عبد الرحيم جيران - هل طرد أفلاطون كل الشعراء من مدينته الفاضلة؟

ما استقر في جل الأدبيات الجمالية التي تتناول الشعر بالتنظير- في هيئة مسلمة تكاد تكُون محسومة- أن أفلاطون قد طرد من مدينته الفاضلة الشعراء، لكن ظنا من هذا القبيل يحتاج إلى إعادة النظر.
أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الأمر معرفة ما إذا كان أفلاطون قد طرد كل الشعراء، أم البعض منهم؟ وإذا كان قد طرد الكل فما الذي يترتب على هذا من نتائج على مستوى انسجام المدينة وحاجتها إلى الجمال؟ وينبغي فهم الجمال لا بوصفه مثالًا فحسب، ولكن بوصفه أيضًا حاجة ضرورية لكل دولة، مع ترتيب هذه الحاجة داخل سلم تراتب الحاجات الضرورية الأخرى؛ العقل (الرياضيات)، والفكر (المنطق والفلسفة)، والرأي (الخطابة والبيان). كما ينبغي فهم الجمال- هنا- بِعَدّه كلا يشمل كل الفنون بما فيها الرسم والنحت والموسيقى.
أما إذا لم يكن أفلاطون قد طرد كل الشعراء انسجامًا مع ضرورة حاجة مدينته إلى الجمال فما الصنف الذي طرده منهم؟ وما هي المُسوغات المعرفية والأخلاقية الكامنة وراء قرار من هذا القبيل؟ وهل تُعَد هذه المُسوغات السبب الحاسم في تعديل أفلاطون ترتيب المعرفة في علاقتها بالحقيقة في الكتاب العاشر من «الجمهورية» بعد أن أعطاها ترتيبًا مختلفًا في الكتاب السابع؟ ثم ما الذي ينجم عن هذا من تراتب بين الفنون الشعرية ذاتها؟
لننطلق من الأساس الذي كانت تُناقش مسألة الشعر بموجبه في الفلسفة اليونانية، وهو تمثيل (محاكاة) الحقيقي (المثال: الفكرة العقلية)؛ فأفلاطون يُرتب الشعر- بموجب هذا الأساس في الكتاب السابع من الجمهورية – في المرتبة الرابعة مع الظلال والخيالات بعد الرأي والفكر والرياضيات، ويُرتبه في الكتاب العاشر في المرتبة الثالثة مع الرأي. وهذا الترتيب تام وفق مسوغ الابتعاد عن الحقيقي أو الاقتراب منه، وهذا الابتعاد مقوم حسب تمثيل (محاكاة) الثابت لا المتغير؛ فالشعر هو تمثيل التمثيل؛ أي أنه يمثل تمثيل الصانع؛ ومن ثمة فهو من الدرجة الثالثة، لا الثانية كما يتصور بعض قراء أفلاطون من دارسي علم الجمال، لأنه يأتي بعد تمثيل الصانع الذي يترتب بعد تمثيل الطبيعة للمثال (الفكرة العقلية). كما أنه يمثل المتغير الذي مصدره الحواس، والمتقلب الذي مصدره اندفاعات العواطف والانفعالات غير المسيطر عليها من قِبَل القوة العقلية. ولم يكن أفلاطون يناقش الشعر بهذا المعنى خارج السجال المعرفي الدائر في عصره، بين مؤيدي العقل ومؤيدي البيان (السوفسطائيين). لقد كان الجمال أرضية يحدث فوقها الصراع غير المباشر على تملك المعرفة بوصفها مصلحة، وتملك شرعيتها وإدارتها، لكن لم يكن موقف أفلاطون من الشعر متسمًا بالرفض الكلي، بقدر ما كان قائمًا على تطويعه لصالح نسقه الفلسفي، وجعله خادمًا لما يترتب على هذا النسق من تنظيم للدولة وعلاقة الفرد بها. وإذا ما رُئِي إلى موقفه خارج هذا الاستخدام، فإننا نكُون أمام حليْن لا ثالث لهما: إما أن نسق أفلاطون الفلسفي متناقض، وإما أن من يقول بطرده كل الشعراء من مدينته الفاضلة لم يقرأه قراءة جيدة. وليس لنا إلا أن نميل إلى الحل الثاني.
إذا سلمنا بأن أفلاطون قد طرد كل الشعراء من مدينته الفاضلة فلا شك أننا سنجعل منه غير مُتحكم في ما يُنتجه من أحكام؛ أي أننا نجعله يتناقض مع نفسه، حيث يُصرح بحكم في محل ما من نصوصه ويأتي بما يناقضه في محل آخر؛ فإذا كانت حجة مهاجمة الآلهة وعدم احترامها، سببًا في تقويم أفلاطون السلبي للشعر فإنه يصف الشاعر في محاورة «أيون» بكونه يتلقى الإلهام من ربة الشعر والآلهة، وبكونه وسيطًا بينها والبشر، وناقلًا كلامها؛ ويفقد عقله وإحساسه في تلقيه الإلهام؛ ومن ثمة فهو شبيه بالنبي. وإذا أُثْبِت هذا الشبه للشاعر فهو- إذن- كائن مقدس؛ وإذا كان الأمر كذلك ألَا يستحق كل مقدسٍ الاحتفاءَ به، والإعلاء من قدْره، ومن ثمة يكُون طرده من المدينة الفاضلة غير مقبول البتة؟
ويَحُل أفلاطون نفسه هذا التناقض بقوله الآتي: «لكن علينا أن نبقى ثابتين في حكمنا أن الترانيم إلى الالهة والثناءات للرجال الشهيرين الفاضلين هي الشعر الوحيد الذي يجب أن نقبله في دولتنا». يُثبت هذا النص أولًا الثبات في الحكم الذي هو الوعي التام بضرورة انسجام الفكر وعدم تناقضه، ويُثبت ثانيًا عدم تضمن هذا الحكم طرد كل الشعراء من المدينة الفاضلة، ويتبدى هذا في الاستثناء الذي يخص به نوعًا من الشعر دون غيره، وهو الشعر الذي يتغنى بالآلهة ويسبحها، ويمدح البطولات والأعمال العظيمة، ويُمجد رجال الدولة العظماء، ويكتب تقاريظ تتصل بالفضيلة؛ أي ما ينسجم مع الخير الأعظم، ومع الجمال الحقيقي الذي يُلمح إليه في محاورته جورجياس (ما علم الكلام؟)، لا الجمال المزور. وليس هذا الشعر سوى الشعر الغنائي بالدرجة الأولى.
يتضح- إذن- أن الشعراء الغنائيين مستثنون من الطرد من المدينة الفاضلة، وأن من هو معني بالعيش خارجها هم الشعراء التراجيديون بالدرجة الأولى لسببين يتصل أولهما بالتقليد (التمثيل) الشعري السيئ، ويتصل ثانيهما بمفهوم التطهير. يقول أفلاطون في صدد السبب الأول: «إن كل التقليد الشعري هو مخرب لفهم المستمعين، ما لم يمتلك فهم الطبيعة الحقيقية للشعر الأصلي كترياق ضد السموم». هناك- إذن- طبيعتان للتمثيل الشعري: طبيعة حقيقية وطبيعة مزيفة. وإذا كان الشعر الحقيقي يبتعد- من حيث تمثيله الحقيقة- بثلاث درجات؛ فهو قادر على تمثيل الفضيلة والخير الأعظم بتمجيد الإلهي والبطولي، أما الشعر غير الحقيقي فيمثل الأهواء المتقلبة التي يُعبر عنها أفلاطون بالسموم؛ وهذا التمثيل المزيف قائم على الخداع والتضليل والتملق. ولا يقتصر السوء في تحديد الشعر المزيف على التمثيل (المحاكاة) فحسب، بل يشمل أيضًا وظيفته المتمثلة في التطهير (التراجيديا). صحيح أن مصطلح التطهير أرسطي، لكن تفسيره موجود بكل وضوح في محاورة أيون؛ حيث يظهر تمثيل العواطف الأنثوية الدالة على الضعف من قِبَل الرجال، من طريق جعل المتفرج يُسقطها على الممثلين الذين هم في وضع يُثير الرحمة والشفقة والخوف. وهذا الإسقاط هو تعبير غير مباشر عنها؛ وهو الشيء الذي يتناقض مع البطولي المستند إلى الصبر على المُحزِن، وعدم إظهاره بتدعيم من القوة العقلية.

٭ أكاديمي وأديب مغربي

عبد الرحيم جيران





أعلى