في نهاية تسعينيات القرن الماضي، حيث كانت معركة إثبات الوجود ومقاومة النفي والتهميش والإقصاء بالنسبة لجيل التسعينات الشعري المصري على أشدها، كنت قد نشرتُ ديواناً واحداً وقصائد في عدة دوريات ولكني كنتُ أتحرك مشاركاً في هذه الحراك بأكثر من شكل وكنت قد أضفت للسيرة الذاتية رقم هاتفي على أحد المواقع على الإنترنت.. وفوجئت باتصال من أحد الأشخاص يخبرني فيه أنه شاعر وأنه يتابع كتابتي مُعَدِّداً نقاط اختلافها عن قصائد الشعراء الآخرين وأنها كانت من أسباب انتقاله لكتابة قصيدة النثر وأنه كان يتمنى لو كان هو كاتبها..
سَعِدَ الشاب الذي كنتهُ بكلامه جداً معتبراً أن معسكرنا الشعري اللاهث زاد منافحاً صلباً ونحيتُ ملاحظتي عن صوته الذي كان كأنهُ يخرج من قعر بوق ونبرته الغريبة جانباً، وفي نهاية المكالمة طلب عنواني البريدي ليرسل لي قصائد ورحبت طبعاً وبعدها بأيام قليلة وصلني خطاب منه يحمل صوراً ضوئية من قصائد له وقبل أن أشرع في قراءتها وصلتني في الأيام التالية نسخ أخرى من نفس الخطاب!! تعجبت لكني فسرت الأمر بأنه قد يكون صاحب ذكريات سيئة مع البريد لهذا يود أن يطمئن على وصول الخطاب، قرأت القصائد ووجدت عليها ملاحظات عديدة ورددت على عنوانه بخطاب أوردت فيه هذه الملاحظات الودودة. بعد وصول الخطاب إليه فوجئت بمكالمة مرتعشة يتهمني فيها وهو يحسُّ بصدمة هائلة بأنني ظلمته وأنني شخص غادر نسيتُ جميله الكبير بمحبة قصائدي والانحياز لها! حاولت الاعتذار وإفهامه أن الموضوع مجرد ملاحظات من قارئ مخلص، له أن يأخذ بها أولا يأخذ وأنها تدل في النهاية على شاعر جميل في الطريق، لكنَّ محاولتي لم تقلل غضبه الذي تحول إلى صوت حزين ومضطرب للغاية. بعد ذلك تسلمتُ تلاً من خطاباته التي تحمل شهادات تقدير من مسابقات شارك فيها وعتاباً جباراً لا ينقطع وطول الوقت كنت أفاجأ بمكالمات لا ترد صباح مساء، كنتُ أحس بذنبٍ وتعاطفٍ مع نفسية معذبة كهذه مما جعلني أتحمل هذا الإزعاج الدائم وأتحمل تقريع الأهل بسببه، باعتبارِ أنها ضريبة واجبة تنبع من إنسانية كل إنسان، بعدها وصل خطاب يقول إنه بعد معركة عنيفة مع ذاته انتصر أخيراً الجانب الذي يرى أن محبة شخصي حتمية وتشبه القَدَر لأن محبة نصوصي واجبة، حيث أن إحساسه بأنه هو من يكتب هذه النصوص ليست مجانية ولا سهلة وأنه من المؤكد بالتالي أن هناك تلاق في الأرواح بيننا!
عند هذه المرحلة تحول انزعاجي إلى خوفٍ حقيقي حدا بي إلى تغيير رقم هاتفي وعدم استلام أي خطابات تأتي منه ليعيدها البريد إليه مرة أخرى، ثم مرت سنوات على هذه الفترة المرهقة إلى أن فوجئتُ بصفحة على الفيسبوك تحمل اسمه وهي صفحة بلا صورة ولكنها مملوءة بمنشور واحد يقول إن تركتِني يا حبيبتي وسافرتِ معه سأفجر الطائرة!.
أظن الهَوَس في إحدى تجلياته، نوع من التماهي بين طريقة تفكير القارئ وبين الكتابة التي قد عبر بها الكاتب ورتب الأفكار والتصورات بطريقة أرضت ثوابت المتلقي وما يعتنقه، لدرجة أنه اعتقد أن الكاتب قريب وصديق وأن العلاقة بينهما أقرب لأن تكون اتحاداً بين وعيين متماثليْن أو نفسيتيْن متحدتيْن. وربما عبر الكاتب عن أحلام القارئ وتطلعاته أو كان جريئاً بما يكفي لإثارة الدهشة أو تحفيز الاعتراف الذاتي بأن هذه الشجاعة، مثلاً، كانت حلماً قديماً وهكذا.
وربما استمتع القارئ بكتابات الكاتب مما حدا به لاعتبارها واحة المتعة وسط هذه الدنيا القاسية وكلما مر الزمن ولم يخذل الكاتب قارئه، زادت الصداقة والمحبة وتعمقت وباتت جزءاً لا يتجزأ من شخصية الإنسان وشفرته الذاتية. كل هذا معتاد لكنه قد يتحول إلى هَوَس إذا رأى القارئ أن هذا الشخص المبدع يخصه وحده بالذات وأن مشاركة الآخرين له فيه جريمة وخطأ.
كنت أقرأ وأنا صغير بكثافة مرعبة، أقرأ كل ما يقع تحت يدي حتى ولو لم أفهمه ثم حددتُ أمر الاستمتاع وحصرته في الروايات والقصص، و لهذا أظنني قرأت غالبية ما كتب “نجيب محفوظ ومحمود جودة السحار وعلى أحمد باكثير ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي ويوسف إدريس”، وبعد فترة ليست طويلة أحسستُ أن محفوظ وإدريس مختلفان وأن لكلٍ منهما سقفاً فنياً أعلى بكثير من بقية الرفاق. والعجيب أن هذا اليقين البسيط أدى بي للتعاطف مع الباقين وجمع كل ما يخص حياتهم الشخصية في ملفات كنتُ أتمنى أن أشهرها في وجه العالم لإثبات أنهم لا يقلون عَظَمة عن الساحريْن المغويين! وكنت أدافع باستماتة وانفعال في أي جلسة مع الصديق الوحيد في بلدتنا الذي يشاركني القراءة، وأعيد مشاهدة الأفلام المأخوذة عن أعمالهم طول الوقت.
وبعد سنوات المراهقة تلك والتي أرهقتُ نفسي فيها بلا داعٍ واعتبرتُ نفسي فارس الإنسانية وإعادة الحقوق الضائعة لأصحابها، قلتُ لنفسي بعد أن ضربت بكفي على جبهتي فجأة: وما علاقة حياتهم الشخصية بالأمر، المهم هي النصوص ذاتها أيها المسكين! كان هذا اليوم علامة على زمنيْن من أزمنة القراءة معي، كان الأول بسيطاً بلا حدود ومنحازاً بلا منطق ومندفعاً بلا تعقل والثاني أقرب لتلجيم الانفعالات وتوجيه العواطف نحو الكتابة لمسارها الطبيعي.
يظن بعض القراء أن ما يكتبه الكاتب هو سيرته الذاتية بالضرورة وبالتالي يتجاهلون بشكل لا واعي فعل التخييل وألعاب الفن. ربما لأن التعامل مع الأعمال الفنية في إطار أنها مجرد مقاربة للعالم عبر وعي وعيون هذا الكاتب، ليست ممتعة بقدر اعتبار أن كاتباً ما في لحظةٍ ما، قرر أن يفضح نفسه وعائلته مثلاً. وربما لأن فعل الكتابة في حد ذاته، باعتباره فعل تعرية للنفوس والشخصيات، يخلق علاقة بين طرفين يظن أحدهما أن الآخر صار حقاً له ورديفاً وقريباً، بعد أن اختاره واصطفاه، لهذا تكون حكاية هذا الكاتب بمعنى ما، هي حكاية هذا القارئ المفتون. وقد أخبرني قارئ ما مرةً أن الشَبَه في الخِلقة يزيد يوماً بعد يوم بينه وبين الكاتب الفلاني ولكن الناس لأنهم حاقدون، يتعمدونَ إطفاء الشمس!!.
سَعِدَ الشاب الذي كنتهُ بكلامه جداً معتبراً أن معسكرنا الشعري اللاهث زاد منافحاً صلباً ونحيتُ ملاحظتي عن صوته الذي كان كأنهُ يخرج من قعر بوق ونبرته الغريبة جانباً، وفي نهاية المكالمة طلب عنواني البريدي ليرسل لي قصائد ورحبت طبعاً وبعدها بأيام قليلة وصلني خطاب منه يحمل صوراً ضوئية من قصائد له وقبل أن أشرع في قراءتها وصلتني في الأيام التالية نسخ أخرى من نفس الخطاب!! تعجبت لكني فسرت الأمر بأنه قد يكون صاحب ذكريات سيئة مع البريد لهذا يود أن يطمئن على وصول الخطاب، قرأت القصائد ووجدت عليها ملاحظات عديدة ورددت على عنوانه بخطاب أوردت فيه هذه الملاحظات الودودة. بعد وصول الخطاب إليه فوجئت بمكالمة مرتعشة يتهمني فيها وهو يحسُّ بصدمة هائلة بأنني ظلمته وأنني شخص غادر نسيتُ جميله الكبير بمحبة قصائدي والانحياز لها! حاولت الاعتذار وإفهامه أن الموضوع مجرد ملاحظات من قارئ مخلص، له أن يأخذ بها أولا يأخذ وأنها تدل في النهاية على شاعر جميل في الطريق، لكنَّ محاولتي لم تقلل غضبه الذي تحول إلى صوت حزين ومضطرب للغاية. بعد ذلك تسلمتُ تلاً من خطاباته التي تحمل شهادات تقدير من مسابقات شارك فيها وعتاباً جباراً لا ينقطع وطول الوقت كنت أفاجأ بمكالمات لا ترد صباح مساء، كنتُ أحس بذنبٍ وتعاطفٍ مع نفسية معذبة كهذه مما جعلني أتحمل هذا الإزعاج الدائم وأتحمل تقريع الأهل بسببه، باعتبارِ أنها ضريبة واجبة تنبع من إنسانية كل إنسان، بعدها وصل خطاب يقول إنه بعد معركة عنيفة مع ذاته انتصر أخيراً الجانب الذي يرى أن محبة شخصي حتمية وتشبه القَدَر لأن محبة نصوصي واجبة، حيث أن إحساسه بأنه هو من يكتب هذه النصوص ليست مجانية ولا سهلة وأنه من المؤكد بالتالي أن هناك تلاق في الأرواح بيننا!
عند هذه المرحلة تحول انزعاجي إلى خوفٍ حقيقي حدا بي إلى تغيير رقم هاتفي وعدم استلام أي خطابات تأتي منه ليعيدها البريد إليه مرة أخرى، ثم مرت سنوات على هذه الفترة المرهقة إلى أن فوجئتُ بصفحة على الفيسبوك تحمل اسمه وهي صفحة بلا صورة ولكنها مملوءة بمنشور واحد يقول إن تركتِني يا حبيبتي وسافرتِ معه سأفجر الطائرة!.
أظن الهَوَس في إحدى تجلياته، نوع من التماهي بين طريقة تفكير القارئ وبين الكتابة التي قد عبر بها الكاتب ورتب الأفكار والتصورات بطريقة أرضت ثوابت المتلقي وما يعتنقه، لدرجة أنه اعتقد أن الكاتب قريب وصديق وأن العلاقة بينهما أقرب لأن تكون اتحاداً بين وعيين متماثليْن أو نفسيتيْن متحدتيْن. وربما عبر الكاتب عن أحلام القارئ وتطلعاته أو كان جريئاً بما يكفي لإثارة الدهشة أو تحفيز الاعتراف الذاتي بأن هذه الشجاعة، مثلاً، كانت حلماً قديماً وهكذا.
وربما استمتع القارئ بكتابات الكاتب مما حدا به لاعتبارها واحة المتعة وسط هذه الدنيا القاسية وكلما مر الزمن ولم يخذل الكاتب قارئه، زادت الصداقة والمحبة وتعمقت وباتت جزءاً لا يتجزأ من شخصية الإنسان وشفرته الذاتية. كل هذا معتاد لكنه قد يتحول إلى هَوَس إذا رأى القارئ أن هذا الشخص المبدع يخصه وحده بالذات وأن مشاركة الآخرين له فيه جريمة وخطأ.
كنت أقرأ وأنا صغير بكثافة مرعبة، أقرأ كل ما يقع تحت يدي حتى ولو لم أفهمه ثم حددتُ أمر الاستمتاع وحصرته في الروايات والقصص، و لهذا أظنني قرأت غالبية ما كتب “نجيب محفوظ ومحمود جودة السحار وعلى أحمد باكثير ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي ويوسف إدريس”، وبعد فترة ليست طويلة أحسستُ أن محفوظ وإدريس مختلفان وأن لكلٍ منهما سقفاً فنياً أعلى بكثير من بقية الرفاق. والعجيب أن هذا اليقين البسيط أدى بي للتعاطف مع الباقين وجمع كل ما يخص حياتهم الشخصية في ملفات كنتُ أتمنى أن أشهرها في وجه العالم لإثبات أنهم لا يقلون عَظَمة عن الساحريْن المغويين! وكنت أدافع باستماتة وانفعال في أي جلسة مع الصديق الوحيد في بلدتنا الذي يشاركني القراءة، وأعيد مشاهدة الأفلام المأخوذة عن أعمالهم طول الوقت.
وبعد سنوات المراهقة تلك والتي أرهقتُ نفسي فيها بلا داعٍ واعتبرتُ نفسي فارس الإنسانية وإعادة الحقوق الضائعة لأصحابها، قلتُ لنفسي بعد أن ضربت بكفي على جبهتي فجأة: وما علاقة حياتهم الشخصية بالأمر، المهم هي النصوص ذاتها أيها المسكين! كان هذا اليوم علامة على زمنيْن من أزمنة القراءة معي، كان الأول بسيطاً بلا حدود ومنحازاً بلا منطق ومندفعاً بلا تعقل والثاني أقرب لتلجيم الانفعالات وتوجيه العواطف نحو الكتابة لمسارها الطبيعي.
يظن بعض القراء أن ما يكتبه الكاتب هو سيرته الذاتية بالضرورة وبالتالي يتجاهلون بشكل لا واعي فعل التخييل وألعاب الفن. ربما لأن التعامل مع الأعمال الفنية في إطار أنها مجرد مقاربة للعالم عبر وعي وعيون هذا الكاتب، ليست ممتعة بقدر اعتبار أن كاتباً ما في لحظةٍ ما، قرر أن يفضح نفسه وعائلته مثلاً. وربما لأن فعل الكتابة في حد ذاته، باعتباره فعل تعرية للنفوس والشخصيات، يخلق علاقة بين طرفين يظن أحدهما أن الآخر صار حقاً له ورديفاً وقريباً، بعد أن اختاره واصطفاه، لهذا تكون حكاية هذا الكاتب بمعنى ما، هي حكاية هذا القارئ المفتون. وقد أخبرني قارئ ما مرةً أن الشَبَه في الخِلقة يزيد يوماً بعد يوم بينه وبين الكاتب الفلاني ولكن الناس لأنهم حاقدون، يتعمدونَ إطفاء الشمس!!.