نشطت دراسة الإيقاع منذ بدايات القرن العشرين، وتمت من منظوراتِ متباينة، وبدوافع مختلفة: إما تفسيرية ذات الصلة بعلم العروض العربي، أو سجالية ذات الصلة بحُمى الجدال النقدي الذي ارتبط بتحولات الدال العروضي داخل الكتابة الشعرية الحديثة، وبالتالي التساؤل حول مشروعيته أو أسبقيته فيها عبر سجال المتساجلين، أو وصفية تبسيطية، سجنت الإيقاع في العروض، وقسرت طاقاته اللغوية داخل كل ما هو عروضي. وإذا كان المنظور الأول يندرج في إطار البحث العروضي الجديد، ومن ثمة سلطته التاريخية والمعرفية، فإن الآخرَيْن، وهما المتكثران، لم يبرزا في الغالب وعيا نقديا بسؤال الإيقاع، على الأقل في الشعر الحديث والمعاصر، يكون مستجيبا لإبدالاته الفنية والجمالية.
من هنا، تتفاوت قيمة الدراسات التي أُنجزت في إيقاع الشعر العربي، من حيث تأثيرها في بناء المعرفة الشعرية الجديدة، وطبيعة الأدوات المنهجية التي توسلت بها في القراءة والتحليل، ثم النتائج التي خلصت إليها من دارس إلى آخر؛ وإذن، لبعضها سلطة تاريخية، وللآخر سلطة معرفية وعلمية، ولبعضها الثالث، وهو الشائع، حالات الشكوى والاجترار.
وإلى الآن، ما زال سؤال الإيقاع كموضوع واقعي مطروحا في خطاب الشعر ونظريته، والذات الباحثة ـ بما هي تاريخية- منذورة لتجديد علاقتها بهذا السؤال موضوعا لها، عن طريق إعادة بنائه مجددا وفق إشكالية محددة، ومن منظورِ مغاير له استراتيجيته وغاياته.
نقد النقد
في كتابه «الإيقاع في الشعر العربي الحديث: البحث عن أشكال جديدة» (دار الكتب العلمية، بيروت 2020) وهو من أحدث الدراسات في هذا المجال، ينتبه الباحث المغربي عبد الجبار العلمي إلى أن أغلب هذه الدراسات، التي اهتمت ببحث البنية الإيقاعية في الشعر، وأُنجزت في المشرق العربي أو في المغرب، قد أطلق لفظ «الإيقاع» كمرادف للوزن، وغفل المكون الإيقاعي الذي يمكن رصده من خلال مستويات أخرى غير المستوى العروضي الصرف، مثل المستوى الصوتي والصرفي والتركيبي والدلالي؛ لأنها تستوعب مفهوم الإيقاع داخل اشتغالاته في النص الشعري وعلائقه المتنوعة. ويضرب مثالا على ذلك، بدراستيّ كمال أبو ديب «في البنية الإيقاعية للشعر العربي» وسيد البحراوي «الإيقاع في شعر السياب» وغيرهما من الباحثين المعاصرين، ممن تبنوا فيها مفاهيم مستقاة من مناهج نقدية حديثة (الأسلوبية، البنيوية..) لكنهم اعتمدوا التحليل العروضي ولم يتجاوزوه إلى دراسة المادة الصوتية إلا نادرا، بل إن مفهوم «الإيقاع» عند بعضهم التبس بالموسيقى، في حديثهم عن «موسيقى الشعر» و«التشكيل الموسيقي» و«بنية الإيقاع» فظل هذا المفهوم غير محدد تحديدا دقيقا.
وفي المقابل، يبرز الباحث جهود بعض الدارسين الذين سعوا في أبحاثهم لتحديد مفهوم الإيقاع والتمييز بينه وبين الوزن، مثل محمد مندور في «الميزان الجديد» و«الشعر العربي: غناؤه وإنشاده وأوزانه» حين أرجع الوزن إلى كم التفاعيل، والإيقاع إلى النبر أو الارتكاز عن طريق «تردد ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة النسب»؛ ومحمد شكري عياد في «موسيقى الشعر العربي» حين أعاد النظر في علم العروض، انطلاقا من علمي الموسيقى والأصوات اللغوية، واعتمد في دراسته على المنهج الوصفي بدل المعياري، منفتحا على آراء بعض المستشرقين الذين بحثوا في العروض العربي (فايل، جويار، فرايتاخ) ثم يخلص إلى القول ـ هل هو تواضع العالم أم يأس المحاولة؟ – «أننا لا نكاد نخرج من عروض الخليل إلا لنعود إليه، وما أفدنا من جولتنا بعيدا عنه إلا العناء الباطل».
كما يدرج ضمن هذه الجهود، تلك الكتب النقدية التي تطرقت للإيقاع في سياق التنظير للشعر العربي الحديث، ومن جملتها كتاب «قضايا الشعر المعاصر» لنازك الملائكة، التي وضعت قواعد لعروض الشعر الحر على أساس التفعيلة، التي حررت عمل الإيقاع خارج بعض قيود البيت ذي الشطرين، وأوجدت «حرية في التعبير وإطالة العبارة وتقصيرها، حسب مقتضى الحال» غير أنها قامت بصنيع الخليل نفسه، فيما هي تعرف حركة الشعر الحر بكونها «ظاهرة عروضية» وتفرض قواعد جديدة على الشعراء الشباب؛ وكتاب «الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية» لعز الدين إسماعيل الذي اهتم بـ«التشكيل الموسيقي» ورأى أن الأساس العروضي الجديد، لا تكمن جدته في الاستخدام الحر لعدد من التفعيلات في السطر أو الجملة، بل كذلك في استيلاد جملة من العناصر الفنية، تبعا لارتباطها بالحالة النفسية لذات الشاعر ودفقاتها الشعورية الممتدة؛ وكتاب «قضية الشعر الجديد» لمحمد النويهي، الذي دعا إلى أن يقوم الشعر الجديد على أساس النظام النبري بدل النظام الكمي، حتى يتحرر من قيود الشكل التقليدي، ويؤدي المعاني والصور الجديد، منتقدا بشدة «عروض» نازك الملائكة وأذنها الموسيقية.
ولا يغفل الباحث الإسهام المغربي ضمن هذه الجهود، إذ يتوقف عند كتابي محمد بنيس وعبد الله راجع»: «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب» و«القصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد» الذين درسا جملة من الخصائص الإيقاعية في المتن الشعري المغربي لجيل الستينيات والسبعينيات، من منظور البنيوية التكوينية الملقحة بمفاهيم الشعرية اللسانية والبلاغية، واعتمدا أساسا على دراسة قوانين البيت والقافية وتجلياتها داخل هذا المتن (السواد والبياض، الوقفات العروضية والتركيبية والدلالية، التجانس الصوتي..). كما يتوقف عند كتابي أحمد المعداوي «ظاهرة الشعر الحديث» و«أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث»؛ إذ استقرأ في الأول ظواهر الإيقاع في الشعر الحديث (المزج بين البحور، التنويع في القافية، اختلاف الأضرب، التدوير، مسألة الزحاف، استعمال (فاعل) في حشو الخبب) وانتقد في الثاني دعاة النبر والوقفات وقصيدة النثر، ووجد أن البنية الإيقاعية الجديدة لم يحصل فيها تغيير عما أنتجه السابقون.
الإيقاع الخارجي والداخلي
في مقابل هذه الدراسات التي لا تخرج في الغالب ـ كما يقول الباحث- عن الدرس العروضي المحض، رغم محاولات بعضها الاتكاء على مناهج نقدية حديثة وتبني مصطلحاتها ومفاهيمها وأدواتها الإجرائية، فإن ثمة دراسات أخرى توجهتْ إلى التعامل مع مفهوم الإيقاع الشعري بقسميه الخارجي (البنية العروضية) والداخلي (البنية الصوتية)؛ مثل: «الرمز والرمزية في الشعر المعاصر» لمحمد فتوح أحمد، و«المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها» لعبد الله الطيب، و«موسيقى الشعر عند شعراء أبوللو» لسيد البحراوي، و«أساليب الشعرية المعاصرة» لصلاح فضل، و«تحليل الخطاب الشعري: البنية الصوتية في الشعر» لمحمد العمري، وغيرها. وقاد هذه التوجه ليس إلى دراسة الوزن والقافية، بل إلى دراسة البنية الصوتية بمختلف مكوناتها، بما فيها التي تتصل بعلم البديع (الترديد، التطريز، التكرار، الجناس، الترصيع..) وهو ما ألقى الضوء على غنى المادة الصوتية – البديعية وخواصها وقيمها التي هي أرحب من الوزن والنظم المجردين، وعلى طبيعة التوالي التي تطبع الإيقاع وتنطوي على قدر من الحرية، حيث يستطيع الشاعر أن يحددها كما يشاء، ومن التنوع الذي يصدر عن الأصوات المتنوعة وكيفيات ورودها ودرجات تموجها وعلاقتها داخل النص. فالإيقاع ـ حسب رأي صلاح فضل- يرتبط بالنظام الهارموني الكامل للنص الشعري، ويعكس توافق الإيقاع اللفظي مع الإيقاع المعنوي.
إيقاع مفصلي
يصرف عبد الجبار العلمي معظم جهده داخل الكتاب في الجانب التطبيقي؛ إذ يحلل أشكال البنية العروضية (الشكل العمودي، الشكل المقطوعي، شكل الموشح) في ديوان «براعم» للشاعر الرومانسي المغربي عبد المجيد بن جلون (1919- 1981) على نحو يبرز تمرس هذه الشاعر على استخدام هذه الأشكال واستثمارها في أبنيتها النصية، وذلك بناء على الدراسة الإحصائية والوصفية، التي لا تخلو من رؤية تاريخية وتقويمية ونقدية في آن. كما يبرز الباحث نسبة تواتر الأشكال بالمقارنة مع شعراء آخرين، إحيائيين (أحمد شوقي، علال الفاسي..) ورومانسيين (أبو القاسم الشابي، إيليا أبو ماضي، علي محمود طه، عبد الكريم بن ثابت..). والهدف من هذه المقارنة هو رصد التحول في البنية العروضية للشعر العربي في المغرب من خلال ديوان «براعم» الذي صدر في بدايات الستينيات (مطبعة الرسالة، الرباط 1973) ومن ذلك المقارنة بين المتن المدروس، ومتن شعري آخر تجمعه به وشائج جمالية وشكلية؛ وهو يتكون من مجموعتين:
كتاب «الأدب العربي في المغرب الأقصى» لمحمد بن العباس القباج، الذي هو بمثابة منتخبات من متن القصيدة المغربية التقليدية.
«ديوان الحرية» لعبد الكريم بن ثابت، الذي ينتمي إلى المدرسة الرومانسية في روحها العام، وإن يقوم على وحدة الوزن والقافية.
يقول العلمي: «فهذا المتن يمثل متنا شعريا ينتمي إلى الشعر العربي في المغرب القريب العهد إلى الشاعر عبد المجيد بن جلون. فأغلب الشعراء الذين يمثلون هذا المتن عاصرهم الشاعر، بل إن أحدهم وهو عبد الكريم بن ثابت، تربطه بالشاعر علاقة الصداقة والزمالة في الدراسة، والانتماء إلى الحركة الوطنية، وكذا إلى الاتجاه الشعري نفسه، إذ يمكن اعتبارهما معا ممثلين للاتجاه الوجداني الرومانسي في المغرب».
كما يحلل خصائص القافية عبر هذه الأشكال المتنوعة من تقييدها وإطلاقها وأروائها وحروفها، مبرزا ميل الشاعر إلى تنويعها والتجديد فيها داخل البنية المقطعية للقصيدة. وبخصوص الإيقاع الداخلي، يحلل أربعة أشكال بلاغية: إيقاع التصريع، إيقاع الترصيع، إيقاع التدوير، إيقاع التكرار. وهذا المبحث طريف لا يخلو من اجتهاد، إذ يمزج بين علمي العروض والبلاغة (البديع) ويكشف خاصية الانتظام والتناسب التي تميز حركة الإيقاع وهو يشيد معمارية النص الشعري ودلالته العامة. وعدا عن كونها دراسة تطبيقية تراهن على تجديد الدرس الإيقاعي، وتُقرب القارئ من مدونة نظرية ومعرفية تدور في فلكه، إلا أن قيمتها تتجلى في اختيارها لنموذج شعري مفصلي في تاريخ الشعر المغربي الحديث، يؤرخ لنشاط الحركة الرومانسية وإبداعيتها، ويبشر بقدوم الشعر الحديث في مستويات نصية عدة، بما في ذلك الإيقاع. وأبرز ما خلصت إليه هذه الدراسة:
إن الشاعر المغربي لم يكن مقطوعا عن التراث العربي والأندلسي والمغربي السابق عليه، بموازاة مع انفتاحه على التجارب الشعرية في الغرب، والرومانسية تحديدا.
روح التجديد التي كانت تدفعه إلى تنويع شعره، ورغبة البحث عن أشكال جديدة لإحداث التغيير في المكون الإيقاعي: تنويع القوافي والأضرب، واستخدام الأوزان المهجورة والقصار، والميل إلى كتابة الموشح الذي لم يتبع فيه تقنينات ابن سناء الملك، وكان كل ذلك إيذانا بظهور الشعر المعاصر، أو قصيدة التفعيلة في المغرب في بداية الستينيات على يد أبرز رواده: محمد السرغيني، وأحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكَنوني، ومحمد الميموني وعبد الكريم الطبال؛ وهو ما أثبته الشاعر المغربي محمد علي الرباوي في أطروحته الأكاديمية الجامعة «العروض: دراسة في الإنجاز» .
كاتب مغربي
من هنا، تتفاوت قيمة الدراسات التي أُنجزت في إيقاع الشعر العربي، من حيث تأثيرها في بناء المعرفة الشعرية الجديدة، وطبيعة الأدوات المنهجية التي توسلت بها في القراءة والتحليل، ثم النتائج التي خلصت إليها من دارس إلى آخر؛ وإذن، لبعضها سلطة تاريخية، وللآخر سلطة معرفية وعلمية، ولبعضها الثالث، وهو الشائع، حالات الشكوى والاجترار.
وإلى الآن، ما زال سؤال الإيقاع كموضوع واقعي مطروحا في خطاب الشعر ونظريته، والذات الباحثة ـ بما هي تاريخية- منذورة لتجديد علاقتها بهذا السؤال موضوعا لها، عن طريق إعادة بنائه مجددا وفق إشكالية محددة، ومن منظورِ مغاير له استراتيجيته وغاياته.
نقد النقد
في كتابه «الإيقاع في الشعر العربي الحديث: البحث عن أشكال جديدة» (دار الكتب العلمية، بيروت 2020) وهو من أحدث الدراسات في هذا المجال، ينتبه الباحث المغربي عبد الجبار العلمي إلى أن أغلب هذه الدراسات، التي اهتمت ببحث البنية الإيقاعية في الشعر، وأُنجزت في المشرق العربي أو في المغرب، قد أطلق لفظ «الإيقاع» كمرادف للوزن، وغفل المكون الإيقاعي الذي يمكن رصده من خلال مستويات أخرى غير المستوى العروضي الصرف، مثل المستوى الصوتي والصرفي والتركيبي والدلالي؛ لأنها تستوعب مفهوم الإيقاع داخل اشتغالاته في النص الشعري وعلائقه المتنوعة. ويضرب مثالا على ذلك، بدراستيّ كمال أبو ديب «في البنية الإيقاعية للشعر العربي» وسيد البحراوي «الإيقاع في شعر السياب» وغيرهما من الباحثين المعاصرين، ممن تبنوا فيها مفاهيم مستقاة من مناهج نقدية حديثة (الأسلوبية، البنيوية..) لكنهم اعتمدوا التحليل العروضي ولم يتجاوزوه إلى دراسة المادة الصوتية إلا نادرا، بل إن مفهوم «الإيقاع» عند بعضهم التبس بالموسيقى، في حديثهم عن «موسيقى الشعر» و«التشكيل الموسيقي» و«بنية الإيقاع» فظل هذا المفهوم غير محدد تحديدا دقيقا.
وفي المقابل، يبرز الباحث جهود بعض الدارسين الذين سعوا في أبحاثهم لتحديد مفهوم الإيقاع والتمييز بينه وبين الوزن، مثل محمد مندور في «الميزان الجديد» و«الشعر العربي: غناؤه وإنشاده وأوزانه» حين أرجع الوزن إلى كم التفاعيل، والإيقاع إلى النبر أو الارتكاز عن طريق «تردد ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة النسب»؛ ومحمد شكري عياد في «موسيقى الشعر العربي» حين أعاد النظر في علم العروض، انطلاقا من علمي الموسيقى والأصوات اللغوية، واعتمد في دراسته على المنهج الوصفي بدل المعياري، منفتحا على آراء بعض المستشرقين الذين بحثوا في العروض العربي (فايل، جويار، فرايتاخ) ثم يخلص إلى القول ـ هل هو تواضع العالم أم يأس المحاولة؟ – «أننا لا نكاد نخرج من عروض الخليل إلا لنعود إليه، وما أفدنا من جولتنا بعيدا عنه إلا العناء الباطل».
كما يدرج ضمن هذه الجهود، تلك الكتب النقدية التي تطرقت للإيقاع في سياق التنظير للشعر العربي الحديث، ومن جملتها كتاب «قضايا الشعر المعاصر» لنازك الملائكة، التي وضعت قواعد لعروض الشعر الحر على أساس التفعيلة، التي حررت عمل الإيقاع خارج بعض قيود البيت ذي الشطرين، وأوجدت «حرية في التعبير وإطالة العبارة وتقصيرها، حسب مقتضى الحال» غير أنها قامت بصنيع الخليل نفسه، فيما هي تعرف حركة الشعر الحر بكونها «ظاهرة عروضية» وتفرض قواعد جديدة على الشعراء الشباب؛ وكتاب «الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية» لعز الدين إسماعيل الذي اهتم بـ«التشكيل الموسيقي» ورأى أن الأساس العروضي الجديد، لا تكمن جدته في الاستخدام الحر لعدد من التفعيلات في السطر أو الجملة، بل كذلك في استيلاد جملة من العناصر الفنية، تبعا لارتباطها بالحالة النفسية لذات الشاعر ودفقاتها الشعورية الممتدة؛ وكتاب «قضية الشعر الجديد» لمحمد النويهي، الذي دعا إلى أن يقوم الشعر الجديد على أساس النظام النبري بدل النظام الكمي، حتى يتحرر من قيود الشكل التقليدي، ويؤدي المعاني والصور الجديد، منتقدا بشدة «عروض» نازك الملائكة وأذنها الموسيقية.
ولا يغفل الباحث الإسهام المغربي ضمن هذه الجهود، إذ يتوقف عند كتابي محمد بنيس وعبد الله راجع»: «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب» و«القصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد» الذين درسا جملة من الخصائص الإيقاعية في المتن الشعري المغربي لجيل الستينيات والسبعينيات، من منظور البنيوية التكوينية الملقحة بمفاهيم الشعرية اللسانية والبلاغية، واعتمدا أساسا على دراسة قوانين البيت والقافية وتجلياتها داخل هذا المتن (السواد والبياض، الوقفات العروضية والتركيبية والدلالية، التجانس الصوتي..). كما يتوقف عند كتابي أحمد المعداوي «ظاهرة الشعر الحديث» و«أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث»؛ إذ استقرأ في الأول ظواهر الإيقاع في الشعر الحديث (المزج بين البحور، التنويع في القافية، اختلاف الأضرب، التدوير، مسألة الزحاف، استعمال (فاعل) في حشو الخبب) وانتقد في الثاني دعاة النبر والوقفات وقصيدة النثر، ووجد أن البنية الإيقاعية الجديدة لم يحصل فيها تغيير عما أنتجه السابقون.
الإيقاع الخارجي والداخلي
في مقابل هذه الدراسات التي لا تخرج في الغالب ـ كما يقول الباحث- عن الدرس العروضي المحض، رغم محاولات بعضها الاتكاء على مناهج نقدية حديثة وتبني مصطلحاتها ومفاهيمها وأدواتها الإجرائية، فإن ثمة دراسات أخرى توجهتْ إلى التعامل مع مفهوم الإيقاع الشعري بقسميه الخارجي (البنية العروضية) والداخلي (البنية الصوتية)؛ مثل: «الرمز والرمزية في الشعر المعاصر» لمحمد فتوح أحمد، و«المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها» لعبد الله الطيب، و«موسيقى الشعر عند شعراء أبوللو» لسيد البحراوي، و«أساليب الشعرية المعاصرة» لصلاح فضل، و«تحليل الخطاب الشعري: البنية الصوتية في الشعر» لمحمد العمري، وغيرها. وقاد هذه التوجه ليس إلى دراسة الوزن والقافية، بل إلى دراسة البنية الصوتية بمختلف مكوناتها، بما فيها التي تتصل بعلم البديع (الترديد، التطريز، التكرار، الجناس، الترصيع..) وهو ما ألقى الضوء على غنى المادة الصوتية – البديعية وخواصها وقيمها التي هي أرحب من الوزن والنظم المجردين، وعلى طبيعة التوالي التي تطبع الإيقاع وتنطوي على قدر من الحرية، حيث يستطيع الشاعر أن يحددها كما يشاء، ومن التنوع الذي يصدر عن الأصوات المتنوعة وكيفيات ورودها ودرجات تموجها وعلاقتها داخل النص. فالإيقاع ـ حسب رأي صلاح فضل- يرتبط بالنظام الهارموني الكامل للنص الشعري، ويعكس توافق الإيقاع اللفظي مع الإيقاع المعنوي.
إيقاع مفصلي
يصرف عبد الجبار العلمي معظم جهده داخل الكتاب في الجانب التطبيقي؛ إذ يحلل أشكال البنية العروضية (الشكل العمودي، الشكل المقطوعي، شكل الموشح) في ديوان «براعم» للشاعر الرومانسي المغربي عبد المجيد بن جلون (1919- 1981) على نحو يبرز تمرس هذه الشاعر على استخدام هذه الأشكال واستثمارها في أبنيتها النصية، وذلك بناء على الدراسة الإحصائية والوصفية، التي لا تخلو من رؤية تاريخية وتقويمية ونقدية في آن. كما يبرز الباحث نسبة تواتر الأشكال بالمقارنة مع شعراء آخرين، إحيائيين (أحمد شوقي، علال الفاسي..) ورومانسيين (أبو القاسم الشابي، إيليا أبو ماضي، علي محمود طه، عبد الكريم بن ثابت..). والهدف من هذه المقارنة هو رصد التحول في البنية العروضية للشعر العربي في المغرب من خلال ديوان «براعم» الذي صدر في بدايات الستينيات (مطبعة الرسالة، الرباط 1973) ومن ذلك المقارنة بين المتن المدروس، ومتن شعري آخر تجمعه به وشائج جمالية وشكلية؛ وهو يتكون من مجموعتين:
كتاب «الأدب العربي في المغرب الأقصى» لمحمد بن العباس القباج، الذي هو بمثابة منتخبات من متن القصيدة المغربية التقليدية.
«ديوان الحرية» لعبد الكريم بن ثابت، الذي ينتمي إلى المدرسة الرومانسية في روحها العام، وإن يقوم على وحدة الوزن والقافية.
يقول العلمي: «فهذا المتن يمثل متنا شعريا ينتمي إلى الشعر العربي في المغرب القريب العهد إلى الشاعر عبد المجيد بن جلون. فأغلب الشعراء الذين يمثلون هذا المتن عاصرهم الشاعر، بل إن أحدهم وهو عبد الكريم بن ثابت، تربطه بالشاعر علاقة الصداقة والزمالة في الدراسة، والانتماء إلى الحركة الوطنية، وكذا إلى الاتجاه الشعري نفسه، إذ يمكن اعتبارهما معا ممثلين للاتجاه الوجداني الرومانسي في المغرب».
كما يحلل خصائص القافية عبر هذه الأشكال المتنوعة من تقييدها وإطلاقها وأروائها وحروفها، مبرزا ميل الشاعر إلى تنويعها والتجديد فيها داخل البنية المقطعية للقصيدة. وبخصوص الإيقاع الداخلي، يحلل أربعة أشكال بلاغية: إيقاع التصريع، إيقاع الترصيع، إيقاع التدوير، إيقاع التكرار. وهذا المبحث طريف لا يخلو من اجتهاد، إذ يمزج بين علمي العروض والبلاغة (البديع) ويكشف خاصية الانتظام والتناسب التي تميز حركة الإيقاع وهو يشيد معمارية النص الشعري ودلالته العامة. وعدا عن كونها دراسة تطبيقية تراهن على تجديد الدرس الإيقاعي، وتُقرب القارئ من مدونة نظرية ومعرفية تدور في فلكه، إلا أن قيمتها تتجلى في اختيارها لنموذج شعري مفصلي في تاريخ الشعر المغربي الحديث، يؤرخ لنشاط الحركة الرومانسية وإبداعيتها، ويبشر بقدوم الشعر الحديث في مستويات نصية عدة، بما في ذلك الإيقاع. وأبرز ما خلصت إليه هذه الدراسة:
إن الشاعر المغربي لم يكن مقطوعا عن التراث العربي والأندلسي والمغربي السابق عليه، بموازاة مع انفتاحه على التجارب الشعرية في الغرب، والرومانسية تحديدا.
روح التجديد التي كانت تدفعه إلى تنويع شعره، ورغبة البحث عن أشكال جديدة لإحداث التغيير في المكون الإيقاعي: تنويع القوافي والأضرب، واستخدام الأوزان المهجورة والقصار، والميل إلى كتابة الموشح الذي لم يتبع فيه تقنينات ابن سناء الملك، وكان كل ذلك إيذانا بظهور الشعر المعاصر، أو قصيدة التفعيلة في المغرب في بداية الستينيات على يد أبرز رواده: محمد السرغيني، وأحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكَنوني، ومحمد الميموني وعبد الكريم الطبال؛ وهو ما أثبته الشاعر المغربي محمد علي الرباوي في أطروحته الأكاديمية الجامعة «العروض: دراسة في الإنجاز» .
كاتب مغربي
الإيقاع في الشعر العربي الحديث: عبد الجبار العلمي يدرس تحولات الدال الإيقاعي في متن رومانسي | القدس العربي
نشطت دراسة الإيقاع منذ بدايات القرن العشرين، وتمت من منظوراتِ متباينة، وبدوافع مختلفة: إما تفسيرية ذات الصلة بعلم العروض العربي، أو سجالية ذات الصلة بحُمى الجدال النقدي الذي ارتبط بتحولات الدال العروضي داخل الكتابة الشعرية الحديثة، وبالتالي التساؤل حول مشروعيته أو أسبقيته فيها عبر سجال...
www.alquds.co.uk