محمد عبدالولي - ريحــــانة

هؤلاء الأغبياء يتعمدون إزعاجي في مثل هذا الوقت المبكر. قلت لهم أكثر من مرة بأنني لا أريد كدمتهم ولا فنجان الشاهي المليء بالقاذورات. لكن مستحيل أن تُفَهمَ عسكرياً بما تريد وأنت سجين. اللعنة، إن الشمس لم تُشرق بعد. وهم يفتحون زنزانتي ليقدموا لي هذا المزيج الكريه من الأشياء.
فتحهم للباب مزعج، ووضعهم للأشياء أكثر إزعاجاً، وإذا تجاهلت وجودهم يصرون على أن ينزعوا الغطاء لإيقاظي. يا رب أهو سجن أم تغذيب غبي مركز؟. أن أبقى طوال النهار أحدق في سقف الزنزانة أو أعد الذباب أو أقتل المزيد من (الكتن).
تمر الأربع والعشرين ساعة وكأنها دهر كامل، والنوم لا يحلو إلا مع ساعات الصباح، عندما يصر (الرَّسم) على إدخال ما يسمى بالشاهي والكدم.
لا صباح الخير ولا سلام عليكم، بل هيا.. (جم). الشاهي قد هو بارد. إدرسهم أجد هذا الأسلوب من التعذيب، القيد في قدمي مع الصباح وكأنه قطعة ثلج.. والنوم في هذه الساعات حلم رائع بعيد عن القلعة وزنزاناتها.. عليَّ أن أتعود النوم مبكراً والصحو مبكراً، ولكن لماذا هذا؟. أنا لا أعمل شيئاً طوال اليوم لا لعب هناك ولا قراءة، لا شيء.. في السقف ثمانية أعمدة خشبية مغطاة بالجص ومن الخشبة الثالثة تساقط الجص من الوسط فتكونت منطقة فراغ، تحولت إلى مأوى رائع (للكتن). الخشبة السادسة معوجة كتمثال سريالي لإمرأة عارية معوجة الساقين. أما الخشبة الثامنة فهي ملاصقة للجدار تبدو كصورة حلوة لساحرة نائمة وقد أعطت ظهرها لفنان مجنون. لزنزانة صغيرة.. إثنى عشر قدماً في ثمانية أقدام. التراب تجمع كبحيرات صغيرة في إنحاء الغرفة.. وكل يوم ترسل صنعاء إلى الزنزانة المزيد من هذه الحبات الناعمة من ترابها. لو كان يوجد ماء معي في الغرفة لحولتها إلى حديقة زهور!!، زهور؟!. هنا في القلعة زهور يارب ما أبعد الصورة.. على جدران الزنزانة أسماء لمساجين سبقوني إليها، صالح علي، الشيخ الذاري، مطهر.. أسماء غريبة وعجيبة تحت كل أسم عبارة لا تتغير (أنا مظلوم) (يا رب خارجني وأظلم من ظلمني).. لم أكتب إسمي هناك، تذكرت بيتاً من الشعر، وكتبته تحت الأسماء، بعد أن حورت في البيت..
(دخلنا إلى السجن صفر الوجوه
كما تدخل الطير أقفاصها)
كلمات كثيرة حاكتها فوق الجدران. يمر الوقت. ولكن الوقت هنا لا يمر.. الساعات طويلة جداً. يزيد من طولها إصرار (الرَّسم) على الإزعاج.. نافذة كبيرة تطل على صنعاء ولكنها سمرت بألواح خشبية.. ألواح غريبة لم تتجمع إلاَّ هنا!!
أعلى لوح عليه الأيدي المتصافحة وكتبت (…) بالإنجليزية. قنابل دفاعية صنعت في إيطاليا حسب طلب قوات الولايات المتحدة، وصورة العلم تحت اليدين. تحته لوح آخر أغبر اللون كتبت عليه بالروسية (...) مقاس 9×9 رشاشات خفيفة. إفتح من هنا، ورسم كأس ومظلة. علي أن أوجد منفذاً بين اللوحين، الروسي، والأمريكي، لأستطيع أن أنظر إلى صنعاء. لكني أحتاج إلى آله بحثت هنا وهناك. الزنزانة فارغة سوى من مسمار مغروس في الجدار استطعت استخراجه بعد جهد جهيد.. الباب موصد طوال الوقت، لا يفتح إلا عندما يريد (الرَّسم) الإزعاج.
إنهم لا يفتحون عندما تدق الباب، ولكنهم يخبطونه بعنف إذا رأوك من خلال الباب نائماً. يفتحونه باستمرار في ساعة الصباح الباكر بالذات.
بدأت رحلة التفريق بين اللوحين. عمل شاق كان علي أن أراقب الباب خوفاً من هجوم مفاجئ واكتشاف الاله الحادة في يدي.. بدأ شعاع صغير يبدو بين اللوحين ثم بدا منظر المستشفى الروسي أمامي. يا إلهي، كم تبدو صنعاء جميلة من هنا. المسمار يعمل جهده، والفتحة بين اللوحين تكبر، وصنعاء تبدو من خلالها – أكبر فأكبر-. المستشفى، ثم المدرسة، وخلفها العرضي ومقبرة خزيمة.. وجزء من السور الجنوبي، وحنفية المياة التي تتجمع عندها النساء منذ الفجر.. عرفت الآن سر الأصوات العالية هناك، إنهن يقتتلن من أجل حنفية ماء كل صباح مع البرد والظلام، كل النسوة هناك بجانب حنفيات قليلة في إتجاه الجنوب. والنساء يحملن الماء إلى البعيد. المستشفى صامتة حقاً.. أشجارها الخضراء تميل إلى الإصفرار وعلى بابها وقفت مجموعة من السيارات. أما المدرسة فلا توجد حركة فيها، إنه فصل الإجازات.. منازل صنعاء تبدو من هنا وكأنها تعانق السماء. كم هي مزعجة في المساء، عندما يبدأون (التذكير) من بعيد منتصف الليل وحتى صلاة الفجر. ألا يتعب أولئك؟. ربما كانوا الوحيدين المخلصين لعملهم، أو ربما كان ذلك تسجيلاً، لأن كلامهم لا يتغير مع كل مساء.
في الجوار.. على مدى أمتار من سور القلعة يبدو سقف بيت كبير.. السقف كبير وواسع.. لفت نظري إليه كثرة الأصص المتراصة. فوق جدرانه العالية، أصص مختلفة الأحجام والأشكال.. لكنها جميعاً تحتوي الريحان.. أخضر اللون متفتح.. أحس أحياناً وكأنني أتشمم عبيره المفرح.. وريقات الريحان يانعة وزاهية، ربما كان ذلك لأن بقية البيوت حول ذلك المنزل لا يضم سقفها هذه الكثرة من الأصص.
مر اليوم الأول وأنا أحملق بفرح صبياني إلى العالم الذي أكتشفته من خلال الفتحة السحرية. جبل عيبان يشمخ هناك أمامي متحدياً الزمن والغبار والناس. طائرات صغيرة تهبط وترتفع من المطار الجنوبي. أحملق فيها وهي تذهب بعيداً خلف عيبان.
مر اليوم ولم ألمح أي شخص على سقف ذلك المنزل. من يأتي ليسقى تلك الرياحين هناك؟!. لابد أن أعرف. قبل الليل. تلألأت المدينة بالأنوار. شارع الزبيري تخترقه السيارات أضواؤها تثير الفرحة في أعماقي. الناس هناك يسيرون ويضحكون ويبكون وأنا هنا وحيد، لا يعلم أحد شيئاً عني، لا أحد. أنظر إلى الناس.. أشباح تبدو من خلال النوافذ المضيئة في المنازل. تتكون النوافذ مع سطوع النور، وتنسدل الستائر.. الناس يعيشون بهدوء، ربما يبكون أو يمارسون الحب، أو يحلمون.
تعبت عيناي. أعود إلى الزنزانة من جديد أقتل (كتناً) هنا وهناك، أسمع رنات قيود سجناء أخرين لا أراهم. ضحكات (الرَّسم) ترن في (الطارود). شعرت بتعب.. أرهقني كثرة النظر إلى الخارج. المساء حزين هنا. الأنوار تتلاعب في الخارج.. في التاسعة ماتت الشوارع. عيبان يبدو مسوداً بغضب، لكن الأنوار لا تزال تخفق فوق صنعاء.. في العاشرة كان الحي المجاور للقلعة قد نام، لكن بعض الأنوار في وسط المدينة لا تزال تقاوم. صلاة.. صلاة.. فتح أحد (الرَّسم) الباب بعنف.. الليل لا يزال يخيم على المدينة.. والنور القابع وسط السقف يرسل شعاعه القوي.
إذا لم أغسل وجهي الآن فلن أجد ماء بعد ذلك.. هم أنفسهم لا يصلون. لكنها طريقة ذكية للإزعاج.
عدت من الحمام. الماء بارد كالثلج. لكني وجدت فرصة لأغسل وجهي وشعري، وقدماي عدت إلى الفراش أبحث عن الدفء، ولكن كل شيء كان بارداً كالموت.
الفجر يرسل تباشيره من خلف جبل (نقم)، هادئاً ولطيفاً.. السماء صافية تماماً والشعاع القادم من بعيد يطارد الظلام بخفة. الظلام يهرب من على عيبان. السماء تبدو واضحة، بيضاء مع لون خفيف أزرق. لكن اللون القادم من وراء نقم بدأ يتحول إلى لون برتقالي فاتح. ينتقل الآن من هناك إلى عيبان. الظلام يبتعد عن عيبان بعيداً نحو الرحبة.. السماء تزرق قليلاً، وثمة لون برتقالي فاتح يتراقص فوق الجبل، الهضاب النائمة في أحضان عيبان واضحة تماماً الآن.. بيوت بيضاء ورمادية. تبدو قرية (حدة) أكثر جمالاً الآن حتى لون الأشجار، إنها تبدو الآن خضراء بوضوح.
الضوء يتراقص الآن فوق نقم، قوياً وفتياً، أشعته تنعكس بسرعة على قمم عيبان وفوق منازل القرى هناك، لكن الظل لا يزال يخيم على المدينة وتحت أقدام (عيبان) لا تزال سحابة صغيرة من الندى ترتبط بالأرض بقوة. وكذلك فوق بعض الحقول جوار المطار. أما (الرحبة) فلا زال الظلام يقاوم فيها بيأس. المدينة تكبر وتكبر تحت أضواء الصباح. سيارات قليلة تمرق هنا وهناك.. لكن الناس لا يزالون في البيوت.
أغلق أخر مكرفون في مسجد بعيد الآن أنتهت صلاة الفجر والأدعية الكثيرة بعد ذلك.
أصوات أطفال ترتفع من مكان ما.. أنها جنازة صباحية، صلي عليها في أحد المساجد، النغم الحزين لأصوات الأطفال الباردة تحملها النسمات الصباحية. شعرت بكآبة وحملقت في السماء. الألوان اختلطت ببعضها البعض. وبدا الضوء هادئاً وجميلاً وقوياً.. قمم عيبان تعكس أضواء الأشعة.. أما بيوت القرى هناك فتعكس الألوان الزجاجية. ترسل إشارات ضوئية لطيفة. أصوات الأطفال تردد باستمرار (حيٌّ دائم) (لا إله إلا الله.. فرد صمد. وثمة أصوات كسلى لرجال يحملون الجنازة وهم لا يرغبون في الاستمرار. لماذا يدفن الناس هنا مع الفجر؟!.
لم أجد جواباً، لكن أطراف المدينة بدأت تغتسل بضوء الصباح.. تحول الندى إلى الوان ضوئية متعددة.
صوت طائرة تستعد للإنطلاق.. سيارات، ونساء هنا وهناك، يحملن الماء من الحنفيات المتعددة أمام المستشفى إلى منازلهن. نساء سود يرتجفن من البرد. لكن الماء ضروري.. (حيٌّ.. دائم..فرد.. صمد.. لا إله إلا الله) غابت الجنازة في مكان ما في المدينة.
أوراق الريحان تتلألأ من الأشعة الصباحية، تبتسم لي هناك فوق سقف دار قريب أنها تتفتح مع شعورها بالحرارة. استقبال رائع للضوء.. وهناك على مقربة من أصص الريحان، كانت تقف.. سروالها يغطي الجزء الأسفل، وفوقه ثوب قصير أسود.. على رأسها غطاء صغير يضم شعرها الذي تمرد على الغطاء وأصبح يرقص مع النسمات الندية برشاقة كأنها تدربت على (ريجيم) معين. تسير بخفة من أُصً إلى آخر، وتفرغ فيها من وعاء معها قطرات من الماء. إذن تأتي هي أيضاً مع الفجر. لم أرها طوال النهار وها هي تأتي الآن. دقائق فقط.. لكنها كانت بالنسبة لي دهراً.. التفت نحو أصص الريحان. بدت لي عيناها سوداوان.. هكذا خلتهما من بعيد.. واسعتان.. لولا (الخُنَّة) لرأيت وجهها حتى مع الفجر.. ألا تبعد ذلك الشيء الكريه الذي يغطي أجمل ما فيها.. نصف وجهها.. أنامل يديها رقيقة. أراها تتجول من مكان إلى أخر تسقي ريحانها.. سميتها في الحال، (ريحانة).. أنهت عملها. وقفت تنظر إلى الرياحين بفرح.. ربما كانت هناك ابتسامة ما تحت (الخنة). سارت فوق السقف.. رقص قلبي مع خطواتها الناعمة.. عند الفجر كانت قريبة جداً مني.. حتى أنني كدت أُلآمسها.. ولكنها غابت في باب السقف.. هوت إلى أعماق المنزل.
أشعة الشمس تغمر المدينة.. الحركة تكبر، وضوضاء سيارات تدخل القصر لحمل سلاح أو إدخال سلاح. أصوات جنود وضباط وقبائل.. الكل هنا يأتي للبحث عن سلاح.. لكنها لم تكن فوق السقف طوال ذلك اليوم.
كان آذان الفجر يشق السماء، وكنت قابعاً هناك بجوار النافذة أحملق في الظلام.. لا تزال النجوم تلمع فوق عيبان ونقم. عندما فتح أحد (الرَّسم) الباب، نظر إليَّ باستغراب، فقلت له: (صلاة ماه.. يا خبير.. صلاة).
قمت سريعاً، والرجل لا يزال يحملق. لم يكن هناك وقت لإزعاجي.
عدت سريعاً أيضاً لكي استمتع بالفجر. بالشعاع والألوان الزاهية التي يصنعها قدوم يوم جديد. ها أنذا الآن أحدق في سقف ذلك الدار.. أنتظر اللحظات التي تشرق فيها شمسي التي أكتشفتها بالأمس.. (ريحانة).
بدت كفجر جديد.. بثوب ملون فوق سروال أخضر شعرها الأسود الطويل لا يزال متمرداً على المصر. يداها هذه المرة كانتا عاريتان حتى المرفق.. سواعدها بيضاء كزبدة الفجر.. عيناها شعاع الفجر كله.. كان ضوء الصباح يملأ المدينة وكانت هي مصدر ذلك الضوء الهادئ.. تنقلت من أُصً إلى أخر بخفة ملاك.. نظرت مرتين إلى ما وراء سقفها.. أشارت بأناملها تحية لإنسان لم أره.. ربما لإمرأة أخرى مثلها فوق سقف أخر هناك، عادت إلى أصص الريحان وأنا أكاد أطير من فوق حائط السقف إليها.. قطفت غصن ريحان من إحدى الأصص واستنشقته بفرح الصباح. كادت أخشاب النافذة أن ترمي وجهي وأنا أحدق.. كنت أتنفس مع ندى الصباح ونسماته رائحة الريحان القادمة من عند جارتي التي لا تعرفني.. علاقة قديمة استمرت تربطني بها. مع الصباح بل وقبل الفجر كنت أنتظر الفجر وانتظرها. كلاهما أصبح بالنسبة لي غذاء كل يوم.. ولم يعد (الرسم) يطرقون الباب أو ينادون للصلاة.. فقد كنت أصحو بدون أي طلب منهم. بل بدأت أزعجهم أنا طالباً الوضوء قبل الوقت المحدد حتى أتفرغ للقاء حبيبتي ريحانة. كل يوم كانت تبدو بثوب جديد. مرة سقط غطاء الرأس فتطاير شعرها فوق وجهها فرحاً بحريته. لم تعده إلى أسره. ظل يتراقص حول وجهها وهي فرحة.. كل صباح تقطف قبضةً من الريحان.. تقبلها وترسل يديها نحو السماء في صلاة غامضة.
كان الوقت في الصباح يمر كالشعاع، سريعاً، ومع ذلك كنت أنتظر كل اليوم تلك اللحظات. أبقى طول النهار، وأنا أعيد رسم كل حركة تصدر منها.. انحناؤها فوق الأصص.. قطفها أغصان الريحان، تقبيلها رفع يديها نحو السماء.. حتى خصلات شعرها الأسود الطويل كنت أظل أرسمها وأتخيل تموجاتها هنا وهناك مع نسمات الفجر.. أصبحت أعرف عدد الوان ملابسها فهذا الذي لبسته اليوم كانت قد لبسته قبل ذلك بأيام.
بدأت أسجل في ذاكرتي ذلك الثوب الذي كان عليها صباح الجمعة، أراه عليها أيضاً يوم الثلاثاء.. وسروالها الأحمر لا تلبسه إلا مع الثوب ذي الألوان الوردية.
أصبحت أجد أن التفكير فيها يشغل فكري يوماً بعد يوم. أصبحت قريبة مني لدرجة أنني أعرف ماذا ستعمل صباح كل يوم.. تمنيت لو كنت ريحانة في يدها أو أصصاً فوق حائط سقف دارها.. من هي تلك الملاك الذي يفجر في أعماقي كل هذه المشاعر؟! لم تعد المدينة بأضوائها الليلية أوأشعتها المضخمة كل صباح بالندى وبأشعة الفجر تهمني، بقدر ما تهمني هي..
فرحة الطفولة التي تتبدى على ملامحها وحركاتها دليل شيء ما.. أتحب تلك الريحانة إنساناً ما؟ أكيد.. كان هذا يؤلمني. فمن يكون ذلك السعيد الذي ستكون من حظه.. عمرها بين السادسة عشر والسابعة عشر.. لا أكثر.. ربما أقل.. بيضاء. عرفت ذلك من أصابعها وملامح وجهها الذي تسجنه (الخنة)..
مضت الأيام والعلاقة الحميمة لا تنفصم بيننا ورغم أنهم سمحوا لنا أن نبقى فوق سقف السجن لمدة نصف ساعة كل يومين بعد أن أصابنا الهزال وبعد أشهر طويلة، إلا أن الشمس والهواء هناك لم يكونا شيئاً بالنسبة لي. صحيح أنني رأيت عدداً آخر من النساء فوق أسقف منازل كثيرة ولكن لم تكن هناك واحدة مثل (ريحانة) لم أعد أراها عند طلوعي (للتشمس).. حاولت أكثر من مرة أن أسأل أحد (الرسم) عنها، لكني خفت أن يعرف سري. وأن أحرم من ريحانة أو ينقلني إلى زنزانة أخرى قد لا أراها من هناك.
هكذا بقيت وفياً لوعدي مع ريحانة، رغم أن أكثر من إمرأة رأيتها حتى بدون تلك (الخنة) اللعينة. وكانت هي دقيقة أيضاً في مواعيدها..
حتى كان ذلك الصباح.. الذي لم تظهر فيه بموعدها. مر اليوم وأنا أحملق ولكنها لم تأت.. ماذا حدث لها؟ أهي مريضة…؟ أم ذهبت إلى مكان آخر؟ لكنها لم تقل ذلك صباح الأمس؟ لم أجد الجواب، ولم تظر هي..
مر اليوم ثقيلاً. بطيئاً.. فقدت كل رغبة في الأكل أو الحديث مع (الرَّسم). وفقدت الرغبة حتى في الذهاب إلى الحمام.
لم أنم ليلتها.. ربما تظهر قبيل شروق الشمس. رحت أحملق وسط الظلام.. أصص الريحان لا تزال واقفة خضراء تمتص من الندى، تنتظر الفجر وريحانه.. أقبل الفجر بألوانه المتعددة، لكنها لم تكن هناك. أنها مريضة بالتأكيد، لماذا لا يستدعون لها دكتوراً ليعالجها.. لابد أن تعود فالريحان ينتظر من يسقيه.
أصبت بمرض غريب، فقدت الرغبة في كل شيء. الأكل، النوم، الحديث، أصبح همي هو أن أحملق وأحملق فقط.. لكنها لم تظهر في اليوم الثالث أيضاً.
مضى أسبوع.. أصص الريحان لا تزال هناك، لكنها لم تعد خضراء كما كانت.. بعضها أصبح (يقاوم)، ولكن البعض بدأ يموت.
مضى أسبوع أخر. ماتت بعض الرياحين في الأصص وبقى البعض الأخر شاحباً مصفراً. ماتت كل الرياحين في الأسبوع الثالث، وبقت الأصص وحيدة.. وريحانة لم تظهر.. كنت مستمراً في احترام مواعيد الفجر ولكنها أخلفت كل المواعيد ولم تعد.
أصبحت الرياح تهب على صنعاء.. وعواصف الرمال تغطي المدينة.. وكانت الرياح تأخذ من أصص الريحان بقايا التراب.
يا رب.. لماذا ذهبت.. ماذا حدث لها. هل ماتت..؟ لا يمكن أن يموت من كان مثلها ربما تزوجت.. فكرت كثيراً ولكني استبعدت ذلك لأن الزواج مثل الجنازة هنا في صنعاء ينشدون له طوال الليل بأغاني دينية حزينة.. ولم أكن قد سمعت أي نشيد يطلع من ذلك المنزل.. لابد أنها سافرت.. إذن لماذا لم تترك من يعتني بريحانها…
لقد ذهبت فجأة.. هذا هو السبب الوحيد.
مع فجر اليوم التالي سمعت بكاء الأطفال وهم يرددون: (حي.. دائم.. أحد.. صمد.. لا يدوم إلا الله.. لا إله إلا الله).
إنسان أخر غادر الحياة دون أن يأخذ شيئاً. رأيت الجنازة تمر في الشارع المقابل لجدار المستشفى.. إذن هو من هذا الحي المجاور.. الجنازة صغيرة.. والأطفال يبكون بأصواتهم (حي.. دائم.. أحد.. صمد).
بعد أيام وأنا في سقف سجن القلعة قلت لأحد (الرسم):- كانت هناك رياحين ولكنها ماتت.. ألا ترى أنهم مهملون. قال لي بعد أن نظر إلي:- أين ماتت هذه الرياحين؟ في ذلك المنزل!! وضحك.
قلت:- لماذا ضحكت...؟
قال:- يقولون، أنهم وجدوا زنوه قبل أسبوع..
قلت: ماذا؟!
قال: طفل ميت.. رجموه جوار جدار القلعة. وجده أحد العسكر في الصباح..
قلت: وماذا إذن؟
كانت دقات قلبي تتسارع.
قال: لا شيء، قبل كم يوم دفنوا إمرأة ماتت في ذلك البيت..
ضحك مرة أخرى، وقال:
- الدنيا كلها فاسدة.. (قحبة) لقطت كلب من الشارع..
قلت وأنا أكاد أصرخ:
- وما علاقة هذا بذاك؟
قال – ما فهمت.. البنت التي كانت في ذلك المنزل هي أم (الزنوة).. قتلوه.. وبعد ذلك قتلوها ودفنوها.
قلت: هكذا!!
قال: هكذا..
لم يكن قد مضى على وجودي في السقف سوى دقائق. طلبت النزول إلى زنزانتي.. وبقيت هناك أبكي (ريحانة) كأنني طفل فقد كل شيء فجأة.. وبدون سبب.


-------------------
تعز - 26- 1962
أعلى