لفتت رواية "الطلياني"(1) النقاد والقراء لأنها تناولت حِقبة مهمة من تاريخ تونس المعاصر، وهي حقبة ثمانينيات القرن الماضي في عهد الرئيس بورقيبة وبداية عهد الرئيس زين العابدين بن علي التي شهدت الظروف التي سبقت أحداث ما يسمى الربيع العربي. وزاد هذا الاهتمام بعدما نالت جائزة البوكر العالمية للرواية العربية عام 2015. فكما هو معروف فإن هذا الجائزة عالية القيمة المعنوية فضلًا عن قيمتها المالية؛ فقد ضمنت لها الانتشار واتساع التوزيع بعد أن ترجمت إلى اللغات العالمية، وأصبح يشار إلى مبدعها شكري المبخوت(2) بالتميز والتفوق على الصعيد الروائي.
لعل البحث في شعرية النهاية في رواية "الطلياني" يقتضي تناول مفهومين: مفهوم الشعرية الذي يوجه البحث، ومفهوم النهاية موضوعه الرئيس.
[HEADING=1]مفهوم الشعرية[/HEADING]
مصطلح الشعرية Poetics من المصطلحات المتداولة في الدراسات الأدبية والنقدية، الحديثة منها والمعاصرة، خاصة منذ بداية القرن العشرين ، ويعود أصله إلى أرسطو في كتابه "فن الشعر". فتاريخ الشعرية إعادة تأويل لهذا الكتاب، وكتب الشعرية مجرد تعليقات عليه .(3) وللمصطلح تعريفات كثيرة ومختلفة تلتقي كلها تقريبا في قوانين الخطاب الأدبي. فهي تسعى إلى استنباط القوانين التي توجه الخطاب اللغوي وجهة أدبية. وكان الشكلانيون الروس أول من سعوا لإقامة علم للأدب بوضع مبادئ مستمدة من الأدب نفسه. يقول أبرز أعلام هذه المدرسة رومان جاكبسون R.Jakobson كما ورد في كتاب "الشعرية": "ليس موضوع العلم الأدبي هو الأدب وإنما الأدبية، أي ما يجعل من عمل معين عملا أدبيا"(4) وبذلك وسّعت المدرسة مفهوم الشعرية ليشمل الأدب شعرا ونثرا ، وكل الأجناس والأنواع ، بخلاف شعرية أرسطو التي كانت مركزة على معالجة الملحمة والدراما مهملة جزءًا مهمًا من الأدب وهو الشعر الغنائي.
ويستخدم تودوروفTodorov وهو من أبرز المهتمين بالشعرية المصطلح مرادفًا لـعلم نظرية الأدب(5)، بهذا فعلى الشعرية أن تجيب عن السؤال: ما الأدب؟ كما عليها أن تعرّف الخطاب الأدبي. وتجيب عن سؤال آخر: ما الوسائل الوصفية الكفيلة بتمييز مستويات المعنى، وتحديد مكونات النص الأدبي؟ إن تودوروف لا يهمه النص إلاّ من حيث كونه حاملًا قوانينه. وربما لهذا أطلق بعضهم على شعريته بـالتجريدية لا التجريبية(6)، لأنها لا تهتم بشعرية الأدباء والتيارات أو المدارس الأدبية ، بل تهتم باستكشاف قوانين الخطاب، فشعريته امتداد للشعرية الشكلانية.
ويمكن أن نميز بين ثلاثة مفاهيم لمصطلح الشعرية: الأول يعنى بالخصائص الفنية في مرحلة تاريخية معينة لتيار أو ظاهرة أو حركة أدبية، فنقول: الشعرية الكلاسيكية والشعرية الرومانسية والشعرية الرمزية وشعرية قصيدة النثر. الثاني ويعنى بالميزات الفنية لتجربة أديب معين، فنقول: شعرية المتنبي، وشعرية شوقي وشعرية السياب. الثالث ويهتم بالخصائص الفنية لنص محدد، أو مجموعة من النصوص الروائية، أو الشعرية، أو المسرحية.
على ضوء المفهوم الأخير للشعريّة نسعى إلى فهم الخصائص الفنية لنهاية رواية "الطلياني" ولكن قبل ذلك يحسن تسليط الضوء على مفهوم النهاية في الرواية.
مفهوم النهاية
تعود كلمة النهاية في أصلها اللغوي إلى الفعل " نهى " ونقول كما في المعجم الوسيط نهى الشيء بلغ نهايته، والنهاية غاية الشيء وآخره(7). والكلمة في اللغة العربية تماثلها كلمة " الخاتمة " وفي المعجم الوسيط: " خاتمة كل شيء عاقبته وآخره(8)
ونحن نميل إلى استخدام كلمة " النهاية" في الرواية بدلًا من كلمة " الخاتمة "؛ لأنها لا توحي كما كلمة "الخاتمة" بالقطع والجزم في الإشارة إلى الانتهاء، وإقفال العمل على الحد الذي بلغه، فهي بذلك تلائم الرواية التي لا نهاية مطلقة لها، وتبنى عادة على تدفق الأحداث، وحركة الشخوص، وتعدد القراءات. وربما تكون كلمة "الخاتمة" أكثر ملاءمة للاستخدام في الأبحاث والمؤلفات العلمية. وقد أدرك نقادنا القدماء ظلال المعنى التي توحيه كلمة "الخاتمة" فأطلقوها على الجزء الأخير من القصيدة بعد المطلع والمقدمة والرحلة والتخلص والغرض.
قريب من معنى الكلمة اللغوي معناها في الاصطلاح؛ فقد عرّفها صاحب "معجم مصطلحات الرواية" بأنها النقطة التي يتوقف عندها الروائي عن متابعة الكتابة، وهي خاتمة تطور الأحداث وصراع القوى، وهي ليست بالضرورة الجملة الأخيرة أو المقطع الأخير من الرواية(9). وعرّفها "قاموس السرديات" بأنها " الحدث الأخير في الحبكة أو الفعل، إن النهاية تتبع أحداثًا سابقة عليها، ولا تكون متبوعة من الأحداث، وتؤشر لحالة من الاستقرار النسبي(10) وتعني النهاية عند الناقدة باربارا سمث Barbara Smithالنقطة الخيرة التي يقول فيها المؤلف ما يريد تلخيصه وإيجازه، أي مجرد إشارة رقيقة إلى الخروج من العمل، وتبدو بصورة مجازية تقترح الانتهاء(11). وهذا التعريف ينطبق على نهاية القصيدة أكثر من انطباقه على الرواية؛ لأن نهاية القصيدة قصيرة وموجزة وبسيطة بخلاف الرواية فهي غالبا طويلة كثيرة التفاصيل، ومعقدة.
استنادًا إلى ما سبق نستطيع تعريف النهاية الروائية بأنها وحدة من الوحدات البنائية المهمة التي تتكون منها الرواية، وهي تشكل قاعدة الرواية وجوهرها، لأنها تشير إلى اكتمال السرد، وتفتح الآفاق أمام المتلقي لمحاورة ما تقوله الرواية، ومساءلتها عن العالم الذي قدّمته. ويمكن إجمال أهميتها بأنها تعتبر المبدأ المنظم للعملية السردية، والركن المهم في تشكيل بنية الرواية. وتعد، وبخاصة في جُملها الأخيرة مثالًا للتعبير الإبداعي المكثّف، الذي يشبه المثل في اختزال حكايات طويلة في ألفاظ قليلة. وتشكل النقطة الأخيرة التي يُظهر فيها الروائي ما يريد قوله، وتُخرج القارئ من هذا العالم التخييلي الذي استغرق فيه، بإعلانها انتهاء الحكي، وبلوغه غايته ومنتهاه. كما تقدّم المتعة للمتلقي بتسليطها الضوء على الأحداث التي ترضي فضوله، تلك المتعة التي تحدث عنها إي.م. فورستر Edward Morgan Forsterوهو يعلمنا بالفرق بين الحكاية والحبكة في الرواية. فالحكاية مجموعة الحوادث مرتبة ترتيبًا زمنيًا بينما الحبكة حوادث لكنها مرتبطة بالأسباب والنتائج(12)، من هنا نحن نتلذذ، ونحن نتعرف ماذا يحدث بعد، وفي أذهاننا صورة شهرزاد وهو ينتظر ما ستقصه عليه شهريار في ألف ليلة وليلة.
تحديد النهاية في رواية "الطلياني"
لا يتعبنا الروائي شكري المبخوت في تعيين النهاية في روايته "الطلياني"؛ فقد جاءت في فصل واحد تحت عنوان "رأس الدرب". وهو تركيب إضافي من مضاف ومضاف إليه، يشير إلى درب معروف ومعين. لكن ما هذا الدرب المشار إليه؟ إذا ما استرشدنا باستراتيجية المبخوت في وضع العناوين الداخلية لفصول روايته؛ فإننا نطمئن إلى أنّ هذا العنوان لا يشير إلى نهاية أحداث الرواية، وإن جاء عنوانًا لفصلها الأخير بل إنه يأتي امتدادًا لما ورد قبله من فصول، وبخاصة الفصل الأول الذي جاء بعنوان "الزقاق الأخير" الذي يفسر ما جرى بمقبرة الزلاج في ذلك اليوم الذي شيع فيه الحاج محمود رب العائلة التي تتناولها الرواية إلى مثواه الأخير. فنجد أن عناوين فصول الرواية تحمل دلالات مكانية، أو ذات ظلال مكانية: الزقاق الأخير، شعاب الذكريات، المتعرج، رواق الوجع والألم، منحدرات، طلاع الثنايا، مسالك موحشة، السكة المقفلة، مفترق الطرق، الدروب الملتوية، المضيق، رأس الدرب.
فيلاحظ أن هذه العناوين تنبئ بالأحداث المتأزمة، والمواقف الصعبة، وانحشار الشخصيات في أماكن ضيقة، كما توحي إلى المواقف الصعبة والأزمات التي تصادفها الشخصية الرئيسية الطلياني. ويأتي العنوان الأخير "رأس الدرب" ليشير بوضوح بتركيبه الإضافي إلى تميزه عن سائر هذه العناوين، وإلى أهمية ما ورد فيه، ومركزيته في عالم الرواية.
وهو على كل حال عنوان مراوغ؛ فمن ناحية يمكن فهمه على أنه بداية الرواية لا نهايتها بدلالة كلمة" رأس" فهي تعني أعلى الشيء(13) وكلمة الدرب التي تحيل إلى هذا العمل الذي نهض به المبخوت. ولكن يمكن أن يحمل العنوان معنى مجازيًا حين نرى في كلمة "رأس" معنى الشيء المهم أو المركزي، ونرى في كلمة "الدرب" معنى العمل الروائي، فيغدو التركيب "رأس الدرب" مشيرًا إلى خلاصة الأمر وما استقر عليه أخيرًا. وهذا ما تتضمنه نهاية الرواية في العادة. وقد نرى فيه دلالات إيروسية إذا تتبعنا ما جرى لعبد الناصر الطلياني، فهو مع ملامحه الإيطالية، وجماله المتحدر من أصوله الأندلسية لأمه وجدته، وأصوله التركية لأبيه وجده يصاب بخمود في قواه الجنسية؛ فيذكر الراوي بأنه " كان يصر على أنه ذكرى رجل، لم يعد قادرًا على تحريك ساكن من جسد امرأة كان مصرًا على أن ما يتدلى بين فخذيه مجرد حبل مرتخ في أحسن الحالات(14)
سؤال البداية
إذا كان الفصل "رأس الدرب" يعد امتدادًا لافتتاحيتها، أي لفصل "الزقاق الأخير" الذي يقدم إشكالية الرواية، فإن الفصل الأخير يفسر هذه الإشكالية، ويطرح الحلول لها. وبذلك يلغي التوتر الذي أحدثه الفصل الأول، وينهي تشوق المتلقي الشديد إلى معرفة سر ما جرى. كأننا إزاء بحث علمي يبدأ بالتساؤل وينتهي بالإجابة.
فالشيخ محمود يتوفى، ويؤتى بجثته إلى مقبرة الزلاج في موكب خشوع يضم عائلة الشيخ والجيران والأحياء المجاورة وأناس من مختلف الطبقات الاجتماعية. وفي المقبرة لا يسمع غير أصوات التكبير، وأصوت القراء وهم يرتلون القرآن. هذه الجنازة الضخمة" دليل على رأس مال المتوفى وعلى ما في رصيد العائلة من المعاني والرموز والمكانة"(15)
في مكان الدفن كان الإمام علالة يتلو القرآن، ويردد الأدعية متحاشيًا النظر إلى عبد الناصر الملقب بالطلياني ابن الشيخ محمود. وعندما يهمّ الإمام باستلام الجثة لدفنها يهجم عليه عبد الناصر ويشبعه ضربًا، ويكاد أن يخنقه لولا أن الآخرين أنقذوه منه، وأخذوه بعيدًا" وهو سادر في صياحه وسبابه وتهديد، يرغي ويزيد إلى أن فقد الوعي"0(16)
لم يعرف أحد لماذا تصرف عبد الناصر هذا التصرف وفي المقبرة، فأخته الكبرى جويدة أرجعت الأمر إلى الكتب الفاسدة التي كان يقرؤها، والتي تدعو إلى الكفر والفساد. وأمه أرجعته إلى رفقة السوء الذين كان يخالطهم ابنها. أما أختاه سكينة وبيّه فكانتا غير مباليتين بما حدث. ولم تتعاطف معه غير أخته يسر التي عزت الأمر إلى الظروف التي مرّ بها أخوها، وبخاصة بعد فشل زواجه. أما الجيران فتعاطفوا مع العائلة لكنهم أدانوا تصرف عبد الناصر، ووصفوه بالبيضة الفاسدة بين أفراد عائلته الطيبين. أما خاله توفيق فعزا الأمر إلى أخلاق عبد الناصر الفاسدة كما" تدل عليه ملابسه وهيئته وشربه الخمر وعيشته البوهيمية"(17) الوحيدة التي أظهرت الرضى بما حدث هي زوجة الإمام للاجنينة إذ علقت:" عبد الناصر على حق ولو كنت مكانه لفعلت أكثر مما فعل"(18)
هذا الحدث هو المركزي في الرواية، وهو الذي حرّك الأحداث التي تلته، واستدعى كثيرًا من الذكريات عند عبد الناصر، وعند غيره من الشخصيات، يتضح هذا في طرح الافتتاحية أسئلة تتصل بالفعل الشنيع الذي حدث وظلت الإجابة عنها معلقة، والأسئلة هي: لم فعل عبد الناصر ما فعل؟ وإن كان له مسوغ لم أختار تنفيذه يوم دفن أبيه؟ لم انتابته الحالة الهستيرية حتى ينقل إلى المصحة ويحقن حقنة لإزالة التشنج؟. وهل من اللائق أن يتصرف شخص في الثلاثين ذلك التصرف المشين؟
هذه الأسئلة لم تجب عنها البداية في الرواية. وهذا ما تقتضيه اللعبة الروائية فلو اتضحت الأسباب التي كانت وراء الاعتداء على الشيخ علالة لانتهت الرواية عند هذا الحد، وأغلق أفق التلقي عند القارئ.
الإجابة عن أسئلة البداية
تنكشف الأسباب الحقيقية لتصرف عبد الناصر في المقبرة، عندما أقدم على ضرب الشيخ علالة بحذاء البرودكان، من خلال ما ينقله الراوي، صديق عبد الناصر من أحداث بضمير المتكلم، فيبدأ الفصل رأس الدرب بجملة "هاتفني عبد الناصر"(19) ثم يمضي في وصف الحالة التي كان عليها عبد الناصر، تلك الحالة التي دفعته إلى أن يخرج ما في لاوعيه، ويحكي قصته مع الشيخ علالة بعدما يخرجان إلى شاطئ البحر. إنها حالة إنسان يواجه موت والده الذي يرى جثته مسجاة أمامه، كما يواجه موت قدرته الجنسية بعد أن حدث له ما حدث مع ريم إحدى مغامراته النسائية. وربما كان هذا الموت أفظع عنده من موت والده. فلم يتحدث عن والده الميت في لقائه مع صديقه الراوي كما نقل عنه بل "كان حديثه عن ريم.. ريم التي لا أعرفها إلى اليوم. ذكر لي كل شيء بالتفصيل. كان يشعر بخصاء فظيع. كأن بطنه ابتلعت آلته. وضع يده هناك فلم يجد شيئًا "(20)
ثم يمضي الراوي في تقديم اعترافات صديقه عبد الناصر، من خلال التداعيات التي أحدثها فشله في السلوك الجنسي مع ريم، وتبرز فيها علاقته بالإمام علالة عندما كان في الثامنة أو التاسعة. كانت علاقة عدائية، بعد محاوله الإمام الاعتداء عليه جنسيًا في ثلاث مرات: في المرة الأولى، عندما دعاه وهو مار من باب المسجد، فأقبل نحوه، جذبه إليه، وأدخله المتوضأ. انتهى الأمر دون أن يستطيع علالة أن يتم الفعل، واستطاع الطفل الإفلات من قبضته. في البيت لجأ الطفل إلى المرحاض ليغتسل مما علق به، ثم مزق " سليبه" القطني، فنال من أخته جويدة العقاب على ذلك " لم تكن تدري أن ما تمزق في نفس الصبي أهم وأخطر"(21)
والمرة الثانية عندما كان يلعب الكرة مع أطفال في مثل سنه. وقعت الكرة في بيت للاجنينة زوجة علالة. هرب الجميع إلا هو. فطرق الباب، فانفتح ودخل يجري لجلب الكرة. وهو خارج وجد علالة ينتظره، راح يهرب منه لكنه في النهاية أمسك به، ولم ينقذه غير طرقات على الباب، حينها ارتبك علالة وأطلق سراحه. انطلق إلى الباب، ففتحه ليجد جنينة، فأخذته" بين يديها تقبله وتلاعبه"(22)
وفي المرة الثالثة باغته الشيخ علالة وهو يلعب فوق السطح المجاور لسطح دار للاجنينة. كان ينصب الفخاخ لعصافير الزيتون، فأمسك به علالة من الخلف، وراح " يتدرب عليه للانتصاب "كان عنينًا ولا شك"(23) لكنه استطاع أن يفلت منه، ويهرب باتجاه السلم الموضوع في الطابق العلوي، وينجو من عبث الإمام.
تركت محاولات الشيخ المتكررة آثارها القوية في عبد الناصر، فاحتفظ بها في لاوعيه، وانتظر حتى تلوح له مناسبة لتفريغها. وكانت المناسبة عند حضور الشيخ علالة دفن والده، فانفجر في نفسه ذلك التوتر الذي شهده الناس في المقبرة.
إذا كانت النهاية قد أجابت عن الأسئلة التي طرحها الفصل الأول حول تصرف عبد الناصر في المقبرة بوساطة التداعيات الحرة التي أظهرت العقدة النفسية التي تحكمت بشخصية عبد الناصر (الطلياني) منذ الطفولة، فإنها أجابت عن الأسئلة الأخرى التي ظهرت في بداية الرواية حول موقف جنينة مما فعله عبد الناصر؛ فهي الوحيدة التي فهمت ما فعله بالشيخ ورحبت به. وتبدأ خيوط الحكاية في الظهور من خلال ما قصه عبد الناصر على صديقه الراوي بأن جنينة هي أيضًا ضحية أحداث ومواقف تعرضت لها وهي طفلة؛ إذ بدأت حياتها يتيمة، فقدت أمها في أثناء ولادتها. وغدت الابنة الوحيدة للحاج الشاذلي الإمام الوفي لذكرى زوجته، عندما رفض أن يتزوج بعد موتها مع أنه حصل على ثروة طائلة مما ورثه عنها. أراد أن يتفرغ لتربية ابنته جنينة وتدليلها. فجعل لها خادمتين. وكانت الوحيدة من بنات الحي التي تضع في عقب رجلها اليمنى سلسلة ذهبية، وكانت جميلة بعينيها الواسعتين، وبشرتها المحمرة، وشعرها الأسود الفاحم.
ولكن هذه الحياة المدللة لجنينة تنتهي بزواجها من الشيخ علالة، وسط دهشة كثيرين من الجيران وأبناء الحي؛ فكيف لابنة الشيخ الشاذلي فائقة الجمال التي ضحى الشاذلي بحياته من أجلها أن يزوجها لشخص "مقطوع من شجرة، لحبل حمله السيل من بين ما حمل، لخادمه الأمين "لفرانقي" قديم؟ ابنة الحسب والنسب والوريثة الوحيدة لثروة الحاج الشاذلي الطائلة تتزوج خادمًا ومسخنًا للدفوف؟ لم؟ أهي عوراء؟ عرجاء؟ مغتصبة؟ ما الذي ينقصها؟ لو طلب الحاج من أي واحد من فتيان الحي أن يتزوجها لجثوا على ركبهم طائعين شاكرين مقبلين الأيدي والأرجل"(24) ولكن رد الشيخ عليهم كان باحتفالات استمرت سبعة أيام، قدم فيها ما لذ وطاب من المشروبات والمأكولات، وعزفت الفرق الموسيقية ألحانها الشجية. فعاش أهل الحي أيام فرح مع ألمع نجوم الطرب مع أنهم " كانوا يشتمون رائحة عطنة في الحكاية. ولكنهم لا يملكون الخبر اليقين وليست لهم أدلة على ما يتوهمون..(25) وزاد تهامسهم مع وفاة الشيخ الشاذلي والد العروس بعد شهر من احتفالات الزواج.
وتتكشف جوانب من حياة جنينة مما حدثته الحاجة زينب لابنها عبد الناصر. فقد تركت جنينة المدرسة وهي في الخامسة أو السادسة. وكانت تقضي يومها في بيتهم تطبخ وتغسل وتنظف. وعلمتها الحاجة زينب التطريز والخياطة، فبرعت في هذه الأعمال كلها. بعد زواجها انتقلت إثر خلافها مع علالة للإقامة عندهم. ويتكرر ذكر هذا الموقف في الفصل الذي جاء بعنوان "شعاب الذكريات والذي يتحدث عن هذا الخلاف الذي حدث بين علالة وزوجته، وكيف تدخل الحاج محمود وزوجته زينب في حله عن طريق جعل جنينة تبيت عندهم في الطابق العلوي. مما أفسح المجال لعبد الناصر أن يستفيد من هذا الذي حدث "في تلك الغرفة بالطابق العلوي(26) من بيت الحاج محمود كانت تلاطفه وتلاعبه وتدلّله وتعتني به في اغتساله ونظافته.(27)
واستمرت هذه الحالة أربع سنوات حتى نبهت الحاجة زينب جنينة بلطف على أن عبد الناصر كبر فعادت إلى بيتها. لكنها ظلت تزورهم من حين لآخر لتلتقي بعبد الناصر. وفي النهاية يقرر عبد الناصر أن يوقف اللعب بالنار. خاصة عندما صارت تكرر أمامه ذكر اسم أخيه صلاح الدين الذي كانت لها معه جولات من اللقاءات الجنسية. فوجدها حجة قوية لتركها " هذا أمر لا يعجبني. أنا هو أنا. أنا لست صلاح الدين وأنت ما زلت تعيشين على ذكراه"(28)
وفي الحقيقة لم يكن صلاح الدين هو من فض بكارة جنينة بل يوجد من سبقه إلى ذلك. يتضح هذا من خلال الحوار الذي دار بينه وبين أخيه عبد الناصر. ففي هذا الحوار تتكشف الإجابة عن السؤال لماذا زوج الشاذلي ابنته جنينة لذلك الرجل العنين علالة. يعترف صلاح الدين قائلًا:" ربما كنت سببًا في تزويجها من الدرويش علالة أو سببًا في وفاة والدها. ولكنني لا أريد أن أدفع فاتورة مبغى الحاج الشاذلي، الكل دخل إليه مجانا مرات ومرات"(29)
لاحظنا أن النهاية أجابت عن الأسئلة المتعلقة بما فعله عبد الناصر على المقبرة، وعلى سر ترحيب جنينة ابنة الشيخ الشاذلي بهذه الفعلة. ولكن هذا التشابك بين طرفي الرواية، أي بين الفصل الأول، البداية وبين الفصل الأخير النهاية لم يكن تشابكًا تامًا، فيوجد سؤال مهم لم تجب عنه النهاية، وهو لماذا قالت السيدة زينب عن ابنها عبد الناصر عندما علمت بما فعله مع الشيخ علاله:" ولد الحرام لا ينتظر منه غير العيب "(30) فهذا القول من سيدة حديدية في عائلة الحاج محمود مهم وخطير لا بدّ من بيان أسبابه ومعرفة حقيقته؛ لأنه ذو صلة ببناء الرواية من ناحية وبما تقوله أيديولوجيتها من ناحية أخرى.
لا تطلعنا الرواية على خلفية هذا القول، ولم نجد له تفسيرًا إن في نهاية الرواية أو في متنها، وهذا يجعلنا نذهب في متاهة من التأويلات؟ فإذا كان القول صحيحًا فلماذا قالته الحاجة زينب؟ ألم تدرك بأنه يشوه سمعتها حتى إن ابنتها بية همست في أذن أختها سكينة ساخرة من كلامها: " ولد الحرام، من هي أمه؟ "(31) وإذا لم تكن الحقيقة في قولها، وأنه قيل في سورة غضب فلماذا لم تبين الرواية ذلك؟ إن عدم تبيان الحقيقة يترك تساؤلًا لدى القارئ: لماذا أهملت الرواية بيان حقيقة هذا القول؟ فالمعروف في الفن الروائي لا شيء يذكر عبثًا، لا بد من أن يكون له وظيفة ما. فكما يقول أنطون تشيخوف Anton Chekhov: عندما نرى بندقية معلقة على الحائط، فلا بد من أن نسمع صوت إطلاق رصاصها فيما بعد. أي بأن يكون لها دور في أحداث الرواية وعالمها. على كل حال، إن صدور هذا القول من" سيدة البيت الحديدية "(32) زبيب يظهر أن عائلة الحاج محمود هي عائلة فاسدة من الأم إلى الأولاد ذكورًا وإناثًا، وينسحب هذا على ما تمثله في المجتمع بوصفها عائلة ثرية ظهرت أهميتها ومنزلتها في بداية الرواية أثناء تشيع جنازة كبيرها الحاج محمود. فقد اشترك فيها خلق كبير من أبناء الحي والأحياء المجاورة وأناس من مختلف الفئات والطبقات من بينهم فنانون ووزراء. وبذلك فهي ترمز إلى الوضع السيئ الذي كانت عليه تونس في زمن أحداث الرواية والتي كانت إرهاصًا لما جرى فيما سمي الربيع العربي.
فقد امتد ما اتصفت به هذه العائلة من فساد وترهل إلى الأحزاب جميعها بدءًا من الحزب الحاكم إلى الأحزاب اليسارية والدينية وإلى من يمثلها من الشخصيات النموذجية في الرواية. فالحزب الحاكم ظهرت تبعيته الأجنبية وتوجهه اللاوطني واللاشعبي وعاد إلى القبضة الحديدية بتفعيل قانون 1973 الذي بمنع الاجتماعات غير المرخصة. وكان زين العابدين بن علي وزير الداخلية يضع اللمسات الأخيرة لانقلابه على رئيسه" كان يلمع حذاءه العسكري ليطأ قصر الزعيم"(33) أما الأحزاب الدينية فتعاني من مشكلات كثيرة يمثلها في الرواية الشيخ علالة وصهره الشيخ الشاذلي فالشيخ علالة غير مثقف لا يعرف له أصل ولا فصل استطاع بتقربه من الشاذلي أن يحظى بشيء من الثقافة تمكنه من أن يصبح شيخ المسجد وهو في الحقيقة يتزوج جنينة من أجل أن يستر عليها كما يقال ليظهر فيما بعد أنه عنين. أما الشيخ الشاذلي فلم يكن يتسلح بالوعي الذي يمكنه من فهم الحياة والتأثير في المجتمع فكان يعاني من قصور في فهم ذاته، وفي القدرة على إدارة شؤونه الخاصة. لقد عجز التيار الديني عن وعي الواقع، وبدا غير قادر على فهم الحياة، غارقًا في العجز عن الحركة أو إحداث تغيير يساعد على تقدم المجتمع وتطوره بل على النقيض من ذلك كان يعمل على إفساد المجتمع، وتفاقم مشاكله.
أما تيار اليسار السياسي فلم يكن في حالة أفضل من التيار الديني فينتهي إلى الهزيمة يمثل هذا التيار عبد الناصر (الطلياني) وزينة بدأ الاثنان متمسكين بمبادئ الثورة والتغيير، ثم يتخليان عن أفكارهما الثورية؛ فعبد الناصر يعلن فشله، وينسحب من أي دور سياسي؛ فهو عنين على مستوى الجسد وعنين على مستوى الوعي والفعل. وزينة تتراجع عن أهدافها بعد أن تتعرض للاغتصاب، وتهرب من الواقع لتتزوج من رجل فرنسي تعرفت إليه.
إن حالة هذه التيارات المتصارعة تظهر واقعًا منهارًا مغتصبًا. ليس فيه ــ كما وصفته زينةــ غير حركة طلابية غدت مكونًا هشًا من الحركة الثورية. ويسار جاهل مثل كلب أعمى في مزابل اللينينية الستالينية. يفتقد إلى العمق الفكري، يكتفي بقوالب جاهزة حول نمط الإنتاج، والتناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، وإسقاط تحليلات لينين وماوتسي تونغ للواقعين الروسي والصيني على الواقع التونسي(34). وتيار إسلامي يعبر عن هويّة ميتة، هي خلطة ساذجة من إسلام الإخوان والوهابية وتأثيرات شيعية. وتمضي زينة في تعنيف أتباع هذا التيار حين تخاطبهم:" أنتم تقدسون الأفكار المحنطة، تقدسون أفكار مدرس تربية إسلامية محدود الذكاء، أو معلم من أرياف مصر، ولا تقدسون الخالق. أنتم أبناء الجهل المغلف بالبحث عن أصل كاذب لم يوجد أبدا(35)».
خاتمة
رأينا أن نهاية النص الروائي لرواية المبخوت جاءت تحت عنوان "رأس الدرب"، وبدا لنا أنّ هذا الفصل يأتي إجابة عما طرح في الفصل الأول "الزقاق الأخير". وبهذا كأننا أمام رواية نهايتها في بدايتها. فقد يكتفي المتلقي بقراءة هذين الفصلين ليكون ملمًا بعالمها الواسع الذي يقع في أكثر من ثلاثمائة صفحة. كما رأينا أنّ الرواية تقدّم شخوصًا يعاني كل منهم بأزمة خاصة لم يستطع الخلاص منها؛ فظهروا شخصيات متهافتة عاجزة يمتد عجزها من العجز الجنسي إلى العجز عن الحركة الثابتة والمستنيرة. ويتجاوب هذا الوضع الخاص للشخصيات مع الوضع العام الذي يقوم على الصراع بين مكوناته، ولا تبدو فيه بارقة أمل من الخروج إلى النّور، وكأنه الوجه الآخر لأزمة بطل الرواية الطلياني.
وإذا كانت نهاية الرواية بتعالقها مع البداية كشفت عن عالم الرواية الواسع فإنها أحالت إلى واقع متأزم متعين وهو الواقع التونسي الذي عايشته تونس في زمن بورقيبة وبداية حكم زين العابدين بن علي. وقد تجسدت شعريتها باستخدام لغة عربية سليمة وواضحة، لا نحس بأنها بعيدة عن صفات الشخوص، ومواقفهم الفكرية والحياتية. ولكنها بدت زاخرة بالمشاهد والمواقف الجنسية، ولم تنج النهاية من تكرار بعض الأحداث التي وردت في متنها.
-----------
الإحالات
1. الطلياني، شكري المبخوت، ط3، تونس؛ بيروت: دار التنوير،2015، تقع في 343 صفحة من القطع المتوسط. وهي الرواية الأولى للمؤلف.
2. شكري المبخوت. ولد في تونس عام 1962، حاصل على درجة الدكتوراه في الآداب، هو رئيس جامعة منوبة. من مؤلفاته: سيرة الغائب، سيرة الآتي، السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين 1992. جمالية الألفة: النص ومتقبله في التراث النقدي 1993. إنشاء النفي 2006. وترجم كتاب الشعرية لتودوروف بالاشتراك مع رجاء بن سلامة 1987. حاز جائزة البوكر عن روايته "الطلياني" عام 2015
3. طودوروف، تزفيطان، الشعرية، ترجمة شكري المبخوت، رجاء بن سلامة،الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1978، ص13
4. نفسه، ص84
5. ناظم، حسن، مفاهيم الشعرية، بيروت؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1994، ص 5
6. أنظر: ميلود، عثماني، شعرية تودوروف، الدار البيضاء: عيون، 1990، ص16
7. المعجم الوسيط، ط4، القاهرة، مجمع اللغة العربية، 2004، ص 960
8. نفسه، ص218
9. زيتوني، لطيف، معجم مصطلحات نقد الرواية، بيروت: مكتبة لبنان ناشرون؛ دار النهار للنشر، 2002، ص 85
10. برنس، جيرالد، قاموس السرديات، ترجمة السيد إمام، القاهرة: ميريت للنشر والمعلومات،2003، ص58
11. العدواني، معجب، جماليات النهايات الروائية، جريدة الرياض السعودية، ع 14822 ، ( الخميس 25 محرم 1430هـ - 22 يناير2009م ) الموقع الإلكتروني http://www.alriyadh.com/403859
12. فورستر، أ. م، أركان القصة، ترجمة كمال عياد جاد، القاهرة: دار الكرنك، 1960، ص105
13. المعجم الوسيط،، ص319
14. الرواية، ص308
15. الرواية، ص5
16. الرواية، ص7
17. الرواية، ص9
18. الرواية، نفسها
19. الرواية، ص 317
20. الرواية، ص317
21. الرواية، ص319
22. الرواية، ص320
23. الرواية، ص320
24. الرواية، ص 330
25. الرواية، ص 331
26. الرواية، ص38_39
27. الرواية، ص339
28. الرواية، ص 341
29. الرواية، ص22
30. الرواية، ص8
31. الرواية، ص9
32. الرواية، ص8
33. الرواية، ص229
34. الرواية، ص55
35. الرواية، ص57
لعل البحث في شعرية النهاية في رواية "الطلياني" يقتضي تناول مفهومين: مفهوم الشعرية الذي يوجه البحث، ومفهوم النهاية موضوعه الرئيس.
[HEADING=1]مفهوم الشعرية[/HEADING]
مصطلح الشعرية Poetics من المصطلحات المتداولة في الدراسات الأدبية والنقدية، الحديثة منها والمعاصرة، خاصة منذ بداية القرن العشرين ، ويعود أصله إلى أرسطو في كتابه "فن الشعر". فتاريخ الشعرية إعادة تأويل لهذا الكتاب، وكتب الشعرية مجرد تعليقات عليه .(3) وللمصطلح تعريفات كثيرة ومختلفة تلتقي كلها تقريبا في قوانين الخطاب الأدبي. فهي تسعى إلى استنباط القوانين التي توجه الخطاب اللغوي وجهة أدبية. وكان الشكلانيون الروس أول من سعوا لإقامة علم للأدب بوضع مبادئ مستمدة من الأدب نفسه. يقول أبرز أعلام هذه المدرسة رومان جاكبسون R.Jakobson كما ورد في كتاب "الشعرية": "ليس موضوع العلم الأدبي هو الأدب وإنما الأدبية، أي ما يجعل من عمل معين عملا أدبيا"(4) وبذلك وسّعت المدرسة مفهوم الشعرية ليشمل الأدب شعرا ونثرا ، وكل الأجناس والأنواع ، بخلاف شعرية أرسطو التي كانت مركزة على معالجة الملحمة والدراما مهملة جزءًا مهمًا من الأدب وهو الشعر الغنائي.
ويستخدم تودوروفTodorov وهو من أبرز المهتمين بالشعرية المصطلح مرادفًا لـعلم نظرية الأدب(5)، بهذا فعلى الشعرية أن تجيب عن السؤال: ما الأدب؟ كما عليها أن تعرّف الخطاب الأدبي. وتجيب عن سؤال آخر: ما الوسائل الوصفية الكفيلة بتمييز مستويات المعنى، وتحديد مكونات النص الأدبي؟ إن تودوروف لا يهمه النص إلاّ من حيث كونه حاملًا قوانينه. وربما لهذا أطلق بعضهم على شعريته بـالتجريدية لا التجريبية(6)، لأنها لا تهتم بشعرية الأدباء والتيارات أو المدارس الأدبية ، بل تهتم باستكشاف قوانين الخطاب، فشعريته امتداد للشعرية الشكلانية.
ويمكن أن نميز بين ثلاثة مفاهيم لمصطلح الشعرية: الأول يعنى بالخصائص الفنية في مرحلة تاريخية معينة لتيار أو ظاهرة أو حركة أدبية، فنقول: الشعرية الكلاسيكية والشعرية الرومانسية والشعرية الرمزية وشعرية قصيدة النثر. الثاني ويعنى بالميزات الفنية لتجربة أديب معين، فنقول: شعرية المتنبي، وشعرية شوقي وشعرية السياب. الثالث ويهتم بالخصائص الفنية لنص محدد، أو مجموعة من النصوص الروائية، أو الشعرية، أو المسرحية.
على ضوء المفهوم الأخير للشعريّة نسعى إلى فهم الخصائص الفنية لنهاية رواية "الطلياني" ولكن قبل ذلك يحسن تسليط الضوء على مفهوم النهاية في الرواية.
مفهوم النهاية
تعود كلمة النهاية في أصلها اللغوي إلى الفعل " نهى " ونقول كما في المعجم الوسيط نهى الشيء بلغ نهايته، والنهاية غاية الشيء وآخره(7). والكلمة في اللغة العربية تماثلها كلمة " الخاتمة " وفي المعجم الوسيط: " خاتمة كل شيء عاقبته وآخره(8)
ونحن نميل إلى استخدام كلمة " النهاية" في الرواية بدلًا من كلمة " الخاتمة "؛ لأنها لا توحي كما كلمة "الخاتمة" بالقطع والجزم في الإشارة إلى الانتهاء، وإقفال العمل على الحد الذي بلغه، فهي بذلك تلائم الرواية التي لا نهاية مطلقة لها، وتبنى عادة على تدفق الأحداث، وحركة الشخوص، وتعدد القراءات. وربما تكون كلمة "الخاتمة" أكثر ملاءمة للاستخدام في الأبحاث والمؤلفات العلمية. وقد أدرك نقادنا القدماء ظلال المعنى التي توحيه كلمة "الخاتمة" فأطلقوها على الجزء الأخير من القصيدة بعد المطلع والمقدمة والرحلة والتخلص والغرض.
قريب من معنى الكلمة اللغوي معناها في الاصطلاح؛ فقد عرّفها صاحب "معجم مصطلحات الرواية" بأنها النقطة التي يتوقف عندها الروائي عن متابعة الكتابة، وهي خاتمة تطور الأحداث وصراع القوى، وهي ليست بالضرورة الجملة الأخيرة أو المقطع الأخير من الرواية(9). وعرّفها "قاموس السرديات" بأنها " الحدث الأخير في الحبكة أو الفعل، إن النهاية تتبع أحداثًا سابقة عليها، ولا تكون متبوعة من الأحداث، وتؤشر لحالة من الاستقرار النسبي(10) وتعني النهاية عند الناقدة باربارا سمث Barbara Smithالنقطة الخيرة التي يقول فيها المؤلف ما يريد تلخيصه وإيجازه، أي مجرد إشارة رقيقة إلى الخروج من العمل، وتبدو بصورة مجازية تقترح الانتهاء(11). وهذا التعريف ينطبق على نهاية القصيدة أكثر من انطباقه على الرواية؛ لأن نهاية القصيدة قصيرة وموجزة وبسيطة بخلاف الرواية فهي غالبا طويلة كثيرة التفاصيل، ومعقدة.
استنادًا إلى ما سبق نستطيع تعريف النهاية الروائية بأنها وحدة من الوحدات البنائية المهمة التي تتكون منها الرواية، وهي تشكل قاعدة الرواية وجوهرها، لأنها تشير إلى اكتمال السرد، وتفتح الآفاق أمام المتلقي لمحاورة ما تقوله الرواية، ومساءلتها عن العالم الذي قدّمته. ويمكن إجمال أهميتها بأنها تعتبر المبدأ المنظم للعملية السردية، والركن المهم في تشكيل بنية الرواية. وتعد، وبخاصة في جُملها الأخيرة مثالًا للتعبير الإبداعي المكثّف، الذي يشبه المثل في اختزال حكايات طويلة في ألفاظ قليلة. وتشكل النقطة الأخيرة التي يُظهر فيها الروائي ما يريد قوله، وتُخرج القارئ من هذا العالم التخييلي الذي استغرق فيه، بإعلانها انتهاء الحكي، وبلوغه غايته ومنتهاه. كما تقدّم المتعة للمتلقي بتسليطها الضوء على الأحداث التي ترضي فضوله، تلك المتعة التي تحدث عنها إي.م. فورستر Edward Morgan Forsterوهو يعلمنا بالفرق بين الحكاية والحبكة في الرواية. فالحكاية مجموعة الحوادث مرتبة ترتيبًا زمنيًا بينما الحبكة حوادث لكنها مرتبطة بالأسباب والنتائج(12)، من هنا نحن نتلذذ، ونحن نتعرف ماذا يحدث بعد، وفي أذهاننا صورة شهرزاد وهو ينتظر ما ستقصه عليه شهريار في ألف ليلة وليلة.
تحديد النهاية في رواية "الطلياني"
لا يتعبنا الروائي شكري المبخوت في تعيين النهاية في روايته "الطلياني"؛ فقد جاءت في فصل واحد تحت عنوان "رأس الدرب". وهو تركيب إضافي من مضاف ومضاف إليه، يشير إلى درب معروف ومعين. لكن ما هذا الدرب المشار إليه؟ إذا ما استرشدنا باستراتيجية المبخوت في وضع العناوين الداخلية لفصول روايته؛ فإننا نطمئن إلى أنّ هذا العنوان لا يشير إلى نهاية أحداث الرواية، وإن جاء عنوانًا لفصلها الأخير بل إنه يأتي امتدادًا لما ورد قبله من فصول، وبخاصة الفصل الأول الذي جاء بعنوان "الزقاق الأخير" الذي يفسر ما جرى بمقبرة الزلاج في ذلك اليوم الذي شيع فيه الحاج محمود رب العائلة التي تتناولها الرواية إلى مثواه الأخير. فنجد أن عناوين فصول الرواية تحمل دلالات مكانية، أو ذات ظلال مكانية: الزقاق الأخير، شعاب الذكريات، المتعرج، رواق الوجع والألم، منحدرات، طلاع الثنايا، مسالك موحشة، السكة المقفلة، مفترق الطرق، الدروب الملتوية، المضيق، رأس الدرب.
فيلاحظ أن هذه العناوين تنبئ بالأحداث المتأزمة، والمواقف الصعبة، وانحشار الشخصيات في أماكن ضيقة، كما توحي إلى المواقف الصعبة والأزمات التي تصادفها الشخصية الرئيسية الطلياني. ويأتي العنوان الأخير "رأس الدرب" ليشير بوضوح بتركيبه الإضافي إلى تميزه عن سائر هذه العناوين، وإلى أهمية ما ورد فيه، ومركزيته في عالم الرواية.
وهو على كل حال عنوان مراوغ؛ فمن ناحية يمكن فهمه على أنه بداية الرواية لا نهايتها بدلالة كلمة" رأس" فهي تعني أعلى الشيء(13) وكلمة الدرب التي تحيل إلى هذا العمل الذي نهض به المبخوت. ولكن يمكن أن يحمل العنوان معنى مجازيًا حين نرى في كلمة "رأس" معنى الشيء المهم أو المركزي، ونرى في كلمة "الدرب" معنى العمل الروائي، فيغدو التركيب "رأس الدرب" مشيرًا إلى خلاصة الأمر وما استقر عليه أخيرًا. وهذا ما تتضمنه نهاية الرواية في العادة. وقد نرى فيه دلالات إيروسية إذا تتبعنا ما جرى لعبد الناصر الطلياني، فهو مع ملامحه الإيطالية، وجماله المتحدر من أصوله الأندلسية لأمه وجدته، وأصوله التركية لأبيه وجده يصاب بخمود في قواه الجنسية؛ فيذكر الراوي بأنه " كان يصر على أنه ذكرى رجل، لم يعد قادرًا على تحريك ساكن من جسد امرأة كان مصرًا على أن ما يتدلى بين فخذيه مجرد حبل مرتخ في أحسن الحالات(14)
سؤال البداية
إذا كان الفصل "رأس الدرب" يعد امتدادًا لافتتاحيتها، أي لفصل "الزقاق الأخير" الذي يقدم إشكالية الرواية، فإن الفصل الأخير يفسر هذه الإشكالية، ويطرح الحلول لها. وبذلك يلغي التوتر الذي أحدثه الفصل الأول، وينهي تشوق المتلقي الشديد إلى معرفة سر ما جرى. كأننا إزاء بحث علمي يبدأ بالتساؤل وينتهي بالإجابة.
فالشيخ محمود يتوفى، ويؤتى بجثته إلى مقبرة الزلاج في موكب خشوع يضم عائلة الشيخ والجيران والأحياء المجاورة وأناس من مختلف الطبقات الاجتماعية. وفي المقبرة لا يسمع غير أصوات التكبير، وأصوت القراء وهم يرتلون القرآن. هذه الجنازة الضخمة" دليل على رأس مال المتوفى وعلى ما في رصيد العائلة من المعاني والرموز والمكانة"(15)
في مكان الدفن كان الإمام علالة يتلو القرآن، ويردد الأدعية متحاشيًا النظر إلى عبد الناصر الملقب بالطلياني ابن الشيخ محمود. وعندما يهمّ الإمام باستلام الجثة لدفنها يهجم عليه عبد الناصر ويشبعه ضربًا، ويكاد أن يخنقه لولا أن الآخرين أنقذوه منه، وأخذوه بعيدًا" وهو سادر في صياحه وسبابه وتهديد، يرغي ويزيد إلى أن فقد الوعي"0(16)
لم يعرف أحد لماذا تصرف عبد الناصر هذا التصرف وفي المقبرة، فأخته الكبرى جويدة أرجعت الأمر إلى الكتب الفاسدة التي كان يقرؤها، والتي تدعو إلى الكفر والفساد. وأمه أرجعته إلى رفقة السوء الذين كان يخالطهم ابنها. أما أختاه سكينة وبيّه فكانتا غير مباليتين بما حدث. ولم تتعاطف معه غير أخته يسر التي عزت الأمر إلى الظروف التي مرّ بها أخوها، وبخاصة بعد فشل زواجه. أما الجيران فتعاطفوا مع العائلة لكنهم أدانوا تصرف عبد الناصر، ووصفوه بالبيضة الفاسدة بين أفراد عائلته الطيبين. أما خاله توفيق فعزا الأمر إلى أخلاق عبد الناصر الفاسدة كما" تدل عليه ملابسه وهيئته وشربه الخمر وعيشته البوهيمية"(17) الوحيدة التي أظهرت الرضى بما حدث هي زوجة الإمام للاجنينة إذ علقت:" عبد الناصر على حق ولو كنت مكانه لفعلت أكثر مما فعل"(18)
هذا الحدث هو المركزي في الرواية، وهو الذي حرّك الأحداث التي تلته، واستدعى كثيرًا من الذكريات عند عبد الناصر، وعند غيره من الشخصيات، يتضح هذا في طرح الافتتاحية أسئلة تتصل بالفعل الشنيع الذي حدث وظلت الإجابة عنها معلقة، والأسئلة هي: لم فعل عبد الناصر ما فعل؟ وإن كان له مسوغ لم أختار تنفيذه يوم دفن أبيه؟ لم انتابته الحالة الهستيرية حتى ينقل إلى المصحة ويحقن حقنة لإزالة التشنج؟. وهل من اللائق أن يتصرف شخص في الثلاثين ذلك التصرف المشين؟
هذه الأسئلة لم تجب عنها البداية في الرواية. وهذا ما تقتضيه اللعبة الروائية فلو اتضحت الأسباب التي كانت وراء الاعتداء على الشيخ علالة لانتهت الرواية عند هذا الحد، وأغلق أفق التلقي عند القارئ.
الإجابة عن أسئلة البداية
تنكشف الأسباب الحقيقية لتصرف عبد الناصر في المقبرة، عندما أقدم على ضرب الشيخ علالة بحذاء البرودكان، من خلال ما ينقله الراوي، صديق عبد الناصر من أحداث بضمير المتكلم، فيبدأ الفصل رأس الدرب بجملة "هاتفني عبد الناصر"(19) ثم يمضي في وصف الحالة التي كان عليها عبد الناصر، تلك الحالة التي دفعته إلى أن يخرج ما في لاوعيه، ويحكي قصته مع الشيخ علالة بعدما يخرجان إلى شاطئ البحر. إنها حالة إنسان يواجه موت والده الذي يرى جثته مسجاة أمامه، كما يواجه موت قدرته الجنسية بعد أن حدث له ما حدث مع ريم إحدى مغامراته النسائية. وربما كان هذا الموت أفظع عنده من موت والده. فلم يتحدث عن والده الميت في لقائه مع صديقه الراوي كما نقل عنه بل "كان حديثه عن ريم.. ريم التي لا أعرفها إلى اليوم. ذكر لي كل شيء بالتفصيل. كان يشعر بخصاء فظيع. كأن بطنه ابتلعت آلته. وضع يده هناك فلم يجد شيئًا "(20)
ثم يمضي الراوي في تقديم اعترافات صديقه عبد الناصر، من خلال التداعيات التي أحدثها فشله في السلوك الجنسي مع ريم، وتبرز فيها علاقته بالإمام علالة عندما كان في الثامنة أو التاسعة. كانت علاقة عدائية، بعد محاوله الإمام الاعتداء عليه جنسيًا في ثلاث مرات: في المرة الأولى، عندما دعاه وهو مار من باب المسجد، فأقبل نحوه، جذبه إليه، وأدخله المتوضأ. انتهى الأمر دون أن يستطيع علالة أن يتم الفعل، واستطاع الطفل الإفلات من قبضته. في البيت لجأ الطفل إلى المرحاض ليغتسل مما علق به، ثم مزق " سليبه" القطني، فنال من أخته جويدة العقاب على ذلك " لم تكن تدري أن ما تمزق في نفس الصبي أهم وأخطر"(21)
والمرة الثانية عندما كان يلعب الكرة مع أطفال في مثل سنه. وقعت الكرة في بيت للاجنينة زوجة علالة. هرب الجميع إلا هو. فطرق الباب، فانفتح ودخل يجري لجلب الكرة. وهو خارج وجد علالة ينتظره، راح يهرب منه لكنه في النهاية أمسك به، ولم ينقذه غير طرقات على الباب، حينها ارتبك علالة وأطلق سراحه. انطلق إلى الباب، ففتحه ليجد جنينة، فأخذته" بين يديها تقبله وتلاعبه"(22)
وفي المرة الثالثة باغته الشيخ علالة وهو يلعب فوق السطح المجاور لسطح دار للاجنينة. كان ينصب الفخاخ لعصافير الزيتون، فأمسك به علالة من الخلف، وراح " يتدرب عليه للانتصاب "كان عنينًا ولا شك"(23) لكنه استطاع أن يفلت منه، ويهرب باتجاه السلم الموضوع في الطابق العلوي، وينجو من عبث الإمام.
تركت محاولات الشيخ المتكررة آثارها القوية في عبد الناصر، فاحتفظ بها في لاوعيه، وانتظر حتى تلوح له مناسبة لتفريغها. وكانت المناسبة عند حضور الشيخ علالة دفن والده، فانفجر في نفسه ذلك التوتر الذي شهده الناس في المقبرة.
إذا كانت النهاية قد أجابت عن الأسئلة التي طرحها الفصل الأول حول تصرف عبد الناصر في المقبرة بوساطة التداعيات الحرة التي أظهرت العقدة النفسية التي تحكمت بشخصية عبد الناصر (الطلياني) منذ الطفولة، فإنها أجابت عن الأسئلة الأخرى التي ظهرت في بداية الرواية حول موقف جنينة مما فعله عبد الناصر؛ فهي الوحيدة التي فهمت ما فعله بالشيخ ورحبت به. وتبدأ خيوط الحكاية في الظهور من خلال ما قصه عبد الناصر على صديقه الراوي بأن جنينة هي أيضًا ضحية أحداث ومواقف تعرضت لها وهي طفلة؛ إذ بدأت حياتها يتيمة، فقدت أمها في أثناء ولادتها. وغدت الابنة الوحيدة للحاج الشاذلي الإمام الوفي لذكرى زوجته، عندما رفض أن يتزوج بعد موتها مع أنه حصل على ثروة طائلة مما ورثه عنها. أراد أن يتفرغ لتربية ابنته جنينة وتدليلها. فجعل لها خادمتين. وكانت الوحيدة من بنات الحي التي تضع في عقب رجلها اليمنى سلسلة ذهبية، وكانت جميلة بعينيها الواسعتين، وبشرتها المحمرة، وشعرها الأسود الفاحم.
ولكن هذه الحياة المدللة لجنينة تنتهي بزواجها من الشيخ علالة، وسط دهشة كثيرين من الجيران وأبناء الحي؛ فكيف لابنة الشيخ الشاذلي فائقة الجمال التي ضحى الشاذلي بحياته من أجلها أن يزوجها لشخص "مقطوع من شجرة، لحبل حمله السيل من بين ما حمل، لخادمه الأمين "لفرانقي" قديم؟ ابنة الحسب والنسب والوريثة الوحيدة لثروة الحاج الشاذلي الطائلة تتزوج خادمًا ومسخنًا للدفوف؟ لم؟ أهي عوراء؟ عرجاء؟ مغتصبة؟ ما الذي ينقصها؟ لو طلب الحاج من أي واحد من فتيان الحي أن يتزوجها لجثوا على ركبهم طائعين شاكرين مقبلين الأيدي والأرجل"(24) ولكن رد الشيخ عليهم كان باحتفالات استمرت سبعة أيام، قدم فيها ما لذ وطاب من المشروبات والمأكولات، وعزفت الفرق الموسيقية ألحانها الشجية. فعاش أهل الحي أيام فرح مع ألمع نجوم الطرب مع أنهم " كانوا يشتمون رائحة عطنة في الحكاية. ولكنهم لا يملكون الخبر اليقين وليست لهم أدلة على ما يتوهمون..(25) وزاد تهامسهم مع وفاة الشيخ الشاذلي والد العروس بعد شهر من احتفالات الزواج.
وتتكشف جوانب من حياة جنينة مما حدثته الحاجة زينب لابنها عبد الناصر. فقد تركت جنينة المدرسة وهي في الخامسة أو السادسة. وكانت تقضي يومها في بيتهم تطبخ وتغسل وتنظف. وعلمتها الحاجة زينب التطريز والخياطة، فبرعت في هذه الأعمال كلها. بعد زواجها انتقلت إثر خلافها مع علالة للإقامة عندهم. ويتكرر ذكر هذا الموقف في الفصل الذي جاء بعنوان "شعاب الذكريات والذي يتحدث عن هذا الخلاف الذي حدث بين علالة وزوجته، وكيف تدخل الحاج محمود وزوجته زينب في حله عن طريق جعل جنينة تبيت عندهم في الطابق العلوي. مما أفسح المجال لعبد الناصر أن يستفيد من هذا الذي حدث "في تلك الغرفة بالطابق العلوي(26) من بيت الحاج محمود كانت تلاطفه وتلاعبه وتدلّله وتعتني به في اغتساله ونظافته.(27)
واستمرت هذه الحالة أربع سنوات حتى نبهت الحاجة زينب جنينة بلطف على أن عبد الناصر كبر فعادت إلى بيتها. لكنها ظلت تزورهم من حين لآخر لتلتقي بعبد الناصر. وفي النهاية يقرر عبد الناصر أن يوقف اللعب بالنار. خاصة عندما صارت تكرر أمامه ذكر اسم أخيه صلاح الدين الذي كانت لها معه جولات من اللقاءات الجنسية. فوجدها حجة قوية لتركها " هذا أمر لا يعجبني. أنا هو أنا. أنا لست صلاح الدين وأنت ما زلت تعيشين على ذكراه"(28)
وفي الحقيقة لم يكن صلاح الدين هو من فض بكارة جنينة بل يوجد من سبقه إلى ذلك. يتضح هذا من خلال الحوار الذي دار بينه وبين أخيه عبد الناصر. ففي هذا الحوار تتكشف الإجابة عن السؤال لماذا زوج الشاذلي ابنته جنينة لذلك الرجل العنين علالة. يعترف صلاح الدين قائلًا:" ربما كنت سببًا في تزويجها من الدرويش علالة أو سببًا في وفاة والدها. ولكنني لا أريد أن أدفع فاتورة مبغى الحاج الشاذلي، الكل دخل إليه مجانا مرات ومرات"(29)
لاحظنا أن النهاية أجابت عن الأسئلة المتعلقة بما فعله عبد الناصر على المقبرة، وعلى سر ترحيب جنينة ابنة الشيخ الشاذلي بهذه الفعلة. ولكن هذا التشابك بين طرفي الرواية، أي بين الفصل الأول، البداية وبين الفصل الأخير النهاية لم يكن تشابكًا تامًا، فيوجد سؤال مهم لم تجب عنه النهاية، وهو لماذا قالت السيدة زينب عن ابنها عبد الناصر عندما علمت بما فعله مع الشيخ علاله:" ولد الحرام لا ينتظر منه غير العيب "(30) فهذا القول من سيدة حديدية في عائلة الحاج محمود مهم وخطير لا بدّ من بيان أسبابه ومعرفة حقيقته؛ لأنه ذو صلة ببناء الرواية من ناحية وبما تقوله أيديولوجيتها من ناحية أخرى.
لا تطلعنا الرواية على خلفية هذا القول، ولم نجد له تفسيرًا إن في نهاية الرواية أو في متنها، وهذا يجعلنا نذهب في متاهة من التأويلات؟ فإذا كان القول صحيحًا فلماذا قالته الحاجة زينب؟ ألم تدرك بأنه يشوه سمعتها حتى إن ابنتها بية همست في أذن أختها سكينة ساخرة من كلامها: " ولد الحرام، من هي أمه؟ "(31) وإذا لم تكن الحقيقة في قولها، وأنه قيل في سورة غضب فلماذا لم تبين الرواية ذلك؟ إن عدم تبيان الحقيقة يترك تساؤلًا لدى القارئ: لماذا أهملت الرواية بيان حقيقة هذا القول؟ فالمعروف في الفن الروائي لا شيء يذكر عبثًا، لا بد من أن يكون له وظيفة ما. فكما يقول أنطون تشيخوف Anton Chekhov: عندما نرى بندقية معلقة على الحائط، فلا بد من أن نسمع صوت إطلاق رصاصها فيما بعد. أي بأن يكون لها دور في أحداث الرواية وعالمها. على كل حال، إن صدور هذا القول من" سيدة البيت الحديدية "(32) زبيب يظهر أن عائلة الحاج محمود هي عائلة فاسدة من الأم إلى الأولاد ذكورًا وإناثًا، وينسحب هذا على ما تمثله في المجتمع بوصفها عائلة ثرية ظهرت أهميتها ومنزلتها في بداية الرواية أثناء تشيع جنازة كبيرها الحاج محمود. فقد اشترك فيها خلق كبير من أبناء الحي والأحياء المجاورة وأناس من مختلف الفئات والطبقات من بينهم فنانون ووزراء. وبذلك فهي ترمز إلى الوضع السيئ الذي كانت عليه تونس في زمن أحداث الرواية والتي كانت إرهاصًا لما جرى فيما سمي الربيع العربي.
فقد امتد ما اتصفت به هذه العائلة من فساد وترهل إلى الأحزاب جميعها بدءًا من الحزب الحاكم إلى الأحزاب اليسارية والدينية وإلى من يمثلها من الشخصيات النموذجية في الرواية. فالحزب الحاكم ظهرت تبعيته الأجنبية وتوجهه اللاوطني واللاشعبي وعاد إلى القبضة الحديدية بتفعيل قانون 1973 الذي بمنع الاجتماعات غير المرخصة. وكان زين العابدين بن علي وزير الداخلية يضع اللمسات الأخيرة لانقلابه على رئيسه" كان يلمع حذاءه العسكري ليطأ قصر الزعيم"(33) أما الأحزاب الدينية فتعاني من مشكلات كثيرة يمثلها في الرواية الشيخ علالة وصهره الشيخ الشاذلي فالشيخ علالة غير مثقف لا يعرف له أصل ولا فصل استطاع بتقربه من الشاذلي أن يحظى بشيء من الثقافة تمكنه من أن يصبح شيخ المسجد وهو في الحقيقة يتزوج جنينة من أجل أن يستر عليها كما يقال ليظهر فيما بعد أنه عنين. أما الشيخ الشاذلي فلم يكن يتسلح بالوعي الذي يمكنه من فهم الحياة والتأثير في المجتمع فكان يعاني من قصور في فهم ذاته، وفي القدرة على إدارة شؤونه الخاصة. لقد عجز التيار الديني عن وعي الواقع، وبدا غير قادر على فهم الحياة، غارقًا في العجز عن الحركة أو إحداث تغيير يساعد على تقدم المجتمع وتطوره بل على النقيض من ذلك كان يعمل على إفساد المجتمع، وتفاقم مشاكله.
أما تيار اليسار السياسي فلم يكن في حالة أفضل من التيار الديني فينتهي إلى الهزيمة يمثل هذا التيار عبد الناصر (الطلياني) وزينة بدأ الاثنان متمسكين بمبادئ الثورة والتغيير، ثم يتخليان عن أفكارهما الثورية؛ فعبد الناصر يعلن فشله، وينسحب من أي دور سياسي؛ فهو عنين على مستوى الجسد وعنين على مستوى الوعي والفعل. وزينة تتراجع عن أهدافها بعد أن تتعرض للاغتصاب، وتهرب من الواقع لتتزوج من رجل فرنسي تعرفت إليه.
إن حالة هذه التيارات المتصارعة تظهر واقعًا منهارًا مغتصبًا. ليس فيه ــ كما وصفته زينةــ غير حركة طلابية غدت مكونًا هشًا من الحركة الثورية. ويسار جاهل مثل كلب أعمى في مزابل اللينينية الستالينية. يفتقد إلى العمق الفكري، يكتفي بقوالب جاهزة حول نمط الإنتاج، والتناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، وإسقاط تحليلات لينين وماوتسي تونغ للواقعين الروسي والصيني على الواقع التونسي(34). وتيار إسلامي يعبر عن هويّة ميتة، هي خلطة ساذجة من إسلام الإخوان والوهابية وتأثيرات شيعية. وتمضي زينة في تعنيف أتباع هذا التيار حين تخاطبهم:" أنتم تقدسون الأفكار المحنطة، تقدسون أفكار مدرس تربية إسلامية محدود الذكاء، أو معلم من أرياف مصر، ولا تقدسون الخالق. أنتم أبناء الجهل المغلف بالبحث عن أصل كاذب لم يوجد أبدا(35)».
خاتمة
رأينا أن نهاية النص الروائي لرواية المبخوت جاءت تحت عنوان "رأس الدرب"، وبدا لنا أنّ هذا الفصل يأتي إجابة عما طرح في الفصل الأول "الزقاق الأخير". وبهذا كأننا أمام رواية نهايتها في بدايتها. فقد يكتفي المتلقي بقراءة هذين الفصلين ليكون ملمًا بعالمها الواسع الذي يقع في أكثر من ثلاثمائة صفحة. كما رأينا أنّ الرواية تقدّم شخوصًا يعاني كل منهم بأزمة خاصة لم يستطع الخلاص منها؛ فظهروا شخصيات متهافتة عاجزة يمتد عجزها من العجز الجنسي إلى العجز عن الحركة الثابتة والمستنيرة. ويتجاوب هذا الوضع الخاص للشخصيات مع الوضع العام الذي يقوم على الصراع بين مكوناته، ولا تبدو فيه بارقة أمل من الخروج إلى النّور، وكأنه الوجه الآخر لأزمة بطل الرواية الطلياني.
وإذا كانت نهاية الرواية بتعالقها مع البداية كشفت عن عالم الرواية الواسع فإنها أحالت إلى واقع متأزم متعين وهو الواقع التونسي الذي عايشته تونس في زمن بورقيبة وبداية حكم زين العابدين بن علي. وقد تجسدت شعريتها باستخدام لغة عربية سليمة وواضحة، لا نحس بأنها بعيدة عن صفات الشخوص، ومواقفهم الفكرية والحياتية. ولكنها بدت زاخرة بالمشاهد والمواقف الجنسية، ولم تنج النهاية من تكرار بعض الأحداث التي وردت في متنها.
-----------
الإحالات
1. الطلياني، شكري المبخوت، ط3، تونس؛ بيروت: دار التنوير،2015، تقع في 343 صفحة من القطع المتوسط. وهي الرواية الأولى للمؤلف.
2. شكري المبخوت. ولد في تونس عام 1962، حاصل على درجة الدكتوراه في الآداب، هو رئيس جامعة منوبة. من مؤلفاته: سيرة الغائب، سيرة الآتي، السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين 1992. جمالية الألفة: النص ومتقبله في التراث النقدي 1993. إنشاء النفي 2006. وترجم كتاب الشعرية لتودوروف بالاشتراك مع رجاء بن سلامة 1987. حاز جائزة البوكر عن روايته "الطلياني" عام 2015
3. طودوروف، تزفيطان، الشعرية، ترجمة شكري المبخوت، رجاء بن سلامة،الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1978، ص13
4. نفسه، ص84
5. ناظم، حسن، مفاهيم الشعرية، بيروت؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1994، ص 5
6. أنظر: ميلود، عثماني، شعرية تودوروف، الدار البيضاء: عيون، 1990، ص16
7. المعجم الوسيط، ط4، القاهرة، مجمع اللغة العربية، 2004، ص 960
8. نفسه، ص218
9. زيتوني، لطيف، معجم مصطلحات نقد الرواية، بيروت: مكتبة لبنان ناشرون؛ دار النهار للنشر، 2002، ص 85
10. برنس، جيرالد، قاموس السرديات، ترجمة السيد إمام، القاهرة: ميريت للنشر والمعلومات،2003، ص58
11. العدواني، معجب، جماليات النهايات الروائية، جريدة الرياض السعودية، ع 14822 ، ( الخميس 25 محرم 1430هـ - 22 يناير2009م ) الموقع الإلكتروني http://www.alriyadh.com/403859
12. فورستر، أ. م، أركان القصة، ترجمة كمال عياد جاد، القاهرة: دار الكرنك، 1960، ص105
13. المعجم الوسيط،، ص319
14. الرواية، ص308
15. الرواية، ص5
16. الرواية، ص7
17. الرواية، ص9
18. الرواية، نفسها
19. الرواية، ص 317
20. الرواية، ص317
21. الرواية، ص319
22. الرواية، ص320
23. الرواية، ص320
24. الرواية، ص 330
25. الرواية، ص 331
26. الرواية، ص38_39
27. الرواية، ص339
28. الرواية، ص 341
29. الرواية، ص22
30. الرواية، ص8
31. الرواية، ص9
32. الرواية، ص8
33. الرواية، ص229
34. الرواية، ص55
35. الرواية، ص57