بين كتبٍ عديدةٍ منضددةٍ على طاولتي، وقريبًا جدًا من نافذتي، وضعتُ كتاب (حتى يولد العالم) الصادر حديثًا عن دار روافد للنشر المصرية، وقررتُ أن أجعل صورة غلافه خلفيةً للصباح، غلافه الذي يحمل صورةً لرجلٍ أدار ظهره لماضيه، وراح يشهد تبدلات عالمه الحاضر، ويتأمل تشظياته، وكأنه قد شهد ذلك من قبل، بل وعاشه، ولكن كيف ومتى؟! لأعرف ذلك فتحت الكتاب، فقابلتني أول جملةٍ بعد العنوان "لم أرَ أمي نائمةً قط" التي كانت بمثابة نافذةٍ ثانيةٍ ليومي، شاهدتُ عبرهما نسيجًا قصصيًا محكمًا، يتعدى حيز المكان، ويقلِّب الكاتب بنيته الزمنية أثناء السرد المدهش، بين شاهدٍ حقيقيٍ يضيِّق قزحية عينه، وهو يقرأ الحاضر متأملًا، ومشهودٍ غرائبيٍ تدبُّ فيه روح الحياة بكل تناقضاتها، وشخوصها العديدة، مما جلعني ألهث خلفها لأقبض عليها ضمن متاهاتٍ سرديةٍ صغيرة، وألاحظ تفاوت الأدوار وتغايرها تبعًا لنبض الحدث في كل نصٍ، سواء أكانوا أشخاصًا حقيقيين أم خياليين.. يشبهون أناس الحياة حدَّ التطابق، بأبعادهم النفسية، المحملة باضطراباتها وتوتِّراتها التي عُنيَ بها القاص عنايته الفائقة، بوصف هيئاتهم الخارجية المشابهة لزمان ومكان القص، ولقاموس جغرافيته وتاريخه الذي يتأزم فيهما الحدث في نصٍ ما بالمرض أو الشيخوخة أو الموت، لينفرج في نصٍ آخر بالصحة والشباب والولادة، فأحتار، كقارئةٍ، شغوفةٍ، يشاغبها فضولها لاستطلاع ما وراء النوافذ، أيُّ نوافذ القصص تفتح، لترى ما وراءها من حكاياتٍ وشخوصٍ وأحداثٍ، وحكاياتٍ أخرى تختبأ وراءها!
هنا، الخيال ذاته يخلق أبطالًا تتكاثر أدوراهم المختلفة باختلاف الأحداث المتوالية، وإذ بها -رغم التناسل والتكاثر- أشد ارتباطًا ببؤرة الحدث الأساس، الواقعي، ليفاجأنا، وقد أنجب من صلب أحداث حكاياته وشخوصها، أبطالًا جدد تتناقل بنا من حدثٍ خاصٍ جدًا.. يبدأ عبر حلمٍ يعبر جدران غرفة النوم والسرير والوسادة، مرورًا بالأمومة والطفولة والشباب والصداقة، وانتهاءً بالدفاع عن الوطن والشهادة في سبيله، كما في نص "لعبة كل يوم" الذي تُعرض القصة فيه من خلال رسالة شوقٍ من زوجة لزوجها، تلك التي تنسلخ عن واقعها وعمرها ومشاعرها الجياشة، لتصبح فكرةً تضج بالأحداث العامة والمشاعر المختلفة، يقذفها الراوي في الهواء، فتتناثر ألوانها متماهيةً، لنبقى في طمعٍ للحصول على جمال هذا التماهي الساحر، والذي يُلقي بنا، قبل نهاية النص ذاته، في براح الأمومة وويلات الحرب، هكذا دفعةً واحدةً، فنتابع، حيث تتجلى، في القصص، غير الأمومة والحرب وفداحتها، الأبوة والأخوة والبنوَّة والصداقة والحب والولادة والموت بكل معانيها كمفاهيم كانت مجردةً، لكنها وعبر النصوص استحالت شخوصًا أتقن الراوي بناء هياكلها فبثَّ فيها الحياة، ورمى بها في مهبِّ الأحداث، لتقوم بدور البطولة وهم يخوضون الموت قبل الحياة، في لعبة عكسية بدلت من طبيعة كل شيءٍ: "أيقظني ألمٌ حادٌ في القلب، فتحت عيني، لم أجد صديقتي، حاولت أن أعتدل، فلمحت ظلَّ الموت في المساحة البكر من الخيال الذي كان يعمل منذ أيامٍ على فكرة تغيير العادات، غفوت مرةً أخرى، ثم استيقظتُ بعد لحظاتٍ وقد ازداد الألم، فتحت عيني فرأيته على مقربةٍ مني، قمت دون تفكيرٍ لأفتح الباب الخارجي، ودخلت لأغتسل، اقترب مني ضاحكًا وهو يقول لن تلحق".
دأب القاص عبر قصصه على التقافز برشاقةٍ بين الخيال والحقيقة، والحلم والواقع، ضمن توترٍ دراميٍ، يستنكر الموت أحيانًا، ويهجِّن الحياة بالحلم أو العكس أحيانًا أخرى، فلا يعرف القارئ أين سيرسو سفين القاص، وهو يجوز به البحر دون شطآنٍ، واثقًا بقدرة قارئه -رغم تباينها- على قطع المسافة التي تتواءم مع طاقته للوصول إلى نقطة خلاصٍ، تُنقذه من الغرق، بينما نجد القاصَ منشغلاً في هدم حدَثٍ هنا لإعادة بنائه هناك، بنسيجٍ قصصيٍ متماسكٍ، يسعى من خلاله لجذب المتلقي بحلقاتٍ متتابعةٍ، عبر مشاغبة وعيه فنيًا في كل نصٍ، وصولاً للعالم المولود بكل تحدياته، لأعيد بدوري تصفُّح الكتاب من جديد، فأجد أماً ماتت في نصٍ كتبه الراوي، وهو في زمانٍ ومكان غريبَين عن زمان ومكان القصة، كما في نص الاستهلال "لم أرَ أمي نائمةً قط"، وعاشت نفس الأم، بعد موتها، في النصف الثاني من الكتاب "أنا وهي والقط الرمادي". وهكذا نرى امرأةً، عندما استشهد كل رجال مدينتها، وجدت نفسها مضطرةً أن تصبح (رجلاً) لتنتقم من قتلة أبناء مدينتها، فنراها ملثمةً متمثلةً بكل جرأة الرجال وقوتهم، لتثأر ممن عاثوا في مدينتها فسادًا: "ظلت تتجول، دون أن يتركها حذرها هذا، رغم قوةٍ، تعلن عن نفسها كذلك، في ملامحها، ولفتاتها، وهي تمرق من حارةٍ سدٍ، إلى منزلٍ مثقوب الجدران، إلى طريقٍ بها سياراتٌ مدمرةٌ، وأسرِّةٌ ومقاعد، وألعاب أطفالٍ.. نظرتْ إليها طويلاً، لكنها وصلت سريعًا، وعلى مقربةٍ من الجندي، أحد حراس ثكنة من أبادوا مدينتها، والتي ترقبته على مدار الليالي الماضية، اختبأت مستلقيةً على وجهها كمقتولةٍ وقد أحكمت قبضتها على مقبض السكين".
يحكي لنا القاص، كأنه يلعب، سيرة حياة الأبطال المتأرجحة بين خط استواء الواقعية وخط جنوح التخيُّل، ارتباطًا بالحدث الذي يهزمهم فيه الموت مرةً، وتنصرهم الحياة على الموت غير مرةٍ، بين صعودٍ وهبوطٍ، لاستنباط المفارقة وإشعال الدهشة، في زمنٍ يسيل كالماء عبر أثيرٍ تكوين شخوصه، فيسري رقراقًا لا يحده حلمٌ ولا يثني عن نسجه خيالٌ، ولا يستحيل تحقيق كلاهما في الواقع.. فنجد مكانًا واضحًا، رغم ضيقه، لمسرح أحداثه، فيما تختلف فيه الأبعاد باختلاف مصائر الأبطال وحيواتهم مراهنًا على وعي القارئ، الذي يشاغبه، دائمًا، بمراوحة السرد بين الواقعي الشفيف، والغرائبية، وتقنية الحلم، الذي يأخذنا عبرها إلى غابةٍ من الحملان والنمور والطيور والجراء: "كن عاريات، مازلن، حتى من وعيهن بالأنوثة، يلعبن مع النمور أو الحملان، مما دفع الغربان للتجمع فوق أذرع الرجل الحجري ورأسه ليشاهدوهم دون حركةٍ.
أو صوتٍ يصدر عنهم، وهنَّ يلعبن حتى غروب البهجة وهبوط الشجن، الذي كان يلف الجميع فينامون متلاصقين". ورغم ذلك، يحرص القاص أن يولد من صلب عالمه الغرائبي، عالمٌ آخر حقيقيٌ، قد تتشابه أو تتنافر فيه المشاعر والأحلام، التي يملك كل مفاتيح استنساخها بحرفيةٍ: "كنا نلملم بقايا أخوتنا والأصدقاء، وندفنها، عميقًا، في الرمال، لنعود لثكناتنا في صمتٍ ذاهـلٍ. لم تفارقنا، أبدًا، ضحكاتهم ولا حكاياتهم البسيطة.. التي، كنا، نعيد حكيها ونبكي. فمتى ضاع موقعنا، وتفرقنا، ليسكنني أنينهم والصراخ؟ هل عندما أفقتُ، مشجوج الرأس ومهشم العظام، ومن فوقي جثثٌ، وأنقاض؟! ٌلا أعلم، ولا أعلم كيف استطعتُ الخروج من تحتها، ولا كيف ركضتُ، ما إن بُغتُ بيدٍ نازفةٍ، تتشبث بكفي؟!". هذه مدينةٌ عاثت فيها آلة الحرب والدمار فسادًا؛ ليَهبنا الراوي من خلالها روح البطولات، وقدسية الوطن، وعظمة تضحية أبنائه، تحقيقًا للغاية الإنسانية المطلقة، رغم قسوة المشهد والوجع.
ولعله، الوجع ذاته، هو من استدعى الأدباء والمشاهير الغربيين في القصص هنا، ليستحيلوا أبطالاً يحركون الأحداث، كإرنست همنغواي، كافكا، بورخيس، إلساندر باريكو، وباولو بيكاسو وفرجينا وولف، وقد نسج معهم وبهم حكاياتٍ شائقةً، عبر فتْح قوسٍ من الزمن للولوج إلى عوالمهم، وعالمه كذلك، رغم موته وموتهم في الزمانَين المختلفَين بين الماضي والحاضر، وقد ورد لعبه معهم عبر حواراتٍ نوعيةٍ أدارها القاص بينه وبينهم بحرفيةٍ، كلٌّ بما يناسب صفته وعمله في زمانه آنذاك: "أتى باولو بيكاسو علق مندهشًا: أخيرًا رأيتك تصلي! وأخرج هاتفه المحمول، التقط صورةً وقال سأعد لك فنجاناً من القهوة معي، بعد قليلٍ أتت فرجينيا وولف، اقتربت وهي تقول: وهل نسيت أن ترتدي ثيابك، أم أن هذه موضة زمانكم. وابتعدا ضاحكَين دون أن يكتشفا موتي".
لقد عقد القاص بينه وبينهم خيوطًا متينة، فأحسن عقدها هنا، وحلَّ وثاقها هناك، بأصابع واثقةٍ من قدرتها على الربط والحل، وكذلك نجد في القصص الكثير من الأدباء العرب، مثل إبراهيم أصلان وسعيد الكفراوي وطارق إمام ويوسف إدريس، الذي استدعاه الراوي بشكلٍ خاصٍ، وفي محاكاةٍ لقصته "بيتٌ من لحمٍ"، ليجعل منه بطلاً ينافس الراوي في دور البطولة، بعيدًا عن إعادة حكي المحكي، من خلال حلمٍ كنا قد ظنناه واقعًا، عشناه مع القاص بدقة تفاصيله، وحرارة أحداثه، ولغة سرده الممسوسة بالخيال والشغوفة بالتفرد وتصوير المشهد بدقةٍ، ليفاجئنا نجيب محفوظ، في إحدى القصص، وهو يعد الكاتب بأن يقرأ على مسامعه كتابه "حتى يولد العالم" ذاته، مما يجعلنا نتهيأ، نحن القراء، بعد أن أخذتنا اللعبة تمامًا.
كل ما ذكرتُ، لم يمنعِ الكاتب من أن يعيش الحب على أرض الواقع -بعيدًا عن الجانب الفانتازي في بعض النصوص- الذي يحكي لنا فيه عن أدق رغباته الدفينة التي يود أن يعيشها مع حبيبته، دون أي مجازٍ، بل يرمي لنا كل رغباته على شاطئ النص؛ لنلتقطها ببساطة من يرغب به، وتعقيدات ما يعرفه عنه بعد ذلك، بلغةٍ سلسةٍ، يتفنن من خلالها في رسم المشهد الواضح والضمني والشخصي جدًا؛ لتحقيق لقاءٍ يراوده منذ سنين، دون حرجٍ من إظهار عواطفه المتفجرة حد الشغف في روح وجسد من يحب، معمقاً عبر معانيه لحظته الشعورية تلك، بكل تجلياتها النفسية بينما هي -حبيبته التي تصاحبنا في كل النصوص بصفة الصديقة- تتشرب عشقه المحموم، وتُمعن في أسئلةٍ مشاكسةٍ، تضفي على لقائهما مرحًا وولعًا قلَّ نظيرهما، لنتفاجأ في النهاية كقراءٍ أنها فقدت بكارتها لسبب تافهٍ جدًا، لا يعدل قيمة ما فقدته ليعكس الراوي من خلاله تدني مستوى التفكير المجتمعي بالأنثى، وما تعانيه نتيجة سوء معاملتها من منظورٍ ضيقٍ جدًا: "أستنشق أسفل أذنها، تتنهد متشبثةً بي، ثم تقول هامسةً: كنتُ أود أن أهديك بكارتي، أريد أن أشعر بهذا معك، غير أني قد تخلصتُ منها بإصبعي، منذ أعوامٍ، في اليوم التالي الذي أجبرتني فيه أمي بالكشف على عذريتي، بعد أن شككتها في أمري -كما أخبرتني- بعض الجارات". هكذا وبهذا البساطة، والخصب، والتنوع، كتب ياسر جمعة قصص "حتى يولد العالم" راصدًا الثنائيات.. الحياة/ الموت، الطفولة/ الشباب، الذكورة/ الأنوثة، القوة/ الضعف، الواقع/ الخيال، الحقيقة/ المجاز، وقد تبدلتْ ملامح أحدهما بملامح الأخرى وتوقفتْ في حلمٍ لتتابع مسيرها في حلمٍ آخر، وماتتْ في الواقع، لتحيا في الخيال، وقد تموتُ في الخيال لتعيش في الواقع كما ينبغي لها أن تعيش، وهكذا دواليك نشهد توالي الأحداث والشخوص والأزمان والأماكن على اختلافها من رحم عالمٍ خاصٍ جدًا بالكاتب يُنجبه هو شخصيًا، مع كل نص وكل حكايةٍ، ضمن صراعٍ داخليٍ لأبطاله، بلغةٍ سرديةٍ رشيقةٍ وبمنظورٍ متطورٍ عبر تقنية الميتاسرد، فلا يتجاوز الحدَّ، ولا يَقصُرُ عنه، بدقة شريكٍ حقيقيٍّ، ينتصر للبطل في النص حتى لو كان جمادًا.
إيمان فجر السيد/ سوريا
هنا، الخيال ذاته يخلق أبطالًا تتكاثر أدوراهم المختلفة باختلاف الأحداث المتوالية، وإذ بها -رغم التناسل والتكاثر- أشد ارتباطًا ببؤرة الحدث الأساس، الواقعي، ليفاجأنا، وقد أنجب من صلب أحداث حكاياته وشخوصها، أبطالًا جدد تتناقل بنا من حدثٍ خاصٍ جدًا.. يبدأ عبر حلمٍ يعبر جدران غرفة النوم والسرير والوسادة، مرورًا بالأمومة والطفولة والشباب والصداقة، وانتهاءً بالدفاع عن الوطن والشهادة في سبيله، كما في نص "لعبة كل يوم" الذي تُعرض القصة فيه من خلال رسالة شوقٍ من زوجة لزوجها، تلك التي تنسلخ عن واقعها وعمرها ومشاعرها الجياشة، لتصبح فكرةً تضج بالأحداث العامة والمشاعر المختلفة، يقذفها الراوي في الهواء، فتتناثر ألوانها متماهيةً، لنبقى في طمعٍ للحصول على جمال هذا التماهي الساحر، والذي يُلقي بنا، قبل نهاية النص ذاته، في براح الأمومة وويلات الحرب، هكذا دفعةً واحدةً، فنتابع، حيث تتجلى، في القصص، غير الأمومة والحرب وفداحتها، الأبوة والأخوة والبنوَّة والصداقة والحب والولادة والموت بكل معانيها كمفاهيم كانت مجردةً، لكنها وعبر النصوص استحالت شخوصًا أتقن الراوي بناء هياكلها فبثَّ فيها الحياة، ورمى بها في مهبِّ الأحداث، لتقوم بدور البطولة وهم يخوضون الموت قبل الحياة، في لعبة عكسية بدلت من طبيعة كل شيءٍ: "أيقظني ألمٌ حادٌ في القلب، فتحت عيني، لم أجد صديقتي، حاولت أن أعتدل، فلمحت ظلَّ الموت في المساحة البكر من الخيال الذي كان يعمل منذ أيامٍ على فكرة تغيير العادات، غفوت مرةً أخرى، ثم استيقظتُ بعد لحظاتٍ وقد ازداد الألم، فتحت عيني فرأيته على مقربةٍ مني، قمت دون تفكيرٍ لأفتح الباب الخارجي، ودخلت لأغتسل، اقترب مني ضاحكًا وهو يقول لن تلحق".
دأب القاص عبر قصصه على التقافز برشاقةٍ بين الخيال والحقيقة، والحلم والواقع، ضمن توترٍ دراميٍ، يستنكر الموت أحيانًا، ويهجِّن الحياة بالحلم أو العكس أحيانًا أخرى، فلا يعرف القارئ أين سيرسو سفين القاص، وهو يجوز به البحر دون شطآنٍ، واثقًا بقدرة قارئه -رغم تباينها- على قطع المسافة التي تتواءم مع طاقته للوصول إلى نقطة خلاصٍ، تُنقذه من الغرق، بينما نجد القاصَ منشغلاً في هدم حدَثٍ هنا لإعادة بنائه هناك، بنسيجٍ قصصيٍ متماسكٍ، يسعى من خلاله لجذب المتلقي بحلقاتٍ متتابعةٍ، عبر مشاغبة وعيه فنيًا في كل نصٍ، وصولاً للعالم المولود بكل تحدياته، لأعيد بدوري تصفُّح الكتاب من جديد، فأجد أماً ماتت في نصٍ كتبه الراوي، وهو في زمانٍ ومكان غريبَين عن زمان ومكان القصة، كما في نص الاستهلال "لم أرَ أمي نائمةً قط"، وعاشت نفس الأم، بعد موتها، في النصف الثاني من الكتاب "أنا وهي والقط الرمادي". وهكذا نرى امرأةً، عندما استشهد كل رجال مدينتها، وجدت نفسها مضطرةً أن تصبح (رجلاً) لتنتقم من قتلة أبناء مدينتها، فنراها ملثمةً متمثلةً بكل جرأة الرجال وقوتهم، لتثأر ممن عاثوا في مدينتها فسادًا: "ظلت تتجول، دون أن يتركها حذرها هذا، رغم قوةٍ، تعلن عن نفسها كذلك، في ملامحها، ولفتاتها، وهي تمرق من حارةٍ سدٍ، إلى منزلٍ مثقوب الجدران، إلى طريقٍ بها سياراتٌ مدمرةٌ، وأسرِّةٌ ومقاعد، وألعاب أطفالٍ.. نظرتْ إليها طويلاً، لكنها وصلت سريعًا، وعلى مقربةٍ من الجندي، أحد حراس ثكنة من أبادوا مدينتها، والتي ترقبته على مدار الليالي الماضية، اختبأت مستلقيةً على وجهها كمقتولةٍ وقد أحكمت قبضتها على مقبض السكين".
يحكي لنا القاص، كأنه يلعب، سيرة حياة الأبطال المتأرجحة بين خط استواء الواقعية وخط جنوح التخيُّل، ارتباطًا بالحدث الذي يهزمهم فيه الموت مرةً، وتنصرهم الحياة على الموت غير مرةٍ، بين صعودٍ وهبوطٍ، لاستنباط المفارقة وإشعال الدهشة، في زمنٍ يسيل كالماء عبر أثيرٍ تكوين شخوصه، فيسري رقراقًا لا يحده حلمٌ ولا يثني عن نسجه خيالٌ، ولا يستحيل تحقيق كلاهما في الواقع.. فنجد مكانًا واضحًا، رغم ضيقه، لمسرح أحداثه، فيما تختلف فيه الأبعاد باختلاف مصائر الأبطال وحيواتهم مراهنًا على وعي القارئ، الذي يشاغبه، دائمًا، بمراوحة السرد بين الواقعي الشفيف، والغرائبية، وتقنية الحلم، الذي يأخذنا عبرها إلى غابةٍ من الحملان والنمور والطيور والجراء: "كن عاريات، مازلن، حتى من وعيهن بالأنوثة، يلعبن مع النمور أو الحملان، مما دفع الغربان للتجمع فوق أذرع الرجل الحجري ورأسه ليشاهدوهم دون حركةٍ.
أو صوتٍ يصدر عنهم، وهنَّ يلعبن حتى غروب البهجة وهبوط الشجن، الذي كان يلف الجميع فينامون متلاصقين". ورغم ذلك، يحرص القاص أن يولد من صلب عالمه الغرائبي، عالمٌ آخر حقيقيٌ، قد تتشابه أو تتنافر فيه المشاعر والأحلام، التي يملك كل مفاتيح استنساخها بحرفيةٍ: "كنا نلملم بقايا أخوتنا والأصدقاء، وندفنها، عميقًا، في الرمال، لنعود لثكناتنا في صمتٍ ذاهـلٍ. لم تفارقنا، أبدًا، ضحكاتهم ولا حكاياتهم البسيطة.. التي، كنا، نعيد حكيها ونبكي. فمتى ضاع موقعنا، وتفرقنا، ليسكنني أنينهم والصراخ؟ هل عندما أفقتُ، مشجوج الرأس ومهشم العظام، ومن فوقي جثثٌ، وأنقاض؟! ٌلا أعلم، ولا أعلم كيف استطعتُ الخروج من تحتها، ولا كيف ركضتُ، ما إن بُغتُ بيدٍ نازفةٍ، تتشبث بكفي؟!". هذه مدينةٌ عاثت فيها آلة الحرب والدمار فسادًا؛ ليَهبنا الراوي من خلالها روح البطولات، وقدسية الوطن، وعظمة تضحية أبنائه، تحقيقًا للغاية الإنسانية المطلقة، رغم قسوة المشهد والوجع.
ولعله، الوجع ذاته، هو من استدعى الأدباء والمشاهير الغربيين في القصص هنا، ليستحيلوا أبطالاً يحركون الأحداث، كإرنست همنغواي، كافكا، بورخيس، إلساندر باريكو، وباولو بيكاسو وفرجينا وولف، وقد نسج معهم وبهم حكاياتٍ شائقةً، عبر فتْح قوسٍ من الزمن للولوج إلى عوالمهم، وعالمه كذلك، رغم موته وموتهم في الزمانَين المختلفَين بين الماضي والحاضر، وقد ورد لعبه معهم عبر حواراتٍ نوعيةٍ أدارها القاص بينه وبينهم بحرفيةٍ، كلٌّ بما يناسب صفته وعمله في زمانه آنذاك: "أتى باولو بيكاسو علق مندهشًا: أخيرًا رأيتك تصلي! وأخرج هاتفه المحمول، التقط صورةً وقال سأعد لك فنجاناً من القهوة معي، بعد قليلٍ أتت فرجينيا وولف، اقتربت وهي تقول: وهل نسيت أن ترتدي ثيابك، أم أن هذه موضة زمانكم. وابتعدا ضاحكَين دون أن يكتشفا موتي".
لقد عقد القاص بينه وبينهم خيوطًا متينة، فأحسن عقدها هنا، وحلَّ وثاقها هناك، بأصابع واثقةٍ من قدرتها على الربط والحل، وكذلك نجد في القصص الكثير من الأدباء العرب، مثل إبراهيم أصلان وسعيد الكفراوي وطارق إمام ويوسف إدريس، الذي استدعاه الراوي بشكلٍ خاصٍ، وفي محاكاةٍ لقصته "بيتٌ من لحمٍ"، ليجعل منه بطلاً ينافس الراوي في دور البطولة، بعيدًا عن إعادة حكي المحكي، من خلال حلمٍ كنا قد ظنناه واقعًا، عشناه مع القاص بدقة تفاصيله، وحرارة أحداثه، ولغة سرده الممسوسة بالخيال والشغوفة بالتفرد وتصوير المشهد بدقةٍ، ليفاجئنا نجيب محفوظ، في إحدى القصص، وهو يعد الكاتب بأن يقرأ على مسامعه كتابه "حتى يولد العالم" ذاته، مما يجعلنا نتهيأ، نحن القراء، بعد أن أخذتنا اللعبة تمامًا.
كل ما ذكرتُ، لم يمنعِ الكاتب من أن يعيش الحب على أرض الواقع -بعيدًا عن الجانب الفانتازي في بعض النصوص- الذي يحكي لنا فيه عن أدق رغباته الدفينة التي يود أن يعيشها مع حبيبته، دون أي مجازٍ، بل يرمي لنا كل رغباته على شاطئ النص؛ لنلتقطها ببساطة من يرغب به، وتعقيدات ما يعرفه عنه بعد ذلك، بلغةٍ سلسةٍ، يتفنن من خلالها في رسم المشهد الواضح والضمني والشخصي جدًا؛ لتحقيق لقاءٍ يراوده منذ سنين، دون حرجٍ من إظهار عواطفه المتفجرة حد الشغف في روح وجسد من يحب، معمقاً عبر معانيه لحظته الشعورية تلك، بكل تجلياتها النفسية بينما هي -حبيبته التي تصاحبنا في كل النصوص بصفة الصديقة- تتشرب عشقه المحموم، وتُمعن في أسئلةٍ مشاكسةٍ، تضفي على لقائهما مرحًا وولعًا قلَّ نظيرهما، لنتفاجأ في النهاية كقراءٍ أنها فقدت بكارتها لسبب تافهٍ جدًا، لا يعدل قيمة ما فقدته ليعكس الراوي من خلاله تدني مستوى التفكير المجتمعي بالأنثى، وما تعانيه نتيجة سوء معاملتها من منظورٍ ضيقٍ جدًا: "أستنشق أسفل أذنها، تتنهد متشبثةً بي، ثم تقول هامسةً: كنتُ أود أن أهديك بكارتي، أريد أن أشعر بهذا معك، غير أني قد تخلصتُ منها بإصبعي، منذ أعوامٍ، في اليوم التالي الذي أجبرتني فيه أمي بالكشف على عذريتي، بعد أن شككتها في أمري -كما أخبرتني- بعض الجارات". هكذا وبهذا البساطة، والخصب، والتنوع، كتب ياسر جمعة قصص "حتى يولد العالم" راصدًا الثنائيات.. الحياة/ الموت، الطفولة/ الشباب، الذكورة/ الأنوثة، القوة/ الضعف، الواقع/ الخيال، الحقيقة/ المجاز، وقد تبدلتْ ملامح أحدهما بملامح الأخرى وتوقفتْ في حلمٍ لتتابع مسيرها في حلمٍ آخر، وماتتْ في الواقع، لتحيا في الخيال، وقد تموتُ في الخيال لتعيش في الواقع كما ينبغي لها أن تعيش، وهكذا دواليك نشهد توالي الأحداث والشخوص والأزمان والأماكن على اختلافها من رحم عالمٍ خاصٍ جدًا بالكاتب يُنجبه هو شخصيًا، مع كل نص وكل حكايةٍ، ضمن صراعٍ داخليٍ لأبطاله، بلغةٍ سرديةٍ رشيقةٍ وبمنظورٍ متطورٍ عبر تقنية الميتاسرد، فلا يتجاوز الحدَّ، ولا يَقصُرُ عنه، بدقة شريكٍ حقيقيٍّ، ينتصر للبطل في النص حتى لو كان جمادًا.
إيمان فجر السيد/ سوريا