أحمد القنديلي - الشظايا المتجاذبة في رواية "سوق النساء ، أو ص .ب 26" للروائي المغربي جمال بوطيب (1)

تقديم:

إذا كان " السرد هبة المحكي من شخص إلى آخر "(2)، فمن الشروط الواجبة في السارد الوديع أن ينتج سردا متسلسلا مترابط المتواليات والحوافز، يخلق بين الفينة والأخرى أفق انتظار ما، ويحققه إلى هذا الحد أو ذاك، ويوهم متلقيه بواقعية ما يحكيه؛ ليجعله يكتفي بالاستقبال المصحوب بالتمثل والاعتبار تارة، وبالتشويق تارة أخرى.
وإذا كان لا وجود لسارد وديع في تاريخ السرد، يمكن أن يؤتمن على حقيقة المحكي الذي يقدمه، فإن السارد في الرواية الجديدة اختار المناورة والتضليل عقيدة معلنة. إنه يقدم ذاته اللا مرئية لمتلقيه كذات ساردة للمحكي، أي كذات متخيلة من قبل مؤلفها المجرد، لا تحكي سردا يوهم بواقعية المحكي، بل سردا متخيلا يحكي الحكي المتخيل.
غير أن هذا السارد ما أن يأسر المسرود له بقصته وبحكايته (3)، حتى يشرع في التلاعب به: ينتقل من ضمير إلى ضمير، ويفجر الزمن، ويخلخل الحبكة بهدف خلخلة العلاقة بين الحدث والحكاية، ويؤاخي بين مختلف اللغات، ويتناص مع مختلف النصوص الممكنة بهدف تدمير الفوارق بينها، وكأنه يبحث عن نص مطلق له صلة بكل المراجع، ولا صلة له بأي مرجع.
وفضلا عن هذا يتعمد هذا السارد الإمعان في الحديث عما فوق الخطاب: عن الكتابة والكاتب، وعن القارئ الذي يحاوره إما طلبا لمشاركته، أو رغبة في " تحطيم مبدأ الإيهام بواقعية " (4) ما يحكيه له.
انطلاقا من هذه المقدمة، سنحاول قراءة رواية " سوق النساء، أو ص.ب 26 " للروائي المغربي جمال بوطيب مفترضين انتماءها إلى الرواية العربية الجديدة.
أولا: الرواية:
تتألف الرواية من تسع وسبعين صفحة من الحجم المتوسط، وتنقسم إلى ثمانية فصول، قصد السارد خلخلة ترتيبها بهدف دفع المتلقي السيميائي إلى المساهمة في ترتيبها. غير أن هذا المتلقي وهو يشرع في الترتيب بهدف الشروع في القراءة، لا يلبث أن يتيه مادام الأمر لا يتعلق بفصول غير مرتبة فقط، بل بفصلين مفقودين ضمن الفصول الموجودة.
وأمام هذا الارتباك المزدوج لا يملك هذا القارئ إلا الخضوع لنظام الحكي وفق ما هو محكي، مادام البحث عن النظام المحتمل لن يكون إلا بحثا عن لا نظام آخر من خلال اللا نظام الموجود. وفي هذه الحالة ستتحول الرواية إلى شكل تجريبي آخر مفتوح على كل إعادة تشكيل ممكنة.
ولعل هذا ما أراده المؤلف المجرد الذي اختفى كلية خلف سارده، محملا إياه مسؤولية كل شيء، بما في ذلك التنبيه الذي أورده في الصفحة الأخيرة:
" تنبيه من السارد :
المرجو عدم التعجل في إصدار أي حكم، أو إبداء أي تعاطف مع عبد الرحيم دباشي أو لبانة الربيعي قبل قراءة الفصلين الرابع والسادس. "(5)
وهنا يتحول التيه إلى تيه تيه ما دام الفصلان الرابع والسادس مفقودين، ولن يتم العثور عليهما أبدا، حتى ولو افترضنا إمكانية كتابة رواية لاحقة تتضمنهما.
وبإعادة النظر في مضمون هذا التنبيه ذي الطبيعة المنطقية الصارمة، نلاحظ أن المؤلف يفرض الصمت على متلقيه، مادام المحكي ناقصا ولاحق للمتلقي في إبداء الرأي فيه. فأين يمكن العثور على الفصلين الرابع والخامس ؟
إن البحث عن هذين الفصلين خارج الرواية بحث فيما وراءها. وما دام التنبيه قد ورد على لسان السارد، فالأمر يتعلق بمؤلف سارق ومتنكر له كل الحول، وبسارد مختطف لا حول له، فرض عليه التلفظ بسرد لا علاقة له به. ذلك لأنه إذا كان كيان السارد " لا يتحدد إلا في مستوى التلفظ "(6)، فلا يمكن الحديث هنا عن سرقة تلفظه دون سرقته هو بالذات، وسرقة ملفوظه تبعا لذلك.
غير أن ما يجب التنبيه إليه هنا على مستوى آخر يتعلق بطبيعة السارد في كل سرود العالم. فعلى الرغم من أن كيانه لا يتحدد إلا في مستوى التلفظ، فإن طبيعته المتخيلة تفرض على تلقظه الحضور في غيابه. إنها تحيل تلفظه إلى ملفوظ بدون متلفظ. ولهذا الاعتبار لا يقيم السارد لا في التلفظ ولا في الملفوظ. إنه يقيم في تفاصيلهما السرية. ولذلك يمكن اعتباره شيطان الرواية وضميرها الإديولوجي .
فهل يمكن في هذه الحالة سرقته وسرقة تلفظه ؟
إن الدليل على السرقة هنا هو الإستشهاد أعلاه. إن السارد يعلن مسؤوليته الكاملة عن إخفائه للفصلين الرابع والسادس. غير أن إعلانه يبدو قد تم تحت إكراه ما، وقد يكون المؤلف المجرد هو من مارس عليه هذا الإكراه.
نحن إذن أمام نص روائي مبتور، ولأنه كذلك فهو مفكك، ولأنه مفكك فهو غير قابل للقراءة. ذلك لأن القراءة ـ كما يرى التفكيكيون ـ بحث عن " ذلك العنصر داخل النسق الذي يعلو على المنطق، ذلك الخيط في النص الذي يستطيع أن يحل كل شيء، أو ذلك الحجر القلق الذي يسبب انهيار المبنى بكامله." (7) وإذا كان الفصلان الرابع والسادس هما الحجر القلق الذي ينبغي البحث عنه، وإذا كان هذا الحجر النفيس قد سرق من المبنى الروائي، فمن أين نبدأ ؟
إن أول شرط لبدء قراءة هذه الرواية هو إزاحة المؤلف السارق عن ميداننا. فما سرقه لا علاقة لنا به، وحتى ما تركه لنا لا علاقة له به. لقد انتهت علاقتنا بما سرق، وانتهت علاقته بما كتب لحظة الانتهاء من الكتابة.
غير أن قراءتنا إذا أرادت أن تكون قراءة فعلية: أي قراءة قارئ سيمييائي، فلن تكون قراءة خطية تكتفي بالمكتوب، بل ملتوية تبحث داخل المكتوب عن اللامكتوب أي عن اللا معبر عنه فيه، وخارجه عن المسروق منه .
إن كل نص " يتطلب البناء؛ لأنه لا يتكون من تعاقب بسيط من الجمل، وموضوعة بشكل مستقل. إن النص كلَ ما " (8) وهذا الكلَ ليس هو ما يبدو لنا، بل هو ما يجب أن نعيد تشكيله. وفي عملية إعادة التشكيل لا نكون أمام نص مملوء وواضح، بل أمام نص غامض " تغمره البياضات والفراغات ." (9) ويحتاج إلى التأويل. وهذا ما سنحاول القيام به.
ثانيا: المتن الحكائي:
لا تتضمن رواية "سوق النساء أو ص.ب 26 "متنا حكائيا واضحا يمكن تصور بقائه منسجما في ذهن المتلقي عقب القراءة. ويرجع السبب إلى حبكتها المفككة، وإلى هيمنة المفارقات في بنائها الفني، وإلى تعدد الرواة والأمكنة... وهذا ما يؤكد انتماءها إلى الرواية العربية الجديدة وانزياحها عن شكل الرواية العربية الحديثة.
وعلى الرغم من ذلك، فإذا كان كل عمل فني يتضمن سؤالا كبيرا يحاول صاحبه الإجابة عنه أو الإشارة إليه، فإن الخيط السردي الرفيع الذي يمكن سله من مجموع خيوط الرواية، هو الذي يحكي القصة العاطفية الرهيبة التي جمعت بين عبد الرحيم دباشي ولبانة الربيعي. وهي قصة مرَة يتداخل فيها فشل الذات مع انهيار الواقع واندحار التاريخ ، ويتقاطع فيها هوس الكتابة مع هوس الحياة والموت والحب والجنس... وتدغم فيها الرغبة في العالم في الرغبة عنه، والولع بالأشياء في النفور منها.
غير أن هذا الخيط الرفيع الذي يمكن تسميته برأس الخيط ـ نسبة إلى عنوان الفصل العاشر من الرواية ـ يبقى خيطا أسود مرئيا يمكن لكل قارئ البحث عن رأسه. أما الخيط الرفيع الآخر واللا مرئي، والذي يمكن اعتباره خيط رأس الرواية ـ نسبة إلى عنوان الفصل الثامن من الرواية ـ فهو مفقود داخل الفصلين الرابع والسادس المفقودين. وهو يمثل في اعتقادنا سؤال الرواية، ولغزها المحير.
ليس بإمكان هذا الخيط المفقود ضمن الفصلين الرابع والسادس أن يوجد. إن العثور عليه عثور على الغياب الذي لا يعادله إلا الحضور المكثف لشخصية الأم من حيث هي الشخصية المهندسة لخيبات الشخصية الروائية وهزائمها التي لا حد لها.
ولأن القدرة على مخاطبة شخصية الأم بلغة النثر مستحيلة ـ سواء كانت حاضرة أو غائبة ـ فقد اضطر الابن إلى الاختفاء خلف لغة الشعر القاسية لمخاطبتها:
" حتى عندما أحببتك لم أفرح كثيرا
" أمَا "
وجل أنا من بعدك سيدتي
إذ فجر غشت غشني
وبانطفائك رشني
ألثم وجنة باردة
ويدا سكنت
من بعد ما سكنت غلالات القلوب
" أمَا " (10)
وبهذا المعنى فلغة الرواية التي تحكي عن الصداقة و الحب والجنس والخمر... بشراهة، لا تحكي في نهاية المطاف إلا غياب الأم الذي أفقد الشخصية الروائية توازنها، فجعلها مفارقة لذاتها تبحث عن المعنى في اللا معنى، وعن الحضور في الغياب، وعن الذات في الآخر، وفي الأشياء دون أن تهتدي إلى شيء. غير أن الأم هنا ليست بالمعنى الدموي للكلمة. إنها عش الكينونة الذي فيه ومنه يكون بدء كل شيء. ولأن هذا العش أقيم على باب الريح (11) ، فقد شتته ريح الباب (12) ؛ الشيء الذي جعل الذات تبدأ حركتها وهي في غاية التشتت والتبعثر .
ثالثا : الشخصية الروائية :
إن شعرية أي عمل أدبي لا تتحدد بشكل محتواه فقط، بل بمحتوى شكله أيضا، ذلك لأن أي أديب إنما وجد ليقول قولا ما لهذا العالم. وهذا القول ليس مجرد تلفظ لخطاب بطريقة فنية ما، بل ملفوظ لخطاب ذي دلالة معينة تفترض التأويل لتنتقل من حيز المؤلف إلى حيز القارئ السيميائي (13). ولهذا الاعتبار لا نتعامل مع الشخصية الروائية باعتبارها شخصية من ورق، أو مجرد عامل داخل بنية سردية مشخصة يحولها الوصف السيميولوجي إلى بنية منطقية مجردة. إن الشخصية الروائية تؤثر فينا؛ لأنها حمولة فكرية واجتماعية وتاريخية ونفسية... ولأنها كذلك فإنها من لحم ودم ولو كانت شيئا.غير أن لحمها ودمها يبقيان أدبيين في نهاية المطاف.
إن سيرورة الشخصية الروائية داخل الفضاء الروائي سيرورة لغوية. وكذلك صيرورتها. باللغة ـ سواء كانت وصفية أو سردية ـ تبدأ كينونتها، وباللغة تؤول إلى نهايتها. ولأن سيرورتها وصيرورتها كذلك، فإنها لا تقيم إلا داخل الدليل " وحيثما كان الدليل كانت االإيديولوجيا " (14)، وكانت الحياة بلحمها ودمها الأدبيين.
وبهذا المعنى فالمعنى داخل الخطاب الأدبي ليس ميتافيزيقيا. إنه فيزيقي، ولكنه زئبقي يتوارى خلف شعريته التي تحتاج إلى فهم يعرَي القول، ويفضي إلى التأويل الذي يعرَي إرادة القول .
1 ـ الشخصية الغائبة:
وهي شخصية الأم. بغيابها المطلق تمارس حضورها المطلق على شخصية الابن الذي يبدو دائخا يرتبط بامرأة ويترك أخرى، وكأنه ينتقل من خيبة إلى أخرى. غير أن شخصية الأم هذه لا تهيمن على لا وعي الحكي والحاكي والمحكي فقط، إنها تقيم في كل تفاصيل الرواية بدءا من عنوانها. عنوان الرواية هو سوق النساء. والسوق هنا ليس سوقا للبيع والشراء. فلا شيء يباع داخل الرواية كل شيء يهدى ولو كان خيانة :
" قبَلها في جبهتها وقال لها:
ـ اذكريني بين أحضانه " (15)
وبهذا المعنى فسوق الرواية كون كامل، فيه يأكل الناس الطعام ويمشون، وفيه يحيون ويموتون. وفي هذه السوق، من حيث هي عالم عبد الرحيم دباشي، لا توجد نساء بصيغة الجمع، بل امرأة واحدة هي الأم، منها البدء وإليها المعاد. ولأن البدء كان من هذه الأم، ولأن المعاد لم يحن بعد، فكل النسوة اللائي يتحركن بين البدء والمعاد إنما يفعلن ذلك بسبب غيابها الذي حول الكون إلى فضاء للتيه، والبحث عن المعنى المستحيل.
أما العنوان الآخر فهو " ص. ب 26 "، وهو صندوق مجهول المكان. فحيثما وجد الرقم 26، فهناك باب الصندوق. وإذا كان كل مكان يمكن أن يحتوي على صناديق بريد، ففي كل مكان يوجد هذا الصندوق. إنه صندوق مجهول معلوم. نجهله جميعا، ولا أحد يعرفه غير المؤلف المجرد. غير أننا يمكن أن نهتدي إليه إذا عرفنا أنه صندوق مفرد بصيغة الجمع، واحد بصيغة المتعدد. إنه صندوق واحد أوحد يوجد في مكان واحد في أعماق الأرض، وتبعا لذلك يوجد في كل الأمكنة؛ لأنه ذاكرة صاحبه حيثما حل وارتحل. يقيم في الغياب المطلق الذي لا يعادله إلا الحضور المطلق. إنه قبر الأم البعيد هناك، والقريب هنا والآن .
ولهذا السبب لا نرى الإهداء تقليدا مجانيا فرضته تقاليد الكتابة الروائية والأدبية بوجه عام. إنه هنا نص مواز ذو وظيفة توجيهية خارقة مفادها أن لا علاقة حرفية بين الحكي والمحكي . فما تعيشه الشخصية شيء آخر لا صلة له بما تحكيه أو يحكى عنها. ما يحكى هو ظاهر الخطاب الروائي، وما لا يحكى هو لا وعيه. وإذا كان اللاوعي هو الواقع المادي الصحيح، كما يرى فرويد، فإن هذا اللاوعي عندنا هو البياض الذي تجب كتابته، أو الفراغ الذي يجب ملؤه. لقد أهديت الرواية إلى الموتى، إلى كل الغائبين الحاضرين. ولكنها أهديت بشكل خاص إلى امرأة هي كل نساء الكون:
" إلى التي في اسمها صدى الآتي
من زمن الوجد والفقد
إلى روح أمي " (16)
ولهذا السبب نرى أن رواية " سوق النساء أو ص.ب 26 " رواية مخادعة. ولأنها كذلك فهي جديدة بكل المقاييس ليس على صعيد تقنيات الكتابة الجديدة التي يمكن محاكاتها إلى هذا الحد أو ذاك، ولكن على صعيد المضمون الذي تصعب بلورته بلورة حداثية دون وعي حداثي خاص.
2 ـ الشخصية الحاضرة :
ويمثلها عبد الرحيم دباشي الذي يحضر فاعلا وساردا في معظم الأحيان. يحكي بضمير المتكلم عن شخص هو هو. إنه سارد من الدرجة الثانية " يحكي قصته الخاصة به داخل القصة "(17) ولكنها ليست قصة، إنها قصص في قصة تتحدث عن الكتابة والقراءة، وعن الحب الذي استحال رمادا، وعن السياسة التي تنجر تارة إلى ما يجري في الجزائر من دمار، وتارة إلى ما يجري في المغرب من تحولات موجعة:
" كان كلامه نقدا غاضبا، وحديثه حنقا مباشرا وصريحا: اليساري أصبح يمينيا، والجبان تشجع. فزمن الهراوة ولى، واللي كان زام فمه ليس خوفا من الذباب؛ بل لأنه كان فعلا ذبابة، صار سبعا " (18).
تمثل هذه الشخصية صوتا محوريا في الرواية. ولأنها تنتج الحدث، وتنهض بالحكي في مواضع كثيرة، فإن خطابها يتجاوز وظيفته التواصلية إلى وظيفتيه الانفعالية والتوجيهية فضلا عن الوظيقة الجمالية. إن حركتها داخل الرواية تجعلها فاقدة لليقين والتوازن، تواجه كوارث جمة تعصف بها، وتعي بعمق ما تواجهه. ولأنها كذلك فهي شخصية إنسانية متفوقة في طبيعتها " لكنها لا تتعالى على قوانين الطبيعة " (19) إنها ذات مفككة، فاشلة، فاقدة للبطولة تبحث في اللاتوازن وباللاتوازن عما يحقق توازنها، ولكن دون جدوى. وبهذا المعنى فهي شخصية مفارقة تتموضع في مسافة توتر بين حقيقتها ومظهرها، وبين ما تريد أن تكون عليه، وما هي عليه بالفعل.
3 ـ الشخصية المفترضة:
ويمثلها عبد الله قدري. نعني بالشخصية المفترضة تلك التي يفترض القارئ اللا سيميائي أنها شخصية فعلية، والحال أنها مجرد أثر لشخصية أخرى ذات وجود فعلي داخل المتخيل السردي . ومن سمات هذا النوع من الشخصيات أنه يشحن الخطاب السردي بطابع تخييلي مضاعف. فإذا كانت الرواية الجديدة ترفض أن تتأسس على مبدأ الإيهام بواقعية ما تحكيه، فإن توظيفها للشخصية الروائية المفترضة يبطل مبدأ عدم التوقع الذي تعتمده، ويحافظ على مبدأ الإيهام بواقعية المحكي بصورة مواربة. وإذا كان مبدأ الإيهام في حد ذاته مجرد خدعة جمالية، فإن الرواية الجديدة إذ ترفضه تتبناه بصورة مضاعفة ومغايرة للصورة التي تتبناه بها الرواية الحديثة.
وبهذا المعنى فعبد الله قدري ليس شخصية، إنه الصوت الباطني لعبد الرحيم دباشي، وضلعه الأيسر. يتحدث عن لبانة وعبد الرحيم دباشي، ومعهما بلغة حميمية تتجاوز المواضعات المتعارف عليها أخلاقيا وعاطفيا. يتحدث عن ذاته بصيغة المفرد، وعنهما كذلك، وكأنه طرف ثان لطرف أول، وليس ليس طرفا ثالثا:
" الأولى: لبانة...
لبانة أختي ولا أحبها.
الثانية: لبانة ...
لبانة العشيقة وما نسيتها.
الثالثة: لبانة ...
لبانة الأضحية جاءت بي إلى الكتابة العلنية.
الرابعة: لبانة...
لبانة أذرفت معها دمعات رجوت عبد الرحيم أن يكفكفها. "(20)
" تمنيت لو أن رسالتك التي وصلتني كتبت بأحرف الشرايين، أو بلغة القلب " (21).
يتضح من خلال هذين المقطعين أ ننا لسنا أمام شخصية تدعى "عبد الله قدري"، إننا أمام شلو من شخصية عبد الرحيم دباشي المشتتة. إنه الشلو العاطفي المشتت الذي تبحث عنه لبانة المشتتة دون أن تمتلك القدرة على الوصول إليه. ولذلك يبقى هذا الشلو هاربا هناك، ينغمس في الكتابة ـ تماما كما ينغمس فيها عبد الرحيم دباشي ـ ينتقل من فاجعة إلى فاجعة، يحاول لم شتاته للاقتراب من لبانة المشتتة دون أن يمتلك القدرة على ذلك.
أما إذا ما حاولنا جمع أجزاء هذا الجزء المشتت / عبد الله قدري لربطه بالأجزاء المشتتة الأخرى التي تشكل معه الكل / عبد الرحيم دباشي، فإننا لن نحصل إلا على كلَ مشتت مدمر ومتذمر، يدمر ذاته ومن حوله، ويِؤمن بقيم مرعبة؛ لعجزه عن امتلاك ذاته وامتلاك العالم من حوله.
إننا أمام شخصية تسخر من العالم؛ لأنه يسخر منها ولا يعترف بوجودها، ليس لأنها مجرد شيء، بل لأنها ليست شيئا. وإذا كان " المأساوي هو الشعور بسخرية القدر " (22) فهل نحن هنا أمام شخصية مأساوية تعاني من المفارقات إلى درجة الخضوع لسلطة القدر الساخر؟
إننا أمام شخصية متفوقة في طبيعتها ـ أو هكذا تتصور ذاتها على الأقل ـ تسخر من كل الأقدار التي يمكن أن تواجهها، ولا تخشى عواقب أية خطيئة.
" قبلها في جبهتها، وقال لها:
اذكريني وأنت بين أحضانه "(23)
غير أن هذه القوة الأسطورية التي تتمتع بها هذه الشخصية لا تتمظهر إلا في السلوك الخارجي، أما في العمق، فإنها تبدو شخصية منهارة إلى درجة أنها ليست أهلا لأن تواجه القدر وليست أهلا لأن يواجهها القدر ثم يسخر منها:
" قدري أنني حزنت يوم أفلت شمس حبهما، واستغربت حين رأيتهما مسرورين بفراقهما. " (24)
إن المتكلم هنا ليس هو عبد الله قدري كما يبدو، إنه عبد الرحيم دباشي الذي يبدو حزينا ومسرورا لا رغبة له في الارتباط بأحد، ولا في الانتقام من أحد، ما دام لا أحد موجود ويستحق المواجهة التي تعقبها السخرية.
4 ـ الشخصية المستحضرة:
وتمثلها لبانة الربيعي التي لا تتحرك في الحكي كذات فاعلة، بل في المحكي كذات فاعلة في زمن سابق، ويتم استحضارها بواسطة ذاكرة السارد:
"تستحق قصتي معك .. أن تحكى لا أن تنسى "
" واليوم بعد أن انتهى كل ما كان بيننا، أو بعد أن أنهيت كل ما كان بيننا، وكسرت قلبي كما تفعل مبراة عصبية بقلم رصاص وطني، يحق لي أن أقول:
" يا لشماتة الأعداء " (25)
إنها مجرد رماد يسعى السارد / عبد الرحيم دباشي جاهدا إلى النفخ فيه، ليس من أجل البحث عن جذوة نار شاردة فيه، بل لاستعادة ماضيه حين كان نارا مشتعلة.
لقد رحلت لبانة إلى بروكسيل لإعادة ترتيب حياتها تاركة حياة عاشقها مبعثرة وهي تردد قسم الشيخ " الشريف ولد صابر ":
" والله يا بلاد الحقرة لا رجعت لك " (26)
وحين حكت تاريخها قدمت صورة مشتتة لذاتها: زواج فاشل من رجل هرم، تلته علاقة عاطفية متعبة لم تتبلور إلا بعد جهد جهيد، وحين تبلورت انفصمت عراها.
إن الرجل / عبد الرحيم دباشي الذي أحبته إلى حد الجنون أحبته لأنه متعب،" ولأن كل ما يتعب يعجب " كما تقول. ولكنها ما لبثت أن كرهته إلى حد كراهية رؤية حروف اسمه مكتوبة على ورق. لقد كان يريد أن يكون رجلا كما يريده الآخرون، وكما يريد هو لا كما تريد هي. ولأن عبد الرحيم دباشي لم يكن هو هو، أي لم يكن كما يريد، وكما يريده الآخرون، وكما تريده لبانة. ولأن لبانة لم تكن هي هي، ولا كما تريد، ولا كما يريدها الآخرون بمن فيهم عبد الله قدري، فقد عاش الطرفان الغياب في الحضور في ومضة تلاها غياب في الغياب.
ماذا تبقى إذن من شخصيات الرواية ؟
إن شخصيات هذه الرواية (دباشي، لبانة، قدري ) وهي تحكي الماضي المنتهي، تحكي الغياب الذي يحولها إلى لا شخصيات، أي إلى شخصيات غائبة. فلا توجد شخصية متكلمة في هذه الرواية بحيث يحيل كلامها على ذاتها المتكلمة تكلما فعليا. كل الشخصيات تحكي وتقول لتحيل على " الأشياء التي قيلت " (27)، أوعلى الأشياء التي يمكن أن تكون قد قيلت. وهذا معناه أنها شخصيات منتهية الصلاحية. وحده السرد يسعى جاهدا إلى منح وجودها معنى بعد أن فقدت كل معنى ممكن.
تبقى الشخصية الوحيدة الحاضرة مطلقا هي شخصية الأم الغائبة مطلقا. تقيم في الغلاف وفي العنوان وفي الإهداء، وفي لا وعي الرواية وبياضاتها المعلنة والسرية.
رابعا: السرد الروائي:
يسود السرد في رواية " سوق النساء أو ص.ب 26 " بضمير المتكلم، ولكنه ضمير متعدد. يتم بواسطة عبد الرحيم دباشي في الفصول: العاشر والثامن والخامس والثالث والتاسع. وبواسطة لبانة في الفصلين الأول والسابع. وبواسطة عبد الله قدري في الفصل الثاني. لنا أن نؤكد هنا ملاحظة بديهية مفادها أن لا علاقة بين الشخصيات الروائية المحكي عنها، وهذه الضمائر الحاكية التي تبقى في نهاية المطاف مجرد ضمائر لغوية يستعملها السارد لإيهام القارئ بنسبة المحكي إلى الشخصية التي تبدو له و كأنها هي التي تحكي. والحال أن هذا السارد يختفي خلفها ليتكلم باسمها محملا إياها مسؤولية ما يحكي. إن السرد بضمير المتكلم بقدر ما يجعل السارد " أكثر إضمارا "(28) بالنسبة للقارئ السيميائي، بقدر ما يجعله أكثر بروزا بالنسبة للقارئ العادي ـ الذي نقصد به، هنا ودائما، كل قارئ يقرأ النص الأدبي للمرة الأولى ـ وخصوصا حين يستعمل هذا السارد مؤشرات تربط السرد بالشخصية ربطا واضحا، كما في الفصل الخامس من الرواية:
" كان فوق طاقتي أن أقرأه وأتمالك نفسي من الضحك:
عملا بالعقدة المؤرخة بتاريخ :17 /06 / 1989 يسكن إبراهيم عبد الجبار، وعبد الرحيم دباشي لوحدهما... " (29)
وكما في الفصل الأول حين تستعمل الساردة لبانة ضمير المخاطب موجهة سردها / خطابها في شكل رسالة إلى مخاطبها عبد الرحيم دباشي:
" حين قدمني إليك صديق مشترك، والتقت أيدينا وتصافحنا، اكتشفت أن يمناك هي الأخرى لها شراك أكثر تفخيخا..."(30)
أو كما في الفصل الثاني حين يحكي عبد الله قدري معلنا عن اسمه صراحة:
" قدري هو اسمي ... وقدري أني عرفت عبد الرحيم دباشي ولبانة الربيعي..." (31)
غير أن هذه المؤشرات تبقى مجرد إيهام من قبل السارد بالتطابق بين الراوي والمروي عنه الذي هوهو كما يبدو فقط، وذلك بهدف مضاعفة الإمتاع؛ ذلك لأن إمكانية التماهي بين الراوي والمروي عنه مستحيلة لدواعي جمة، أهمها أن كل راو يروي زمنه، أو زمن غيره إنما يروي زمنا مضى. وحتى وإن اكتسب هذا الماضي " حقيقة الحضور "(32) مع توالي المتواليات السردية، فإن هذه الحقيقة تبقى مجرد وهم؛ لأنها من صنع السارد لحظة الحكي، ومن صنع القارئ لحظة القراءة من حيث هي لحظة متعة. وإذا كان الراوي عادة ما يتموضع في زمان تفصله مسافة عن الماضي الذي يروي عنه، فإن هذه المسافة تبقى مسافة توتر تخييلية ليس بينه وبين هذا الماضي فقط، بل بينه وبين ذاته ليس كما كانت فقط، بل كما هي لحظة الحكي. والخلاصة أن " بين أن نعيش وأن نحكي ينحرف تباعد ما. " (33) وهذا التباعد هو ما يجب الوقوف عليه.
إن ما يسرده ساردو " سوق النساء..." داخلي ينتمي في الغالب إلى عالم الأفكار والعواطف. غير أن شكل سرد كل سارد يختلف عن الآخر:
أما سرد المسمى عبد الرحيم دباشي، فهو ذو تبئير داخلي مزدوج يتم فيه عرض التجربة العاطفية من وجهتي نظر متعارضتين: وجهة نظر عبد الرحيم دباشي المتشبث بعلاقة الحب الفاشلة إلى حد الموت، ووجهة نظر لبانة الراغبة عن هذه العلاقة إلى حد الموت أيضا. إنها علاقة بين ميت لا يملك القدرة على فعل شيء ومغسل يملك القدرة على فعل كل شيء: " ماذا يملك الميت أمام مغسله ؟ "(34)
إن هاتين الشخصيتين تتقاسمان المعرفة بالمحكي/ التجربة العاطفية. كل يعرف ما يعرفه الآخر، ولكنه ينظر إليه من زاوية مختلفة. غير أن حكي السارد المدعو ع. دباشي متنوع لا يختص بلبانة وحدها، بل يتجاوزها إلى شخصيات أخرى متعددة يتحول معها التبئير الداخلي المزدوج إلى تبئير داخلي ثابت يتم فيه عرض التجارب والأفكار والعواطف من خلال وعيه من حيث هو شخصية مبأرة بحيث لا تتكلم الشخصيات الأخرى إلا لتعضد قوله، أو لتعبر ضمنيا عما لا يريد الإفصاح عنه.
يتعلق الأمر هنا بوجهة نظر السارد (دباشي أو لبانة )، ووجهات نظر أصدقاء كثر رجالا ونساء، منهم من يتم استرجاع كلامه من خلال الحياة ( السيدة الطالق، الأستاذ المسن، الشيخ الزواوي، والشيخة الكبيرة الحقانية بنت سعيدة .. )، ومنهم من يتم استرجاع كلامه من الثقافة الشفوية أو المكتوبة (عبد الرحمان المجذوب، ولادة بنت المستكفي، ابن زيدون...).
ولأن رواية " سوق النساء..."من النوع الذي يشرك " المتلقي في إنجاز الخطاب "(35)، فقد تقمص الراوي فيها دور الكاتب النموذجي الذي عرض وجهة نظره باعتباره كاتبا يسعى إلى تخليد التجربة المنتهية:
" المهم أن قصتي معك لابد أن تخلد، ولا أحد غيري سيكون أشد حرصا على تخليدها. " (36)
ودعا قارئه في ذات الوقت إلى قراءة هذه التجربة:
" وهل بإمكان المكتوب أن يكون شيئا آخر غير مأساة يتلهى بها أولئك المرضى بداء اسمه القراءة ؟ " (37)
لكنه إذ يجعل الحكي مبأرا على شخصه باعتباره كاتبا، يجعله مبأرا تبئيرا داخليا ثابتا على القارئ السيميائي (38) " المريض بداء اسمه القراءة ". ويبدو أن السارد ـ من حيث هو صورة الكاتب هنا ـ يتعمد إدراك هذا القارئ إدراكا سلبيا، إمعانا في استفزازه حتى يتجاوز التلهي بالقراءة إلى الانخراط في مأساتها من حيث هي كتابة ثانية.
إن قص القص الذي يعتمده السارد هنا يجعل خطابه السردي ثنائيا يحكي المحكي ويحكي عنه داعيا المحكي له إلى ممارسة حضوره من أجل المساهمة في الحكي طرفا مشاركا يقرأ ليستمتع، ويستمتع ليؤول، ويؤول ليغدو قارئا مثاليا بالمعنى الذي بلوره وولف غانغ إيزر، أي قارئا قادرا على ملء فراغات الحكي وبياضاته.
وإذا كان هذا هو منطق حكي السارد ع. دباشي كما بدا لنا، فإن حكي المدعوة لبانة الربيعي في الفصل الأول المعنون بباب الريح، وفي الفصل السابع المعنون بريح الباب، يتخذ شكل رسالة. أما الرسالة الأولى المتضمنة في الفصل الأول، فهي خالية من المؤشرات التي تجعلها كذلك، وقد يكون السبب راجعا إلى غياب الحواجز بين المرسلة والمرسل إليه / دباشي. لقد عاشا تجربتهما العاطفية بكل امتلاء بعيدا عن الطقوس التي يفرضها الواقع على كل علاقة رسمية أو غير رسمية، لقد عاشا الحرية في الحب، والحب في الحرية. وأما الرسالة الثانية المتضمنة في الفصل السابع المعنون بريح الباب، فإنها إذ تفتقد المِؤشرات الشكلية لنفس الاعتبارات السابقة تتضمن بعض المؤشرات الدلالية:
" والله يابلاد الحقرة لا رجعت لك " ص:53.
"وأنا أجمع أشيائي وجدت رسالة صديقك... مزقت الرسالة؛ لأنها كانت تحمل بين خطوطها حروف اسمك " ص: 54 ـ 56.
"انا التي سأذهب إلى البحر..." ص:57.
ومن خلال هاتين الرسالتين يبدو أن الحكي ذو تبئير داخلي مزدوج يتصدى للموضوع العاطفي بين الطرفين (لبانة وعبد الرحيم دباشي ) من وجهتي نظر مختلفتين، فما تحكيه المرسلة، سواء كان خارجيا أو داخليا وتعرفه، يعرفه المرسل إليه بنفس الدرجة. غير أن هذا ما يبدو فقط، فحين نتأمله مجددا نجده حكيا غير مبأر، أو حكيا ذا تبئير في درجة الصفر . فما تحكيه الساردة عن المحكي عنه، من حيث هو المحكي له / دباشي، لا يعرفه هذا الأخير، رغم أنه يعنيه ويتصل به اتصالا مباشرا. إن عبد الرحيم دباشي كما يصوره حكي لبانة، ليس هو عبد الرحيم دباشي كما يصوره حكيه. أما الشخص الأول فهو اللاوعي الخفي للشخص الثاني، إنه عبد الرحيم آخر، وهذا الآخر لم يكن يتكلم في كل ما رواه، لقد كان الهو يتكلم مكانه بلغة مواربة كما يقول جاك لاكان. وهذا الهو هو ما كشف عنه حكي لبانة بعمق:
" كنت رجلا بكبرياء لا أملكها حتى أنا كأنثى "(38)
"حين فتشت في كراسة علاقتنا عن ملامح الحقرة، لم أجد شيئا غير سطوتك الشرقية الموهومة . " (39)
" أنا رجل ومن حقي أن أفعل ما أشاء، أما أنت فلا ". (40)
" ... رجولتك كما كنت أريدها لم تظهر يوما ". (42)
لقد كان دباشي رجلا شرقيا مستبدا، يقول الشيء ويعتقد غيره وربما نقيضه. وهذا الرجل لا يعرفه أحد من الخلف غير لبانة الربيعي.
أما السارد الرئيسي الثالث في " سوق النساء ... "، فهو عبد الله قدري الذي يتخذ سرده شكلين متباينين:
ـ أما الشكل الأول فهو عبارة عن رسالة مكتوبة غير معدة في الأصل للسرد. لقد أرسلت إلى عبد الرحيم ولبانة " حبيبين من شواظ ونحاس " (43)، غير أن لبانة حولتها إلى سرد حين ضمنتها سردها؛ لكي تمارس القص في القص، ولكي تكشف من خلالها عن عورة من تراسله / دباشي بصورة أعمق.
تتألف هذه الرسالة من خمسة أشلاء، كل شلو عبارة عن شذرة حابلة بلغة رمزية حارة تتخللها بياضات ذات طبيعة إحالية لا يعرف أسرارها إلا المرسل والمرسل إليهما من قبيل:
" ما عسانا فاعلين إذا ما ...
من يدرك ...ربما "
ويبدو أن حكي عبد الله قدري هنا ذو تبئير داخلي ثابت يتم عرض تفاصيله من خلال وعيه المبأر. ومن خلال هذا الوعي نستطيع إدراك شخصيتي المرسل إليهما. غير أن هاتين الشخصيتين تتمايزان من حيث الأهمية. فعلى الرغم من أن أشلاء الخطاب موجهة إليهما معا، فإنها تهم لبانة أكثر مما تهم دباشي. وهذا ما يعبر عنه الشلو الرابع الذي يتمحور حولها وحدها باعتبارها ضحية يتحمل الجاني دباشي مسؤولية ما آلت إليه.
وربما لهذا السبب أوردت لبانة هذه الرسالة ضمن محكيها كي تستفز مخاطبها بصورة مضاعفة. إن أشلاء رسالة عبد الله قدري تقول " أقل مما تعلم ن ولكنها تطلع ..على أكثر مما تقول "(45)، ذلك لأنها لا تقول ما يمكن أن يقال، بل ما لا يجب أن يقال . ولذلك تتضامن مع محكي لبانة في الكشف عن لاوعي شخصية دباشي ولاوعي خطابها.
ـ أما الشكل الثاني فهو عبارة عن سرد مباشر يحكيه عبد الله قدري معلنا منذ البدء مسؤوليته عنه. " قدري هو اسمي، وقدري أني عرفت عبد الرحيم دباشي ولبانة الربيعي. "(46)
هل نقول هنا أمام هذا التماهي بين السارد والشخصية أن السارد تلاشى لتحل الشخصية محله. وإذا حلت محله، فمن السارد؟
ومهما يكن، فالأمر يتعلق بسرد لا بد له من سارد. وهذا السارد هو عبد الله قدري. فليكن عبد الله قدري هو السارد، وليكن عبد الله قدري كائنا لغويا يتقمص ضمير المتكلم .
إن ما يسرده السارد في الفصل ألأخير المسمى بالفصل الثاني والمعنون ب " قدري " سري للغاية. إنه سرد فاضح يفشي ما كتمه المحكي عنهما من أخبار، وينقل تفاصيل لا تنتمي إلى واقع علاقتهما، ولا إلى حقيقة علاقتهما فقط، بل إلى لا حقيقة هذه العلاقة من حيث هي حقيقة مرعبة:
" كان عبد الرحيم دباشي يعشق منار الممرضة، ومديحة الخياطة، ونهال المراهقة، وآمال طبيبة الأسنان، ونساء أخريات ... وكانت لبانة تعشق عبدو المهاجر المغترب، وحبيب التونسي أستاذ مادة الديداكتيك بكلية علوم التربية، ومنير الكهربائي صديق عبد الرحيم، ورجالا آخرين. "(47)
يسهل هنا أن نحكم أخلاقيا على الطرفين، وقد جعلا من الخيانة عقيدة: " للَذة يا عزيزي سبيل واحد لا يدرك إلا في طعم الخيانة." (48) غير أننا حين نتأمل أعماقهما نجدهما كائنين مأساويين لا تعوزهما المبادئ الأخلاقية، ولكن تنقصهما الإرادة القوية التي تستطيع تحيين تلك المبادئ في واقع يسمح بتكون تلك الإرادة. لقد افتقدا الحرية في تقرير مصيرهما ليجدا نفسيهما في مواجهة " الزمن بطابعه المدمر " (49)، ولذلك يبدوان خاويين من الداخل، ويعانيان من فراغ قاتل حولهما إلى كائنين مشتتين ملقين على قارعة الطريق، يثير منظرهما الخوف والرعب.
ولقد تمكن عبد الله قدري من الكشف عن هذا الفراغ حين ولجه بحكيه اللا مبأر الذي اعتمد فيه الرؤية من الخلف، والذي استطاع بواسطته إماطة اللثام عن كل ما سردته الرواية، وعن كل ما عاشه صديقاه ظاهرا وباطنا.
خامسا: اللغة الروائية:
تتعمد " سوق النساء .." الاقتصاد اللغوي في حكيها. إنها لا تقول ما تريد، بل ما لا تريد. لقد همت الكتابة بالسارد وهم بها. لكنها حين همت به أتعبته، وحين هم بها عجز عن الفعل، فكان الفعل كتابة على مضض، فرضت نفسها فرضا عليه:
" قصتي معك لابد أن تخلد وأن تكتب وأن تقرأ.
لسبب بسيط: لأنها تستحق
ولسبب آخر أكثر بساطة لأنها ترهقني، وأعتبر كتابتها تخلصا من ثقل يقوس ظهري." (50)
ولهذا السبب بدت الرواية صغيرة الحجم، مكثفة التعبير، مليئة بالبياضات والفراغات التي عجز السارد ـ بصيغة المتعدد ـ عن ملئها، إما لأنها تتضمن سرائر خاصة احتفظ بها لنفسه، وإما لأنها تتضمن مواقف رغب في الإفصاح عنها ولم يستطع. غير أن ما يعادل هذه الفراغات والبياضات هو اللغة الشعرية التي تتخلل السرد كثيرا، وتأخذ في بعض الأحيان الأخرى شكل شلو ختامي لهذا الفصل أو ذاك. ويبدو لنا أن هذا الشلو ليس لغويا، بقدر ما هو دموي يكاد يسيل من جروح الشخصية الحاكية أو المعنية بالحكي:
" أمَا "...
اعذريني حين نسيت صدرك، وخنت العهد... وفكرت في أن أجعل من أخرى أما لي.
" أمَا "...
أعدك وأنت تقاومين وحشة القبر أن ألمَ أشلائي وأعود إليك " (51)
ولأن السارد ليس بشاعر، وما ينبغي له أن يكون كذلك، فكلما طاوعته لغة الاستعارة استجاب لها، وكلما تمنعت اضطر إلى سرقة نصوص شعرية من شعراء آخرين ( المتنبي، الجواهري، عبد الرحمان المجذوب، ابن زيدون...) إما عن طريق الاستشهاد، وإما عن طريق الأسلبة التي تشخص اللغة المحاورة بهدف تحيينها، وتكييفها مع سياق الحكي ومقام التواصل.
وإذا كانت الرواية لا تكتب بلغة واحدة، وإلا فقدت خاصيتها الدرامية، فقد حبلت " سوق النساء ..." برؤى متعددة متصارعة محملة في مجموعة من اللغات (ذكورية ونسائية ، جنسية وعاطفية ، سياسية وفلسفية وأخلاقية ...) واللهجات ( تونسية، جزائرية، مغربية...) وذلك إما بواسطة التهجين الذي يمزج بين لغتين متمايزتين عن طريق لغة المتكلم التي تشخص لغة الآخر، وتبقي في ذات الوقت على هويته وعلى نسبة كلامه إليه، وإما عن طريق الأسلبة التي تتدخل في لغة الآخر وتشخصها ضمنيا (52)، وإما عن طريق الحوارات التي يتفرد فيها كل متكلم بأسلوبه الخاص .
ولهذه الأسباب وغيرها بدت حبكة الرواية متفجرة، ليس بسبب فصولها الغير مرتبة فقط، وليس بسبب فصليها المبتورين فقط، ولكن بسبب بنيتها المتشظية التي شظت الشخصية الروائية فكريا وعاطفيا... ووزعتها بين الأمكنة ( وهران، فاس، أقصى شمال المغرب، أقصى جنوب المغرب، البئر الجديد، خريبكة، أوزود، تونس...) دون أن تحكي في الزمان بوضوح كيف تم الانتقال من مكان إلى آخر. وهذا ما أفقد الزمن في الرواية ليس نظامه المتسلسل فقط، بل كينونته. وأن يعادل زمن الحكي اللا كينونة، معناه أن تفقد الشخصيات المحكي عنها كينونتها ليمسي المحكي عنه الوحيد في الرواية هو الأم.
وإذا كان الأمر هكذا ، فلا يوجد في الرواية تكلم يحيل على متكلم ما، بل قول يحيل على مقول قيل، وعلى حدث حدث في مكان ما، وفي زمن ما هو اللا زمن. ولأن الأمر يتعلق بقول ـ سعى السارد جاهدا إلى تقمص الشخصية ( دباشي ، لبانة ، قدري ) بغية جعله منسوبا إليها ـ فقد ورد قولا مفككا يفتقد خاصية الاسترسال، ويعتمد الاستطراد والتنضيد بقوة، بحيث يجعل الحكي يستوعب متواليات وحوافز حكي آخر (53): يبدأ من نقطة أصلية، ثم ينحرف إلى أخرى فرعية؛ ليعود أو لا يعود إليها. وكل ذلك بهدف خلخلة نظام الحكي، وبهدف نسج علاقة ما بين الحكي الأصلي والحكي الفرعي، قد تكون علاقة تناظر أو تواز أو تناقض كما في هذا المثال :
1 ـ " وكثيرا ما كنت ، في لقاءاتنا تعبثين بولاعتي، ولم أنتبه يوما إلى أنك ستحرقينني بها.
2 ـ غبية هي كل جرائدنا ... حين تنقل خبر اقتتال شرطيين في طنجة، وتغفل نقل خبر القتلة الذين يمشون بيننا، يصفَوننا واحدا واحدا، وبلا شفقة.
1 ـ يا امرأة مراوغة كذبها يشبه الصدق. (54)
وإذا كانت رواية " سوق النساء .." قد تعمدت الاقتصاد اللغوي، فقد استعاضت عن الإطناب والتفصيل في الوصف والسرد باللغة الساخرة العنيفة التي تستفز، وبالصور الغرائبية التي تفزع، وبالنبرة الهجائية الحادة التي تقلب الموائد، وبالأسلوب النقدي الذي يلسع. وسنكتفي هنا بنموذجين على سبيل التمثيل لا الحصر:
" كان طبيعيا... أن نغوص في أخبار البلاد، واحتجاجات المعطلين أمام مقر البرلمان وكيف أن المخزن واجههم بالهراوات رغم التبجح بالديموقراطية والانفتاح... ورغم أن السي "عبد رحمان " أصبح هو الوزير الأول. " (55)
"مازحا كان صديقي يردد:
ـ الله يرحم عمر بن جلون، كتبنا عليه قصيدة وأكلنا بها المشوي والبسطيلة في المهرجان. " (56)
وبعد ، هناك قضايا أخرى كثيرة في هذه الرواية تستحق المقاربة . لكننا نتركها للقارئ السيميائي ليكتشفها .

















الهوامش :
. آسفي، ط 1، سنة 2006 MBH (1) جمال بوطيب : رواية " سوق النساء أو ص . ب 26 " (2) (2) بول ريكور: من النص إلى الفعل : أبحاث التأويل . ترجمة : محمد برادة وحسان بورقية . عين للدراسات والبحوث اللسانية والاجتماعية . ط : 1 ، سنة 2001 ، مصر ، ص :128 .
(3) بالمعنى الذي يقدمه جيرار جينيت : " أعني بالقصة المدلول أو المضمون السردي .. وبالحكاية الدال أو الخطاب أو النص السردي نفسه "، وهذا هو ما يعنيه تودورف بالقصة والخطاب، وما يعنيه الشكلانيون الروس بالمتن والمبنى الحكائيين. انظر " خطاب الحكاية : بحث في المنهج " ترجمة عمر حلي وعبد الجليل الأزدي. مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء 1996، ص:38 ـ 39.
(4) د. شكري عزيز الماضي: " أنماط الرواية العربية الجديدة " سلسلة عالم المعرفة، ع: 355 سبتمبر 2008، ص: 15.
(5) الرواية ص: 79
(6) عبد الحميد عقار : " وضع السارد في الرواية " مجلة " دراسات أدبية ولسانية " ع: 1 س: 1
(7) د. عبد العزيز حمودة " الخروج من التيه: دراسة في سلطة النص " سلسلة عالم المعرفة ع 298 سنة 2003 ص: 112.
(8) بول ريكور . م، س. ص: 154
(9) مصطفى عمراني " القراءة والتأويل " مجلة فكر ونقد ع:67 مارس 2005، ص:70.
(10) الرواية، ص: 31.
(11) عنوان الفصل الأول من الرواية.
(12) عنوان الفصل السابع من الرواية.
(13) بالمعنى الذي يعطيه أمبيرطو إيكو.
(14) ميخائيل باختين: " الماركسية وفلسفة اللغة " ترجمة محمد البكري ويمنى العيد. دار توبقال للنشر، ط: 1 سنة ، 1986 ص: 19 .
(15) الرواية، ص: 78
(16) الرواية، ص:3
(17)انظر أنماط السارد في كتاب جيرار جينيت " خطاب الحكاية .. " م. س
(18)الرواية، ص: 30.
(19) تودوروف: " الأنواع الأدبية " ترجمة خيري دومة ضمن كتاب " القصة ـ الرواية ـ المؤلف: دراسات في نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة " دار شرقيات، القاهرة، ط 1، سنة 1997 ص: 46 وما بعدها.
(20)الرواية، ص: 56
(21)الرواية، ص: 78
(22) جيرار جينيت: " مدخل لجامع النص " ترجمة عبد الرحمان أيوب. دار توبقال للنشر سنة 1985 ص: 32
(23) الرواية، ص: 78
(24) الرواية، ص:77
(25) الرواية، ص: 9 و 10
(26) الرواية، ص:53
(27) بول ريكور م.س ص : 53
(28) Todorov in groupe U. Rhetorique Generale. ed Point p .169
(29) الرواية ص:43
(30) الرواية ص:35
(31) الرواية ص:78
(32) سيزا قاسم " بناء الرواية " دار التنوير للطباعة والنشر ، ط1 سنة 1985 لبنان، ص: 36
(33) بولا ريكور م. س ص: 10.
(34) الرواية ص: 7.
(35) عبد الفتاح كيليطو " الحكاية والتأويل: دراسات في السرد العربي " دار توبقال ط1 سنة 1988 ص: 33
(36) الرواية ص: 8
(37) الرواية ص: 8
(38) الرواية ص : 36
(39) الرواية ص :53
(40) الرواية ص: 53
(41) الرواية ص:53
(42) الرواية ص: 54
(43) الرواية ص:45
(44)الرواية ص:46
(45) جيرار جينيت " خطاب الحكاية .. " م .س، ص: 208
(46) الرواية ص: 75
(47) الرواية ص: 76
(48) الرواية ص: 78
(49) سيزا قاسم: م . س ، ص : 67
(50) الرواية ص: 8
(51) الرواية ص: 31
(52) نستفيد هنا من تحليل ميخائيل باختين. انظر: " الأسلوبية المعاصرة والرواية " ترجمة محمد برادة مجلة دراسات لسانية، ع2 سنة 1 عام 1986 ص: 124.
(53) انظر مقال شلوفسكي: " بناء القصة القصيرة والرواية " ضمن كتاب " نظرية المنهج الشكلي: نصوص الشكلانيين الروس " ترجمة ابراهيم الخطيب. مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت سنة 1982 ص: 122 ـ 149.
(54) الرواية ص: 24.
(55) الرواية ص : 30.
(56) الرواية، ص : 18



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى