جعلتنا الحرب غير صالحين لأي شيْ ، فنحن لم نعد شبابا . لم نعد نريد ان نقتحم العالم .نحن هاربون .نهرب من انفسنا . من حياتنا . كنا في الثامنة عشر ، وبدأنا نحب العالم والوجود ، ثم توجب علينا ان نطلق النار على هذا . القنبلة الاولى التي انفجرت ـ اصابت قلبنا . اعتزلنا العمل والطموح والخطو نحو الامام . لم نعد نؤمن بكل هذا . نحن نؤمن بالحرب
إريش ماريا ريماك من رائعته الخالدة " لا جديد على الجبهة الغربية "
إريش ماريا ريمارك ليلة البحث عن الحياة
علي حسين
في إحدى قرى الجنوب الألماني، وفي صيف العام 1898 استقبلت عائلة ماريا ريمارك مولودها الرابع، وكان هذه المرة ذكراً بعد ثلاث بنات، الأمر الذي دفع الجدّ ان يعلق آمالاً على حفيده، في ان يوصل تراث هذه العائلة المُحبة للمغامرة والرحلات. كان الجدّ قد طاف العالم كلّه، ضابطاً يعمل في البحرية الالمانية، لكن الأب لم يكن يحب المغامرات فانتهى به الأمر ان يعمل مشرفاً على معمل للورق. لم تكن العائلة غنية، ولكنها كانت ميسورة الحال، قضت الأم حياتها على سرير المرض تشكو من مرض السل، وعلى امتداد فترة مرضها، كان على الابن الصغير ان لايقترب منها خشية أن تصيبه العدوى، مما دفع الاهل ان يوكلون تربية الصبي الصغير الى جدّه المغامر، وبينما كانت الأم المريضة تفكر بابنها ومستقبله، كان الجد يحاول ان يجعل من حفيده نسخة ثانية منه، فيما الأب تمنى لأبنه وظيفة مستقرة، معلم مثلا، مهنة تعني له الأمان والضمان. كان كل شيء ينبئ بأن المصير الذي أعدّته العائلة لابنها سيتحقق لا محالة، إلا ان القدر كان يخفي ما لم يتوقعه أحد، فقد اندلعت الحرب العالمية الاولى وكان على الشاب الذي لم يكمل دراسة مهنة التعليم ان يلتحق بالجيش ليُرسل الى الجبهة. هناك يعيش تجربة مريرة جدا حيث يُجرح مرتين ويتخلص من الموت بأعجوبة. وعندما تنتهي الحرب، ويعود الجنود الى أهاليهم، يعود إريك ماريا ريمارك شخصا اخر، لايشغله سوى موضوع واحد: مصير الانسان وكيف يتخلص من مأساة الحرب. إنها الفكرة الوحيدة التي تسلطت عليه، وحين يعود الى مدينته ليمارس مهنة التدريس كانت اول محاضرة له بعنوان:" كيف نعيش في مجتمع لا نسمع فيه صفارات الانذار"، الأمر الذي جعل مدير المدرسة يستدعيه ليوجه له إنذاراً شديد اللهجة بأن يترك الحديث عن الحرب، وينشغل بتدريس المادة المقررة. وبما انه لم يكن سعيدا بهذه المهنة، فقد قرر ان يعمل في محل صديق له يبيع رخام القبور وتماثيل تذكارية للحرب، مهنة رتيبة، لكنه تغلب عليها بالتفرغ للقراءة، فقضى أوقاتاً ممتعة مع دستويفسكي وجيمس جويس وشكسبير، والتهم الإلياذه حتى انه كان يحفظ منها مقاطع طويلة، وانغمس في قراءة اعمال توماس مان، وكانت عائلة بودنبروك تسحره، فكتب عنها مقالاً أرسله الى إحدى الصحف التي لم تنشره، فقرر ان يرسله بنفسه على عنوان توماس مان وكتب على المظروف: "الى أبينا في المعرفة، هذه الصفحات في تمجيد اعضاء عائلتك المقدسة اتمنى ان تطلع عليها"، ولم يصدق حين سلمه ساعي البريد بعد اسابيع مظروفاً كتب على غلافه بخط توماس مان: "الى السيد اريك ماريا ريمارك مع المودة ".
كانت رسالة مان دافعاً له لأن يقرر التفرغ للكتابة، بدأ يرسل بعض كتاباته إلى الصحف والمجلات. صار يشعر بالملل من مهنة بيع شواهد القبور، فيقرر السفر الى برلين، وهناك يجد عملاً في صحيفة "الرياضة المصورة"، كل ما مطلوب منه هو ان يكتب تقارير عن ما يجري في حلبات الملاكمة، التي وجد فيها وجهاً " قذراً " آخر من وجوه الحرب الكريهة، لكن لا مفر، عليه ان يكتب ويحرر. وقد تعلق بمهنة الصحافة لأنه كان مقتنعاً ان حياته لا معنى لها من دون الورق، ورغم ان مهنة الصحافة في المانيا التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، لم تكن تضمن له حياة مرفهة مثلما كان يتمنى، لكنه هنا في برلين ذاق طعماً مختلفا للحياة. كتب روايته الاولى :" لا جديد على الجبهة الغربية، " العنوان كما جاء في ترجمة ليندا حسين عن الالمانية أو "كل شيء هادئ في الميدان الغربي " – العنوان كما جاء في الترجمة العربية التي قامت بها دار الهلال بترجمة محمود مسعود - حاول ان يبعث بمخطوطتها الى احدى دور النشر، لكن مصاريف البريد كانت عائقاً أمام طموحاته.
"، ويقول إريك ماريا ريمارك في حديثه عن الرواية، ان المشاهد المفزعة لم يكن من الخيال بل هي حقيقة .
لم يوافق أحد من الناشرين الالمان على طبع الرواية التي ارسلها الى معلمه توماس مان ليرسل اليه الاخير خطابا يطالبه بإعادة كتابتها لأنها في صيغتها الحالية عبارة عن ضباب من الكلمات. ولان ريمارك يدرك انه يسير ضد التيار السائد للرواية الالمانية آنذاك، لم يبالِ كثيراً لكلمات توماس مان رغم تقديره الشديد له، فقد كان يدرك في قرارة نفسه انه مصمم على ان تكون روايته الجديدة مثل حجر ضخم يلقى في بحيرة الأدب الراكدة.
لم يجد أمامه سوى المجلة التي يعمل فيها "الرياضة المصورة" فربما يقتنع رئيس التحرير بطبع الرواية، لأن دار النشر تطبع الكتب أيضاً. ولكن من يغامر بشراء رواية لكاتب مبتدئ في زمن يعاني فيه الناس من أزمة مالية صعبة، يسأله رئيس التحرير عن موضوع الرواية فيجيب:
- الحرب
- انصحك بأن تمزقها، من يريد اليوم قراءة رواية حربية، يقول له رئيس التحرير.
يكتب لوالده:"الظاهر ان مغامرتي الاولى في الأدب لن ترى النور"، الصدفة تلعب دوراً كبيراً في مستقبله، كان قد ارسل نسخة من الرواية الى دار نشر في بون، وقد وصلت النسخة الى يد احد الفاحصين في الدار، الذي جلس ذات يوم ليقلب ملفاته فعثر على المسودات فقرر أن يقضي معها بعض الوقت، وبعد صفحات قليلة، يكتشف ان بين هذه الاوراق رواية عجيبة ومؤثرة، يضطر الى ان يعرض الأمر على مسؤولي الدار:
- لقد وجدت هذه الرواية مؤثرة بشكل غير طبيعي..انصح بطباعة عشرة آلاف نسخة منها، قال الفاحص فورتيس.
التردد يصيب الجميع.. إلا فورتيس الذي يكمل : إذا وجدتم في الأمر مجازفة، فالخسارة سأتحملها أنا.
وبعد مناقشة دامت أياماً، وافقوا على طبع الرواية، لكنهم اقترحوا ان تنشر في البداية على شكل سلسلة حلقات في جريدة " فويس " التي تصدر عن دار النشر، المسؤولين على الصحيفة يعترضون، فالرواية في نظرهم غير مشوّقة، والناس تكره الحديث عن الحرب، والأهم ان الصحيفة لاتنشر الا لكبار الكتاب من امثال توماس مان وهاوبتمان وبعض قصص هيرمان هيسة، لكن رأي الخبير انتصر في النهاية وظهرت الحلقة الاولى من الرواية في العاشر من تشرين الثاني عام 1928، ولم يصدق اصحاب الصحيفة ردود أفعال القراء غير المتوقعة، الجميع لاحديث له سوى حكايات الميدان الغربي، وما ان صدرت الحلقة الثانية حتى تجاوز طبع الصحيفة المئة الف نسخة.
اصحاب دار النشر يعقدون اجتماعاً طارئاً ليتخذوا قراراً بوقف نشر الحلقات، وطبع الرواية كاملة وبمئة الف نسخة، لكن هذا الرقم يخيّب تقديرات الناشرين فقد نفد خلال ساعات، الكتاب يباع بسرعة مذهلة، وتضطر دار النشر ان تستعين بمطابع اخرى، في بداية عام 1929 تتجاوز المبيعات المليون نسخة، بعد عام تباع خمسة ملايين، لكن الناشر والكاتب يواجهان مشكلة جديدة، فقد تعرضا لموجة شديدة من الكراهية، ريمارك يُتهم بمعاداة المانيا، وتنشر بعض الصحف مقالاً بقلم غوبلز- وزير دعاية هتلر فيما بعد - يصف الكتاب بالقذارة. وان مؤلفة غير الألماني الذي ينتحل اسماً غير معروف، بل ويشكك كاتب المقال بمشاركته ريمارك في الحرب. الهجمات التي تشنها الصحف الرجعية، تتحول إلى افضل دعاية للكتاب الذي تتجاوز مبيعاتة العشرة ملايين نسخة ويترجم الى معظم لغات العالم. الكتاب يباع بنجاح كبير، ويضطر الناشر أن يستعين مطابع أخرى لتساعده في الطبع. في عام 1930 تباع منه في ترجماته العديدة اكثر من 30 مليون نسخة، ويقرر القائمون على طريقة بريل في القراءة طبع اول رواية لفاقدي البصر.
شكلت الرواية صدمة للقراء ومفاجأة لنقّاد الادب، إلى درجة أن أعمال ريمارك اللاحقة ستقاس عليها وستقارن باستمرار بها، بل أن اريك ماريا ريمارك سيكشف في حوار صحفي عام عن حقيقة قلّما انتبه إليها مؤرخو الأدب، حقيقة أن رواية " لا جديد على الجبهة الغربية " " كانت في صميمها وبصرف النظر عن هواجس الخوف التي ترافق الانسان وهو يواجه الموت، رواية وجودية بامتياز، خصوصاً أنها كتبت في وقت كان الذل والهزيمة اللذان تليا استسلام ألمانيا خلال تلك الحرب العالمية الاولى قد تحولا إلى نزعة عسكرية ألمانية خطيرة وشديدة الشعبية في الوقت نفسه، وهذا ما يحدث عادة مع الشعوب التي تهزم ويتلو هزيمتها جرح عميق لكرامتها فتتحوّل إلى شعوب تنتظر اللحظة المناسبة للسير في دروب العنف ولتثأر لا لكرامتها، بمقدار ما تثأر من وجودها كأمة مهزومة، ويضيف ريمارك:"لقد كتبت رواية عن الحرب، من الذي يشعلها؟ ومن الذي يستفيد منها؟"
ريمارك يصبح مشهوراً وغنياً لكنه غير سعيد، رسائل مجهولة تصله باستمرار تهدده بالموت، الحزب النازي يواصل صعوده بقوة، ريمارك مقتنع تماماً بأن هتلر سوف يتسلّم مقاليد السلطة الآن او بعد سنوات، وستكون المانيا مهدّدة، يقرر السفر الى سويسرا، ليصبح اول اديب منفيّ. يصحو ذات يوم من عام 1933 على نشرات الاخبار تعلن تعيين أدولف هتلر بمنصب مستشار المانيا، وها هو عدوّه القديم غوبلز يؤدي اليمين وزيراً للدعاية. لايزال ريمارك يتذكر مقال غوبلز عنه، وطافت في ذهنه صور وزير دعاية هتلر عام 1930، وهو يقود مع رفاقه في برلين الهجوم بالقنابل على دار السينما التي عرضت الفيلم المقتبس من رواية "كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، الامر الذي دفع بالرقابة الى منع عرض الفيلم، كان هذا اول انتصار لغوبلز، والأن جاء الانتصار الثاني، فقد صدر قرار بمنع الرواية، وحرق جميع النسخ الموجودة منها، ولم ينته الامر عند هذا الحد، فلابد من قرار جديد بسحب الجنسية من الكاتب الذي باع وطنه للأجانب، هكذا صدر الامر بإمضاء أدولف هتلر.
إريك ماريا ريمارك الذي ولد عام 1898 في ألمانيا، عاش حتى عام حتى عام 1970، حيث أنهى حياته في سويسرا، تزوج من النجمة الهوليوودية السابقة بولين غودارد بطلة فيلم شارلي شابلن الشهير "الأزمنة الحديثة، ظل يكتب حتى فترة متأخرة من حياته. ومن أبرز رواياته الى جانب "كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، "للحب وقت وللموت وقت" يؤرخ فيها الهتلرية، و "ليلة لشبونة" وهي تروي رحلىة الكاتب في دروب المنفى، لكنه لايستطيع الهروب من ذكرياته التي تحاصره بكل ماضيه و ما فيه من ألم ممزوج بلحظات سعادة. ورواية "الرفاق الثلاثة" التي تسجل حياة شباب خرجوا من الحرب ليعيشوا حياة جديدة، لكن أثار الحرب تلاحقهم، الرواية التي تحولت الى فيلم شهير بعنوان "صائد الغزلان" الذي حصد عددا من جوائز الاوسكار، واعتبر كواحد من افضل مئة فيلم في تاريخ السينما العالمية.
عبر سطور مؤلفاته الروائية العديدة، قام إريك ماريا ريمارك بعمل غاية في البساطة قلما أقدم عليه الآخرون، فقد وضع المرايا مباشرة أمام وجوه القراء، تلك المرايا المؤلمة التي لم تعكس الوجوه فحسب، بل عرّت الضمائر والنوايا، وكشفت عن بؤس إنسان القرن العشرين وسقوطه في فخ الشر، في عالم مريض مليء بالحروب والعنف ودوامة القتل التي لا نهاية لها.
في سؤال طرحته صحيفة التلغراف على عدد من الكتاب عن اهم رواية كتبت في القرن العشرين، كانت اجابة الكاتب التركي الشهير يشار كمال: " طلب منّي مؤخّرا تسمية الرواية التي فكّرت أنها أفضل ما يعكس جوهر القرن العشرين، الذي ربّما كان القرن الأكثر ايلاما للبشرية، القرن الذي شهد اهانات لا انسانية، وحروبا عالمية دامية، وجرائم ابادة جماعية. كنت قد تمنيت لو أننا تركنا وراءنا ارثه من المخاوف، والحزن، وفقدان الحسّ تجاه الموت.. ويمكن لرواية " لا جديد على الجبهة الغربية "، تلك الرواية التي سبق أن قرأتها قبل سنوات، أن تبدو كأنّها كتبت اليوم. تتطلب مثل تلك الروايات شيئا أكثر من موهبة كبيرة، لأنها كتبت في لحظة خطرة من حياة الانسان. لنتذكر انّ هتلر قد أحرق الكتاب في ساحة عامة. وقد فتشوا عن كاتبه اريش ماريا ريمارك للقضاء عليه أيضا. لكنه نجح في الهرب.
تقول هذه الرواية أنه ليس هناك أيّ أمل للمتورطين في الحرب، يصبحون مرضى بطريقة أو بأخرى. واذا نجا فرد من الحرب فانّه يتضاءل وجوده ككائن بشري.، الحرب هي حكم بالاعدام على كلّ الناس والطبيعة، فهي تفسد انسانيتنا، وضميرنا.يقف الفن الحقيقي، ضد الظلم والعنف، وضد أيّ نوع من الوحشية. انّ الفن، هو تمرّد. يحذّر لناس ضدّ الأكاذيب، والقمع، والحروب التي لا معنى لها ولا تنتهي أبدا، وجميع أشكال الشرّ..كتب ريمارك رواية " لا جديد على الجبهة الغربية " " في عام 1928، لتبقى نضرة كما هو الحال اليوم، مرسلة تحذيرها من جديد مع كلّ اعادة قراءة، في كلّ بعث، وتستمرّ في منح قرّائها القدرة على المقاومة."
إريش ماريا ريماك من رائعته الخالدة " لا جديد على الجبهة الغربية "
إريش ماريا ريمارك ليلة البحث عن الحياة
علي حسين
في إحدى قرى الجنوب الألماني، وفي صيف العام 1898 استقبلت عائلة ماريا ريمارك مولودها الرابع، وكان هذه المرة ذكراً بعد ثلاث بنات، الأمر الذي دفع الجدّ ان يعلق آمالاً على حفيده، في ان يوصل تراث هذه العائلة المُحبة للمغامرة والرحلات. كان الجدّ قد طاف العالم كلّه، ضابطاً يعمل في البحرية الالمانية، لكن الأب لم يكن يحب المغامرات فانتهى به الأمر ان يعمل مشرفاً على معمل للورق. لم تكن العائلة غنية، ولكنها كانت ميسورة الحال، قضت الأم حياتها على سرير المرض تشكو من مرض السل، وعلى امتداد فترة مرضها، كان على الابن الصغير ان لايقترب منها خشية أن تصيبه العدوى، مما دفع الاهل ان يوكلون تربية الصبي الصغير الى جدّه المغامر، وبينما كانت الأم المريضة تفكر بابنها ومستقبله، كان الجد يحاول ان يجعل من حفيده نسخة ثانية منه، فيما الأب تمنى لأبنه وظيفة مستقرة، معلم مثلا، مهنة تعني له الأمان والضمان. كان كل شيء ينبئ بأن المصير الذي أعدّته العائلة لابنها سيتحقق لا محالة، إلا ان القدر كان يخفي ما لم يتوقعه أحد، فقد اندلعت الحرب العالمية الاولى وكان على الشاب الذي لم يكمل دراسة مهنة التعليم ان يلتحق بالجيش ليُرسل الى الجبهة. هناك يعيش تجربة مريرة جدا حيث يُجرح مرتين ويتخلص من الموت بأعجوبة. وعندما تنتهي الحرب، ويعود الجنود الى أهاليهم، يعود إريك ماريا ريمارك شخصا اخر، لايشغله سوى موضوع واحد: مصير الانسان وكيف يتخلص من مأساة الحرب. إنها الفكرة الوحيدة التي تسلطت عليه، وحين يعود الى مدينته ليمارس مهنة التدريس كانت اول محاضرة له بعنوان:" كيف نعيش في مجتمع لا نسمع فيه صفارات الانذار"، الأمر الذي جعل مدير المدرسة يستدعيه ليوجه له إنذاراً شديد اللهجة بأن يترك الحديث عن الحرب، وينشغل بتدريس المادة المقررة. وبما انه لم يكن سعيدا بهذه المهنة، فقد قرر ان يعمل في محل صديق له يبيع رخام القبور وتماثيل تذكارية للحرب، مهنة رتيبة، لكنه تغلب عليها بالتفرغ للقراءة، فقضى أوقاتاً ممتعة مع دستويفسكي وجيمس جويس وشكسبير، والتهم الإلياذه حتى انه كان يحفظ منها مقاطع طويلة، وانغمس في قراءة اعمال توماس مان، وكانت عائلة بودنبروك تسحره، فكتب عنها مقالاً أرسله الى إحدى الصحف التي لم تنشره، فقرر ان يرسله بنفسه على عنوان توماس مان وكتب على المظروف: "الى أبينا في المعرفة، هذه الصفحات في تمجيد اعضاء عائلتك المقدسة اتمنى ان تطلع عليها"، ولم يصدق حين سلمه ساعي البريد بعد اسابيع مظروفاً كتب على غلافه بخط توماس مان: "الى السيد اريك ماريا ريمارك مع المودة ".
كانت رسالة مان دافعاً له لأن يقرر التفرغ للكتابة، بدأ يرسل بعض كتاباته إلى الصحف والمجلات. صار يشعر بالملل من مهنة بيع شواهد القبور، فيقرر السفر الى برلين، وهناك يجد عملاً في صحيفة "الرياضة المصورة"، كل ما مطلوب منه هو ان يكتب تقارير عن ما يجري في حلبات الملاكمة، التي وجد فيها وجهاً " قذراً " آخر من وجوه الحرب الكريهة، لكن لا مفر، عليه ان يكتب ويحرر. وقد تعلق بمهنة الصحافة لأنه كان مقتنعاً ان حياته لا معنى لها من دون الورق، ورغم ان مهنة الصحافة في المانيا التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، لم تكن تضمن له حياة مرفهة مثلما كان يتمنى، لكنه هنا في برلين ذاق طعماً مختلفا للحياة. كتب روايته الاولى :" لا جديد على الجبهة الغربية، " العنوان كما جاء في ترجمة ليندا حسين عن الالمانية أو "كل شيء هادئ في الميدان الغربي " – العنوان كما جاء في الترجمة العربية التي قامت بها دار الهلال بترجمة محمود مسعود - حاول ان يبعث بمخطوطتها الى احدى دور النشر، لكن مصاريف البريد كانت عائقاً أمام طموحاته.
"، ويقول إريك ماريا ريمارك في حديثه عن الرواية، ان المشاهد المفزعة لم يكن من الخيال بل هي حقيقة .
لم يوافق أحد من الناشرين الالمان على طبع الرواية التي ارسلها الى معلمه توماس مان ليرسل اليه الاخير خطابا يطالبه بإعادة كتابتها لأنها في صيغتها الحالية عبارة عن ضباب من الكلمات. ولان ريمارك يدرك انه يسير ضد التيار السائد للرواية الالمانية آنذاك، لم يبالِ كثيراً لكلمات توماس مان رغم تقديره الشديد له، فقد كان يدرك في قرارة نفسه انه مصمم على ان تكون روايته الجديدة مثل حجر ضخم يلقى في بحيرة الأدب الراكدة.
لم يجد أمامه سوى المجلة التي يعمل فيها "الرياضة المصورة" فربما يقتنع رئيس التحرير بطبع الرواية، لأن دار النشر تطبع الكتب أيضاً. ولكن من يغامر بشراء رواية لكاتب مبتدئ في زمن يعاني فيه الناس من أزمة مالية صعبة، يسأله رئيس التحرير عن موضوع الرواية فيجيب:
- الحرب
- انصحك بأن تمزقها، من يريد اليوم قراءة رواية حربية، يقول له رئيس التحرير.
يكتب لوالده:"الظاهر ان مغامرتي الاولى في الأدب لن ترى النور"، الصدفة تلعب دوراً كبيراً في مستقبله، كان قد ارسل نسخة من الرواية الى دار نشر في بون، وقد وصلت النسخة الى يد احد الفاحصين في الدار، الذي جلس ذات يوم ليقلب ملفاته فعثر على المسودات فقرر أن يقضي معها بعض الوقت، وبعد صفحات قليلة، يكتشف ان بين هذه الاوراق رواية عجيبة ومؤثرة، يضطر الى ان يعرض الأمر على مسؤولي الدار:
- لقد وجدت هذه الرواية مؤثرة بشكل غير طبيعي..انصح بطباعة عشرة آلاف نسخة منها، قال الفاحص فورتيس.
التردد يصيب الجميع.. إلا فورتيس الذي يكمل : إذا وجدتم في الأمر مجازفة، فالخسارة سأتحملها أنا.
وبعد مناقشة دامت أياماً، وافقوا على طبع الرواية، لكنهم اقترحوا ان تنشر في البداية على شكل سلسلة حلقات في جريدة " فويس " التي تصدر عن دار النشر، المسؤولين على الصحيفة يعترضون، فالرواية في نظرهم غير مشوّقة، والناس تكره الحديث عن الحرب، والأهم ان الصحيفة لاتنشر الا لكبار الكتاب من امثال توماس مان وهاوبتمان وبعض قصص هيرمان هيسة، لكن رأي الخبير انتصر في النهاية وظهرت الحلقة الاولى من الرواية في العاشر من تشرين الثاني عام 1928، ولم يصدق اصحاب الصحيفة ردود أفعال القراء غير المتوقعة، الجميع لاحديث له سوى حكايات الميدان الغربي، وما ان صدرت الحلقة الثانية حتى تجاوز طبع الصحيفة المئة الف نسخة.
اصحاب دار النشر يعقدون اجتماعاً طارئاً ليتخذوا قراراً بوقف نشر الحلقات، وطبع الرواية كاملة وبمئة الف نسخة، لكن هذا الرقم يخيّب تقديرات الناشرين فقد نفد خلال ساعات، الكتاب يباع بسرعة مذهلة، وتضطر دار النشر ان تستعين بمطابع اخرى، في بداية عام 1929 تتجاوز المبيعات المليون نسخة، بعد عام تباع خمسة ملايين، لكن الناشر والكاتب يواجهان مشكلة جديدة، فقد تعرضا لموجة شديدة من الكراهية، ريمارك يُتهم بمعاداة المانيا، وتنشر بعض الصحف مقالاً بقلم غوبلز- وزير دعاية هتلر فيما بعد - يصف الكتاب بالقذارة. وان مؤلفة غير الألماني الذي ينتحل اسماً غير معروف، بل ويشكك كاتب المقال بمشاركته ريمارك في الحرب. الهجمات التي تشنها الصحف الرجعية، تتحول إلى افضل دعاية للكتاب الذي تتجاوز مبيعاتة العشرة ملايين نسخة ويترجم الى معظم لغات العالم. الكتاب يباع بنجاح كبير، ويضطر الناشر أن يستعين مطابع أخرى لتساعده في الطبع. في عام 1930 تباع منه في ترجماته العديدة اكثر من 30 مليون نسخة، ويقرر القائمون على طريقة بريل في القراءة طبع اول رواية لفاقدي البصر.
شكلت الرواية صدمة للقراء ومفاجأة لنقّاد الادب، إلى درجة أن أعمال ريمارك اللاحقة ستقاس عليها وستقارن باستمرار بها، بل أن اريك ماريا ريمارك سيكشف في حوار صحفي عام عن حقيقة قلّما انتبه إليها مؤرخو الأدب، حقيقة أن رواية " لا جديد على الجبهة الغربية " " كانت في صميمها وبصرف النظر عن هواجس الخوف التي ترافق الانسان وهو يواجه الموت، رواية وجودية بامتياز، خصوصاً أنها كتبت في وقت كان الذل والهزيمة اللذان تليا استسلام ألمانيا خلال تلك الحرب العالمية الاولى قد تحولا إلى نزعة عسكرية ألمانية خطيرة وشديدة الشعبية في الوقت نفسه، وهذا ما يحدث عادة مع الشعوب التي تهزم ويتلو هزيمتها جرح عميق لكرامتها فتتحوّل إلى شعوب تنتظر اللحظة المناسبة للسير في دروب العنف ولتثأر لا لكرامتها، بمقدار ما تثأر من وجودها كأمة مهزومة، ويضيف ريمارك:"لقد كتبت رواية عن الحرب، من الذي يشعلها؟ ومن الذي يستفيد منها؟"
ريمارك يصبح مشهوراً وغنياً لكنه غير سعيد، رسائل مجهولة تصله باستمرار تهدده بالموت، الحزب النازي يواصل صعوده بقوة، ريمارك مقتنع تماماً بأن هتلر سوف يتسلّم مقاليد السلطة الآن او بعد سنوات، وستكون المانيا مهدّدة، يقرر السفر الى سويسرا، ليصبح اول اديب منفيّ. يصحو ذات يوم من عام 1933 على نشرات الاخبار تعلن تعيين أدولف هتلر بمنصب مستشار المانيا، وها هو عدوّه القديم غوبلز يؤدي اليمين وزيراً للدعاية. لايزال ريمارك يتذكر مقال غوبلز عنه، وطافت في ذهنه صور وزير دعاية هتلر عام 1930، وهو يقود مع رفاقه في برلين الهجوم بالقنابل على دار السينما التي عرضت الفيلم المقتبس من رواية "كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، الامر الذي دفع بالرقابة الى منع عرض الفيلم، كان هذا اول انتصار لغوبلز، والأن جاء الانتصار الثاني، فقد صدر قرار بمنع الرواية، وحرق جميع النسخ الموجودة منها، ولم ينته الامر عند هذا الحد، فلابد من قرار جديد بسحب الجنسية من الكاتب الذي باع وطنه للأجانب، هكذا صدر الامر بإمضاء أدولف هتلر.
إريك ماريا ريمارك الذي ولد عام 1898 في ألمانيا، عاش حتى عام حتى عام 1970، حيث أنهى حياته في سويسرا، تزوج من النجمة الهوليوودية السابقة بولين غودارد بطلة فيلم شارلي شابلن الشهير "الأزمنة الحديثة، ظل يكتب حتى فترة متأخرة من حياته. ومن أبرز رواياته الى جانب "كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، "للحب وقت وللموت وقت" يؤرخ فيها الهتلرية، و "ليلة لشبونة" وهي تروي رحلىة الكاتب في دروب المنفى، لكنه لايستطيع الهروب من ذكرياته التي تحاصره بكل ماضيه و ما فيه من ألم ممزوج بلحظات سعادة. ورواية "الرفاق الثلاثة" التي تسجل حياة شباب خرجوا من الحرب ليعيشوا حياة جديدة، لكن أثار الحرب تلاحقهم، الرواية التي تحولت الى فيلم شهير بعنوان "صائد الغزلان" الذي حصد عددا من جوائز الاوسكار، واعتبر كواحد من افضل مئة فيلم في تاريخ السينما العالمية.
عبر سطور مؤلفاته الروائية العديدة، قام إريك ماريا ريمارك بعمل غاية في البساطة قلما أقدم عليه الآخرون، فقد وضع المرايا مباشرة أمام وجوه القراء، تلك المرايا المؤلمة التي لم تعكس الوجوه فحسب، بل عرّت الضمائر والنوايا، وكشفت عن بؤس إنسان القرن العشرين وسقوطه في فخ الشر، في عالم مريض مليء بالحروب والعنف ودوامة القتل التي لا نهاية لها.
في سؤال طرحته صحيفة التلغراف على عدد من الكتاب عن اهم رواية كتبت في القرن العشرين، كانت اجابة الكاتب التركي الشهير يشار كمال: " طلب منّي مؤخّرا تسمية الرواية التي فكّرت أنها أفضل ما يعكس جوهر القرن العشرين، الذي ربّما كان القرن الأكثر ايلاما للبشرية، القرن الذي شهد اهانات لا انسانية، وحروبا عالمية دامية، وجرائم ابادة جماعية. كنت قد تمنيت لو أننا تركنا وراءنا ارثه من المخاوف، والحزن، وفقدان الحسّ تجاه الموت.. ويمكن لرواية " لا جديد على الجبهة الغربية "، تلك الرواية التي سبق أن قرأتها قبل سنوات، أن تبدو كأنّها كتبت اليوم. تتطلب مثل تلك الروايات شيئا أكثر من موهبة كبيرة، لأنها كتبت في لحظة خطرة من حياة الانسان. لنتذكر انّ هتلر قد أحرق الكتاب في ساحة عامة. وقد فتشوا عن كاتبه اريش ماريا ريمارك للقضاء عليه أيضا. لكنه نجح في الهرب.
تقول هذه الرواية أنه ليس هناك أيّ أمل للمتورطين في الحرب، يصبحون مرضى بطريقة أو بأخرى. واذا نجا فرد من الحرب فانّه يتضاءل وجوده ككائن بشري.، الحرب هي حكم بالاعدام على كلّ الناس والطبيعة، فهي تفسد انسانيتنا، وضميرنا.يقف الفن الحقيقي، ضد الظلم والعنف، وضد أيّ نوع من الوحشية. انّ الفن، هو تمرّد. يحذّر لناس ضدّ الأكاذيب، والقمع، والحروب التي لا معنى لها ولا تنتهي أبدا، وجميع أشكال الشرّ..كتب ريمارك رواية " لا جديد على الجبهة الغربية " " في عام 1928، لتبقى نضرة كما هو الحال اليوم، مرسلة تحذيرها من جديد مع كلّ اعادة قراءة، في كلّ بعث، وتستمرّ في منح قرّائها القدرة على المقاومة."