ شمسَ الذاتِ لنْ تشرقَ إلا على أرضِ الوطنِ.
كلمة "الشِّعْر" كُتِبَتْ مرتينِ على ظهرِ الغلافِ، مرّةً باللونِ الأبيضِ، وأخرى باللونِ الأسودِ، ففي المرَّةِ الأولى، كانت تحديدًا للجنسِ الأدبيِّ الذي ينتمي إليه هذا العمل الفنيُّ "عصفورٌ منْ مصرَ" ولمَّا كان اللونُ الأبيضُ أصلاً لكل الألوان، انسحبت تلك الصِّفَةُ لتدلَّ على الجنسِ الأدبيِّ في عموميته وشموليته. ولكن كلمة "شِعْر" عندما اقترنتْ باسم المؤلف تغيرَ لونُهَا إلى اللون الأسود، لتدل على الحضور الفعليِّ للذاتِ المبدعةِ -التي توشَّحَتْ بسوادِ تَجْرَبَةِ الغُرْبَةِ- عبر الجنسِ الأدبيَّ الذي اختارته ليكونَ نافذةً لها على العالم.
ب- سيميائية العنوان:
"عصفورٌ منْ مصرَ" عنوانٌ عام لعملٍ فنيٍّ مكتملِ البناء، ويتكون العنوان من ثلاث كلمات: (عصفور- من- مصر)، فكلمة عصفور "نكرة" مجهولةٌ غير محددة الهويةِ، فهي تصدق على كل الجنسِّ، أعني: جنسَ العصافير، ولكن دخولَ حرفِ الجرِّ سيحددُ ماهيةَ العصفورِ بنسبته إلى مكان يحدُّ من فعّاليةِ النكرة "عصفور" بانتمائها إلى مكان/وطن/ مصر، فلم يكتسبَ العصفورُ ماهيتَه إلَّا بنسبته إلى مكانٍ ينتمي إليه، وهو الوطن الذي تتجلَّى قيمتُه هنا في العنوانِ، أن الذات بلا وطنٍ يحتويها، وحضارةٍ تنتمي إليها، هي محض هباءٍ لا يعولُ عليه، فانتماءُ الذات هو الذي يحدد هويتَها ومكانتها. فالعصفور/ الذات، ظلت النكرة بعموميتها ومجاهيلها تقذفه بعيداً عن دائرةِ التخصيص، حتى أتت مصر وانتشلت الذات من هوة التنكير السحيقة، وأطلقتْ عصفورَها في أرض المعارف.
- تَغَرُّبُ الذاتِ ومركزيةُ الانتماءِ:
أما بالنسبةَ للديوانِ فقد اشتمل على ثلاثةٍ وعشرينَ قصيدةً بعد إهداء ومقدِّمَةٍ تعريفيةٍ، وبالنظر إلى الإهداء والمقدمة تتجلى الفكرةُ المحوريةُ للديوان، وهي "تَغَرُّبُ الذاتِ ومركزيةُ الانتماءِ" فالذاتُ التي تغرَّبَتْ وغابتْ عن موطنِهَا رِدْحَاَ طويلاً من الزمن، لم ينفلت من بين ضلوعها الوطنُ، ولم تطمسْ هُويَّتُهَا، بل ظلت الذات هائمةً بوطنها، مُتَيَّمَةً بترابه، بل تتفيؤ ظلاله في هجير غربتها، وترتوي من نيله في كأسٍ من أقحوان خيالها.
ولمَّا كانتْ الذاتُ المبدعةُ في حالةٍ تَسَامٍ دائمٍ لم تتوقف فكرة الانتماء على حدود الوطن الأم/ مصر، بل تَخَطَّتْ الذاتُ تلكَ الحدودَ الجغرافية لتنتمي إلى وطنها العربي الأكبر في ظلِّ قوميَّةٍ ترتجيها الذاتُ وتَتَمَثَّلُهَا شعرًا، فيقول الشاعر في قصيدته الموسومة بــ" العربية تشكو":
لغةُ البيانِ وآيةُ القرآنِ
تشكو من التفريطِ والهجران
وهي التي جمعت جميلَ زهورنا
في باقةٍ تزهو بها أوطاني
عربيةٌ شعريةٌ سحريةٌ
ما مثلها بين اللغات اثنان"
فاللغةُ العربيةُ في هذا النصِّ هي محورُ الارتكازِ، وهي غرضُ النصِّ الشعريِّ، ولكن يمتدُّ هذا الغرضُ إلى موضوعه المتسامي، وهو ما يسمى في النقد بـ " موضوع الموضوع" أي أنَّ موضوعَ النصِّ الشعريِّ/ الغرض ينتمي إلى موضوع أكبر وهو العروبة، فامتداحُ اللغةِ العربيةِ في الأساس هو امتداحٌ للعروبة وافتخارٌ بها، فقد استخدم الشاعرُ "نا" الدالة على جماعة الفاعلين في قوله: "زهورِنا" كما أنه جمع الأوطانَ العربيةَ كلَّها في دائرةِ ياء الملكيةِ في قوله: "أوطاني" وتعود "نا" الدالة على الجمع تفرض هيمنتَها على النص من جديد، وكأنَّ الشاعرَ يؤكد بصيغة الجمعِ تلك، أن الأوطانَ العربيةَ كلَّهَا وطنٌ واحدٌ، وقد توزعت "نا" الدالة على الفاعلين على البيتِ الرابع، والسادس، والتاسع، في الكلمات الآتية: ( بقلوبنا، ابتلينا، أطفالنا)، بعد تجليها الأول في البيت الثاني.
وأكثر من قصيدة تخللتْ هذا الديوان َتحمل نفسَ الموضوع/ العروبةَ مرتكزًا أساسيًا لها، حتى وإن تبدَّى الغرضُ الشعريُّ غير ذلك، فبالنظر إلى تلك القصائدِ وقراءَتها وجدنا أنها جميعا تنتمي إلى موضوعٍ أكبر من غرضها العارض وهو القوميةُ العربيةُ التي تتجلَّى في مخيلة الذات الشاعرةِ كيانًا حقيقيًا ماثلًا، فيقول في قصيدته " وا معتصم آه" :
هبُّوا بني الإنسانِ عُذْتُ بربكم
أن تتركوني طَعْمَة الأعداء
هذي دمائي تستجيرُ فما بِكمْ
هذي ضلوعِي هذه أشلائِي
هذي قبائي والمآذنُ حطِّمتْ
هذي دياري حُرِّقَتْ وخِبائي"
ويقول -أيضا- في قصيدته "سندباد العراق"
يــــــــــاسندبـــــــــاد الــــعراقِ *** آن أوانُ الـــــعـــــــناقِ
الحزنُ حثّ البواكي * ** والدمعُ غصَّ المآقي
يـــــا لعنةَ للفـــــــــــراقِ
يا نـــــــــــورسَ الرافدين*** لو طرتَ بالخافقينِ
لعدتَ صفرَ اليدينِ*** تقولُ منْ لي سواكِ
حبيبتي يـــــا عراقي"
كما تشظَّتْ تلك الفكرة المحورية في عديد من القصائد ومنها (للجزائر، زرْدة، دوَّار الأحبَّة، هنيئاً أوروبا)، فالذات الواعية دائما تطمح إلى " وعي ممكن" كما أسماه " جولد مان" مؤسسُ علم أدب الاجتماع، والذي ينطلق من الوعي الجمعي، فالذات أو ما يطلق عليه "الأنا الفردي" تنصهر في بوتقة "الأنا الجمعي" أو ما يطلق عليه "الــ نحن" ومعناه غياب الذاتِ الفردِ وظهور الأنا الجمعيِّ، وكأنَّ تلك الذات المبدعة تستحضر مجتمعَها وتحلُمُ بالنيابةِ عنه، وتطمح إلى تحقيق مستقبلٍ يُلائم أهدافَ تلك الجماعةِ التي تنوبُ عنها الذاتُ إبداعا وتتوحد بها فكراً، فالمبدع من وجهة نظر الأدبِ الماركسيِّ، هو الذي يحمل همَّ جماعته أو مجتمعه منصهرًا فيه، وبما أنه يمتلك القدرةَ الإبداعيةَ، فهو المؤهل أن ينوبَ عن الجماعةِ في صياغة حُلْمِهَا وتوجهاتِها وتطلعاتِها فنًا وإبداعًا، وهذا ما فعله شاعُرنا الكبير "وحيد زايد" في جُلِّ القصائد التي ذكرتها -آنفًا.
لولا حبُّ الشاعرِ لوطنه الأم/ مصر، لمَا استطاع أن يَحْلُمَ بوطنٍ أكبر، وقوميةٍ ووحدةٍ عربيةٍ يَتَغَيْاهَا في شعره، فمصرُ هي الأساسُ الذي انبنى عليه معنى الانتماءِ الأولِ لدى الشاعرِ، فقد ارتحلتْ معه، سكنتْ فيه، هيمنتْ على قلبه وفكره وشعره، بل استحوذتْ عليه بالكلية، وظلَّ يحلُم بالعودة إليها لتتحققَ نسبةُ العصفورِ إلى وطنه " ويتجلى عنوان الديوان كبطاقةِ هُوية "عصفورٌ من مصرَ".
ظلَّتْ الذاتُ مشتتةً عبَر فضاءاتِ الأمكنةِ ما بين {الأردن، وتونس، وليبيا، والسعودية} ولكنَّها ظلَّتْ منتميةً إلى وطنها، فمهما تغرَّبت فهي قابعةٌ فيه، يَتَمَلَّكُهَا الوطنُ عبَر أهازيجِ الشوقِ، وترانيم الحنين،ِ وتراتيل الذكرى، ظلَّتْ معالمُ مصرَ وحضارتها وتاريخها يخطُّون طريقَ العودةِ للذاتِ التي تغرَّبتْ، وظلَّتْ الذاتُ تحلُم بعودتها لتنتشي أريجَ الحقيقةِ في حضرةِ النِّيلِ العظيم.
يقول الشاعر وحيد زايد في قصيدته الموسومة بــ "إدفو":
لـــــــــــــــــذيذَ الــــــــــــــعيش فـــــي "إدفو"
يـــــــــــروقُ وجـــــــــــــــــــــــــوُّها يــــــــصفو
لــــــــــــفرطِ سعـــــــــادتي فيـــــــــــــــــــــها
تـــــــــــــــبيتُ الـــــــــعــــــينُ لا تــــــــغفو
جـــــــــــمالُ الـــــــــــنِّيل يـــــــــــــــرويها
كــــــــــــــــــــــأنَّ جمــــــــــــــــــــــــالَه وقفُ
فــــــــــــــــــــلا الفصحى تـــــــــوفِّيها
ولا الشــــــــعـــرُ ولا الــــــوصفُ
فنصفُ الحسنِ في يوسفْ
وفــــــــــــي جــــــناتِها النصـــفُ"
فالوطنُ ظلَّ في خاطر الشاعر في حلِّه وتِرحالِه، وأظنُّ "زايد" كلما تغرَّب عن وطنه تقرَّب منه أكثر، فمرارة الغربةِ تزيد من لواعج الشوق، وتُلهب القلبَ، وتستفزُّ العاطفةَ، فتنهمر أوجاعُ الذاتِ دموعًا على جدران غُربتِهَا، بل كان "زايد" يعاني ما يعانيه الوطنُ، ويتألَّمُ معه وله، وهو بعيد عنه، منشغلٌ بتحقيق ذاتِه في بلاد الغربة، ولكنَّه كان بعدُ المسافة/ المكان، الذي يتلاشى فجأةً أمام حنين الذاتِ للوطن، إذا ألمَّت به مُلِمَّةٌ أو نزلتْ بساحتِه نازلةٌ فنراه يقول في قصيدته "فجيعة"
مزقتُ قلبي يا فجيعة أربعا
كل على فئة يزيد تقطُّعا
يا عينُ جودي بالدموعِ فمثل ذا
ما لم يكنْ في خاطرٍ مُتَوَقَّعَا
آلافُ أحلامِ ذهبْنَ بلمحةٍ
ومئاتُ أرواحٍ توالت تُبَّعَا
نادوا "الحياة" ولاتَ حين مغامرٍ
والموتُ بالتِّرحاب صفَّ الأذرُعَا
مدوا آيادِيهم فما لبَّتْ يدٌ
حتى إذا قنطوا أتاهم مسرِعَا
المنقذونَ تبخَّروا تبًا لهم
يا ويلَ منْ للمستغيثِ تَنَطَّعَا
يا ويحَ مصرَ أ كلُّ يومٍ جاءَها
ناعٍ بأنباءٍ تقضُّ المضجَعَا"
هذه القصيدة التي تنزفُ دماً قالها الشاعرُ في حادثة غرق العبارة المصريةِ، التي راح ضحيتُهَا أعدادٌ غفيرةٌ، والمتأمل في هذه الأبياتِ يجدها تعكسُ لنا صورةَ الأسى التي تختلجُ قلبَ الشاعر، معبرةً عن مدى الألمِ والقلقِ الذي يتجرَّعُه الشاعر من أجل وطنِه وأهلِه، وهكذا لا بدَّ أن يكونَ الشاعرُ صورةً ومرآةً تنعكسُ عليها الأوطانُ بما فيها ومنْ فيها، فالغربةُ لم تكن عزلةً وبرزخًا يحُول بين الشاعرِ ووطنِه وأهلِه، بل ظلَّتْ الذاتُ المبدعةُ نَايَاً يردد لحنَ الوطنِ في فضاءاتِ غُربتِه.
يظلُّ الوطنُ بتاريخِه ومعالمِ حضارتِه وصورِه ورموزِه مهيمنًا بسلطةِ الحبِّ على الذاتِ المبدعةِ، فالشاعر يحمل في طيَّاتِه الوطنَ بِكُلِّيَتتِه، وكأنَّ إزميلَ الانتماءِ نقشَ الوطنَ قصيدةً على شغافِ قلبِ الذاتِ، فتظلُّ الذاتُ هائمةً بوطنها، غائبةً فيه، وكلاهُمَا يبثُّ أغنياتِه للآخر، يقول "زايد" في قصيدته "سندباد مصري" :
أبا الهولِ شأنُك لا يُحتقرْ
وعُمْرك في الكونِ إحدى العِبَرْ
كأنك شاهدُ يوسفَ سا
قتْه للمستجيرِ عيونُ القدرْ
كأنَّك ناصحُ موسى الخروجَ
ونارُ الأعادي عيونُ الشررْ
أو انَّك مؤمنُ فرعونَ ألقى
قذيفةَ حقٍّ بوجه البطرْ
أو انَّك ساعي الهدايةِ نادى
بأقصى المدينةِ قبلَ الخطرْ"
وثمة قصائد أخرى مركزيةٌ في هذا الدِّيوانِ وهي القصائدُ التي تعبرُ عن آلامِ الغربةِ ووحشتِها، وندمِ الشاعرِ على تلكَ السنواتِ الطوالِ التي قضَّاها في الغربةِ، وتذبذبِ الذاتِ ما بين البقاءِ في الوطنِ وبينَ الغربةِ، التي توهمُ الشاعرَ أنَّه سيحققُ مآربَه فيها، ولكن سرعانَ ما ندِمَ على تلك السنواتِ الطوالِ التي ضاعتْ وضاعَ معها كثيرٌ من الأحلام والأمنياتِ، ومن هذه القصائد..( عيون الدموع، عصفور، ندم، هي الدنيا، كارافان) تعتبر هذه القصائدُ الخمسُ من وجهة نظري بعد مطالعة الديوان كاملًا، هي خلاصةُ تجربةِ الغربةِ لدى شاعرنا "وحيد زايد"، وهي تحتاج دراسةً مستقلةً متأنيةً أفترضُ لها عنوانًا، ربَّما يكونُ " اغترابُ الذَّاتِ وحضورُ الهُويَّةِ" لأفتحَ بهذا العنوانِ المفترضِ المجالَ للباحثينَ من بعدي لاستقصاءِ جانبًا من الجوانبِ المهمَّةِ في هذا الدِّيوانِ، وهو الغربةُ بكلِّ تفاصيلِها ومعاناةُ الذَّاتِ لها، وكيف استطاع الشاعرُ أن يمثِّلَ لهذه التَّجْرِبَةِ تمثيلًا شعريًّا.
"تَغَرُّبُ الّذّاتِ ومركزيةُ الانتماءِ"
قراءة في ديوانِ " عصفورٌ منْ مصرَ" لـ " وحيد زايد"
محمد عبدالله الخولي / مصر
إنَّ النقدَ الأدبيَّ أو الفنيَّ كلامٌ على الكلامِ، فهو فنٌ موازٍ يحاولُ التنقيبَ في النصِّ أو العملِ الأدبيِّ عن مضمونِه؛ للوقوفِ على رؤية/ رؤيا المبدعِ، وليس السعيُ وراء المعنى أو الموضوع النصيِّ هدفَ النقدِ، بل المبتغى الأساسيُّ للنقدِ هو الكشف عن عمليتي التمثيلِ اللغويِّ وغيرِ اللغويِّ التي قام بها المبدع؛ ليعبر عن مكنونات الذات، ورؤيةِ هذه الذاتِ للعالمِ، فالذات المبدعة التي تتخذُ من اللغة معبراً ومتنفّسًا لها، عندما تكتبُ أو تبدعُ فهي تكتبُ نفسَهَا، ولذا نستطيعُ القولَ: أن المعمارَ اللغويَّ أو البناءَ الهندسيَّ للنصِّ هو صورةٌ موازيةٌ -تماما- لما انطوت عليه الذاتُ المبدعةُ، فالكشف عن عمليةِ التمثيلِ اللغويِّ هو كشفٌ عن الذات المبدعةِ التي اتخذت من اللغةِ قناعًا لها؛ كي لا تتبدَّى الذاتُ عاريةً -تمامًا- أمامَ المتلقي. وأظن أن الذاتَ التي تسلمُ نفسها بسهولةٍ للمتلقي هي ذات غير مبدعةٍ تمامًا- فالجمال الفنيُّ عمومًا والشعريُّ خاصةً مَبْنِّيٌّ على فكرة الترميزِ، إذ اللغةُ نفسُهَا وسيطٌ رمزيٌ بين الإنسانِ والعالمِ، وبين الذواتِ الفاعلةِ في النصِّ إن إبداعًا أو تأويلًا، بل اللغةُ هي الوسيطُ بينَ الإنسانِ ونفسهِ إذ لولا اللغةُ لمَا استطاع الإنسانُ التفكيرَ، فعمليةُ التفكيرِ النفسيِّ أو الداخليِّ تتمُ بواسطةِ اللغةِ، فالإنسان عمومًا وهو يفكر يستحضرُ الأشياءَ بمسمياتِها اللغويةِ، وأظن أن هذه السِّمَةَ تميَّزَ بها الإنسانُ عمَّنْ سواه من المخلوقاتِ، ولنا أن نرجعَ في ذلكَ إلى تلك المفاضلةِ التي كانتْ بين سيدنا "آدم" -عليه السلام- والملائكةِ الكرامِ في قول الله -تعالى- في سورةِ البقرةِ: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ] يقول الحافظ ابن كثير: "هذا مقام ذكرَ الله تعالى فيه شرفَ آدم -عليه السلام- على الملائكةِ يعني: بالعلم، وهذا العلم كما ذكرَ الحافظُ ابن كثير ليس مُخْتَصَّا بالعلومِ الشرعيةِ كالعلم بالله وأسمائِه وذاتِه وصفاتِه وأفعالِه وأحكامِه وشرعِه، وإنَّما عَلَّمَه أسماءَ كلِّ شيءٍ من المسمياتِ، فكان ذلكَ تشريفاً له"، فاللغةُ إذاً وسيطٌ به يَتَعرَّفُ به الإنسانُ على العالم وبها تعي الذاتُ وجودَهَا.
فعمليةُ التمثيلِ اللغويَّ سَبَقَتْهَا عمليةُ تمثيلٍ ذهنيٍّ داخليةٍ، فالذات المبدعةُ تنقلُ لنا -عبر اللغة- ما تمَّ داخلَ النفسِّ البشريةِ من عمليات سايكولوجية معقدة، وبعد اختمار الفكرة ما بين الوعي واللاوعي تأتي عملية التمثيل النصي.
والنقدُ من خلالِ الكشفِ عن عمليةِ التمثيل اللغوي يقوم بتفكيك الهيكل النصي بآلياتٍ مختلفة -إذ لكل مدرسةٍ نقديَّةٍ آلياتٌ وتقنياتٌ تختلفُ في أدائيتها عن المدارسِ النقديةِ الأخرى- فالناقدُ يفككُ النصَّ الأدبيَّ أو العملَ الفنيَّ؛ ليعيدَ بناءه مرةً أخرى وهو مصطبغٌ برؤيةِ الذاتِ المبدعةِ للعالمِ. فالبحث النقدي هو بحث عن الذات وكشفٌ ماهيتِها وكينونَتِهَا واستنطاقٌ لها عبر بنائها النصيِّ.
ولعلَّ ما سبقَ مِنْ تقديمٍ يكونُ ذاتَ علاقةٍ وطيدةٍ بالعمل الأدبي الموسوم بــ " عُصْفُورٌ مِنْ مِصْرَ" للكاتبِ والشاعرِ الدكتور/ وحيد زايد. إذْ يتجلَّى وجودُ الذاتِ المبدعةِ في هذا العملِ الفنيِّ بدايةً من "الغلاف" فقد انقسمَ الغلافُ إلى نصفين، النصف الأول/ الأعلى وقد احتلَّ أرضيَّتَه اللونُ البنيُّ بمساحةٍ تبدو أكبرَ من النصف الثاني الذي احتلَّ أرضيَّتَه اللونُ الأبيضُ، فنحن أمام غلاف لديوان شعريٍّ منقسمٍ إلى نصفين، نصف يتمركز في خلفيته اللونُ البنيُّ الغامقُ، ونصف يتمركز في خلفيّتِه اللونُ الأبيضُ، وقد توزعت ألوانُ أخرى بين القسمين وهذه الألوان هي: (الذهبي- الأبيض- الرصاصي- الأخضر- البرتقالي- الأسود- النِّيلي) ولذا يتوجب علينا تحليل هذه الألوان تحليلاً سيميائياً يترجم لنا هذه الألوانَ ترجمةً تَشِي بالذاتِ المبدعةِ وتصوراتِها الإبداعية والفنية.
- سيميائية العتبات النصية:
العتباتُ النصيَّةُ متعددةٌ ولكلِّ عتبةٍ نصيَّةٍ مغزاها ومبتغاها التواصليُّ، فالذات المبدعةُ تفرض نفسَها بداية من الغلاف كعتبةٍ أولى تتصدر العملَ الفنيَّ، ويحتوي الغلافُ على عنوانِ الدِّيوانِ، واسمِ المؤلفِ، وتحديد الجنسِّ الأدبيِّ للعملِ الفنيِّ "شعر فصحى"، ودارِ النَّشرِ، واسمي الأستاذين الجليلين اللَّذَيْنِ قاما بدراسةِ هذا العملِ الأدبيَّ، إضافةً إلى الألوان التي ذكرتُهَا -آنفاً- ولذا يتوجبُ علينا دراسة الألوان ودلالاتها، ثم دراسة العنوان "عصفورٌ من مصرَ" كعنوان عام لهذا الديوان.
أ- الغلاف وسيميائية اللون والصورة:
القسم الأعلى من الغلاف، والذي تمايزت خليفته باللون البنيِّ الغامقِ، يمثِّل لنا تلك الفترةَ التي قضَّاها الشاعرُ في الغربةِ وقد اختارَ لتلكَ السنواتِ اللونَ البنيَّ الغامقَ الذي احتلَّ النصيبَ الأكبرَ من صفحةِ الغلافِ مقارنةً باللون الأبيضِ، واختيار اللونِ البنيِّ بهذه الدرجةِ التي نراها على صفحةِ الغلافِ هو تمثيل تصويري عبرَ تِقَنيَّةِ الألوانِ لسنوات الغربة والاغتراب عن الوطن، أما النيقض/ اللونُ الأبيضُ هو تمثيل تصويري عبر رمزية اللون الأبيض للوطن/ مصر بكل بهائها وجلالها.
أمَّا عنوان الدِّيوانِ "عصفورٌ منْ مصرَ" وقد ارتُسِمَ على صفحةِ الغلافِ باللون الذهبيِّ. وقد توزَّعَ اللون الذهبيُّ بين أعلى الغلافِ وأدناه، أي بين القسمين، فقد جاء عنوان الديوان بنفس اللون الذي أتت به معالم مصر الحضارية كالأهرامات وأبي الهول، والقلعةِ وبرجِ القاهرةِ، ورافعةِ الأحمال التي توسطت القلعةَ وبرج القاهرةِ، فانسحابُ اللونِ الذهبيِّ -الذي تّزّيَّتْ به المعالمُ الحضاريةُ المصريةُ- إلى العنوان "عصفورٌ منْ مصرَ" يدل على هيمنة الوطنِ على الذاتِ المبدعةِ التي مهما ارتحلتْ وتغرَّبَتْ فهي تحمل الوطنَ بكل ما فيه من بهاءٍ وجلالٍ معها وفيها، فالاغترابُ لا يعني بالضرورة- نسيان الأوطانِ وهجرانها، فانتقال اللون الأخضرِ الذي يدل على خيرات مصرَ ونمائها وبركة النيل التي تمتد منه إلى أعماق مصر كما هو واضح في صفحة الغلاف بصورة لا متناهية، فقد انسحب اللونُ الأخضرُ -أيضاً- إلى اللونِ البنيِّ الذي يمثل سنوات الغربةِ على شكل عصفور، كدليلٍ قطعيٍّ آخرَ يؤكدُ هيمنة الوطنِ بكل صوره وتاريخه ومعالمه على الذاتِ المبدعةِ، ولعل رمزية العصفور المهاجر تحمل في طياتها معنى آخر وهو معنى " العودة" فالذاتُ ربما تحقق مآربَهَا في الغربة، ولكن تظلُّ العودةُ إلى الوطنِ حلمًا يراود الذات مهما تغرَّبَتْ، فاختراق المآذن والقبابِ وبرجِ القاهرةِ لمجالِ الصورة ونفاذهم من مركزيةِ اللون الأبيضِ/ الوطن، إلى اللون البنيِّ/ الغربة، هو دليلٌ سيميائيٌّ آخر على اختراق جدار العزلة/ الغربةِ من خلال فعل تأثير الهوية الوطنيةِ على الذاتِ المغتربةِ، فكأنَّ الذاتَ حال تحققِها ووعيها تحمل الوطن في طياتها يرتحل معها وفيها، وبه وله تعود الذات.
اللونُ البرتقالي على صورة الغلافِ هو الحدُّ الفاصل بين الغربة التي تجلَّتْ في لونِها البنيِّ، والوطن الذي دلَّ عليه اللون الأبيض برمزيته التي تفتّقَت عنها صورة الوطنِ بكلِّ معالمه وتاريخه. واللون البرتقالي: هو مزيجٌ من لونين قويين هما: ( الأحمر- الأصفر) ومن خلالِ تداخلِ اللونِ البرتقاليِّ مع اللونين: ( البنيِّ- الأبيضِ)، تختلف دلالاته، فكلما اقترب اللونُ البرتقاليُّ من اللونِ البنيِّ يميل إلى الاحمرار الذي يشبه -تماما- غروب الشمسِ ولونِ شَفَقِهَا الأحمر، وهذا يدل على اغتراب الذات وجنوحها نحو الغربة، فكأن هجرةَ الذات شمسٌ حال غروبها، فلن تشرق الذات مرةً أخرى إلا بعودتها إلى الوطن، وهذا ما نراه جليًّا عندما يمتزج اللون البرتقالي ويقتربُ من اللون الأبيض، فهو بامتزاجه وتداخله مع اللون الأبيض يميل إلى اللون الأصفر، والذي يدل على شروق الشمسِ بعدَ غروبها، فكلما تدرَّج اللون البرتقاليُّ ومالَ إلى الصُّفْرَةِ دلَّ على الراحةِ النفسيَّةِ والابتهاجِ والسرور، وهذا ما يدلُّ عليه قولُ الله تعالى في سورة البقرة: [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين] ، وقد استخدم علماء النفس مزيجَ اللونين: (الأبيض- والأصفر) في علاج بعض الأمراض النفسية. ولذا قد تجلَّى اللون البرتقالي مرةً أخرى، في كتابة اسم المؤلف، وهو يحتضن ماء النيلِ على صفحة الوطنِ البيضاءِ، وكأن الشاعرَ يريدُ أن يقولَ لنا: " أن الذات لن تتحققَ من وجودِها الفعليِّ إلا بمعانقةِ نهرِ النِّيلِ، وأنَّ شمسَ الذاتِ لنْ تشرقَ إلا على أرضِ الوطنِ.
كلمة "الشِّعْر" كُتِبَتْ مرتينِ على ظهرِ الغلافِ، مرّةً باللونِ الأبيضِ، وأخرى باللونِ الأسودِ، ففي المرَّةِ الأولى، كانت تحديدًا للجنسِ الأدبيِّ الذي ينتمي إليه هذا العمل الفنيُّ "عصفورٌ منْ مصرَ" ولمَّا كان اللونُ الأبيضُ أصلاً لكل الألوان، انسحبت تلك الصِّفَةُ لتدلَّ على الجنسِ الأدبيِّ في عموميته وشموليته. ولكن كلمة "شِعْر" عندما اقترنتْ باسم المؤلف تغيرَ لونُهَا إلى اللون الأسود، لتدل على الحضور الفعليِّ للذاتِ المبدعةِ -التي توشَّحَتْ بسوادِ تَجْرَبَةِ الغُرْبَةِ- عبر الجنسِ الأدبيَّ الذي اختارته ليكونَ نافذةً لها على العالم.
ب- سيميائية العنوان:
"عصفورٌ منْ مصرَ" عنوانٌ عام لعملٍ فنيٍّ مكتملِ البناء، ويتكون العنوان من ثلاث كلمات: (عصفور- من- مصر)، فكلمة عصفور "نكرة" مجهولةٌ غير محددة الهويةِ، فهي تصدق على كل الجنسِّ، أعني: جنسَ العصافير، ولكن دخولَ حرفِ الجرِّ سيحددُ ماهيةَ العصفورِ بنسبته إلى مكان يحدُّ من فعّاليةِ النكرة "عصفور" بانتمائها إلى مكان/وطن/ مصر، فلم يكتسبَ العصفورُ ماهيتَه إلَّا بنسبته إلى مكانٍ ينتمي إليه، وهو الوطن الذي تتجلَّى قيمتُه هنا في العنوانِ، أن الذات بلا وطنٍ يحتويها، وحضارةٍ تنتمي إليها، هي محض هباءٍ لا يعولُ عليه، فانتماءُ الذات هو الذي يحدد هويتَها ومكانتها. فالعصفور/ الذات، ظلت النكرة بعموميتها ومجاهيلها تقذفه بعيداً عن دائرةِ التخصيص، حتى أتت مصر وانتشلت الذات من هوة التنكير السحيقة، وأطلقتْ عصفورَها في أرض المعارف.
- تَغَرُّبُ الذاتِ ومركزيةُ الانتماءِ:
أما بالنسبةَ للديوانِ فقد اشتمل على ثلاثةٍ وعشرينَ قصيدةً بعد إهداء ومقدِّمَةٍ تعريفيةٍ، وبالنظر إلى الإهداء والمقدمة تتجلى الفكرةُ المحوريةُ للديوان، وهي "تَغَرُّبُ الذاتِ ومركزيةُ الانتماءِ" فالذاتُ التي تغرَّبَتْ وغابتْ عن موطنِهَا رِدْحَاَ طويلاً من الزمن، لم ينفلت من بين ضلوعها الوطنُ، ولم تطمسْ هُويَّتُهَا، بل ظلت الذات هائمةً بوطنها، مُتَيَّمَةً بترابه، بل تتفيؤ ظلاله في هجير غربتها، وترتوي من نيله في كأسٍ من أقحوان خيالها.
ولمَّا كانتْ الذاتُ المبدعةُ في حالةٍ تَسَامٍ دائمٍ لم تتوقف فكرة الانتماء على حدود الوطن الأم/ مصر، بل تَخَطَّتْ الذاتُ تلكَ الحدودَ الجغرافية لتنتمي إلى وطنها العربي الأكبر في ظلِّ قوميَّةٍ ترتجيها الذاتُ وتَتَمَثَّلُهَا شعرًا، فيقول الشاعر في قصيدته الموسومة بــ" العربية تشكو":
لغةُ البيانِ وآيةُ القرآنِ
تشكو من التفريطِ والهجران
وهي التي جمعت جميلَ زهورنا
في باقةٍ تزهو بها أوطاني
عربيةٌ شعريةٌ سحريةٌ
ما مثلها بين اللغات اثنان"
فاللغةُ العربيةُ في هذا النصِّ هي محورُ الارتكازِ، وهي غرضُ النصِّ الشعريِّ، ولكن يمتدُّ هذا الغرضُ إلى موضوعه المتسامي، وهو ما يسمى في النقد بـ " موضوع الموضوع" أي أنَّ موضوعَ النصِّ الشعريِّ/ الغرض ينتمي إلى موضوع أكبر وهو العروبة، فامتداحُ اللغةِ العربيةِ في الأساس هو امتداحٌ للعروبة وافتخارٌ بها، فقد استخدم الشاعرُ "نا" الدالة على جماعة الفاعلين في قوله: "زهورِنا" كما أنه جمع الأوطانَ العربيةَ كلَّها في دائرةِ ياء الملكيةِ في قوله: "أوطاني" وتعود "نا" الدالة على الجمع تفرض هيمنتَها على النص من جديد، وكأنَّ الشاعرَ يؤكد بصيغة الجمعِ تلك، أن الأوطانَ العربيةَ كلَّهَا وطنٌ واحدٌ، وقد توزعت "نا" الدالة على الفاعلين على البيتِ الرابع، والسادس، والتاسع، في الكلمات الآتية: ( بقلوبنا، ابتلينا، أطفالنا)، بعد تجليها الأول في البيت الثاني.
وأكثر من قصيدة تخللتْ هذا الديوان َتحمل نفسَ الموضوع/ العروبةَ مرتكزًا أساسيًا لها، حتى وإن تبدَّى الغرضُ الشعريُّ غير ذلك، فبالنظر إلى تلك القصائدِ وقراءَتها وجدنا أنها جميعا تنتمي إلى موضوعٍ أكبر من غرضها العارض وهو القوميةُ العربيةُ التي تتجلَّى في مخيلة الذات الشاعرةِ كيانًا حقيقيًا ماثلًا، فيقول في قصيدته " وا معتصم آه" :
هبُّوا بني الإنسانِ عُذْتُ بربكم
أن تتركوني طَعْمَة الأعداء
هذي دمائي تستجيرُ فما بِكمْ
هذي ضلوعِي هذه أشلائِي
هذي قبائي والمآذنُ حطِّمتْ
هذي دياري حُرِّقَتْ وخِبائي"
ويقول -أيضا- في قصيدته "سندباد العراق"
يــــــــــاسندبـــــــــاد الــــعراقِ *** آن أوانُ الـــــعـــــــناقِ
الحزنُ حثّ البواكي * ** والدمعُ غصَّ المآقي
يـــــا لعنةَ للفـــــــــــراقِ
يا نـــــــــــورسَ الرافدين*** لو طرتَ بالخافقينِ
لعدتَ صفرَ اليدينِ*** تقولُ منْ لي سواكِ
حبيبتي يـــــا عراقي"
كما تشظَّتْ تلك الفكرة المحورية في عديد من القصائد ومنها (للجزائر، زرْدة، دوَّار الأحبَّة، هنيئاً أوروبا)، فالذات الواعية دائما تطمح إلى " وعي ممكن" كما أسماه " جولد مان" مؤسسُ علم أدب الاجتماع، والذي ينطلق من الوعي الجمعي، فالذات أو ما يطلق عليه "الأنا الفردي" تنصهر في بوتقة "الأنا الجمعي" أو ما يطلق عليه "الــ نحن" ومعناه غياب الذاتِ الفردِ وظهور الأنا الجمعيِّ، وكأنَّ تلك الذات المبدعة تستحضر مجتمعَها وتحلُمُ بالنيابةِ عنه، وتطمح إلى تحقيق مستقبلٍ يُلائم أهدافَ تلك الجماعةِ التي تنوبُ عنها الذاتُ إبداعا وتتوحد بها فكراً، فالمبدع من وجهة نظر الأدبِ الماركسيِّ، هو الذي يحمل همَّ جماعته أو مجتمعه منصهرًا فيه، وبما أنه يمتلك القدرةَ الإبداعيةَ، فهو المؤهل أن ينوبَ عن الجماعةِ في صياغة حُلْمِهَا وتوجهاتِها وتطلعاتِها فنًا وإبداعًا، وهذا ما فعله شاعُرنا الكبير "وحيد زايد" في جُلِّ القصائد التي ذكرتها -آنفًا.
لولا حبُّ الشاعرِ لوطنه الأم/ مصر، لمَا استطاع أن يَحْلُمَ بوطنٍ أكبر، وقوميةٍ ووحدةٍ عربيةٍ يَتَغَيْاهَا في شعره، فمصرُ هي الأساسُ الذي انبنى عليه معنى الانتماءِ الأولِ لدى الشاعرِ، فقد ارتحلتْ معه، سكنتْ فيه، هيمنتْ على قلبه وفكره وشعره، بل استحوذتْ عليه بالكلية، وظلَّ يحلُم بالعودة إليها لتتحققَ نسبةُ العصفورِ إلى وطنه " ويتجلى عنوان الديوان كبطاقةِ هُوية "عصفورٌ من مصرَ".
ظلَّتْ الذاتُ مشتتةً عبَر فضاءاتِ الأمكنةِ ما بين {الأردن، وتونس، وليبيا، والسعودية} ولكنَّها ظلَّتْ منتميةً إلى وطنها، فمهما تغرَّبت فهي قابعةٌ فيه، يَتَمَلَّكُهَا الوطنُ عبَر أهازيجِ الشوقِ، وترانيم الحنين،ِ وتراتيل الذكرى، ظلَّتْ معالمُ مصرَ وحضارتها وتاريخها يخطُّون طريقَ العودةِ للذاتِ التي تغرَّبتْ، وظلَّتْ الذاتُ تحلُم بعودتها لتنتشي أريجَ الحقيقةِ في حضرةِ النِّيلِ العظيم.
يقول الشاعر وحيد زايد في قصيدته الموسومة بــ "إدفو":
لـــــــــــــــــذيذَ الــــــــــــــعيش فـــــي "إدفو"
يـــــــــــروقُ وجـــــــــــــــــــــــــوُّها يــــــــصفو
لــــــــــــفرطِ سعـــــــــادتي فيـــــــــــــــــــــها
تـــــــــــــــبيتُ الـــــــــعــــــينُ لا تــــــــغفو
جـــــــــــمالُ الـــــــــــنِّيل يـــــــــــــــرويها
كــــــــــــــــــــــأنَّ جمــــــــــــــــــــــــالَه وقفُ
فــــــــــــــــــــلا الفصحى تـــــــــوفِّيها
ولا الشــــــــعـــرُ ولا الــــــوصفُ
فنصفُ الحسنِ في يوسفْ
وفــــــــــــي جــــــناتِها النصـــفُ"
فالوطنُ ظلَّ في خاطر الشاعر في حلِّه وتِرحالِه، وأظنُّ "زايد" كلما تغرَّب عن وطنه تقرَّب منه أكثر، فمرارة الغربةِ تزيد من لواعج الشوق، وتُلهب القلبَ، وتستفزُّ العاطفةَ، فتنهمر أوجاعُ الذاتِ دموعًا على جدران غُربتِهَا، بل كان "زايد" يعاني ما يعانيه الوطنُ، ويتألَّمُ معه وله، وهو بعيد عنه، منشغلٌ بتحقيق ذاتِه في بلاد الغربة، ولكنَّه كان بعدُ المسافة/ المكان، الذي يتلاشى فجأةً أمام حنين الذاتِ للوطن، إذا ألمَّت به مُلِمَّةٌ أو نزلتْ بساحتِه نازلةٌ فنراه يقول في قصيدته "فجيعة"
مزقتُ قلبي يا فجيعة أربعا
كل على فئة يزيد تقطُّعا
يا عينُ جودي بالدموعِ فمثل ذا
ما لم يكنْ في خاطرٍ مُتَوَقَّعَا
آلافُ أحلامِ ذهبْنَ بلمحةٍ
ومئاتُ أرواحٍ توالت تُبَّعَا
نادوا "الحياة" ولاتَ حين مغامرٍ
والموتُ بالتِّرحاب صفَّ الأذرُعَا
مدوا آيادِيهم فما لبَّتْ يدٌ
حتى إذا قنطوا أتاهم مسرِعَا
المنقذونَ تبخَّروا تبًا لهم
يا ويلَ منْ للمستغيثِ تَنَطَّعَا
يا ويحَ مصرَ أ كلُّ يومٍ جاءَها
ناعٍ بأنباءٍ تقضُّ المضجَعَا"
هذه القصيدة التي تنزفُ دماً قالها الشاعرُ في حادثة غرق العبارة المصريةِ، التي راح ضحيتُهَا أعدادٌ غفيرةٌ، والمتأمل في هذه الأبياتِ يجدها تعكسُ لنا صورةَ الأسى التي تختلجُ قلبَ الشاعر، معبرةً عن مدى الألمِ والقلقِ الذي يتجرَّعُه الشاعر من أجل وطنِه وأهلِه، وهكذا لا بدَّ أن يكونَ الشاعرُ صورةً ومرآةً تنعكسُ عليها الأوطانُ بما فيها ومنْ فيها، فالغربةُ لم تكن عزلةً وبرزخًا يحُول بين الشاعرِ ووطنِه وأهلِه، بل ظلَّتْ الذاتُ المبدعةُ نَايَاً يردد لحنَ الوطنِ في فضاءاتِ غُربتِه.
يظلُّ الوطنُ بتاريخِه ومعالمِ حضارتِه وصورِه ورموزِه مهيمنًا بسلطةِ الحبِّ على الذاتِ المبدعةِ، فالشاعر يحمل في طيَّاتِه الوطنَ بِكُلِّيَتتِه، وكأنَّ إزميلَ الانتماءِ نقشَ الوطنَ قصيدةً على شغافِ قلبِ الذاتِ، فتظلُّ الذاتُ هائمةً بوطنها، غائبةً فيه، وكلاهُمَا يبثُّ أغنياتِه للآخر، يقول "زايد" في قصيدته "سندباد مصري" :
أبا الهولِ شأنُك لا يُحتقرْ
وعُمْرك في الكونِ إحدى العِبَرْ
كأنك شاهدُ يوسفَ سا
قتْه للمستجيرِ عيونُ القدرْ
كأنَّك ناصحُ موسى الخروجَ
ونارُ الأعادي عيونُ الشررْ
أو انَّك مؤمنُ فرعونَ ألقى
قذيفةَ حقٍّ بوجه البطرْ
أو انَّك ساعي الهدايةِ نادى
بأقصى المدينةِ قبلَ الخطرْ"
وثمة قصائد أخرى مركزيةٌ في هذا الدِّيوانِ وهي القصائدُ التي تعبرُ عن آلامِ الغربةِ ووحشتِها، وندمِ الشاعرِ على تلكَ السنواتِ الطوالِ التي قضَّاها في الغربةِ، وتذبذبِ الذاتِ ما بين البقاءِ في الوطنِ وبينَ الغربةِ، التي توهمُ الشاعرَ أنَّه سيحققُ مآربَه فيها، ولكن سرعانَ ما ندِمَ على تلك السنواتِ الطوالِ التي ضاعتْ وضاعَ معها كثيرٌ من الأحلام والأمنياتِ، ومن هذه القصائد..( عيون الدموع، عصفور، ندم، هي الدنيا، كارافان) تعتبر هذه القصائدُ الخمسُ من وجهة نظري بعد مطالعة الديوان كاملًا، هي خلاصةُ تجربةِ الغربةِ لدى شاعرنا "وحيد زايد"، وهي تحتاج دراسةً مستقلةً متأنيةً أفترضُ لها عنوانًا، ربَّما يكونُ " اغترابُ الذَّاتِ وحضورُ الهُويَّةِ" لأفتحَ بهذا العنوانِ المفترضِ المجالَ للباحثينَ من بعدي لاستقصاءِ جانبًا من الجوانبِ المهمَّةِ في هذا الدِّيوانِ، وهو الغربةُ بكلِّ تفاصيلِها ومعاناةُ الذَّاتِ لها، وكيف استطاع الشاعرُ أن يمثِّلَ لهذه التَّجْرِبَةِ تمثيلًا شعريًّا.