أ. د. عادل الأسطة - يا شاعري محمود.. وداعاً

صباح السبت، 9 ـ 8، اشتري جريدة، وأقرأ في الصفحة الأولى نبأ عن حالتك الصحية، عن العملية التي أجراها جراح عراقي يعد من أمهر الجراحين في العالم، الأحد، مقالي الأسبوعي، نأتي على سيرتك، على حالتك الصحية، على شاعريتك، على علاقتي بك، وسأقول للعاملين أنني، حين تعود سالما معافى، سأزورك، لأهنئك بالسلامة.

مساء السبت، أجلس على الرصيف، أجلس مع عمي، آخر من تبقى من عائلتي ممن ولدوا في يافا، يحدثني عن حنينه إليها وإلى شاطئها وبحرها ومنزل أبيه فيها، منزله الذي جرفته جرافات أبناء العمومة، وفجأة يناديني أخي، فثمة من يطلبني على الهاتف. امرأة في وكالة أنباء ذكرت اسمها لي، وذكرت اسمها هي أيضا، ولم أعد، الآن، أذكرهما، تسألني عنك، تقول لي إنك لم تمت بعد. إنك في حالة موت سريري. ستسألني وأجيب، وتسألني وأجيب. سأعطيها رقم هاتفي النقال، بناء على طلبها، وسأتابع آخر الأخبار. الحالة حرجة. مت. لم تمت. وسأصغي إلى خبر نعيك. ينعاك الرئيس.

ماذا سأكتب في رثائك يا شاعري. لم ألتق بك إلا مرات قليلة لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وهنا أحور في بعض أسطرك الشعرية، سكنتني أربعين عاما تقل قليلا. هل تذكر ما كتبته عن أحمد الزعتر الفدائي الذي سكنك عشرين عاما واختفى، وظل وجهه بارزا كالظهيرة. هل اختفيت أنت أيضا؟ أظن أن أشعارك التي سكنتني منذ العام 1973، ستظل تسكنني ما دامت لي ذاكرة ويد تكتب، ما دمت أدرس في الجامعة وأشارك في المؤتمرات، فأنت شاعري المفضل، شاعري الذي أنجزت عنه غير كتاب، وعشرات الدراسات والمقالات، حتى قال لي أحدهم، ذات نهار، لفرط ما لاحظ من اهتمامي بشعرك: سنسميك عادل درويش. بل إن أحد قراء دراساتي عنك سألني ذات نهار إن كانت لك ابنة شابة، ظانا أنني أتودد إليك حتى أخطبها.

في العام 1973 قرأتك لأول مرة. درست قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" في الجامعة، وبدأت أتعرف إلى أشعارك وأشعار شعراء المقاومة: سميح وتوفيق وراشد وسالم. وغامرت واشتريت ديوان الوطن المحتل الذي أشرف على إنجازه الشاعر يوسف الخطيب. وسأظل أحتفظ به حتى العام 1976، أقرأ فيه وأقرأ فيه، وربما حفظت مقاطع كثيرة منه. وفي هذه الأثناء سأصغي إلى أصوات زملائي، في الجامعة، يقرأون قصائدك وقصائد فدوى. "نحن في حل من التذكار فالكرمل فينا، وعلى أهدابنا عشب الجليل". هل كنت يومها أدرك المعنى جيدا؟

تسألني مراسلة وكالة الأنباء: لم تميز محمود درويش عن رفاقه شعراء المقاومة؟ فأقول لها بسبب شاعريته. هل قرأت أنا منذ العام 1976 شاعرا كما قرأتك؟ لا أظن ذلك. لم أكن أعرفك شخصيا، لكن أشعارك وجدت صدى في نفسي، فأخذت أقرأك غالبا قراءة ناقد متعاطف. كم من مرة قرأت أحمد الزعتر التي صدرت في كراس خاص، قبل أن تصدر في ديوان "أعراس" (1977) الذي أعادت دار الأسوار في عكا طباعته وطباعة ديوانيك "أحبك أو لا أحبك" (1971) و"محاولة رقم 7" (1974)، وفي فترة متأخرة "حصار لمدائح البحر"؟ لا أدري، ولكني قرأتها كما لم أقرأ شعرا من قبل.

وسيسحرني مقالك عن غسان "غزال يبشر بزلزال". سأجري، وأنا معلم في مدرسة إعدادية، هي العقربانية، مسابقة قراءة، يتنافس فيها الطلاب، سأعطيهم نصك في غسان، وسيتعمم النص، النص الذي اندمج فيه قارئوه كما لم يندمجوا في قراءة أي نص آخر. أنت شاعر في نثرك، ونثرك لا يقل قيمة عن شعرك، وربما لم أكن مخطئا حين قلت: إن من يريد أن يفهم أشعار درويش، عليه أن يقرأها مع نثره. نثرك يضيء شعرك ويوضح بعض غموضه. لقد خسرناك ناثرا قدر ما خسرناك شاعرا.

في قصيدتك لأمك حورية "تعاليم حورية" أتيت على لقاءاتك العابرة بها. كانت لقاءاتكما سريعة، ولكن أيامك كانت تحوم حولها وحيالها. وكانت هي تعد أصابعك العشرين عن بعد. في قصيدتك هذه قلت: لم أكبر على يدها كما شئنا: أنا وهي، افترقنا عند منحدر الرخام. هل كانت علاقتي بك وبأشعارك مشابهة؟ لم أكبر على يدك، كانت مقالاتي تحوم حولك وحيالك، وكنت تعد أصابعي العشرين عن بعد. كم كنت حاضرا في كتاباتي، وكم كنت، في السنوات الأخيرة، حاضرا في بعض قصائدك وفي بعض مقابلاتك.

أحيانا كانت تأتيني تحياتك. من خلال شاعر ما. من خلال طالب ما يزورك. أحيانا تبلغني شاعرتنا المرحومة فدوى عن غضب اعتراك لدراسة لم ترق لك. أحيانا يبلغني شاعر قريب منك، كنت ألتقي به، عن رأيك فيما اكتب. أحيانا يقول لي: يخبرك محمود أن ما كتبته عنه كفاية. هل قلت هذا أم أنه من قول الشاعر نفسه، لأنه ينبغي أن أكتب عن غيرك، عن الشاعر الذي ينقل لي الكلام؟

سأتذكر قصيدتك: "حجرة العناية الفائقة" من ديوان: هي أغنية.. هي أغنية" (1986)، سأتذكر أسطرك فيها:

"هو القلب ضَلَّ قليلا وعاد، سألت الحبيبة: في أي قلب أصبتُ؟ فمالت عليه وغطّت سؤالي بدمعتها. أيها القلب.. يا أيها القلب كيف كذبت عليّ وأوقعتني عن صهيلي؟
لدينا كثير من الوقت، يا قلبُ، فاصمد
ليأتيك من أرض بلقيس هدهد
بعثنا الرسائل
قطعنا ثلاثين بحرا وستين ساحل
وما زال في العمر وقت لنشرد"

كم مرة خانك قلبك، ولكن الطب أسعفه. هذه المرة لم يسعفك أمهر الجراحين في العالم. هل خانك قلبك أم خانك الطب أم خانتك الدنيا بعد أن مر وقت كثير دون أن يأتي الهدهد من أرض بلقيس، ودون أن تأتي إجابات الرسائل، وبعد أن قطعت ستين بحرا ومائة وعشرين ساحلا. لم يعد لديك في العمر وقت لتشرد. نحن ما زلنا نشرد. الآن لا نتابع أخبار قلبك. لقد غدا قلبنا، نحن أبناؤك، يوجعنا، ولا أظن أن إجابات الرسائل ستصل.

في السنوات الأخيرة أردت الاتصال بك لأقول لك: كف قليلا عن نشر الكتب، فأنا خائف عليك. هذا النشاط أوحى لي بأنك تسابق الوقت، وأنا أريد أن تعيش فترة أطول. كلما صدر لك كتاب، منذ "لا تعتذر عما فعلت"، دون أن يمر وقت طويل، كما كانت عادتك سابقا، كنت أهجس: هل يسابق الموت؟

ربما لم ترق قصيدتك الأخيرة "سيناريو جاهز" لي فنيا. ربما، ولكنني توقفت مطولا أمام نهايتها:

"هرب الوقت منا ـ وشذ المصير عن القاعدة ـ هنا قاتل وقتيل ينامان في حفرة واحدة.. وعلى شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو إلى آخره".
هل كنت يا شاعري، تودعنا؟ محمود درويش.. وداعاً.

*قاص وناقد وأكاديمي فلسطيني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى