1/
إن أنس لا أنس ذالك المساء وأني للعابر المطارد أن ينسي ! ذالك المساءالبعيد السادر في الزمن اليكسومي . الذي أخني عليه راسبوتين كما أخني علي أهل المنكب البرزخي .في طريقي إلي فينيسيا الغبار غاوة البعيدة .البعيدة .قادما من بامكو . يوم سلكت درب الستة أيام في الصحراء.وكانت الريح بوصلتي نحو درب النهر .في الخلاء وراء سيكو . علي مشارف التخلي عن السوي وأصحاب الوقت اليكسوميين الذين ودعتهم وبودي لو لم اودعهم .أهيل المنكب البرزخي. من استودعتهم السر وأتمنتهم عليه .يوم جاهرت بوحدانية الله وأعلنت الحرب علي كهنة الصحراء .
.وقد انكرتني الصحراء .تمثلت عبارة جلال الدين الرومي نور الله ضريحه وقدس روحه "لابد من مهلة كي يصير الدم حليبا صافيا " .وتحملت وزر الأسري وكنت مزهو ا بعرش عذاب الموحدين .آنست نار الليل القروي وتسامرت وشيخو .تنفست الصعداء وحمدت الله فقد تركت ورائي السامري يذرو رماد عجله في المحيط الأطلسي.
كان يومي الثالث في الصحراء .كانت تقلنا حافلة صفراء قديمة متهالكة ..كانت تتهادي علي طريق رملي وعر . تحفه الجبال من كل الجهات .وكان الغبار الأحمر الكثيف يحجب الأفق ويتسلل في كل مكان فتمتلأ به الحافلة .
الطريق خلاء موحش لايقطع صمته سوي أحد البدو الرعاة سائلا عن الماء أو مترقبا خائفا من العابرين .. شعرت بالخوف
في تلك الصحراء التي تعج بالمتحاربين من إسلاميين وثوار ازواديين وقطاع طرق . ساحة معركة كنا نجوبها وكنا في مرمي النيران .وكلما أوقفنا جنود القوات الأممية رأيت الخوف في أعين القوم .
كان معي في الحافلة أهل السري .
قبل الغروب أوقفنا طفل حافي القدمين كان يتبع إبلا وكانت ملامح وجهه تنطق بالبؤس والشقاء بدي وكأنه خائفا كان يتلعثم مشيرا بيده .يطلب ماءا .
هاهي الصحراء .
هاهوعدوس السري إبراهيم الكوني بقبعته.يهش بعصاه علي المدي يتمتم بسره .كأنه يسر لي بأمره الذي أسر به لخلانه الفصول .ابراهيم الكوني في طريق غاوة يجوب عقلي وروحي ويبوح لي ويريني حزن أهل السري .عدوس السري
اخي في الملة .الذي سعدت بمعرفته يوم التقيته أول مره في سبها أيام التسعينات .في حي الجديدة وسكرة حيث كان يرتاد حي الجديدة كما يقول في سيرته . وتشاء الأقدار لما قدمت إلي سبها أن أقيم في سكرة غير بعيد عن حي الجديدة الذي كان معظم قاطنيه من الموريتانين والطوارق .ومن أحدي المكتبات في سبها أقتنيت لأول مرة رواية الكوني السحرة .تعرفت علي الكوني نصا وروحا وطيفا .وإن لم التق بشخصه
وها هي الأقدار تجمعنا مرة أخري .تجمع بين عدوس السري وعابر ليل المجاباة الكبري .عديس الأسرار .هاهو ابراهيم الكوني يرنو إلي الخلاء ويمسكني من يمناي ويمضي بي في الغيهب .
هاهي الصحراء وطن الرؤي السماوية /الملاذ/ المنأي/ المنفي .فهل تضمني الي قلبها .هل تكون ملاذا لهذا المطارد دون جريرة . .هل يأمن هذا العابر مكر الخلاء وتدعه الأقدار يمضي في طريقه إلي الجزائر البيضاء .وهل تدع له الخمسين أورو الباقية من زاده القليل .خمسين أورو فقط ليعبر بها إلي العالم ماوراء البحر .
الطريق الطويل والشاق الذي يسلكه العابر إلي غاوة يترك انطباعا لكل من مر به أن الكثير من البلدان الأفريقية ومنها دولة مالي الشقيقة تزرع من حيث لاتدري اسباب الفتن بإهمالها لبعض أراضيها .حيث تفتقد الحياة لأبسط مقوماتها
حيث ينعدم الماء في بعض مناطق مالي ويلجأ الناس إلي حفر الآبار دون تدخل من الدولة .زيادة علي انعدام المدارس والمستشفيات والكهرباء وسوء أحوال الطرق والتي هي في معظمها مهملة مليئة بالحفر والتشققات ومعظمها متآكل خصوصا الطريق الذي يربط العاصمة بغاوة
.هذا بالإضافة إلي تهميش واقصاء بعض مكونات الشعب من الحياة السياسية .وتتناسي هذه الدول انها أنشأت بئة وأوجدت أرضا خصبة للإرهاب والتطرف والثورة في ظل عدم تساوي فئات المجتمع في حقوقهم في التعليم والصحة والامن والعمل والحياة الكريمة .الكثير من معاناة الأزواديين عربا وطوارقا وراء مأساة الماليين والحرب الدائرة منذ عقود في البلاد .
وهي حالة تشبه كثيرا حالات دول مجاورة في تهميش بعض المناطق والقوميات في داخل الوطن الواحد .لذالك ليس غريبا علي كاتب مبدع في حساسية ورقة العدوس وهو يري حال أهله أهل السري أن يتألم ويصوغ بيانه "روح أمم في نزيف ذاكرة " مختوما بنداءات الروح .
2/
في سيرته عدوس السري (1) التي دبجها في أربعة أجزاء مجموع صفحاتها ٢٠٨٢ صفحة وعنونها بعنوانين رئيسي عدوس السري وفرعي روح أمم في نزيف ذاكرة .يتحدث ابراهيم الكوني عن سيرته وسيرة أهله
.في الجزء الاول تحدث عن طفولته وأيام الواحة التي نشأفيها ودراسته في سبها وسفره إلي روسيا ودراسته في معهد غوركي للآداب .و عمله في الصحافة وفي الأجزاء الأخري يعرض لأيام عمله في السفارة وأحاديث عن أصدقائه ومعاركه مع النظام السياسي وآلام المنفي الذي عاش فيه عقودا من الزمن وأعماله الأدبية عبر مساراته الطويلة والحافلة بالصعوبات والتحديات منذ أخذه سحر الحرف إلي أن أصبح كاتبا مشهورا
في المحافل العربية والغربية وحصد الجوائز الكثيرة وكرم في أكثر من مناسبة .وترجمت أعماله إلي مختلف اللغات العالمية ولا يغفل العدوس عن تقديم قراءة واعية لأدبه (مشفوعة باستشهادات أدبية بديعة ومحاورات لأعمال ابداعية عالمية بشكل رائع .يدل علي موهبة وعبقرية العدوس )
وطرح عميق للجذور والمنطلقات التي شيد عليها فكره ورؤيته الأدبية منذ نصوصه الأولي إلي أن صار كاتبا مشهورا عربيا ودوليا وهو في سيرته لاينتظم في خيط سردي متسلسل زمنيا من البداية . وانما يمضي أحيانا هنا وهناك في تداعيات يحاول من خلالها أن يمسك معني التجربة التي عاشها لأن المبدع كما يري :
"لايكتب واقعا حرفيا وإنما يكتب ظل هذا الواقع "(2) خلال رحلة العدوس العظيمة بين صحراء الحمادة الليبية وانهار روسيا البيضاء .ينقل لنا ابراهيم الكوني كما يكتب دائما في نصوصه روح العالم الذي فتنه وشغفه حبا .روح الصحراء التي يسميها :وطن الله .وطن التكوين .
في كل أعماله ظل الكوني وفيا لصحرائه ولانغالي إذا قلنا انه قد أبدع ابداعا منقطع النظير في هذا الجنس الأدبي وتفرد به بين كل أدباء العالم .ذالك أنه في كل ما كتب ظل يكتب الصحراء .واذا كان الكاتب كما يري الكاتب الكبير واسيني الأعرج في "شهوة الحبر وفتنة الورق "لايكتب حياته دفعة واحدة وانما قطرة قطرة ..فإن الكوني تصدق عليه هذه العبارة الجميلة .فهو في كل متونه ظل يكتب الصحراء ذرة ذرة .
لا يسرد العدوس كل تفاصيل حياته وإنما ينتقي منها أو هكذا بدي لنا ذالك .فهو لايخوض كثيرا في طفولته وانما يكتفي بصور منها في الواحة .يوم تاه في البرية ولايأتي علي حياته العاطفية كثيرا .كما هو الحال عند الكثير من كتاب السير المولعين بهذا الجانب . وفي حديثه عن الأهل "أسرته " لايفصح كثيرا ولاتبدو من كلماته تلك الحميمية الوجدانية وذالك الشعور النرجسي الذي ينتاب المرء عندما يتحدث عن أسلافه .لا يتحدث كثيرا عن أمه وإخوته .يخبرنا عن علاقته بأخيه فنايت الذي كان له شقيقا وصديقا وعن علاقته بوالده وكيف كان رمزا في حياته وحزنه لفقده .الكثير من التفاصيل فيما يتعلق بمحيط الكوني القريب "أهله "لايخبرنا عنها ولايفصح عنها .ربما لانها ليست ضرورية أوربما لايرغب في البوح بها او رغبة منه في الإستسرار الذي يطغي علي الكتاب في سييرهم .بشكل أو بآخر من أجل إضفاء هالة غامضة علي أيامهم . لكي تبقي أقواس الاستثناء مفتوحة . أوربما كما فعل مالرو في مذكراته فهو :" لايريد أن يفصح عن تسلسل أطوار حياته وإنما يريد أن يكشف النقاب عن عدد من القيم التي قامت عليها هذه الحياة "(3)وهو في سيرته يحقق عبارة مارتيال التي تقول
"إن المرء ليعيش مرتين حين يتمتع بماضيه "(4)
تماما كما في كل السير التي قرأت .في حياتي لأحمد أمين وسبعون لميخائيل نعيمة و طفولتي لغوركي والشاهد المشهود لوليد سيف والمنقذ من الضلال للغزالي وحفريات في الذاكرة من بعيد للفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري
مثل هؤلاء يعيش العدوس ماضيه لكنه يعيشه بألم وتلذذ ويمارس تأويل ماضيه وتفكيكه بشكل يريد اعادة صياغة الحياة
لتتداخل السيرة مع الرواية وهو ما يؤكده في شهادته حيث يقول :(الرواية هي الحياة فإذا كنا نشعر كبارا أوصغارا بالرغبة الملحة في الكتابة وإن كانت مجرد كتابة مذكرات فذالك يكون لأن الكتابة تمثل الرغبة اللاواعية في إعادة صياغة الحياة التي هي أصلا لا واقعية خيالية نوعا من العدم .حينما نبلغ مرحلة ما في حياتنا .نحن ندرك فجأة أن كل ما عشناه كان نوعا من اللاواقع ونحن نواجه هذا الشعور العدمي الذي عشناه من خلال الكتابة (5)
في سيرة العدوس كما في جل نصوصه يطرح الكوني رؤيته التي بني عليها مشروعه الأدبي منذ بواكيره الأولي وهي ضرورة ان يتسلح المبدع برؤية فلسفية تكون منطلقا له في هذا العالم
يقول الكوني في هذا السياق :
(سوف لن نبالغ إذا قلنا أن رؤية الكاتب العربي في العمل الفني ظلت مكبلة بشروط الواقع الاجتماعي والسياسي والدليل علي ذالك هو هذاالإضطهاد المستمر ل"السر الفني " أو الرؤية الملحمية الخاصة الذي تقوم به الأيديولوجية السياسية أو النظرة الإجتماعية التاريخية المحضة للأشياء .فإذا كان التراث الأدبي الإسلامي الصوفي يلقننا اليوم درسا قاسيا بتقديمه لتلك النماذج الشعرية الرفيعة كماهو الحال عند المعري رغم طغيان النزعة الصوفية علي الروح الفلسفية فإن أدبنا اليوم يعاني انتكاسة واضحة في مجال عمق النظرة للأشياء وللواقع والوجود"(6)
لذا يصبح عند العدوس من الضروري الهروب من خطر الأيديولوجيا إلي مكان أكثر رحابة
حيث يجد المبدع ضالته ويستطيع أن يتخيل و يفكر ويتحرك .ويتمتع بحريته إنه عالم الميثولوجيا الذي هو.عالم مفتوح شاسع لا تحده حدود . يبني الكوني رسالته ومشروعه الأدبي علي أهمية هذا البعد الأسطوري كخطاب وفكر وشعر ونص وسيرة وجغرافيا وروح .
لذالك فإن العنوان الفرعي "روح أمم في نزيف ذاكرة " يعتبر هو الرسالة والمدار الذي حوله كتب الكوني ابداعه وقدم رؤيته للعالم من خلاله .
ليس في سيرة العدوس كما رواها صاحبها (علي الأقل) أحداثا عاصفة إلي الحد الذي يمكن اعتبارها سيرة استثنائية وهو نفسه يقول إن حياته عادية من هذه الناحية ..
لذالك نستطيع أن نقول ان العدوس راهن في هذه السيرة الطويلة والمليئة بالكفاح والترحال والسهر ونزيف الروح والحرف علي شيئين كما في كل كتاباته .أن يقدم رسالته عبر أدبه .رؤيته للعالم .يقدم ثقافة الصحراء /الطارقية ويدافع عنها .عن وجوده /عن هويته التي يكتبها في كل سطر بنرجسية جميلة .كونية بلاضفاف
تسافر في عوالم تخييلية لايستطيع أبدا أن ينافسه فيها منافس ..لأنه لا أحد يملك سر الحرف . مثل العدوس وأهل ملته أهل السري .
قد لانتفق مع ابراهيم الكوني في آرائه السياسية والفكرية لكننا لا نملك إلا أن نصغي له بإعجاب وإكباروهو يتلو صحفه .في لغة جميلة وخيال أنيق وروح مسكونة بالبحث عن المعني وتلك
ميزة العدوس التي يحق له ان يعتد بها وأن يفاخر .كما يحق له أن يفخر انه في متونه وأسفاره وفي نزيف ذاكرته قدم روح أمته التي ينتمي إليها .
قدم أدبا تجاوز حدود وطنه إلي آفاق عالمية .وماذالك إلا لأن العدوس ابراهيم الكوني .يحمل بداخله رسالة كبري ذات ملامح انسانية كبري ويهجس أدبه بآفاق رحبة تعول دائما علي مخاطبة الإنسان والتوق للحرية والولع بالبعد المفقود .الذي هو مطلب كل الخليقة والذي هو بمثابة الفتوحات التي علي الإنسان ان يبحث من خلالها عن معني الحياة علي اكثر من معطي .يتجلي هذا البعد في الوجود والذات والكينونة والحرية والسعادة والأدب والفلسفة والأسطورة والوطن والمنفي والزمان الضائع والمكان الذي يسكننا .
وهو بهذه الرسالة يتشاطر مع إبن عربي
في فهم الوجود عبر البعد المفقود حيث يغدو الوجود وعي بما يفتقده الوجود .وسعي لتكميل هذا الوجود.
هوامش :
إن أنس لا أنس ذالك المساء وأني للعابر المطارد أن ينسي ! ذالك المساءالبعيد السادر في الزمن اليكسومي . الذي أخني عليه راسبوتين كما أخني علي أهل المنكب البرزخي .في طريقي إلي فينيسيا الغبار غاوة البعيدة .البعيدة .قادما من بامكو . يوم سلكت درب الستة أيام في الصحراء.وكانت الريح بوصلتي نحو درب النهر .في الخلاء وراء سيكو . علي مشارف التخلي عن السوي وأصحاب الوقت اليكسوميين الذين ودعتهم وبودي لو لم اودعهم .أهيل المنكب البرزخي. من استودعتهم السر وأتمنتهم عليه .يوم جاهرت بوحدانية الله وأعلنت الحرب علي كهنة الصحراء .
.وقد انكرتني الصحراء .تمثلت عبارة جلال الدين الرومي نور الله ضريحه وقدس روحه "لابد من مهلة كي يصير الدم حليبا صافيا " .وتحملت وزر الأسري وكنت مزهو ا بعرش عذاب الموحدين .آنست نار الليل القروي وتسامرت وشيخو .تنفست الصعداء وحمدت الله فقد تركت ورائي السامري يذرو رماد عجله في المحيط الأطلسي.
كان يومي الثالث في الصحراء .كانت تقلنا حافلة صفراء قديمة متهالكة ..كانت تتهادي علي طريق رملي وعر . تحفه الجبال من كل الجهات .وكان الغبار الأحمر الكثيف يحجب الأفق ويتسلل في كل مكان فتمتلأ به الحافلة .
الطريق خلاء موحش لايقطع صمته سوي أحد البدو الرعاة سائلا عن الماء أو مترقبا خائفا من العابرين .. شعرت بالخوف
في تلك الصحراء التي تعج بالمتحاربين من إسلاميين وثوار ازواديين وقطاع طرق . ساحة معركة كنا نجوبها وكنا في مرمي النيران .وكلما أوقفنا جنود القوات الأممية رأيت الخوف في أعين القوم .
كان معي في الحافلة أهل السري .
قبل الغروب أوقفنا طفل حافي القدمين كان يتبع إبلا وكانت ملامح وجهه تنطق بالبؤس والشقاء بدي وكأنه خائفا كان يتلعثم مشيرا بيده .يطلب ماءا .
هاهي الصحراء .
هاهوعدوس السري إبراهيم الكوني بقبعته.يهش بعصاه علي المدي يتمتم بسره .كأنه يسر لي بأمره الذي أسر به لخلانه الفصول .ابراهيم الكوني في طريق غاوة يجوب عقلي وروحي ويبوح لي ويريني حزن أهل السري .عدوس السري
اخي في الملة .الذي سعدت بمعرفته يوم التقيته أول مره في سبها أيام التسعينات .في حي الجديدة وسكرة حيث كان يرتاد حي الجديدة كما يقول في سيرته . وتشاء الأقدار لما قدمت إلي سبها أن أقيم في سكرة غير بعيد عن حي الجديدة الذي كان معظم قاطنيه من الموريتانين والطوارق .ومن أحدي المكتبات في سبها أقتنيت لأول مرة رواية الكوني السحرة .تعرفت علي الكوني نصا وروحا وطيفا .وإن لم التق بشخصه
وها هي الأقدار تجمعنا مرة أخري .تجمع بين عدوس السري وعابر ليل المجاباة الكبري .عديس الأسرار .هاهو ابراهيم الكوني يرنو إلي الخلاء ويمسكني من يمناي ويمضي بي في الغيهب .
هاهي الصحراء وطن الرؤي السماوية /الملاذ/ المنأي/ المنفي .فهل تضمني الي قلبها .هل تكون ملاذا لهذا المطارد دون جريرة . .هل يأمن هذا العابر مكر الخلاء وتدعه الأقدار يمضي في طريقه إلي الجزائر البيضاء .وهل تدع له الخمسين أورو الباقية من زاده القليل .خمسين أورو فقط ليعبر بها إلي العالم ماوراء البحر .
الطريق الطويل والشاق الذي يسلكه العابر إلي غاوة يترك انطباعا لكل من مر به أن الكثير من البلدان الأفريقية ومنها دولة مالي الشقيقة تزرع من حيث لاتدري اسباب الفتن بإهمالها لبعض أراضيها .حيث تفتقد الحياة لأبسط مقوماتها
حيث ينعدم الماء في بعض مناطق مالي ويلجأ الناس إلي حفر الآبار دون تدخل من الدولة .زيادة علي انعدام المدارس والمستشفيات والكهرباء وسوء أحوال الطرق والتي هي في معظمها مهملة مليئة بالحفر والتشققات ومعظمها متآكل خصوصا الطريق الذي يربط العاصمة بغاوة
.هذا بالإضافة إلي تهميش واقصاء بعض مكونات الشعب من الحياة السياسية .وتتناسي هذه الدول انها أنشأت بئة وأوجدت أرضا خصبة للإرهاب والتطرف والثورة في ظل عدم تساوي فئات المجتمع في حقوقهم في التعليم والصحة والامن والعمل والحياة الكريمة .الكثير من معاناة الأزواديين عربا وطوارقا وراء مأساة الماليين والحرب الدائرة منذ عقود في البلاد .
وهي حالة تشبه كثيرا حالات دول مجاورة في تهميش بعض المناطق والقوميات في داخل الوطن الواحد .لذالك ليس غريبا علي كاتب مبدع في حساسية ورقة العدوس وهو يري حال أهله أهل السري أن يتألم ويصوغ بيانه "روح أمم في نزيف ذاكرة " مختوما بنداءات الروح .
2/
في سيرته عدوس السري (1) التي دبجها في أربعة أجزاء مجموع صفحاتها ٢٠٨٢ صفحة وعنونها بعنوانين رئيسي عدوس السري وفرعي روح أمم في نزيف ذاكرة .يتحدث ابراهيم الكوني عن سيرته وسيرة أهله
.في الجزء الاول تحدث عن طفولته وأيام الواحة التي نشأفيها ودراسته في سبها وسفره إلي روسيا ودراسته في معهد غوركي للآداب .و عمله في الصحافة وفي الأجزاء الأخري يعرض لأيام عمله في السفارة وأحاديث عن أصدقائه ومعاركه مع النظام السياسي وآلام المنفي الذي عاش فيه عقودا من الزمن وأعماله الأدبية عبر مساراته الطويلة والحافلة بالصعوبات والتحديات منذ أخذه سحر الحرف إلي أن أصبح كاتبا مشهورا
في المحافل العربية والغربية وحصد الجوائز الكثيرة وكرم في أكثر من مناسبة .وترجمت أعماله إلي مختلف اللغات العالمية ولا يغفل العدوس عن تقديم قراءة واعية لأدبه (مشفوعة باستشهادات أدبية بديعة ومحاورات لأعمال ابداعية عالمية بشكل رائع .يدل علي موهبة وعبقرية العدوس )
وطرح عميق للجذور والمنطلقات التي شيد عليها فكره ورؤيته الأدبية منذ نصوصه الأولي إلي أن صار كاتبا مشهورا عربيا ودوليا وهو في سيرته لاينتظم في خيط سردي متسلسل زمنيا من البداية . وانما يمضي أحيانا هنا وهناك في تداعيات يحاول من خلالها أن يمسك معني التجربة التي عاشها لأن المبدع كما يري :
"لايكتب واقعا حرفيا وإنما يكتب ظل هذا الواقع "(2) خلال رحلة العدوس العظيمة بين صحراء الحمادة الليبية وانهار روسيا البيضاء .ينقل لنا ابراهيم الكوني كما يكتب دائما في نصوصه روح العالم الذي فتنه وشغفه حبا .روح الصحراء التي يسميها :وطن الله .وطن التكوين .
في كل أعماله ظل الكوني وفيا لصحرائه ولانغالي إذا قلنا انه قد أبدع ابداعا منقطع النظير في هذا الجنس الأدبي وتفرد به بين كل أدباء العالم .ذالك أنه في كل ما كتب ظل يكتب الصحراء .واذا كان الكاتب كما يري الكاتب الكبير واسيني الأعرج في "شهوة الحبر وفتنة الورق "لايكتب حياته دفعة واحدة وانما قطرة قطرة ..فإن الكوني تصدق عليه هذه العبارة الجميلة .فهو في كل متونه ظل يكتب الصحراء ذرة ذرة .
لا يسرد العدوس كل تفاصيل حياته وإنما ينتقي منها أو هكذا بدي لنا ذالك .فهو لايخوض كثيرا في طفولته وانما يكتفي بصور منها في الواحة .يوم تاه في البرية ولايأتي علي حياته العاطفية كثيرا .كما هو الحال عند الكثير من كتاب السير المولعين بهذا الجانب . وفي حديثه عن الأهل "أسرته " لايفصح كثيرا ولاتبدو من كلماته تلك الحميمية الوجدانية وذالك الشعور النرجسي الذي ينتاب المرء عندما يتحدث عن أسلافه .لا يتحدث كثيرا عن أمه وإخوته .يخبرنا عن علاقته بأخيه فنايت الذي كان له شقيقا وصديقا وعن علاقته بوالده وكيف كان رمزا في حياته وحزنه لفقده .الكثير من التفاصيل فيما يتعلق بمحيط الكوني القريب "أهله "لايخبرنا عنها ولايفصح عنها .ربما لانها ليست ضرورية أوربما لايرغب في البوح بها او رغبة منه في الإستسرار الذي يطغي علي الكتاب في سييرهم .بشكل أو بآخر من أجل إضفاء هالة غامضة علي أيامهم . لكي تبقي أقواس الاستثناء مفتوحة . أوربما كما فعل مالرو في مذكراته فهو :" لايريد أن يفصح عن تسلسل أطوار حياته وإنما يريد أن يكشف النقاب عن عدد من القيم التي قامت عليها هذه الحياة "(3)وهو في سيرته يحقق عبارة مارتيال التي تقول
"إن المرء ليعيش مرتين حين يتمتع بماضيه "(4)
تماما كما في كل السير التي قرأت .في حياتي لأحمد أمين وسبعون لميخائيل نعيمة و طفولتي لغوركي والشاهد المشهود لوليد سيف والمنقذ من الضلال للغزالي وحفريات في الذاكرة من بعيد للفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري
مثل هؤلاء يعيش العدوس ماضيه لكنه يعيشه بألم وتلذذ ويمارس تأويل ماضيه وتفكيكه بشكل يريد اعادة صياغة الحياة
لتتداخل السيرة مع الرواية وهو ما يؤكده في شهادته حيث يقول :(الرواية هي الحياة فإذا كنا نشعر كبارا أوصغارا بالرغبة الملحة في الكتابة وإن كانت مجرد كتابة مذكرات فذالك يكون لأن الكتابة تمثل الرغبة اللاواعية في إعادة صياغة الحياة التي هي أصلا لا واقعية خيالية نوعا من العدم .حينما نبلغ مرحلة ما في حياتنا .نحن ندرك فجأة أن كل ما عشناه كان نوعا من اللاواقع ونحن نواجه هذا الشعور العدمي الذي عشناه من خلال الكتابة (5)
في سيرة العدوس كما في جل نصوصه يطرح الكوني رؤيته التي بني عليها مشروعه الأدبي منذ بواكيره الأولي وهي ضرورة ان يتسلح المبدع برؤية فلسفية تكون منطلقا له في هذا العالم
يقول الكوني في هذا السياق :
(سوف لن نبالغ إذا قلنا أن رؤية الكاتب العربي في العمل الفني ظلت مكبلة بشروط الواقع الاجتماعي والسياسي والدليل علي ذالك هو هذاالإضطهاد المستمر ل"السر الفني " أو الرؤية الملحمية الخاصة الذي تقوم به الأيديولوجية السياسية أو النظرة الإجتماعية التاريخية المحضة للأشياء .فإذا كان التراث الأدبي الإسلامي الصوفي يلقننا اليوم درسا قاسيا بتقديمه لتلك النماذج الشعرية الرفيعة كماهو الحال عند المعري رغم طغيان النزعة الصوفية علي الروح الفلسفية فإن أدبنا اليوم يعاني انتكاسة واضحة في مجال عمق النظرة للأشياء وللواقع والوجود"(6)
لذا يصبح عند العدوس من الضروري الهروب من خطر الأيديولوجيا إلي مكان أكثر رحابة
حيث يجد المبدع ضالته ويستطيع أن يتخيل و يفكر ويتحرك .ويتمتع بحريته إنه عالم الميثولوجيا الذي هو.عالم مفتوح شاسع لا تحده حدود . يبني الكوني رسالته ومشروعه الأدبي علي أهمية هذا البعد الأسطوري كخطاب وفكر وشعر ونص وسيرة وجغرافيا وروح .
لذالك فإن العنوان الفرعي "روح أمم في نزيف ذاكرة " يعتبر هو الرسالة والمدار الذي حوله كتب الكوني ابداعه وقدم رؤيته للعالم من خلاله .
ليس في سيرة العدوس كما رواها صاحبها (علي الأقل) أحداثا عاصفة إلي الحد الذي يمكن اعتبارها سيرة استثنائية وهو نفسه يقول إن حياته عادية من هذه الناحية ..
لذالك نستطيع أن نقول ان العدوس راهن في هذه السيرة الطويلة والمليئة بالكفاح والترحال والسهر ونزيف الروح والحرف علي شيئين كما في كل كتاباته .أن يقدم رسالته عبر أدبه .رؤيته للعالم .يقدم ثقافة الصحراء /الطارقية ويدافع عنها .عن وجوده /عن هويته التي يكتبها في كل سطر بنرجسية جميلة .كونية بلاضفاف
تسافر في عوالم تخييلية لايستطيع أبدا أن ينافسه فيها منافس ..لأنه لا أحد يملك سر الحرف . مثل العدوس وأهل ملته أهل السري .
قد لانتفق مع ابراهيم الكوني في آرائه السياسية والفكرية لكننا لا نملك إلا أن نصغي له بإعجاب وإكباروهو يتلو صحفه .في لغة جميلة وخيال أنيق وروح مسكونة بالبحث عن المعني وتلك
ميزة العدوس التي يحق له ان يعتد بها وأن يفاخر .كما يحق له أن يفخر انه في متونه وأسفاره وفي نزيف ذاكرته قدم روح أمته التي ينتمي إليها .
قدم أدبا تجاوز حدود وطنه إلي آفاق عالمية .وماذالك إلا لأن العدوس ابراهيم الكوني .يحمل بداخله رسالة كبري ذات ملامح انسانية كبري ويهجس أدبه بآفاق رحبة تعول دائما علي مخاطبة الإنسان والتوق للحرية والولع بالبعد المفقود .الذي هو مطلب كل الخليقة والذي هو بمثابة الفتوحات التي علي الإنسان ان يبحث من خلالها عن معني الحياة علي اكثر من معطي .يتجلي هذا البعد في الوجود والذات والكينونة والحرية والسعادة والأدب والفلسفة والأسطورة والوطن والمنفي والزمان الضائع والمكان الذي يسكننا .
وهو بهذه الرسالة يتشاطر مع إبن عربي
في فهم الوجود عبر البعد المفقود حيث يغدو الوجود وعي بما يفتقده الوجود .وسعي لتكميل هذا الوجود.
هوامش :
- عدوس السري :روح أمم في نزيف ذاكرة /ابراهيم الكوني /أربعة أجزاء .صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر .بيروت /ط أولي 2014
- المشاء : إبراهيم الكوني /وثائقي من انتاج الجزيرة عن ابراهيم الكوني بث يوم /11 / 08 /2015في جزئين
- السيرة الذاتية /جورج ماي
- نفسه .ص. 82
- ابراهيم الكوني : خطاب الصحراء/ضمن :شعرية المكان في الأدب العربي الحديث/بطرس حلاق.روبن أوستل .شتيفن فيلد ترجمة نهي أبوسديرة.عمار عبد اللطيف./المركز القومي للترجمة .القاهرة .مصر .عدد2228.ط.أولي 2014ص 122
- مشكلة الرؤية الفلسفية في الأدب العربي المعاصر/ابراهيم الكوني /الآداب .العدد 10/الصادر بتاريخ 1/اكتوبر /1977.ص .85.