تتعدد بوابات الدخول إلى العمل الأدبي، فكلُّ ناقدٍ يرى العمل الفني من وجهة نظر خاصة، ولا يكون الدخول إلى النص أو الديوان الشعري دخولا عشوائيا، فالناقد يلتقط أو يبحث عن نقطة يرتئيها مركزا نصيا للعمل الإبداعي، ومن هنا تتعدد الرؤى النقدية حول العمل المنقود، وثمة التقاءات تشذب أظافر تلك الرؤى، وتجمعها في كيان واحد، فمهما اختلفت الرؤى، وتعددت بوابات الدخول إلى النص، وتباينت زواياه، فأعتقد من وجهة نظر خاصة جدا، أن ثمة خيطا يلضم كل هذه الرؤى ويعقدها منتظمةً في قلادة واحدة.
فالنص بين ناقد يبحث عن تيمات الجمال الإبداعي، وناقد يبحث عن شعرية الصورة وبلاغة التركيب، وآخر يعالج النص معالجة موضوعاتية، وناقد يفتش في دهاليز النص عن الذات المبدعة وتمثلاتها اللغوية، والفاعل الحقيقي في النص من حيث إنتاجيته، هو الذات المبدعة، فلو دخلنا إلى العمل الأدبي من خلال الموضوع/ التجربة، ستتقذف بنا قطعا هذه المعالجة إلى الذات الفاعلة في النص، وإن عبرنا إلى النصِّ من بوابة الصورة والتركيب -قطعا- يتم استحضار الموضوع كبؤرة مركزية للنص، ومن ثم يتم استدعاء الذات، وإن دخلنا إلى الذات وهي متكشفة أمامنا، سنبحث حتما عن تيمة الإبداع الشعري، وكيف ارتقت هذه الذات باللغة، ومن هنا نستطيع القول: أن النص مهما تعددت وتباينت حوله الرؤى النقدية، فهي منتظمة جميهعا، ومنصهرة في بوتقة واحدة.
وبوابة الدخول إلى "المدائن الحمراء" وأظنها أوسع بوابة من خلالها ألج إلى هذا العمل الرائق "بوابة العشق والهوى" التي تسلمنا إلى بوابة أوسع أكثر رحابةٍ وتجلٍ في هذا العمل الفني " وهي بوابة الحب" فهل ثمة تمايز بين الحب والعشق: فقد ذكر في كتاب "جواهر التصوف" : أن الحب لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء" فالحب القلبي، جوهره ثابت لا يتغير، أما العشق أو هوى النفس الذي أججته نار الشهوة يزيد وينقص وفق عطاء المحبوب، فالشاعر المبدع "عمرو لطيف" متوزع ومشتت بين هذين "الحب – العشق"، ولكن تسعا وعشرين قصيدة تدور في فلك الحب الإلهي، وإحدى عشرة قصيدة تدور في رحى العشق والهوى، ولكن الشاعر يطمح طموحا بالغا إلى حب السماء والتوق إليها، متلعقا بأهداب الحضرة، متعطرا بعطر آل النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن أمام منظومتين اثنتين : منظمومة الحب وتتجلى في عدد كبير من القصائد متفاوتة الطول، ومن أهمها قصيدة "كوني بقربي- البسملة- تراتيل الفراغ- ذاكرة الماء- الحقيقة الأولى- حضرة الإلهام- تجلي- على الأعتاب". ومنظومة العشق والتي تتوزع على ثلاثة أنماط:
الأول: وهو المتشظي من حيث كثافته العددية وطول قصائده، ذلك النمط الإبداعي الذي تتحدث فيه الأنثى عن لواعج الشوق والأسى على لسان الشاعر، ومن هذه القصائد "المدائن الحمراء- مُنى- ضفائر الخذلان- لا عزاء لمن هلك- خبايا- هوس- والله يحكم مايريد- نقطة السطر الأخير- أنثى على شفير الشوق"
الثاني : حديثه الذاتي عن الهوى والعشق، وتمثله قصيدة واحدة وهي: "ثقوب الروح"
الثالث: تعشقه في المكان المنتمي بقوة إلى الحضارة الإنسانية نظرا لمركزيته في التاريخ الإنساني وتمثله قصيدة واحدة وهي: "قسنطينة"
ولو أعدنا النظر، بعد التدقيق في المنظومتين، يتبين لنا، أن المنظومة الثانية والتي تشكلها ثلاثة أنماط عشقية، ينسحب منها نمطها الأول وهو حديث الأنثى على لسان الشاعر، هذا النمط الذي تمثله تسع قصائد طوال، تناجي فيها الأنثى الشاعر، وهو عبر آلية الإبداع الفريدة التي يمتلكها الشاعر الطبيب "عمرو لطيف" يعبر عن مكنونات الأنثى وما تعانيه تحت سقف التعشق، فالشاعر في هذه القصائد التسع يتجلى إبداعا، تنمحي معه الذات المريدة، فنجد أن الأنثى حاضرة بكليتها عبر التمثيل الشعري، مع اختفاء تام للذات المبدعة، إذ لا تبدي تلك الذات أي ميول إلى الأنثى الحاضرة، وكأنها تخاطب الذكريات، أو تخاطب نفسها، فالشاعر في تلك القصائد لا يبدي أي رغبة منه في الحديث مع الأنثى، بل يتركها "عمرو لطيف" حبيسة النجوى، حيث لا حوار بين الذاتين، وكل ما قامت به الذات المبدعة، هو نقل لواعج شوق الأنثى، دون أن تسطيع تلك الأنثى أن تدخله في جدلية الحوار. ومن هنا تبقى الصدارة للمنظومة الأولى والتي عنونتها بمنظومة الحب، فتصبح المعادلة الرياضية العددية بين تسع وعشرين قصيدة تمثلها منظومة الحب، مقابل قصيدتين اثنتين تمثلها المنظمومة الثانية "العشق والهوى" بعد انسحاب تسع قصائد من المنظومة الثانية، لطغيان حضور الأنثى، وغياب الذات المبدعة، حيث لا حضور لها إلا من حيث التمثيل الشعري لمضامين الأنثى العاشقة، والتي يتأبى عليها "عمرو لطيف". ولكن حضور الذات المبدعة حضورا فعليا، يتجلى في قصيدة "تقوب الروح" والتي يقول فيها الشاعر "عمرو لطيف"
الحب يمارس سلطته
يأمرني
أن أمحو إسمي
أن أهرب من سجن الجسم
أن أشطب شغب مراهقتي
أن أثبت صدق علاقتنا،
بملامح شعري وبرسمي.
هذه القصيدة المعنونة بــ "ثقوب الروح" ومنذ بداية العنوان، تتكشف الذات منذ اختيارها للعنوان، فكلمة "ثقوب" جمع يدل بلفظه ومعناه على أن الروح تنفتح ثقوبا لينسرب المحبوب إلى الروح أو الذات عبر تلك الثقوب، بداية التماهي، حيث يمتزج العاشقان، ويصلان إلى مرحلة من التوحد، بانتفاء الذات العاشقة في معشوقها، يقول عمرو لطيف " يأمرني أن أمحوَ اسمي" محو الذات دلالة على حضور المعجم الصوفي حتى وهو يناجي محبوته الأرضية، ولم يكن هذا وحسب، لأن الحضور الصوفي في هذا النص طاغٍ جدا، فالذات بعد المحو، تريد الفرار من سجن الجسم (الشهوة)، وكما يقول السادة الصوفية " لا إثبات إلا بمحو" فالذات تتحقق من جودها في ساحة العشق، بعد محوها وفنائها في المعشوق الذي انسرب إليها عبر ثقوب الروح، تتعالى الذات العاشقة على طينية الجسد الشهواني، وتفر منه هاربة عبر مسارات الحب الروحي.
دخول المعجم الصوفي ، يؤكد لنا مركزية التصوف في هذا الديوان، فالشاعر وهو يتماهى مع الذات المتعشق فيها، يستحوذ عليه التصوف بمصطلحاته، وإشاراته، وكأن الشاعر يحاول مثلنا العبور من بوابة العشق النفسي، إلى البوابة الأقدس، بوابة الحب الروحي، فالقصيدة الوحيدة التي يتحدث فيها الشاعر بحضور ذاتوي التجربة، عن العشق الأرضي، تتنازعه روح التصوف، الذي تشرب النص معانيه ولطائفه، تلك الروح الصوفية المشرب التي ظلت متعلقة بثوب معجم الجلال الصوفي من بداية النص حتى نهايته. يقول "عمرو لطيف"
أتسمح بخطوط الكفِّ وبالأشواقْ
يجذبني
من طرف ذراعي
يأخذني غصبا،
برضائي،
كي أبقى مشبوكا فيكِ،
فتغيب ملامح شفتينا،
في بوح عناق،
حبك
في جنبي مشتعل،
يفتح لي في الروح ثقوبا،
يحتل مداخل أنفاسي،
يتسلل من دون رقيب،
ويدور على أرض الشغفِ.
يحتل المعجم هذه المعزوفة السابقة بشكل طاغ، فالمفردات " أتمسَّح، يجذبني، تغيب، بوح، الروح، أنفاسي، يدور، الشغف" تدل على انسحاق تجربة العشق الأرضي، تحت سلطة المعجم الصوفي الروحي، وهذا يدل كما ذكرت ـ-آنفا- على مركزية التصوف في ديوان "المدائن الحمراء" للشاعر "عمرو لطيف"، فإذا كانت قصيدة "ثقوب الروح" تقف بإحدى قدميها في أرض العشق، فهي تضع قدما أخرى ثابتة في بستان التصوف.
تتهاوى منظومة العشق من حيث الكثافة العددية أمام منظومة "الحب"، فلم يتبق أمامنا في منظومة العشق غير قصيدة واحدة، وهي قصيدة "قسنطينة" تلك المدينة القابعة في أغوار الجزائر، حيث تعتبر "قسنطينة" أكبر مدنها بعد الجزائر العاصمة، ووهران، ولكن استدعاء المكان المجسد في مدينة "قسنطينة" يحملنا إلى أمر مهم للغاية، أن "قسنطينة" مدينة من المدائن الحمراء التي تصدرت عنوان الديوان، وكأن كل مجموعة أو منظومة من القصائد داخل الديوان، تمثل مدينة يرتئيها الشاعر، فالجسد مدينة العشق، والروح مدينة الحب، وقسنطينة مدينة الجمال. والشاعر يتخذ من المدينتين" الجسد- والجمال" معبرا للجمهورية الكبرى أو العاصمة الأم "مدينة الروح". وهنا تتجلى المنظومة الأولى -والتي أستطيع أن أسميها بــ " منظومة الحب الإلهي"- في كامل أبهة عزها، حيث تلاشت المنظومة الأخرى -وأعني بها "العشق" أمام جلال المنظومة الأم والأيقونة النصية، وهذا يأخذنا إلى عنوان الدراسة الأساسي والموسوم بـ ""الإبداعُ والتَّجْرِبَةُ الصُّوفِيَّةُ" قِرَاءَةٌ نَقْدِيَّةٌ في قَصِيدَةِ "كُونِي بِقُربِي" للشاعرِ الدكتور/ عمرو لطيف. إذ عتبرت هذه القصيدة هي المدينة الروحية الكبرى، التي تنبثق منها جميع المدن في جمهورية الحب الإلهي.
إنَّ التجربةَ الصوفيةَ وتشكُّلها الإبدَاعِيُّ يضعُنَا في مأزقٍ حقيقيٍّ، فالإبداعُ بصورةٍ عامةٍ ينبوعٌ تفجِّره التجربةُ، ولكل تجربةٍ خصوصيةٌ، ولكل ذاتٍ وعيُهَا الذي ينبني عليه النصُّ الإبداعيُّ، ودخولُ القارئِ إلى عمقِ التجربةِ من خلالِ النصِّ مرتهنٌ بأيديولوجيا الواقع الذي تتقاسمه الذات المبدعةُ مع ذات المتلقي، فالقارئُ بوصفه ذاتًا فاعلةً في إنتاجِ النصِّ إبداعًا وتأويلًا؛ إذ يتمُّ استدعاء القارئِ الضمني حال إنتاج النصِّ من قِبَلِ المؤلفِ ليكونَ شريكًا له في تلك العمليةِ الإبداعيةِ، فالذات التي تخطُّ نفسَها ووعيَها، تخاطبُ ذواتًا أخرى، ولذا يستدعي المبدعُ القارئَ الضمنيَّ مُمَثِّلاً عامًا عن هذه الذواتِ؛ ولعل السببَ في ذلكَ يرجعُ إلى المبدعِ نفسِه، والذي يريد أن يضعَ القارئَ في صُلْبِ التجربةِ، ولذا يستخدمُ المبدعُ اللغةَ برمزيتِهَا والتي يستطيعُ القارئُ أنْ يفكَّ شفرتها من خلال المرجعيات الثقافيةِ والفكريةِ التي يتقاسمها مع الذوات الأخرى.
ولكنَّ التجربةَ الصوفيةَ ذاتَ خصوصيةٍ ومرجعية فكريةٍ خاصةٍ، لا يتعرَّفُ عليها إلّا مَنْ خاضَ تلكَ التجربةَ، وهنا تكمنُ الإشكاليةُ الكبرى في تأويلِ هذه النصوصِ التي تنتمي إلى الحقلِ الصوفيِّ. فالتصوفُ مبنيٌّ على الذوقِ واستشعار الحالِ التي تنتاب "المريد" ولا يعاني هذه الحالَ غيرُه، فهو وحده الذي يمتلكُ القدرةَ على التعبير عنها، وعن طريق الإشارةِ يكونُ التعبير؛ فالسادة الصوفيةُ اعتمدوا الرمزَ في جميع خطاباتِهم؛ نظراً لخصوصية التجربةِ وانبنائِها على الذوق الذي ينبثق عنه العرفان الصوفي، ومن هنا يجب النظرُ إلى "الدَّال" في النصِّ الصوفيِّ من بابِ التوسيع، إذ المفردة تحتمل دلالاتٍ ومعانيَ متعددةً، ولذا تتعدد تأويلاتُ النص أو المفردةِ الصوفيةِ.
اللغةُ الصوفيةُ لغةٌ متعاليةٌ تقتضي الحذرَ حالَ الولوجِ إليها، إذ تعدُّ اللغةُ الصوفيةُ بُعْدَاً ثالثًا للغة، يضعك هذا البُعدُ في عالمٍ خاصٍ متحررٍ من رِبْقَةِ المكان والزمان، عالم ميتافيزيقي له قانونه الخاص، يحتجبُ هذا العالمُ خلفَ برزخ تلك اللغة المتعالية التي يقول عنها "ياسبرز" في تحليله لها "أنها في نهاية الأمر تنتهي إلى تصورٍ خاص بتجلي المطلق في مظاهر متنوعة يكشف عنها الوعي الإنساني في إحالاته الخصبَةِ" فخصوصية التجربة الصوفية استدعت وبالضرورة- لغة متعاليةً لا تسلِّم نفسها للمتلقي إلا بمزيدٍ من الجهدِ والتأويل، وفي النهاية يكون تصورُ المتلقي للنص الصوفي تصوراً خاصا، وهذا ما نراه جليّاً في نص "كوني بقربي" للشاعر المبدع الصوفي "عمرو لطيف"، إذ يبتدرُ قصيدته بعنوان ذي طبيعة طوبوغرافية، فقد احتل العنوان "كوني بقربي" أعلى الصفحةِ متمركزًا في يمينِهَا، وإن كانت تلك الصفة العنوانية التي اتخذت من يمين الصفحةِ مركزاً لها سمةً عامةً في ديوانه الموسوم بـ " المدائن الحمراء"، إذ اعتبرنا الديوان كيانًا واحدا، ليكون العنوان بهذا الشكل وهذا الطابع الطوبوغرافي دلالةً على توجه الذات المبدعة بكليتها إلى اليمين، الذي يحلينا وبالضرورة -إلى تحديد اتجاه الذات الصوفية، والتي تعتقد الخير في الميامن كثيمة دينية واعتقاد روحي. فالطابع الطوبوغرافي للعنوان يحمل إشارة خفيَّةً تدل على الاختيار الذاتي "للمريد" بتحديد الوُجْهَةِ أولًا.
يستنزلُ المبدع العنوان بهيئتِه التركيبية مرة أخرى في بداية النصِّ تأكيدا للمعنى المراد من الصيغةِ الأمريَّةِ "كوني"، تلك الصيغة التي تدل على الاستعطافِ المُتَشَرِّبِ معناه من "قربي" تلك المفردةُ التي تؤكدُ أن صيغةَ الأمر هنا ليست من بابِ الاستعلاءِ ولكنها استعطافٌ للمخاطب بصيغة الأمر "كوني". الذات المخاطبة بفعل الأمر هنا أُنثَى، ذلك الرمز الصوفي المتشظِّي بوفرةٍ في الخطاب الصوفي ولغته العليا، فالمخاطب/ الأنثى هنا يتجلى رمزاً يحتمل تأويلاتٍ متباينةً، كلٌّ يؤوله وفق مرجعيته الفكرية وذوقه الخاص، وقد اتخذ المتصوفة من المرأة قناعًا لهم في مخاطبتهم المحبوب، فهي كما قال "ابن عربي" : " أعظم مظهرٍ من مظاهر تجليات الرحمة الإلهية في عالم الشهود"، فالمرأة رمز كوني يصل قصة بداية الخلقِ بالحاضر، فقد رامَ القربَ منها سيدنا "آدم" -عليه السلام- لما وجدها بجانبه، تلك القصة التي وردت في الكتب السماوية كلها، ولهذا فالمرأة مرجع ورمز كوني يختلج الأديانَ السماويةَ قاطبةً، فالمرأة كمفردة تحمل تاريخيةً دلاليةً وتداوليةً تؤهلها أنْ تستخدمَ رمزاً وقناعًا يحمل في طياتِه تأويلاتٍ شتّى؛ ولكنها تتبلور في كل التأويلات المتباينة وتدور حول فكرة ومرجعية واحدة وهي الرحمة المطلقة.
تسلتزم الصيغةُ الأمريةُ "جوابًا" لها، يبتدره المؤلفُ بــ "كي" التعليليةِ الناصبةِ فيقول:
"كُونِي بِقُرْبِي،
كَيْ نُقيمَ من الزَّنَابِقِ مَعبَدَا،
ومِنَ الخطايا ألفَ توبةِ مُذْنِبٍ،
كَمْ بَاتَ يَجْلِدُ نَفْسَه،
بِتَنَدُّمٍ وعَلَى شَفِيرِ الذّات.
جوابُ الأمرِ "كي نقيمَ من الزنابقِ معبدا" تركيب لغوي يحتوي صورة مدهشةً وهي إقامة المعبد من الزَّنابق، صورةٌ خلّابةٌ وتركيب لغوي بسيطٌ ولكنه مع بساطته هذه احتوى على مشهد تصويري مدهشٍ يستفزُّ القارئَ ويجبره على الولوج داخل هذا العمل الأدبي، الذي يصدر لنا مشهداً تصويريًا ينمُّ عن إبداع متفرد، فالمعبد المشيد من الزنابق، يقابله بناءُ التوبةِ الذي قامَ على أنقاض الخطايا، وعذابات الذات التي تجنح إلى الخلاص عن طريق التجربة الصوفية.
تعليل آخر يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بفعل الأمر "كوني" يستهل به الشاعر/ عمرو لطيف المقطع الثاني من القصيدة، يحمل في مشهدية تصويره مرحلةَ تَرَقٍّ أخرى تاليةً للمرحلة الأولى: "كي نقيم من الزنابق معبدا"، فيقول:
" كَيْ ما أُعَطِّرُ رَوْضَةَ الأشْوَاقِ،
مِنْ مِسْكِ النَّبِيِّ،
بِحَضْرَةِ العُشَّاقِ،
مِنْ دَمْعِ البَنَاتِ."
حالةٌ من الوجدِ تنتاب الشاعرَ وكأنه يحضرُ بكليَّتِه في عالم الحضرةِ، يتواجد فيها وينثني، أمام "الرَّوضةِ" حيثُ يمثلُ العشاقُ، ولكنَّ الشاعر "المريدَ" يتسامى بتجربته الصوفية على جمع العشّاقِ هنا، ويلتقطُ "دمعَ البنات" الذي يحولُ مسكًا نبويَّاً يعطِّرُ به الشاعرُ جمع العشاقِ، وثمة إحالة أخرى إلى الأنثى في قول الشاعر "البنات" اللائى يستخلصُ الشاعر من دموعهنَّ مسكاً نبويّاً، فالشاعر "المريد" وحده هو الذي يمتلك القدرة على استخلاص المسكِ من "دمع البنات"، تلك المفردة التي تبرز رمزية الأنثى في القصيدة، والتي ما زالت تحتجب خلف خمار جلالها.
مشهد تصويريٌّ ثالث يفصِّلُ الشاعرُ فيه تلك الطقوسَ والحركاتِ التي يؤديها مع جمعِ العشاقِ في الحضرة، وكأنه يرسم لنا مشهدا حقيقيا من داخل عالم الحضرة المقدسة، إذ يهيم القلب، فينثني الجسمُ مُتَّجِهَاً ناحية الأرض، وكأنّ المريدَ يرمز بتلك الحركة الراقصةِ إلى فكرة العودة إلى الأصل التراب/ العدم/ الفناء، فالشاعر يحدثنا من مقام الفناءِ الذي تتلاشى فيه اللغة وتنزوي الحروف، ففي هذا المقام لا وجود لأحدٍ إلا "الذات المقدسة" ولذا يلجأ الشاعر "المريد" إلى رمزية الرقص عبر الكلمات واصفا لنا هذا المشهدَ المقدس، عن طريق حركات الرقص التي يؤديها حيث تنمحي العبارة، وتتجلى الإشارة، فيقول:
"قلبِي يَهِيمُ عَلَى الهُيَامِ ويَنْثَنِي،
ويَعُودُ يَقْوَى رافِعَاً كَفَّ المَوَدَّةِ،
فِي انْعِتَاقِ البَوْحِ مِنْ نَوحِ الحَيَارَى،
مِنْ وُضُوءِ الصَّابِرَات."
ولعلَّ هذا المشهدَ يحتملُ معنىً آخر، وهو: أن "المريد" عندما يسقط في ترابيَّتِه الشهوانيةِ، تلتقطه يدُ السماء فيعود رافعاً " كفَّ المودةِ" التودد إلى المحبوب الذي انتشله عن طريق الحب من جُبِّ الخطيئة إلى الحضرة الملائكيةِ، يقول "ابن عربي" أن الشيطان يدخل للإنسان إما من الأمامِ أو الخلف، أو عن اليمين أو اليسارِ، ولا يستطيع الدخول عليه من الجهة التحتيَّةِ أو الفوقيةِ؛ لأن الإنسانَ مَحْمِيٌّ من الــ "تحت" بذلِّ العبوديةِ ومن الــ "فوق" بــعزِّ الرُّبوبيةِ، وتلك المعاني الصوفية اللطيفة تخرج عن سيطرة اللغة، وبإبداعية متفردة اسطاعَ المريدُ الشاعرُ/ عمرو لطيف أن يمثلَ لنا تلك المعاني بأسلوبيَّتِه التي جعلت مفرداتِ النص شخوصًا تميل وتنثني داخل حضرة القصيدة عبر تقنية التصوير المشهدي. حالة انعتاق وتماهٍ وبوحٍ تنتاب المريد وهو ينزع من جسدانيته إلى عوالم الخلاص، وهي رحلةٌ طويلةٌ على المريد ولذا يكثر فيها من البوح والنوح، ولكن بوح الذات المبدعة الصوفية هنا بوح مغاير، يختلف عن أي نوح وبوح آخرين، فانعتاق الشاعر يتخلله بوح ونوح "من وضوء الصابرات" وهذه إحالة ثالثة إلى الأنثى التي تصل المشاهد الثلاثة كلها وتردها إلى الفعل الأمري "كوني" لتجعل من المشاهد الثلاثة مشهدا واحدا تعود فيها الإحالات جميعها إلى المرأة/ الرمز التي نحاول التنقيب في النص للكشف عن ماهيتها.
في المشهد الرابع المقتضب والمختزل في ثلاثة جمل مكثَّفَةٍ يبتدرها الشاعر بــ "واو" الاستئنافِ لتنقلنا إلى ثلاثة مشاهدٍ أخرى، ربما تتجلى فيها المرأة/ الرمز على حقيقتها؛ لنعرف ماهيَّةَ تلك الأنثى التي يناجيها "عمرو لطيف" ويستهل بها القصيدة عنوانا، وجملة استفتاحية أولى فيقول:
" والرِّيحُ تَعْصِفُ دَاخِلِي،
وتَمُوجُ فِي شَطِّ الْتِفَاتِي،
فِي دُخَانِ التُّرَّهَات.
أَوْغَلْتُ فِي صُلْبِ الْمَدَائِنِ خَلْسَةً،
فَتَنَاثَرَتْ آهاتُ شِعْرِيَ رَغبَةً،
مَا بَيْنَ دِجْلَةَ خَاطِرِي،
وَنَحِيبِ أوجاعِ الفُرَات.
لَنْ يَنْتَهِي ذَاكَ الزَّفِيرُ الْمُشْتَهَى،
ذَاكَ الضَّجِيجُ الْمُسْتَعِر،
فِي لَفْحَةِ الحِضْنِ المُؤَجِّجِ خَلْفَه،
ذِكْرَى الْخُروجِ عَلَى اللُغَات."
المريدُ الشاعرُ/ عمرو لطيف يعاني الريح العاصفة و "دخان الترهات" وحالة من التشتت تنمُّ عنها مفردة "الْتِفَاتِي" ربما يتحدثُ هنا عن مقام "التِّيه" حيث تتجاذب المريض الهواجس؛ لتخرجه من ملكوتية الحضرة، فالريح هي النفس التي تؤججها نار الترهات/ الشهوة، التي تحاول إقصاءه بعيدا، والشاعر هنا باحترافية فريدة بالفعل- جمع العناصر الأربعة التي تنتمي إليها الذوات البشرية..( الماء- الهواء- النار- التراب)، فالريح للهواء، والموج للماء، والدخان للنار، والشط للتراب، مشهد عجائبي يسخِّرُ الشاعرُ فيه قدرته الإبداعيةَ لتصور لنا عبر هذه الجمل الثلاث الطبائع الأربع التي تنتمي إليها الذات البشرية، إذ لكل طبيعة من هذه الطبائع طريقة للخلاص، فباختلاف الطبائع تتمايز المشارب، إذ لكل روح مشربها.
مفردة "المدائن" التي تصدرت المشهد الخامسَ تستدخل الديوان بالكلية في هذه القصيدة، إذ تعتبر قصيدة "كوني بقربي" هي ترجمان هذا الديوان ومركزيته الأولى، بل وشفرته الحقيقية التي تفك طلاسم الديوان الملغزة على اتساع مدائنه/ قصائده، فالمدائن الحمراء هي القصائد، والأنثى التي يناجيها الشاعر طوال النص هي القصيدة، فالذات الشاعرة التي ابتدرت القصيدة بـ "كوني بقربي" وحاولت أن تخفي ماهية الأنثى طوال النص لقداستها وفرادتها وسريتها التي لا يريد "عمرو لطيف" أن يبوح بها، فهو يفضل النوح على البوح كي لا يفتضح سر أنثاه المقدسة، ولكن الأنثى أبانت عن نفسها، وفككت الطلسم الملغز من خلال مؤولات متعددة داخل النص الشعري، ف "دمع البنات" هو حرف القصيدة التي يعطر منها المريد جمع العشاق شعرا وإنشاداً، و "الصابرات" كلمات الشاعر التي ينتظم من خلالها النص الشعري عبر آلية الإبداع التي تفتقت عن تجربة صوفية حقيقية، و مدائن الشاعر قصائده، وهذه المعاني الملغزة تفكك شفرات نفسها، وكأنها تتخلص من قناعها، وترفع الستار الذي أسدله "عمرو لطيف" من بداية النص كي تحتجب الأنثى/ القصيدة خلف قناع الإبداع ولا تبزغ شمسها، ولكن الشاعر افتضح أمره عندما رفع القناع بنفسه دون أن يدري وهو يقول: " فَتَنَاثَرَتْ آهاتُ شِعْرِيَ رَغبَةً" فــ " البنات، الصابرات" هن القصائد والحروف واللغة، ولما أيقن الشاعر أنه فكَّ شفرة النص، حاول أن يضع القناع الرمزي مرة أخرى ليخفي امرأته، فاستدعى "دجلة والفرات" كقناع يحاول أن يستر به قصيدته الأنثى، ولكن سرعان ما تكشف القناع مرة أخرى في نهاية النص وهو يقول:
"في لفحة الحضن المؤجج خلفه
ذكرى الخروج على اللغات."
تكشَّفَ القناع في نهاية النص، لتتجلى أمامنا حقيقة الأنثى التي ظلت محتجبةً طوال النص، فهي القصيدة أو اللغة، ولكنها اللغة الثالثة كما ذكرت آنفا، لغة تشبه الخارجي الذي يخرج على كل الإنساق، وهو يحاول الخلاص عبر تجربته الصوفية الإبداعية، فالصوفي يصطفي لنفسه لغة مقدسة البناء كقداسة التجربة الصوفية، ولذا يجنح الشاعر بلغته بعيدا في عوالم أخرى، تتكشف وتتخافى، تظهر وتحتجب، فاللغة نفسها ينتابها حال المريد الصوفي، فتتجلى في وشاحها الملائكي الذي يصدر لنا عرفانية الذوق الروحي الذي ينبني على تجربة الذات، وهي تحاول الخلاص على صليب اللغة.
"النص"
كونِي بِقربِي
كُونِي بِقُرْبِي،
كَيْ نُقيمَ من الزَّنَابِقِ مَعبَدَا،
ومِنَ الخطايا ألفَ توبةِ مُذْنِبٍ،
كَمْ بَاتَ يَجْلِدُ نَفْسَه،
بِتَنَدُّمٍ وعَلَى شَفِيرِ الذّات.
كَيْ ما أُعَطِّرُ رَوْضَةَ الأشْوَاقِ،
مِنْ مِسْكِ النَّبِيِّ،
بِحَضْرَةِ العُشَّاقِ،
مِنْ دَمْعِ البَنَاتِ.
قلبِي يَهِيمُ عَلَى الهُيَامِ ويَنْثَنِي،
ويَعُودُ يَقْوَى رافِعَاً كَفَّ المَوَدَّةِ،
فِي انْعِتَاقِ البَوْحِ مِنْ نَوحِ الحَيَارَى،
مِنْ وُضُوءِ الصَّابِرَات.
والرِّيحُ تَعْصِفُ دَاخِلِي،
وتَمُوجُ فِي شَطِّ الْتِفَاتِي،
فِي دُخَانِ التُّرَّهَات.
أَوْغَلْتُ فِي صُلْبِ الْمَدَائِنِ خَلْسَةً،
فَتَنَاثَرَتْ آهاتُ شِعْرِيَ رَغبَةً،
مَا بَيْنَ دِجْلَةَ خَاطِرِي،
وَنَحِيبِ أوجاعِ الفُرَات.
لَنْ يَنْتَهِي ذَاكَ الزَّفِيرُ الْمُشْتَهَى،
ذَاكَ الضَّجِيجُ الْمُسْتَعِر،
فِي لَفْحَةِ الحِضْنِ المُؤَجِّجِ خَلْفَه،
ذِكْرَى الْخُروجِ عَلَى اللُغَات."
فالنص بين ناقد يبحث عن تيمات الجمال الإبداعي، وناقد يبحث عن شعرية الصورة وبلاغة التركيب، وآخر يعالج النص معالجة موضوعاتية، وناقد يفتش في دهاليز النص عن الذات المبدعة وتمثلاتها اللغوية، والفاعل الحقيقي في النص من حيث إنتاجيته، هو الذات المبدعة، فلو دخلنا إلى العمل الأدبي من خلال الموضوع/ التجربة، ستتقذف بنا قطعا هذه المعالجة إلى الذات الفاعلة في النص، وإن عبرنا إلى النصِّ من بوابة الصورة والتركيب -قطعا- يتم استحضار الموضوع كبؤرة مركزية للنص، ومن ثم يتم استدعاء الذات، وإن دخلنا إلى الذات وهي متكشفة أمامنا، سنبحث حتما عن تيمة الإبداع الشعري، وكيف ارتقت هذه الذات باللغة، ومن هنا نستطيع القول: أن النص مهما تعددت وتباينت حوله الرؤى النقدية، فهي منتظمة جميهعا، ومنصهرة في بوتقة واحدة.
وبوابة الدخول إلى "المدائن الحمراء" وأظنها أوسع بوابة من خلالها ألج إلى هذا العمل الرائق "بوابة العشق والهوى" التي تسلمنا إلى بوابة أوسع أكثر رحابةٍ وتجلٍ في هذا العمل الفني " وهي بوابة الحب" فهل ثمة تمايز بين الحب والعشق: فقد ذكر في كتاب "جواهر التصوف" : أن الحب لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء" فالحب القلبي، جوهره ثابت لا يتغير، أما العشق أو هوى النفس الذي أججته نار الشهوة يزيد وينقص وفق عطاء المحبوب، فالشاعر المبدع "عمرو لطيف" متوزع ومشتت بين هذين "الحب – العشق"، ولكن تسعا وعشرين قصيدة تدور في فلك الحب الإلهي، وإحدى عشرة قصيدة تدور في رحى العشق والهوى، ولكن الشاعر يطمح طموحا بالغا إلى حب السماء والتوق إليها، متلعقا بأهداب الحضرة، متعطرا بعطر آل النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن أمام منظومتين اثنتين : منظمومة الحب وتتجلى في عدد كبير من القصائد متفاوتة الطول، ومن أهمها قصيدة "كوني بقربي- البسملة- تراتيل الفراغ- ذاكرة الماء- الحقيقة الأولى- حضرة الإلهام- تجلي- على الأعتاب". ومنظومة العشق والتي تتوزع على ثلاثة أنماط:
الأول: وهو المتشظي من حيث كثافته العددية وطول قصائده، ذلك النمط الإبداعي الذي تتحدث فيه الأنثى عن لواعج الشوق والأسى على لسان الشاعر، ومن هذه القصائد "المدائن الحمراء- مُنى- ضفائر الخذلان- لا عزاء لمن هلك- خبايا- هوس- والله يحكم مايريد- نقطة السطر الأخير- أنثى على شفير الشوق"
الثاني : حديثه الذاتي عن الهوى والعشق، وتمثله قصيدة واحدة وهي: "ثقوب الروح"
الثالث: تعشقه في المكان المنتمي بقوة إلى الحضارة الإنسانية نظرا لمركزيته في التاريخ الإنساني وتمثله قصيدة واحدة وهي: "قسنطينة"
ولو أعدنا النظر، بعد التدقيق في المنظومتين، يتبين لنا، أن المنظومة الثانية والتي تشكلها ثلاثة أنماط عشقية، ينسحب منها نمطها الأول وهو حديث الأنثى على لسان الشاعر، هذا النمط الذي تمثله تسع قصائد طوال، تناجي فيها الأنثى الشاعر، وهو عبر آلية الإبداع الفريدة التي يمتلكها الشاعر الطبيب "عمرو لطيف" يعبر عن مكنونات الأنثى وما تعانيه تحت سقف التعشق، فالشاعر في هذه القصائد التسع يتجلى إبداعا، تنمحي معه الذات المريدة، فنجد أن الأنثى حاضرة بكليتها عبر التمثيل الشعري، مع اختفاء تام للذات المبدعة، إذ لا تبدي تلك الذات أي ميول إلى الأنثى الحاضرة، وكأنها تخاطب الذكريات، أو تخاطب نفسها، فالشاعر في تلك القصائد لا يبدي أي رغبة منه في الحديث مع الأنثى، بل يتركها "عمرو لطيف" حبيسة النجوى، حيث لا حوار بين الذاتين، وكل ما قامت به الذات المبدعة، هو نقل لواعج شوق الأنثى، دون أن تسطيع تلك الأنثى أن تدخله في جدلية الحوار. ومن هنا تبقى الصدارة للمنظومة الأولى والتي عنونتها بمنظومة الحب، فتصبح المعادلة الرياضية العددية بين تسع وعشرين قصيدة تمثلها منظومة الحب، مقابل قصيدتين اثنتين تمثلها المنظمومة الثانية "العشق والهوى" بعد انسحاب تسع قصائد من المنظومة الثانية، لطغيان حضور الأنثى، وغياب الذات المبدعة، حيث لا حضور لها إلا من حيث التمثيل الشعري لمضامين الأنثى العاشقة، والتي يتأبى عليها "عمرو لطيف". ولكن حضور الذات المبدعة حضورا فعليا، يتجلى في قصيدة "تقوب الروح" والتي يقول فيها الشاعر "عمرو لطيف"
الحب يمارس سلطته
يأمرني
أن أمحو إسمي
أن أهرب من سجن الجسم
أن أشطب شغب مراهقتي
أن أثبت صدق علاقتنا،
بملامح شعري وبرسمي.
هذه القصيدة المعنونة بــ "ثقوب الروح" ومنذ بداية العنوان، تتكشف الذات منذ اختيارها للعنوان، فكلمة "ثقوب" جمع يدل بلفظه ومعناه على أن الروح تنفتح ثقوبا لينسرب المحبوب إلى الروح أو الذات عبر تلك الثقوب، بداية التماهي، حيث يمتزج العاشقان، ويصلان إلى مرحلة من التوحد، بانتفاء الذات العاشقة في معشوقها، يقول عمرو لطيف " يأمرني أن أمحوَ اسمي" محو الذات دلالة على حضور المعجم الصوفي حتى وهو يناجي محبوته الأرضية، ولم يكن هذا وحسب، لأن الحضور الصوفي في هذا النص طاغٍ جدا، فالذات بعد المحو، تريد الفرار من سجن الجسم (الشهوة)، وكما يقول السادة الصوفية " لا إثبات إلا بمحو" فالذات تتحقق من جودها في ساحة العشق، بعد محوها وفنائها في المعشوق الذي انسرب إليها عبر ثقوب الروح، تتعالى الذات العاشقة على طينية الجسد الشهواني، وتفر منه هاربة عبر مسارات الحب الروحي.
دخول المعجم الصوفي ، يؤكد لنا مركزية التصوف في هذا الديوان، فالشاعر وهو يتماهى مع الذات المتعشق فيها، يستحوذ عليه التصوف بمصطلحاته، وإشاراته، وكأن الشاعر يحاول مثلنا العبور من بوابة العشق النفسي، إلى البوابة الأقدس، بوابة الحب الروحي، فالقصيدة الوحيدة التي يتحدث فيها الشاعر بحضور ذاتوي التجربة، عن العشق الأرضي، تتنازعه روح التصوف، الذي تشرب النص معانيه ولطائفه، تلك الروح الصوفية المشرب التي ظلت متعلقة بثوب معجم الجلال الصوفي من بداية النص حتى نهايته. يقول "عمرو لطيف"
أتسمح بخطوط الكفِّ وبالأشواقْ
يجذبني
من طرف ذراعي
يأخذني غصبا،
برضائي،
كي أبقى مشبوكا فيكِ،
فتغيب ملامح شفتينا،
في بوح عناق،
حبك
في جنبي مشتعل،
يفتح لي في الروح ثقوبا،
يحتل مداخل أنفاسي،
يتسلل من دون رقيب،
ويدور على أرض الشغفِ.
يحتل المعجم هذه المعزوفة السابقة بشكل طاغ، فالمفردات " أتمسَّح، يجذبني، تغيب، بوح، الروح، أنفاسي، يدور، الشغف" تدل على انسحاق تجربة العشق الأرضي، تحت سلطة المعجم الصوفي الروحي، وهذا يدل كما ذكرت ـ-آنفا- على مركزية التصوف في ديوان "المدائن الحمراء" للشاعر "عمرو لطيف"، فإذا كانت قصيدة "ثقوب الروح" تقف بإحدى قدميها في أرض العشق، فهي تضع قدما أخرى ثابتة في بستان التصوف.
تتهاوى منظومة العشق من حيث الكثافة العددية أمام منظومة "الحب"، فلم يتبق أمامنا في منظومة العشق غير قصيدة واحدة، وهي قصيدة "قسنطينة" تلك المدينة القابعة في أغوار الجزائر، حيث تعتبر "قسنطينة" أكبر مدنها بعد الجزائر العاصمة، ووهران، ولكن استدعاء المكان المجسد في مدينة "قسنطينة" يحملنا إلى أمر مهم للغاية، أن "قسنطينة" مدينة من المدائن الحمراء التي تصدرت عنوان الديوان، وكأن كل مجموعة أو منظومة من القصائد داخل الديوان، تمثل مدينة يرتئيها الشاعر، فالجسد مدينة العشق، والروح مدينة الحب، وقسنطينة مدينة الجمال. والشاعر يتخذ من المدينتين" الجسد- والجمال" معبرا للجمهورية الكبرى أو العاصمة الأم "مدينة الروح". وهنا تتجلى المنظومة الأولى -والتي أستطيع أن أسميها بــ " منظومة الحب الإلهي"- في كامل أبهة عزها، حيث تلاشت المنظومة الأخرى -وأعني بها "العشق" أمام جلال المنظومة الأم والأيقونة النصية، وهذا يأخذنا إلى عنوان الدراسة الأساسي والموسوم بـ ""الإبداعُ والتَّجْرِبَةُ الصُّوفِيَّةُ" قِرَاءَةٌ نَقْدِيَّةٌ في قَصِيدَةِ "كُونِي بِقُربِي" للشاعرِ الدكتور/ عمرو لطيف. إذ عتبرت هذه القصيدة هي المدينة الروحية الكبرى، التي تنبثق منها جميع المدن في جمهورية الحب الإلهي.
إنَّ التجربةَ الصوفيةَ وتشكُّلها الإبدَاعِيُّ يضعُنَا في مأزقٍ حقيقيٍّ، فالإبداعُ بصورةٍ عامةٍ ينبوعٌ تفجِّره التجربةُ، ولكل تجربةٍ خصوصيةٌ، ولكل ذاتٍ وعيُهَا الذي ينبني عليه النصُّ الإبداعيُّ، ودخولُ القارئِ إلى عمقِ التجربةِ من خلالِ النصِّ مرتهنٌ بأيديولوجيا الواقع الذي تتقاسمه الذات المبدعةُ مع ذات المتلقي، فالقارئُ بوصفه ذاتًا فاعلةً في إنتاجِ النصِّ إبداعًا وتأويلًا؛ إذ يتمُّ استدعاء القارئِ الضمني حال إنتاج النصِّ من قِبَلِ المؤلفِ ليكونَ شريكًا له في تلك العمليةِ الإبداعيةِ، فالذات التي تخطُّ نفسَها ووعيَها، تخاطبُ ذواتًا أخرى، ولذا يستدعي المبدعُ القارئَ الضمنيَّ مُمَثِّلاً عامًا عن هذه الذواتِ؛ ولعل السببَ في ذلكَ يرجعُ إلى المبدعِ نفسِه، والذي يريد أن يضعَ القارئَ في صُلْبِ التجربةِ، ولذا يستخدمُ المبدعُ اللغةَ برمزيتِهَا والتي يستطيعُ القارئُ أنْ يفكَّ شفرتها من خلال المرجعيات الثقافيةِ والفكريةِ التي يتقاسمها مع الذوات الأخرى.
ولكنَّ التجربةَ الصوفيةَ ذاتَ خصوصيةٍ ومرجعية فكريةٍ خاصةٍ، لا يتعرَّفُ عليها إلّا مَنْ خاضَ تلكَ التجربةَ، وهنا تكمنُ الإشكاليةُ الكبرى في تأويلِ هذه النصوصِ التي تنتمي إلى الحقلِ الصوفيِّ. فالتصوفُ مبنيٌّ على الذوقِ واستشعار الحالِ التي تنتاب "المريد" ولا يعاني هذه الحالَ غيرُه، فهو وحده الذي يمتلكُ القدرةَ على التعبير عنها، وعن طريق الإشارةِ يكونُ التعبير؛ فالسادة الصوفيةُ اعتمدوا الرمزَ في جميع خطاباتِهم؛ نظراً لخصوصية التجربةِ وانبنائِها على الذوق الذي ينبثق عنه العرفان الصوفي، ومن هنا يجب النظرُ إلى "الدَّال" في النصِّ الصوفيِّ من بابِ التوسيع، إذ المفردة تحتمل دلالاتٍ ومعانيَ متعددةً، ولذا تتعدد تأويلاتُ النص أو المفردةِ الصوفيةِ.
اللغةُ الصوفيةُ لغةٌ متعاليةٌ تقتضي الحذرَ حالَ الولوجِ إليها، إذ تعدُّ اللغةُ الصوفيةُ بُعْدَاً ثالثًا للغة، يضعك هذا البُعدُ في عالمٍ خاصٍ متحررٍ من رِبْقَةِ المكان والزمان، عالم ميتافيزيقي له قانونه الخاص، يحتجبُ هذا العالمُ خلفَ برزخ تلك اللغة المتعالية التي يقول عنها "ياسبرز" في تحليله لها "أنها في نهاية الأمر تنتهي إلى تصورٍ خاص بتجلي المطلق في مظاهر متنوعة يكشف عنها الوعي الإنساني في إحالاته الخصبَةِ" فخصوصية التجربة الصوفية استدعت وبالضرورة- لغة متعاليةً لا تسلِّم نفسها للمتلقي إلا بمزيدٍ من الجهدِ والتأويل، وفي النهاية يكون تصورُ المتلقي للنص الصوفي تصوراً خاصا، وهذا ما نراه جليّاً في نص "كوني بقربي" للشاعر المبدع الصوفي "عمرو لطيف"، إذ يبتدرُ قصيدته بعنوان ذي طبيعة طوبوغرافية، فقد احتل العنوان "كوني بقربي" أعلى الصفحةِ متمركزًا في يمينِهَا، وإن كانت تلك الصفة العنوانية التي اتخذت من يمين الصفحةِ مركزاً لها سمةً عامةً في ديوانه الموسوم بـ " المدائن الحمراء"، إذ اعتبرنا الديوان كيانًا واحدا، ليكون العنوان بهذا الشكل وهذا الطابع الطوبوغرافي دلالةً على توجه الذات المبدعة بكليتها إلى اليمين، الذي يحلينا وبالضرورة -إلى تحديد اتجاه الذات الصوفية، والتي تعتقد الخير في الميامن كثيمة دينية واعتقاد روحي. فالطابع الطوبوغرافي للعنوان يحمل إشارة خفيَّةً تدل على الاختيار الذاتي "للمريد" بتحديد الوُجْهَةِ أولًا.
يستنزلُ المبدع العنوان بهيئتِه التركيبية مرة أخرى في بداية النصِّ تأكيدا للمعنى المراد من الصيغةِ الأمريَّةِ "كوني"، تلك الصيغة التي تدل على الاستعطافِ المُتَشَرِّبِ معناه من "قربي" تلك المفردةُ التي تؤكدُ أن صيغةَ الأمر هنا ليست من بابِ الاستعلاءِ ولكنها استعطافٌ للمخاطب بصيغة الأمر "كوني". الذات المخاطبة بفعل الأمر هنا أُنثَى، ذلك الرمز الصوفي المتشظِّي بوفرةٍ في الخطاب الصوفي ولغته العليا، فالمخاطب/ الأنثى هنا يتجلى رمزاً يحتمل تأويلاتٍ متباينةً، كلٌّ يؤوله وفق مرجعيته الفكرية وذوقه الخاص، وقد اتخذ المتصوفة من المرأة قناعًا لهم في مخاطبتهم المحبوب، فهي كما قال "ابن عربي" : " أعظم مظهرٍ من مظاهر تجليات الرحمة الإلهية في عالم الشهود"، فالمرأة رمز كوني يصل قصة بداية الخلقِ بالحاضر، فقد رامَ القربَ منها سيدنا "آدم" -عليه السلام- لما وجدها بجانبه، تلك القصة التي وردت في الكتب السماوية كلها، ولهذا فالمرأة مرجع ورمز كوني يختلج الأديانَ السماويةَ قاطبةً، فالمرأة كمفردة تحمل تاريخيةً دلاليةً وتداوليةً تؤهلها أنْ تستخدمَ رمزاً وقناعًا يحمل في طياتِه تأويلاتٍ شتّى؛ ولكنها تتبلور في كل التأويلات المتباينة وتدور حول فكرة ومرجعية واحدة وهي الرحمة المطلقة.
تسلتزم الصيغةُ الأمريةُ "جوابًا" لها، يبتدره المؤلفُ بــ "كي" التعليليةِ الناصبةِ فيقول:
"كُونِي بِقُرْبِي،
كَيْ نُقيمَ من الزَّنَابِقِ مَعبَدَا،
ومِنَ الخطايا ألفَ توبةِ مُذْنِبٍ،
كَمْ بَاتَ يَجْلِدُ نَفْسَه،
بِتَنَدُّمٍ وعَلَى شَفِيرِ الذّات.
جوابُ الأمرِ "كي نقيمَ من الزنابقِ معبدا" تركيب لغوي يحتوي صورة مدهشةً وهي إقامة المعبد من الزَّنابق، صورةٌ خلّابةٌ وتركيب لغوي بسيطٌ ولكنه مع بساطته هذه احتوى على مشهد تصويري مدهشٍ يستفزُّ القارئَ ويجبره على الولوج داخل هذا العمل الأدبي، الذي يصدر لنا مشهداً تصويريًا ينمُّ عن إبداع متفرد، فالمعبد المشيد من الزنابق، يقابله بناءُ التوبةِ الذي قامَ على أنقاض الخطايا، وعذابات الذات التي تجنح إلى الخلاص عن طريق التجربة الصوفية.
تعليل آخر يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بفعل الأمر "كوني" يستهل به الشاعر/ عمرو لطيف المقطع الثاني من القصيدة، يحمل في مشهدية تصويره مرحلةَ تَرَقٍّ أخرى تاليةً للمرحلة الأولى: "كي نقيم من الزنابق معبدا"، فيقول:
" كَيْ ما أُعَطِّرُ رَوْضَةَ الأشْوَاقِ،
مِنْ مِسْكِ النَّبِيِّ،
بِحَضْرَةِ العُشَّاقِ،
مِنْ دَمْعِ البَنَاتِ."
حالةٌ من الوجدِ تنتاب الشاعرَ وكأنه يحضرُ بكليَّتِه في عالم الحضرةِ، يتواجد فيها وينثني، أمام "الرَّوضةِ" حيثُ يمثلُ العشاقُ، ولكنَّ الشاعر "المريدَ" يتسامى بتجربته الصوفية على جمع العشّاقِ هنا، ويلتقطُ "دمعَ البنات" الذي يحولُ مسكًا نبويَّاً يعطِّرُ به الشاعرُ جمع العشاقِ، وثمة إحالة أخرى إلى الأنثى في قول الشاعر "البنات" اللائى يستخلصُ الشاعر من دموعهنَّ مسكاً نبويّاً، فالشاعر "المريد" وحده هو الذي يمتلك القدرة على استخلاص المسكِ من "دمع البنات"، تلك المفردة التي تبرز رمزية الأنثى في القصيدة، والتي ما زالت تحتجب خلف خمار جلالها.
مشهد تصويريٌّ ثالث يفصِّلُ الشاعرُ فيه تلك الطقوسَ والحركاتِ التي يؤديها مع جمعِ العشاقِ في الحضرة، وكأنه يرسم لنا مشهدا حقيقيا من داخل عالم الحضرة المقدسة، إذ يهيم القلب، فينثني الجسمُ مُتَّجِهَاً ناحية الأرض، وكأنّ المريدَ يرمز بتلك الحركة الراقصةِ إلى فكرة العودة إلى الأصل التراب/ العدم/ الفناء، فالشاعر يحدثنا من مقام الفناءِ الذي تتلاشى فيه اللغة وتنزوي الحروف، ففي هذا المقام لا وجود لأحدٍ إلا "الذات المقدسة" ولذا يلجأ الشاعر "المريد" إلى رمزية الرقص عبر الكلمات واصفا لنا هذا المشهدَ المقدس، عن طريق حركات الرقص التي يؤديها حيث تنمحي العبارة، وتتجلى الإشارة، فيقول:
"قلبِي يَهِيمُ عَلَى الهُيَامِ ويَنْثَنِي،
ويَعُودُ يَقْوَى رافِعَاً كَفَّ المَوَدَّةِ،
فِي انْعِتَاقِ البَوْحِ مِنْ نَوحِ الحَيَارَى،
مِنْ وُضُوءِ الصَّابِرَات."
ولعلَّ هذا المشهدَ يحتملُ معنىً آخر، وهو: أن "المريد" عندما يسقط في ترابيَّتِه الشهوانيةِ، تلتقطه يدُ السماء فيعود رافعاً " كفَّ المودةِ" التودد إلى المحبوب الذي انتشله عن طريق الحب من جُبِّ الخطيئة إلى الحضرة الملائكيةِ، يقول "ابن عربي" أن الشيطان يدخل للإنسان إما من الأمامِ أو الخلف، أو عن اليمين أو اليسارِ، ولا يستطيع الدخول عليه من الجهة التحتيَّةِ أو الفوقيةِ؛ لأن الإنسانَ مَحْمِيٌّ من الــ "تحت" بذلِّ العبوديةِ ومن الــ "فوق" بــعزِّ الرُّبوبيةِ، وتلك المعاني الصوفية اللطيفة تخرج عن سيطرة اللغة، وبإبداعية متفردة اسطاعَ المريدُ الشاعرُ/ عمرو لطيف أن يمثلَ لنا تلك المعاني بأسلوبيَّتِه التي جعلت مفرداتِ النص شخوصًا تميل وتنثني داخل حضرة القصيدة عبر تقنية التصوير المشهدي. حالة انعتاق وتماهٍ وبوحٍ تنتاب المريد وهو ينزع من جسدانيته إلى عوالم الخلاص، وهي رحلةٌ طويلةٌ على المريد ولذا يكثر فيها من البوح والنوح، ولكن بوح الذات المبدعة الصوفية هنا بوح مغاير، يختلف عن أي نوح وبوح آخرين، فانعتاق الشاعر يتخلله بوح ونوح "من وضوء الصابرات" وهذه إحالة ثالثة إلى الأنثى التي تصل المشاهد الثلاثة كلها وتردها إلى الفعل الأمري "كوني" لتجعل من المشاهد الثلاثة مشهدا واحدا تعود فيها الإحالات جميعها إلى المرأة/ الرمز التي نحاول التنقيب في النص للكشف عن ماهيتها.
في المشهد الرابع المقتضب والمختزل في ثلاثة جمل مكثَّفَةٍ يبتدرها الشاعر بــ "واو" الاستئنافِ لتنقلنا إلى ثلاثة مشاهدٍ أخرى، ربما تتجلى فيها المرأة/ الرمز على حقيقتها؛ لنعرف ماهيَّةَ تلك الأنثى التي يناجيها "عمرو لطيف" ويستهل بها القصيدة عنوانا، وجملة استفتاحية أولى فيقول:
" والرِّيحُ تَعْصِفُ دَاخِلِي،
وتَمُوجُ فِي شَطِّ الْتِفَاتِي،
فِي دُخَانِ التُّرَّهَات.
أَوْغَلْتُ فِي صُلْبِ الْمَدَائِنِ خَلْسَةً،
فَتَنَاثَرَتْ آهاتُ شِعْرِيَ رَغبَةً،
مَا بَيْنَ دِجْلَةَ خَاطِرِي،
وَنَحِيبِ أوجاعِ الفُرَات.
لَنْ يَنْتَهِي ذَاكَ الزَّفِيرُ الْمُشْتَهَى،
ذَاكَ الضَّجِيجُ الْمُسْتَعِر،
فِي لَفْحَةِ الحِضْنِ المُؤَجِّجِ خَلْفَه،
ذِكْرَى الْخُروجِ عَلَى اللُغَات."
المريدُ الشاعرُ/ عمرو لطيف يعاني الريح العاصفة و "دخان الترهات" وحالة من التشتت تنمُّ عنها مفردة "الْتِفَاتِي" ربما يتحدثُ هنا عن مقام "التِّيه" حيث تتجاذب المريض الهواجس؛ لتخرجه من ملكوتية الحضرة، فالريح هي النفس التي تؤججها نار الترهات/ الشهوة، التي تحاول إقصاءه بعيدا، والشاعر هنا باحترافية فريدة بالفعل- جمع العناصر الأربعة التي تنتمي إليها الذوات البشرية..( الماء- الهواء- النار- التراب)، فالريح للهواء، والموج للماء، والدخان للنار، والشط للتراب، مشهد عجائبي يسخِّرُ الشاعرُ فيه قدرته الإبداعيةَ لتصور لنا عبر هذه الجمل الثلاث الطبائع الأربع التي تنتمي إليها الذات البشرية، إذ لكل طبيعة من هذه الطبائع طريقة للخلاص، فباختلاف الطبائع تتمايز المشارب، إذ لكل روح مشربها.
مفردة "المدائن" التي تصدرت المشهد الخامسَ تستدخل الديوان بالكلية في هذه القصيدة، إذ تعتبر قصيدة "كوني بقربي" هي ترجمان هذا الديوان ومركزيته الأولى، بل وشفرته الحقيقية التي تفك طلاسم الديوان الملغزة على اتساع مدائنه/ قصائده، فالمدائن الحمراء هي القصائد، والأنثى التي يناجيها الشاعر طوال النص هي القصيدة، فالذات الشاعرة التي ابتدرت القصيدة بـ "كوني بقربي" وحاولت أن تخفي ماهية الأنثى طوال النص لقداستها وفرادتها وسريتها التي لا يريد "عمرو لطيف" أن يبوح بها، فهو يفضل النوح على البوح كي لا يفتضح سر أنثاه المقدسة، ولكن الأنثى أبانت عن نفسها، وفككت الطلسم الملغز من خلال مؤولات متعددة داخل النص الشعري، ف "دمع البنات" هو حرف القصيدة التي يعطر منها المريد جمع العشاق شعرا وإنشاداً، و "الصابرات" كلمات الشاعر التي ينتظم من خلالها النص الشعري عبر آلية الإبداع التي تفتقت عن تجربة صوفية حقيقية، و مدائن الشاعر قصائده، وهذه المعاني الملغزة تفكك شفرات نفسها، وكأنها تتخلص من قناعها، وترفع الستار الذي أسدله "عمرو لطيف" من بداية النص كي تحتجب الأنثى/ القصيدة خلف قناع الإبداع ولا تبزغ شمسها، ولكن الشاعر افتضح أمره عندما رفع القناع بنفسه دون أن يدري وهو يقول: " فَتَنَاثَرَتْ آهاتُ شِعْرِيَ رَغبَةً" فــ " البنات، الصابرات" هن القصائد والحروف واللغة، ولما أيقن الشاعر أنه فكَّ شفرة النص، حاول أن يضع القناع الرمزي مرة أخرى ليخفي امرأته، فاستدعى "دجلة والفرات" كقناع يحاول أن يستر به قصيدته الأنثى، ولكن سرعان ما تكشف القناع مرة أخرى في نهاية النص وهو يقول:
"في لفحة الحضن المؤجج خلفه
ذكرى الخروج على اللغات."
تكشَّفَ القناع في نهاية النص، لتتجلى أمامنا حقيقة الأنثى التي ظلت محتجبةً طوال النص، فهي القصيدة أو اللغة، ولكنها اللغة الثالثة كما ذكرت آنفا، لغة تشبه الخارجي الذي يخرج على كل الإنساق، وهو يحاول الخلاص عبر تجربته الصوفية الإبداعية، فالصوفي يصطفي لنفسه لغة مقدسة البناء كقداسة التجربة الصوفية، ولذا يجنح الشاعر بلغته بعيدا في عوالم أخرى، تتكشف وتتخافى، تظهر وتحتجب، فاللغة نفسها ينتابها حال المريد الصوفي، فتتجلى في وشاحها الملائكي الذي يصدر لنا عرفانية الذوق الروحي الذي ينبني على تجربة الذات، وهي تحاول الخلاص على صليب اللغة.
"النص"
كونِي بِقربِي
كُونِي بِقُرْبِي،
كَيْ نُقيمَ من الزَّنَابِقِ مَعبَدَا،
ومِنَ الخطايا ألفَ توبةِ مُذْنِبٍ،
كَمْ بَاتَ يَجْلِدُ نَفْسَه،
بِتَنَدُّمٍ وعَلَى شَفِيرِ الذّات.
كَيْ ما أُعَطِّرُ رَوْضَةَ الأشْوَاقِ،
مِنْ مِسْكِ النَّبِيِّ،
بِحَضْرَةِ العُشَّاقِ،
مِنْ دَمْعِ البَنَاتِ.
قلبِي يَهِيمُ عَلَى الهُيَامِ ويَنْثَنِي،
ويَعُودُ يَقْوَى رافِعَاً كَفَّ المَوَدَّةِ،
فِي انْعِتَاقِ البَوْحِ مِنْ نَوحِ الحَيَارَى،
مِنْ وُضُوءِ الصَّابِرَات.
والرِّيحُ تَعْصِفُ دَاخِلِي،
وتَمُوجُ فِي شَطِّ الْتِفَاتِي،
فِي دُخَانِ التُّرَّهَات.
أَوْغَلْتُ فِي صُلْبِ الْمَدَائِنِ خَلْسَةً،
فَتَنَاثَرَتْ آهاتُ شِعْرِيَ رَغبَةً،
مَا بَيْنَ دِجْلَةَ خَاطِرِي،
وَنَحِيبِ أوجاعِ الفُرَات.
لَنْ يَنْتَهِي ذَاكَ الزَّفِيرُ الْمُشْتَهَى،
ذَاكَ الضَّجِيجُ الْمُسْتَعِر،
فِي لَفْحَةِ الحِضْنِ المُؤَجِّجِ خَلْفَه،
ذِكْرَى الْخُروجِ عَلَى اللُغَات."