رجاء النقاش - من لندن.. علي ظهر حمار!

في رواية مريود للكاتب العربي السوداني الكبير الطيب صالح يقول الطاهرود الرواسي أحد أشخاص الرواية لصديقه محيميد الحياة مافيها غير حاجتين اثنتين: الصداقة والمحبة.. ماتقول لي لها حسب ولانسب ولامال.. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد يكون كسبان, وأنا المولي عز وجل أكرمني بالحيل أي بسخاء كبير أنعم علي بدل النعمة نعمتين: صداقة محجوب وحب فاطمة بنت جبر الدار.
في هذه الكلمات البسيطة الجميلة نجد المعني الرئيسي الذي يدور حوله أدب الطيب صالح, والأهم من ذلك أن هذا هو المعني الذي تدور حوله شخصية الطيب صالح الإنسانية, فالطيب صالح الإنسان هو تجسيد لهذا المعني الجميل الذي يعبر عنه في رواية مريود وقبل أن أسترسل في الحديث أحب أن أشير إشارة سريعة إلي معاني بعض الألفاظ الواردة في العبارة السابقة, ذلك لأن الطيب صالح هنا يستخدم اللهجة السودانية المحلية, وهي لهجة بسيطة ولاتحتاج إلي عناء كبير في فهمها. فكلمة مريود وهي اسم رواية معروفة من روايات الطيب معناها المحبوب أو الذي يريده الناس ويميلون إليه, واسم محيميد هو في الأصل محمد وقد تحول في الحديث إلي محيميد من باب التدليل والإحساس بالألفة, وكلمة ود هي في الأصل ولد, وهذا اجتهاد مني في تفسير اللهجة العامية السودانية, وأرجو ألا أكون قد أخطأت, ذلك لأنني أعتمد هنا علي فهمي الخاص, وليس علي مرجع سوداني يعصمني من الخطأ, والطيب صالح يستخدم العامية السودانية في بعض أعماله, ومنها رواية مريود التي وردت فيها العبارة السابقة عن معني الحياة القائم علي المحبة والصداقة وللطيب أعمال أخري لم يستخدم فيها العامية مثل روايته ال
رائعة التي أصبحت مشهورة عالميا, وهي رواية موسم الهجرة إلي الشمال ففي هذه الرواية لغة عربية فصيحة صافية مثل جدول ماء يجري في نقاء شديد, ويعزف في طريقه أنغاما هادئة متصلة تملأ القلوب بالطرب والنشوة, فالطيب صالح عاشق للغة العربية وعارف بأسرارها وقاريء لأشعارها القديمة قراءة حب وفهم, وقد نشأت بينه وبين اللغة العربية صلة دينية وثيقة حميمة, جعلت منه شاعرا وموسيقارا ومتصوفا علي صورة روائي يكتب القصص والحكايات وتجارب الأيام, وما فيها من أفكار, وحكمة ومشاعر, والطيب برغم أنه قد وصل في حبه للغة العربية إلي حد التصوف فإنه أيضا عاشق للسودان بلده الأصلي الذي ولد فيه, وهو عاشق لأهله الذين عاشوا في البيئات السودانية الشعبية, ولم يكن لهم حياة خارج هذه البيئة, وفي بيئة السودان الشعبية هذه تعلم الطيب صالح كثيرا من الحكمة الفطرية ومباديء الأخلاق الصادقة التي لاتعقيد فيها ولاتكلف, وفي هذه البيئة نفسها استمع الطيب صالح إلي الأغاني والموسيقي الشعبية, وحفظ عن ظهر قلب مئات الأبيات الشعرية العامية السودانية, ووجد فيها برغم بساطة مظهرها عمقا إنسانيا وصورا فنية بديعة وأصيلة, ولذلك فقد أحب العامية السودانية, وعرف مافيها من أسرار الجمال, وحرص علي استخدامها في بعض أعماله القصصية والروائية, وبرغم محبته الأصيلة والعميقة للغة العربية الفصيحة فإنه وجد مايجذبه إلي العامية السودانية فاستخدمها أحسن استخدام, وعندما نقرأ عامية الطيب في رواياته عرس الزين أو ضو البيت أو بندرشاه أو مريود نجد أنفسنا أمام لغة عجيبة فيها سحر وجمال وعذوبة وشاعرية رائعة, ذلك لأن الطيب صالح لم يكتب العامية من باب الاستسهال أو العجز, بل كتبها بعد أن فهمها وتذوقها ووصل إلي مناطق الفن والتعبير الإنساني الصادق في هذه اللهجة العامية التي يتحدث بها أهل بلاده, الطيبون فهذه العامية السودانية عند الطيب ليست لغة أدبية يستخدمها في كتابته ولكنها جزء عزيز من رائحة بلاده وعطر أحبابه في هذه البلاد, وقد عاش الطيب معظم حياته في لندن وتزوج من سيدة إنجليزية فاضلة له منها ثلاث بنات نابغات يعيشن الآن في انجلترا و يعملن في بعض مؤسساتها الثقافية المهمة, وقد وصل الطيب صالح الآن إلي سن السبعين أو تجاوزها بقليل وبرغم ماحققه في انجلترا وغيرها من البلاد الأوروبية من نجاج وتألق في كل ماقام به من أعمال في اذاعة لندن العربية وفي اليونسكو وغيرهما من الأعمال المهمة, إلا أنك إذا رأيت الطيب صالح لمم تجد فيه أثرا للخواجة الذي لفت انتباه الإنجليز بنبوغه وذكائه وثقافته العالية ولغته الإنجليزية المتقنة اتقانا تاما وكأنه مولود في لندن.. برغم هذا فالطيب صالح ليس سوي عربي شعبي أقرب إلي أهل التصوف الرفيع الذي يرتفع عن صراعات الدنيا, ويلتفت إلي نداءات قوية وخفية في داخله تدعوه إلي حب أهله والاقتراب منهم والشعور الغامر بالحنان نحوهم متي لو أخطأوا أو أساءوا, فأوروبا ـ علي طول الحياة فيهاـ لم تغير شيئا من أصالة الطيب صالح, ولم تقتلع منه جذوره الشعبية الإنسانية التي تربط بينه وبين بلاده برباط روحي وثيق.
يتحدث عنه صديقه الأديب والفنان التشكيلي السوداني المبدع الكبير إبراهيم الصلحي فيقول:
المحبة كلمة طيبة جامعة, كثيرا ماتتردد علي فم الطيب صالح, وهي كلمة كبري لايلقيها في حديثه جزافا, وفي اعتقادي أنها المدخل الحقيقي النافذ مباشرة إلي جوهر شخصه وأدبه, عبر عنها كثيرا في كل ماكتب كلمة أصلها ثابت وفرعها يعانق الهواء والإنسان والسماء.
ثم يرسم إبراهيم الصلحي هذه الصورة البديعة لصديقه الطيب فيقول: الطيب قد أحب الأرض والناس عن معرفة أكيدة بحالهم وأحوالهم, فكانت له المحبة في القلوب, يقول بهذا الصدد أخوه مولانا بشير محمد صالح قاضي المحكمة العليا في السودان, والمستشار القانوني حاليا لمنظمة الخليج للاستشارات الصناعية في دولة قطر: كنا حين يعود من سفرة له, وتلمحه جارة لنا قادما من مرفأ الباخرة, علي ظهر حمار كالعادة, تجري هذه الجارة مهرولة إلي والدتنا, رحمة الله عليها, قائلة؟: البشارة.. البشارة ياعايشة.. ولدك جاء.
وعندما قرأت هذه الصورة البسيطة الجميلة التي يرسمها إبراهيم الصلحي لصديقه الطيب صالح تخيلت الطيب, وهو يركب الطائرة من لندن, إلي الخرطوم ثم يركب الباخرة من الخرطوم إلي قريته في شمال السودان, ثم يركب حمارا يحمله إلي بيت أهله, وتلك هي صورة الطيب علي حقيقته, لاتفصله البحار والمحيطات والقارات عن بيته وقريته وأهله, وهو الذي يجمع في شخصيته أرقي معاني الحضارة وأحدثها وأكثرها عصرية مع أبسط معاني الحياة وأصدقها وأبعدها عن الزخرف والزينة, إنه راكب الطائرة والباخرة وراكب الحمار في آن واحد, وهو الإنسان الذي يحل الفرح معه في أي مكان يكون فيه, ويكفي أن يوجد الطيب في مكان حتي يظهر الفرح معه, ويحل في قلوب الجميع.
ومانقلته عن إبراهيم الصلحي جاء في فصل جميل كتبه عن الطيب صالح في كتاب رائع صدر أخيرا تكريما للطيب بعد أن وصل في عمره المبارك إلي سن السبعين, وتجاوزها الآن وقد اشترك في تحرير هذا الكتاب العديد من أصدقاء والطيب وأحبابه ونقاده ودراسيه, وكان صاحب فكرة الكتاب والمشرف علي جمعه وتحريره, الوزير السوداني الأسبق والعالم الأديب الإنسان الدكتور حسن أبشر الطيب وقد ساعده في إصدار الكتاب مجموعة من أحباء الطيب صالح وعلي رأسهم الصديقان الكريمان الأديبان محمود سالم وعبدالمنعم سليم, وقد شارك في تحرير الكتاب عدد كبير من الأدباء والباحثين, من بينهم الشاعر العراقي بلند الحيدري والشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي والعالم الأديب الدكتور محمد إبراهيم الشوش والكاتب الفنان عبدالمنعم سليم وغيرهم كثيرون, ويهمني هنا أن أتوقف عند شخصية الطيب صالح الإنسانية من وجهة نظر أصدقائه الذين عاشوا معه وعرفوه عن قرب, أما الجانب الأدبي فله حديث آخر أرجو أن أعود إليه في وقت قريب.
والتركيز علي الجانب الشخصي في حياة الطيب صالح له أهمية خاصة, ذلك لأن الطيب يمثل في حياته وسلوكه وتعامله مع الناس شخصية نادرة وباهرة, وهو نموذج مثالي للأديب الذي جمع بين النبوغ الفني والنبوغ الإنساني, فهذا الجانب الإنساني عند الطيب بالغ الروعة, وهو جانب يقدم لنا مثلا أعلي للإنسان صاحب القلب العامر بالعواطف الكريمة اصادقة والثابتة, ومثل هذه الشخصية الإنسانية هي الآن بالتحديد ذات
قيمة عالية جدا, خاصة في هذا العصر الذي يشكو فيه الكثيرون من جفاف العواطف وانصراف الناس إلي المنافع والمصالح, وانقطاع العلاقات الإنسانية الحميمة بين الأفراد, حيث يبدو كل فرد مشغولا بهمومه الخاصة التي تفصل بينه وبين الآخرين بجدار سميك. في هذا العصر يبدو الطيب صالح منارة إنسانية تفيض بالنور الذي يهدي السائرين.
في المقدمة البديعة التي كتبها الدكتور حسن أبشر الطيب للكتاب يضع أيدينا علي تعريف بالغ الدقة للمثقف حيث يجد أن هذا التعريف ينطبق علي الطيب صالح بصورة كاملة.. يقول الدكتور حسن:
.. الطيب صالح مثقف بأعظم ما يحمل هذا المصطلح من معان.. ولعل السير دوجلاس نيوبولد صاحب المحاضرة الشهيرة الوجه الإنساني للثقافة التي قدمها في حفل افتتاح دارالثقافة بالخرطوم في30 مايو سنة1940, لو عاش, لوجد ذلك النموذج الرفيع للمثقف الذي تحدث عنه في الطيب صالح. يقول نيوبولد: إن أهم المكونات الضرورية لشخصية الإنسان المثقف هي صفة الإنسانية, إذ لا أستطيع أن أصف إنسانا بأنه مثقف لو لم تكن لديه هذه الصفة. والإنسانية نفسها تتمثل في أربع صفات: رحابة الخيال, والتسامح, والبساطة, وروح الدعابة.. فالخيال هو الصفة التي يضيفها الإنسان الذكي إلي ما يقرأ أو ما يكتب لكي يزداد فهما له, ولكي يجعله أقرب إلي الحياة والواقع. أما التسامح, فإن المثقف يري أن الحقيقة أمر نسبي, وأن الجمال يشبه قوس قزح في تعدد ألوانه, وأن الموسيقي هي تأليف بين نغمات مختلفة, وأن العالم هو ألوان شتي من البشر. وهذا التعدد والتنوع في الحياة والطبيعة يوجد في النفس إحساسا بالنشوة ولا يترك فيها إحساسا بالضيق أو الملل.
ومن البديهيات أن البساطة في العيش والتفكير هي أكثر المثاليات صوابا, وهي الهدف الصحيح للحضارة والثقافة. لأن الحضارة حين تفقد البساطة لابد أن ترتبك وتعتريها حالة من التخبط والضياع. والبساطة هي العلامة الخارجية والرمز الظاهر لعمق الفكر. وهي تكاد تكون أصعب شيء يمكن تحقيقه سواء في التحصيل الدراسي أو في الكتابة والتأليف. أما الصفة الرابعة التي يحتاج إليها المثقف فهي الدعابة, والدعابة قادرة ـ بصورة كيميائية ـ علي إحداث تحول في أفكارنا وتجاربنا. والدعابة تقترن بالمنطق السليم وبالخضوع للعقل. كما أن الدعابة تمنحنا القوة الذهنية الماكرة القادرة علي الكشف عن التناقضات والحماقات والمنطق الفاسد, وتلك هي أسمي صورة للذكاء البشري.
وهكذا نجد أن المثقف ينظر إلي كل شيء باهتمام عاقل, وتسامح مقترن بروح الدعابة, وخيال رحيب. وهكذا لا يكتسب المثقف الحكمة وحسب, وإنما يفوز أيضا بما يفوز به الفيلسوف الحق من سعادة متصلة لا تنقطع.
ثم يقول الدكتور حسن أبشر الطيب عن هذه الصورة الحية الجميلة للمثقف إنها تنطبق تماما علي شخصية الطيب صالح, ففي شخصيته تتجلي بوضوح الصفات الأربع الضرورية لكل مثقف مثالي, جميل ونبيل, وهي: رحابة الخيال والتسامح والبساطة ورح الدعابة.
والكتاب الصادر عن الطيب صالح بمناسبة بلوغه سن السبعين هو أشبه بموسوعة كبيرة في الأدب والنقد والتسجيل الحي الرائع للجوانب الإنسانية في حياة هذا الفنان الكبير الذي لفت أنظار العالم كله بأدبه الجميل.. فقد تمت ترجمة أعماله ـ كما يقول الدكتور حسن أبشر الطيب ـ إلي تسع عشرة لغة تشمل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والصينية واليابانية الروسية والإيطالية والأسبانية والهولندية والتركية والبولندية والنرويجية والبلغارية والسلافية والتشيكية والمجرية والدانمركية والكورية والعبرية. كما كانت هذه الأعمال الروائية مادة للدراسة والرسائل الجامعية لدرجات الماجستير والدكتوراه التي بلغ عددها ثماني رسائل لدرجة الماجستير وعشر رسائل لدرجة الدكتوراه في لغات العالم المختلفة.
ولا أريد أن أبتعد عن الجانب الإنساني في الطيب صالح, فهو الجانب الرائع الذي قد لا يعرفه بوضوح كامل إلا أصدقاؤه المقربون. ومن هؤلاء الأصدقاء السيد محمد بن عيسي وزير خارجية المغرب الآن, وهو في الأصل فنان وأديب ومثقف وابن بلد عربي بالغ اللطف والذوق والحنان. يقول محمد بن عيسي عن صديقه الطيب:.. الطيب صالح هو رمز الاعتدال في كل الأمور.. في أفكاره السياسية ومواقفه العلمية والأدبية وأحكامه علي القادة والزعماء والمفكرين والمبدعين. أسميه( سيدي الطيب) كما نسمي في المغرب الأولياء الصالحين.. أجالسه كلما التقيت به مجالسة المريدين, نتحدث عن أنفسنا في حميمية ولطف وحنان. الطيب صالح لطيف حنون تشعر به وهو يحدثك كما لو كان في كل مقطع من كلامه يذيب جزءا من نفسه.
تلك هي شهادة محمد بن عيسي وزير خارجية المغرب في حق حبيبه الطيب صالح. ومحمد بن عيسي من الصادقين, ولم تمنعه الوزارة من أن يحتفظ برح الفنان وأن يكون علي صلة وثيقة بكل أصدقائه الأقدمين وكل ذكرياته الثقافية قبل أن يصل إلي منصبه الكبير.
وهذه شهادة أخري من الأديب الحساس والدبلوماسي الكبير والإنسان النبيل صلاح أحمد محمد صالح سفير السودان السابق في أمريكا, وهو إلي مكانته الشخصية العالية بين مثقفي السودان, ابن لشاعر السودان الكبير المبدع أحمد محمد صالح.. يقول صلاح أحمد في شهادته عن الطيب صالح: لم أعرف في حياتي قط شخصا في مثل طول بال الطيب صالح وتسامحه ومروءته. رجل لا يغضب ولا يغضب.. وبقدر ما يكون الشخص أمامه ثقيلا يكون هو متسامحا واسع الصدر لا تستطيع أن تستفزه وإن حاولت, يجردك بردود فعله الهادئه من كل أسلحة ومسببات اللوم والغضب. ومن الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن يوقع أحد بين الطيب وبين صديق أو معرفة. فهو لا ينصت للنميمة, ويوجد المبررات لتصرفات الآخرين, وإن أساءوا إليه, ويدير دفة الحديث إلي جوانب الخير في الإنسان, وبقدر ما كان تسامحه يفوق الحدود, كان كرمه وأريحته وعطاؤه للآخرين. وفي بعض المناسبات كان يحيرني كرمه وعطاؤه المبالغ فيه, وأنا أعرف أن إمكاناته المالية كانت محدودة وقد لا تفي لسد حاجاته الشخصية الضرورية. لم يكن يهتم بالمال وتكديسه,وكان مرتبه عندما كنا نعمل معا في إذاعة لندن العربية, يتبخر في الثل
ث الأول من الشهر, وتسأله كيف سيدير أموره, فيردد جملته الشهيرة الله كريم. ولو أردت أن أضرب أمثلة لكل ما ذكرت من صفات لضاقت هذه الصفحات.
وفي هذا الكتاب أو هذه الموسوعة عن الطيب صالح فصل بديع آخر لصديقه الإعلامي المثقف الأديب الأستاذ عبدالرحيم الرفاعي, وهو ـ فيما أعلم ـ مؤسس الإذاعة العربية في سويسرا ومديرها السابق, ويقول عنه صلاح أحمد: إن عبدالرحيم الرفاعي مصري صميم من نبلاء المنصورة.. ما أطيب عشرته.. كتب الرفاعي عن الطيب صالح يقول: كنا نعمل معا في إذاعة لندن العربية, وجاءه في يوم من الأيام أحد الواشين ليقول له: إن فلانا ولم يكن هذا الفلان إلا أنا قال عنك كذا وكذا, فإذا بالطيب كي يسكته عن الوشاية يقول له: والله يا أخي إذا جاءني هذا الفلان بنفسه وقال لي ذلك ما صدقته. خجل الواشي من نفسه ولم يعدها.
ويروي عبدالرحيم الرفاعي كثيرا من الذكريات الأخري الممتعة, التي تكشف عن نبل الطيب وأصالته ومن ذلك قوله:... عهدت إلي الطيب وكنت قد تركت لندن بأخي المرحوم علي علي الرفاعي, وكان يود العلاج في لندن, وأشهد أنه كان له نعم النصير ونعم المعين. أكرمه في الإذاعة وأكرمه في داره حتي أن أخي فتن بالطيب, وكان دائما يقول لي: هل مازالت الدنيا تتسع لمثل هؤلاء الفضلاء من الناس؟ وكنت أرد علي تساؤلات أخي قائلا: نعم, إنهم موجودون ولكنهم عملة نادرة هذه الأيام.
ويختم عبدالرحيم الرفاعي حديثه عن صديقه الطيب صالح بهذه العبارات الصادقة فيقول: الطيب صالح لديه قدرة عجيبة علي أن يغلق أبواب دماغه إن لم يعجبه الحديث أو رأي فيه سخفا, فتراه ينظر إليك ولا يراك, ويستمع إليك ولا يسمع, أما حينما يستهويه الحديث فتري كل الأبواب تفتحت عنده وتستمع منه إلي الدر الثمين. والطيب صالح يذكرني دائما بما كان يقوله أبو الحسن النوري حينما وصف المتصوفين بقوله:
لا يملكون شيئا ولا شيء يملكهم.
بقي أن أذكر عبارة تلخص الطيب صالح وردت في الفصل الذي كتبه عنه السيد محمد بن عيسي وزير الخارجية المغربي, حيث يقول: الطيب صالح لايعادي ولا يحاسب ولا يلوم, وهو كل كامل, لا ينافق ولا يحابي. قنوع لدرجة إهمال حقوقه. كل شيء لدي الطيب ملفوف بالحشمة والتقشف ونكران الذات.. ولي صالح حتي من دون عمامته.
تحية للطيب صالح .. وتحية للذين قدموا في تكريمه هذا الكتاب الثمين
أعلى