اللغةٌ وطنُ الشَّاعِرِ، بهَا يَسْتَقْرِيُ العالمَ، وَمِنْها يَخْلِقُ عالَمَه الخاصَ، عالمًا مُمْكِنَاً يَتَغَيَّاه الشاعرُ، ويَطْمَحُ إِلِيه، ويَتَسَامَى بِه عَلَى "الوعيِّ القائمِ". فاللغةُ بوصْفِهَا مَوضُوعًا، كانتْ غِنَائِيَّةً تَغَنَّى بها ولهَا الشعراءُ وسَتَظَلُّ، فمنْ حُرُوفِها تنسجُ الذاتُ المبدعةُ رؤيتَهَا، تعبرُ عن مكنوناتِها، تسْتَظْهِرُ ما اسْتَبْطَنَ؛ لتتجلَّى الذاتُ حروفًا وكِيانًا نصيَّاً، يَسْتَضْمِر فيه المبدعُ خلاصةَ تجربتِه الإبداعيَّةِ.
ولكنَّ معالجةَ اللغةِ كموضوعٍ شِعْرِيٍّ تناولَه كثيرٌ منَ الشُّعَراءِ، وتِيمَةٍ نصيَّةٍ تسابقَ الشعراءِ إليها منذ بدايةِ التاريخِ الشعريِّ إلى الآنِ كَعَرُوسٍ تتربَّعُ على عرشِ مُلْكِهَا، والكلُّ يحاولُ إغراءَها ليستنزِلَها من ملَكُوتِيَّتِها، ويمهِرُهَا بقلادتِه الإبداعيةِ، وَلكنْ تظلُّ اللغةُ غَزَالاً شاردًا في بُسْتَانِ عِزِّهَا، تَتَأَبَّى عّلَينا جَمِيعًا.
فالشاعرُ المبدعُ/ محمّد عبدالستَّار الدَّشّ، يحاولُ أن يَتَصَيْدَ الغزالةَ ويُلْقِي عليها شَبَكَةَ إبْدَاعِه، ويعرضُ عليها قلادته الإبداعيةَ لتتجلّى عروسًا على عرش قصيدته الموسومةِ بـــ "بَيْنَ يَدَيْهَا" والتِي يبتدرُهَا بــ "أنا" فالشاعرُ يعلنُ عنْ نفسِه في بدايةِ النص كمبدعٍ يحاولُ أنْ يستنزلَ اللغةَ في بداية النصِّ، ولكنه بنرجسية الشعراءِ قدَّم "الأنا"، وكأنه يخاطبُ اللغةَ عن فرادتِه الإبداعيةِ إغراءً لها؛ ليستدخِلَهَا في النصِّ الشعريِّ، ولكنْ تنكَسِرُ حِدَّةُ الــ "أنا" أمامَ جلالِ اللغةِ وهو يقول: "بينَ يديهَا" حيث تتلاشى "الأنا" ولا يبقى إلا جلالُ اللغةِ وحده مهيمنًا على النص، فهو مجذوبٌ إليها، مشغولٌ بها، مستغرقٌ فِي أُبَّهَةِ عِزِّ اللغةِ، هذا الجلال الواضحُ في الاستثناء "إلَّاها" فاللغة هنا وحدها، يجلسُ الشاعر/ محمد عبدالستار الدش، بين يديها، وهي مهينتة عليه بالكليةِ، وكأن الشاعر اصطنع عبرَ آلية إبداعِه تضادا يرتقي به الشاعر إلا درجة التمكنِ من الصياغةِ الشعرية، هذا التضاد الفارقُ الذي نلمحه بين "أنا" و "إلَاهَا"، فالذات التي أعلنت عن وجودها في بداية النص، تتماهى وتتلاشى في حضور "ها"/اللغة التي وقعت بعد أداة القصر والاستثناءِ " إلا" جدلية بين الحضور الغياب، حضور اللغة وغياب الذات. والواضحُ أن الشاعرَ/ محمد عبدالستار الدَّش سيظل جالسًا بين يدي اللغة؛ تسقيه "من خمرِ بكارتها"، دهشة تنتابُ القارئَ من جلال هذه الصورة وجمال تركيبها، وفرادتِها، التي تمثَّلَتْ في قوله: "من خمر بكارتها" فالذات المبدعة التي تّسْكَرُ بخمرِ اللغة انتشاءً بها، تصطفي خمرَها، فهي لا تسكرُ إلا من الخمر البكرِ الذي يتراءى للشاعر في كأس خيالات اللغة، فالشاعر يصطفي لنفسه لغةً/ خمراً يسكرُ بها وحده، لا يشاركه الكأسَ غيره، فهو واللغة وكأس خمرها في خلوة "بين يديها" فيقول:
"وَأَنَا بَيْنَ يَدَيهَا.
لا يَشْغَلُنِي عنها.
إلَّاهَا.
تَسْقِينِي.
مِنْ خَمْرِ بَكَارَتِهَا.
مُنْذُ طُفُولَتِهَا الأُولَى.
للآن."
يظلُّ المبدع الشاعرُ مشدوهًا هيمانًا بخمر اللغة وهو يتعاطاه بين يديها، ومن روعة خمر اللغة وغياب الشاعر في لذَّتِه المفرطة، ينقل لنا تلك اللذة عبر جمالية التصوير فيقول:
" رَحِيْقَ جَبَالٍ،
مُوسِيقَى أَنْهَارٍ،
لغةً مِنْ ضادِ
ضُلُوعِي،
ونسيجًا.
مِنْ نُونِ التَّكْوينِ.
لكلِّ خرائِطِهَا.
المَلَكِيَّة،
والجمهوريةِ."
تدخل اللغةُ الشاعرَ عالمَهَا تهيمن عليه كليةً، تنمحي ذاته فيها، ويغيب عنه بحضوره فيها، فتفتح له الغزالةُ/اللغةُ رياضَهَا وبستانَها فقد استطاع الشاعر أن يستمطرَ اللغة بجلالها، وينشقَ عبيرها من رحيق جبالها، وبإبداعية مفرطةٍ ينقل لنا الشاعر صورا متتاليةً من العالم الذي أدخلته فيه اللغةُ طواعيةً واختياراً، وكأنك تشاهد جبال اللغة الشُّمَّ التي يتراقص عليها زهرُ المعاني، ولكي يكتمل المشهدُ؛ ينتقل بنا الشاعر من الصورة التي تعرض لنا جلالَ اللغة جبالاً، ويستحضرُ حاسَّة الشم عبر المفردة "رحيق"، لم يكتفِ بذلك ولكنه سيدخل الصوت في عالم التصوير لتتحرك الصورة الشعرية، وكأنها عرض مسرحي يظهر في خلفيته صوت موسيقى الأنهار، لتكتمل أركان الصورة وهي تحتوي على المشهد الذي يستحضر الشاعر فيه كثيرا من الحواس: [ السمع- البصر- الشم] وهو باستحضاره تلك الحواس عبر مفرداته وتصويره يدخلنا عالمه الممكن الذي يَتَغَيَّاه من اللغة عبر إبداعية القصيدة التي تنسج من " ضاد ضلوعه" وكأنه بهذا التركيب الشعري السابق يستحضرُ "حواءَ" التي خلِقَتْ من ضلع "آدم" فهي تنتمي إليه، وهو لا يشعر بالراحة والسكينة إلا معها وهو " بين يديها" في خلوتهما الأبدية، وهذا يدل على انتماء الشاعر للغة انتماءً إنسانيًا متعاليًا، وانتماء الشاعر هنا للغة هو استحضار للوطن "مملكة وجهورية" له، فالانتماء للغة هو على وجه التحقيق انتماء للوطن في صورتيه: مصر/ العروبة. وليس التأويل النقدي هنا بدعا من الخيال، أو أن الناقد هنا يَتَقَوَّل على النص، ويبتدع فيه ما ليس منه، فالشاعر الذي استحضر "حواء" ، "آدم" بجامع الانتماء والحنين بينهما، وقد وصلنا إلى هذا من خلال مفردة "ضلوعي" وليس هذا تّقّوُّلًا على النص، لأن الشاعر أتي بما يدل على ذلك ليؤكد لنا أن القراءة هنا قراءة واعية، وصلت إلى مكنونات التمثيل الشعري، وضمير الذات المبدعة، فهو يؤكد على استحضار قصة الخلق في العالم الغيبي من خلال " نون التكوين" التي أوجد الله بها العوالم، فالتركيب الشعري السابق، يؤكد للقارئ أن تأويله النصيَّ يمشي على درب صحيحة.
باللغة يستفح الشاعر المبدع /محمد عبدالستار الدَّش أبواب الجنَّة وملكوتات الجمال؛ ليلتقي بنظرائه من الشعراء والعلماء والعشاق والأطفال بجامع البهجة والسرور، وكيف لا وهم منغمسون جميعا في اللذة الكبرى، في ملكوت الجمال اللغوي. فاللغة وحدها قادرة على أن تجمع كل فرسانها وشعرائها ومفكريها وتدخلهم ملكوتها الأزلي، فيقول:
تفتح ُأبوابَ الملكوتَ.
أُقَبِّلُهَا.
"ليستْ تحتَ القدمينِ
أُقَابِلُ أحبابي.
مِمنْ سَبَقُونِي.
شعراءَ.
وعلماءَ،
وزهَّاداً،
زعماءَ،
وعُشَّاقاً،
أطفَالاً.
مُبْتَهِجِين.
نُشَكِّلُ جَيْشِاً.
يحمِي عَيْنَيْهَا
لبقاءٍ.
خالدْ."
الجنةُ اللغة/ الملكوت تتجلى حسًّا ماديَّاً ذاتًا تَمْثُلُ أمام الشاعر، فيهيم بها، وتهيمُ به، وهنا يستحضر الشاعرُ "الأنا" التي تماهت في بداية النصِّ في وجود اللغة وهو "بين يديها"، يستشعرُ الكاتب/ محد عبدالستار الدش وجوده، واللغة تفتح له ملكوت جمالها، ليتراءى له العشاق والشعراء خيالا ماثلا في جنة المحبوب/ اللغة، حيث يتحقق الوجود الفعلي للوطن الممكن الذي يتغياه الشاعر، كمدينة أفلاطونيةٍ فاضلةٍ، هذا الوطن الذي لم يطرد الشعراء والمفكرين من مملكته، بل احتواهم ليكونوا جيشا مع غيرهم من المفكرين والزعماء والزهاد والأطفال، هذا الجيش الذي يحمي الأوطان من الأوغاد الذين على أيديهم تتهدم الأوطان، وبمعاولهم يتهدم جدار الوطن، فسلاح الشاعر الكلمة، والكلمة كانت قبل الخلق، الكلمة عهد وميثاق، عليها وبها تنبني الأوطان، وكأن ملوك الكلمة من شعراء وعلماء وصوفية وزعماء، هم وحدهم القادرون على حفظ الأوطان، وبث قيم الحب والمبادىْ، والأخلاقِ والمُثُل العليا. وهذاالمعاني التي سقناها تولدت من مفردة "جيشا" والتي أتى بها الشاعر في ختام النص، مؤكدا على أهمية الكلمة كسلاح يزود به الشاعر عن وطنه.
" النص"
بَيْنَ يَدَيْهَا
وَأَنَا بَيْنَ يَدَيهَا.
لا يَشْغَلُنِي عنها.
إلَّاهَا.
تَسْقِينِي.
مِنْ خَمْرِ بَكَارَتِهَا.
مُنْذُ طُفُولَتِهَا الأُولَى.
للآن.
رَحِيْقَ جَبَالٍ،
مُوسِيقَى أَنْهَارٍ،
لغةً مِنْ ضادِ
ضُلُوعِي،
ونسيجًا.
مِنْ نُونِ التَّكْوينِ.
لكلِّ خرائِطِهَا.
المَلَكِيَّة،
والجمهوريةِ.
تفتحُ أبوابَ الملكوتِ.
أُقَبِّلُهَا.
فَأَنَا في الجنَّةِ.
ليستْ تحتَ القدمينِ
أُقَابِلُ أحبابي.
مِمنْ سَبَقُونِي.
شعراءَ.
وعلماءَ،
وزهَّاداً،
زعماءَ،
وعُشَّاقاً،
أطفَالاً.
مُبْتَهِجِين.
نُشَكِّلُ جَيْشِاً.
يحمِي عَيْنَيْهَا
لبقاءٍ.
خالدْ.
ولكنَّ معالجةَ اللغةِ كموضوعٍ شِعْرِيٍّ تناولَه كثيرٌ منَ الشُّعَراءِ، وتِيمَةٍ نصيَّةٍ تسابقَ الشعراءِ إليها منذ بدايةِ التاريخِ الشعريِّ إلى الآنِ كَعَرُوسٍ تتربَّعُ على عرشِ مُلْكِهَا، والكلُّ يحاولُ إغراءَها ليستنزِلَها من ملَكُوتِيَّتِها، ويمهِرُهَا بقلادتِه الإبداعيةِ، وَلكنْ تظلُّ اللغةُ غَزَالاً شاردًا في بُسْتَانِ عِزِّهَا، تَتَأَبَّى عّلَينا جَمِيعًا.
فالشاعرُ المبدعُ/ محمّد عبدالستَّار الدَّشّ، يحاولُ أن يَتَصَيْدَ الغزالةَ ويُلْقِي عليها شَبَكَةَ إبْدَاعِه، ويعرضُ عليها قلادته الإبداعيةَ لتتجلّى عروسًا على عرش قصيدته الموسومةِ بـــ "بَيْنَ يَدَيْهَا" والتِي يبتدرُهَا بــ "أنا" فالشاعرُ يعلنُ عنْ نفسِه في بدايةِ النص كمبدعٍ يحاولُ أنْ يستنزلَ اللغةَ في بداية النصِّ، ولكنه بنرجسية الشعراءِ قدَّم "الأنا"، وكأنه يخاطبُ اللغةَ عن فرادتِه الإبداعيةِ إغراءً لها؛ ليستدخِلَهَا في النصِّ الشعريِّ، ولكنْ تنكَسِرُ حِدَّةُ الــ "أنا" أمامَ جلالِ اللغةِ وهو يقول: "بينَ يديهَا" حيث تتلاشى "الأنا" ولا يبقى إلا جلالُ اللغةِ وحده مهيمنًا على النص، فهو مجذوبٌ إليها، مشغولٌ بها، مستغرقٌ فِي أُبَّهَةِ عِزِّ اللغةِ، هذا الجلال الواضحُ في الاستثناء "إلَّاها" فاللغة هنا وحدها، يجلسُ الشاعر/ محمد عبدالستار الدش، بين يديها، وهي مهينتة عليه بالكليةِ، وكأن الشاعر اصطنع عبرَ آلية إبداعِه تضادا يرتقي به الشاعر إلا درجة التمكنِ من الصياغةِ الشعرية، هذا التضاد الفارقُ الذي نلمحه بين "أنا" و "إلَاهَا"، فالذات التي أعلنت عن وجودها في بداية النص، تتماهى وتتلاشى في حضور "ها"/اللغة التي وقعت بعد أداة القصر والاستثناءِ " إلا" جدلية بين الحضور الغياب، حضور اللغة وغياب الذات. والواضحُ أن الشاعرَ/ محمد عبدالستار الدَّش سيظل جالسًا بين يدي اللغة؛ تسقيه "من خمرِ بكارتها"، دهشة تنتابُ القارئَ من جلال هذه الصورة وجمال تركيبها، وفرادتِها، التي تمثَّلَتْ في قوله: "من خمر بكارتها" فالذات المبدعة التي تّسْكَرُ بخمرِ اللغة انتشاءً بها، تصطفي خمرَها، فهي لا تسكرُ إلا من الخمر البكرِ الذي يتراءى للشاعر في كأس خيالات اللغة، فالشاعر يصطفي لنفسه لغةً/ خمراً يسكرُ بها وحده، لا يشاركه الكأسَ غيره، فهو واللغة وكأس خمرها في خلوة "بين يديها" فيقول:
"وَأَنَا بَيْنَ يَدَيهَا.
لا يَشْغَلُنِي عنها.
إلَّاهَا.
تَسْقِينِي.
مِنْ خَمْرِ بَكَارَتِهَا.
مُنْذُ طُفُولَتِهَا الأُولَى.
للآن."
يظلُّ المبدع الشاعرُ مشدوهًا هيمانًا بخمر اللغة وهو يتعاطاه بين يديها، ومن روعة خمر اللغة وغياب الشاعر في لذَّتِه المفرطة، ينقل لنا تلك اللذة عبر جمالية التصوير فيقول:
" رَحِيْقَ جَبَالٍ،
مُوسِيقَى أَنْهَارٍ،
لغةً مِنْ ضادِ
ضُلُوعِي،
ونسيجًا.
مِنْ نُونِ التَّكْوينِ.
لكلِّ خرائِطِهَا.
المَلَكِيَّة،
والجمهوريةِ."
تدخل اللغةُ الشاعرَ عالمَهَا تهيمن عليه كليةً، تنمحي ذاته فيها، ويغيب عنه بحضوره فيها، فتفتح له الغزالةُ/اللغةُ رياضَهَا وبستانَها فقد استطاع الشاعر أن يستمطرَ اللغة بجلالها، وينشقَ عبيرها من رحيق جبالها، وبإبداعية مفرطةٍ ينقل لنا الشاعر صورا متتاليةً من العالم الذي أدخلته فيه اللغةُ طواعيةً واختياراً، وكأنك تشاهد جبال اللغة الشُّمَّ التي يتراقص عليها زهرُ المعاني، ولكي يكتمل المشهدُ؛ ينتقل بنا الشاعر من الصورة التي تعرض لنا جلالَ اللغة جبالاً، ويستحضرُ حاسَّة الشم عبر المفردة "رحيق"، لم يكتفِ بذلك ولكنه سيدخل الصوت في عالم التصوير لتتحرك الصورة الشعرية، وكأنها عرض مسرحي يظهر في خلفيته صوت موسيقى الأنهار، لتكتمل أركان الصورة وهي تحتوي على المشهد الذي يستحضر الشاعر فيه كثيرا من الحواس: [ السمع- البصر- الشم] وهو باستحضاره تلك الحواس عبر مفرداته وتصويره يدخلنا عالمه الممكن الذي يَتَغَيَّاه من اللغة عبر إبداعية القصيدة التي تنسج من " ضاد ضلوعه" وكأنه بهذا التركيب الشعري السابق يستحضرُ "حواءَ" التي خلِقَتْ من ضلع "آدم" فهي تنتمي إليه، وهو لا يشعر بالراحة والسكينة إلا معها وهو " بين يديها" في خلوتهما الأبدية، وهذا يدل على انتماء الشاعر للغة انتماءً إنسانيًا متعاليًا، وانتماء الشاعر هنا للغة هو استحضار للوطن "مملكة وجهورية" له، فالانتماء للغة هو على وجه التحقيق انتماء للوطن في صورتيه: مصر/ العروبة. وليس التأويل النقدي هنا بدعا من الخيال، أو أن الناقد هنا يَتَقَوَّل على النص، ويبتدع فيه ما ليس منه، فالشاعر الذي استحضر "حواء" ، "آدم" بجامع الانتماء والحنين بينهما، وقد وصلنا إلى هذا من خلال مفردة "ضلوعي" وليس هذا تّقّوُّلًا على النص، لأن الشاعر أتي بما يدل على ذلك ليؤكد لنا أن القراءة هنا قراءة واعية، وصلت إلى مكنونات التمثيل الشعري، وضمير الذات المبدعة، فهو يؤكد على استحضار قصة الخلق في العالم الغيبي من خلال " نون التكوين" التي أوجد الله بها العوالم، فالتركيب الشعري السابق، يؤكد للقارئ أن تأويله النصيَّ يمشي على درب صحيحة.
باللغة يستفح الشاعر المبدع /محمد عبدالستار الدَّش أبواب الجنَّة وملكوتات الجمال؛ ليلتقي بنظرائه من الشعراء والعلماء والعشاق والأطفال بجامع البهجة والسرور، وكيف لا وهم منغمسون جميعا في اللذة الكبرى، في ملكوت الجمال اللغوي. فاللغة وحدها قادرة على أن تجمع كل فرسانها وشعرائها ومفكريها وتدخلهم ملكوتها الأزلي، فيقول:
تفتح ُأبوابَ الملكوتَ.
أُقَبِّلُهَا.
"ليستْ تحتَ القدمينِ
أُقَابِلُ أحبابي.
مِمنْ سَبَقُونِي.
شعراءَ.
وعلماءَ،
وزهَّاداً،
زعماءَ،
وعُشَّاقاً،
أطفَالاً.
مُبْتَهِجِين.
نُشَكِّلُ جَيْشِاً.
يحمِي عَيْنَيْهَا
لبقاءٍ.
خالدْ."
الجنةُ اللغة/ الملكوت تتجلى حسًّا ماديَّاً ذاتًا تَمْثُلُ أمام الشاعر، فيهيم بها، وتهيمُ به، وهنا يستحضر الشاعرُ "الأنا" التي تماهت في بداية النصِّ في وجود اللغة وهو "بين يديها"، يستشعرُ الكاتب/ محد عبدالستار الدش وجوده، واللغة تفتح له ملكوت جمالها، ليتراءى له العشاق والشعراء خيالا ماثلا في جنة المحبوب/ اللغة، حيث يتحقق الوجود الفعلي للوطن الممكن الذي يتغياه الشاعر، كمدينة أفلاطونيةٍ فاضلةٍ، هذا الوطن الذي لم يطرد الشعراء والمفكرين من مملكته، بل احتواهم ليكونوا جيشا مع غيرهم من المفكرين والزعماء والزهاد والأطفال، هذا الجيش الذي يحمي الأوطان من الأوغاد الذين على أيديهم تتهدم الأوطان، وبمعاولهم يتهدم جدار الوطن، فسلاح الشاعر الكلمة، والكلمة كانت قبل الخلق، الكلمة عهد وميثاق، عليها وبها تنبني الأوطان، وكأن ملوك الكلمة من شعراء وعلماء وصوفية وزعماء، هم وحدهم القادرون على حفظ الأوطان، وبث قيم الحب والمبادىْ، والأخلاقِ والمُثُل العليا. وهذاالمعاني التي سقناها تولدت من مفردة "جيشا" والتي أتى بها الشاعر في ختام النص، مؤكدا على أهمية الكلمة كسلاح يزود به الشاعر عن وطنه.
" النص"
بَيْنَ يَدَيْهَا
وَأَنَا بَيْنَ يَدَيهَا.
لا يَشْغَلُنِي عنها.
إلَّاهَا.
تَسْقِينِي.
مِنْ خَمْرِ بَكَارَتِهَا.
مُنْذُ طُفُولَتِهَا الأُولَى.
للآن.
رَحِيْقَ جَبَالٍ،
مُوسِيقَى أَنْهَارٍ،
لغةً مِنْ ضادِ
ضُلُوعِي،
ونسيجًا.
مِنْ نُونِ التَّكْوينِ.
لكلِّ خرائِطِهَا.
المَلَكِيَّة،
والجمهوريةِ.
تفتحُ أبوابَ الملكوتِ.
أُقَبِّلُهَا.
فَأَنَا في الجنَّةِ.
ليستْ تحتَ القدمينِ
أُقَابِلُ أحبابي.
مِمنْ سَبَقُونِي.
شعراءَ.
وعلماءَ،
وزهَّاداً،
زعماءَ،
وعُشَّاقاً،
أطفَالاً.
مُبْتَهِجِين.
نُشَكِّلُ جَيْشِاً.
يحمِي عَيْنَيْهَا
لبقاءٍ.
خالدْ.