فنون بصرية علي محمد إسبر - العمل الفني بوصفهِ حدوثاً للحقيقة عند مارتن هيدغر

«... لكن لِمَ لا تنامُ أبداً هذه الشوكةُ المغروزةُ في صدري» هلدرلين



لقد عُني الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر في حياته المديدة كُلِّها (ولدَ عام 1889، ومات عام 1976) بهدف واحد وحيد، ألا وهو كشف معنى الوجود. ومن هنا جاءت محاولته الجبَّارة في كتابهِ الرئيسي الوجود والزمان Sein und zeit، التي أرادَ من خلالها تفسير الآنية Daseinمن جهة الزَّمانيَّة، وإيضاح الزمان بوصفهِ أُفقاً متعالياً Transcendental Horizon لسؤال الوجود. وفي ما يتعلّق بهذا السؤال، يقول هيدغر في مُقدّمة كتابه الآنف الذكر: «هذا السؤال صار اليوم في طي النسيان، وبالرغم من أنه في زماننا هذا قد نعتبر أنّه من التقدّم أن نمنح استحساننا للميتافيزيقا مرة أخرى، إلا أننا بتنا نشعر بأننا مستثنون من بذل الجهد لإضرام صراع عمالقة جديد حول الجوهريّة. ومع أنّ السؤال المطروح ليس أي سؤال كان، فهو الذي فعَّل الحافز لبحوث أفلاطون وأرسطو، التي اضمحلت من بعدهما كموضوعة للبحث الحقيقي، وإنَّ ما فكّر فيه هذان الفيلسوفان يبقى صامداً عبر تبدُّلات وتلفيقات، وصولاً إلى منطق هيغل، وما انتزعاه من الظَّاهرات بجهود عقلية عظيمة، وإنْ بشكل متفرِّق، وبمواجهة أوليّة صار مبتذلاً منذ زمن. ليس هذا فحسب، ففي أساس المآثر الأولية لليونانيين في محاولة تفسير الوجود، تطورت عقيدة لم تصرح فقط بأنّ السؤال عن معنى الوجود غير ضروري، بل أقرّت أيضاً بإهماله. لقد قيل إنَّ مفهوم الوجود أكثر المفاهيم كليةً وفراغاً بما هو يندّ عن كلّ محاولة لتعريفهِ. وهذا المفهوم الأكثر كليّة، وبالتالي غير القابل للحدّ، لا يتطلب أي تعريف، ذلك أنَّ كل شخص يستخدمهُ باستمرار، ويفهم مسبقاً ماذا يعني به بهذا الاستخدام. ذلك الذي وجده الفلاسفة القدماء باستمرار مُقلقاً كشيء مُعتاص ومستسرّ، اتخذَ معنى واضحاً، حتى أنَّ أي شخص يستمر في السؤال حولَه سوف يُتهم بأنَّه وقع في خطأ منهجيّ»(1). وعليه، يظهر واضحاً أنَّ هيدغر يريد أن يُعيد التفكير في معنى الوجود بطريقة جديدة كل الجِدّة، مُتوسلاً في ذلك أنطولوجيا فينومينولوجية هيرمينوطيقيّة، أي علم وجود ظاهرياتي تأويلي، لكن من المهم التأكيد على أن هيدغر في كتابه العمدة «الوجود والزمان» رامَ أن يصل إلى فهم معنى الوجود من خلال تركيزه على تحليل الوجود الإنساني، إلا أنّه لم يُفلح في ذلك، ولهذا عزفَ هيدغر عن نشر الجزء الثاني من كتابه «الوجود والزمان» الذي كان قد صدر الجزء الأول منه عام 1927م، وقد أطلق النُقَّاد على هيدغر في هذه المرحلة اسم هيدغر الأوَّل، من أجل تمييزه عن هيدغر الثاني، أي هيدغر ما بعد «الوجود والزمان»، والذي سوف يكون شغله الشّاغل هو فكر الوجود، بمعنى أنّ هيدغر أحدثَ نقلة في فلسفتهِ أساسُها منح الأولوية للوجود أكثر من الوجود الإنساني الذي يُسميه هيدغر «الوجود ـ هنا».

والواقع أنَّ اهتمام هيدغر بفكر الوجود قاده بشكل مخصوص إلى أن يمتاح هذا الفكر عينه من الفن. لكن ما هو الفن في منظور هيدغر؟ «في عام 1935 قدَّم هيدغر سلسلة محاضرات عَنْوَنَها بـ«أصل العمل الفنّي» On the Origin of the Art – work، ونشرها في ما بعد في دروب الغابة Forest pathsعام 1950م. وبالرغم من عنوانها، لا يمكن أن تُفهم المقالة بأية طريقة بوصفها عملاً في علم الجمال aesthetics. على الأصح يتبنّى هيدغر افتراضاً جريئاً بأنَّ الفن art، على وجه الخصوص الشعر poetry، ليس هو في الأصل مُجرّد مصدر لـ«مُتعة مُنقَّاة» refined pleasure، لكن طريقة عميقة من خلالها تحدُث الحقيقة»(2). وهنا يظهر جلياً أنَّ هيدغر يُبيّن أن الحقيقة في الوجود تحدُث في الفن. الفن Art، كما يقول هيدغر (صيرورة وحدوث الحقيقة... اللغة الشّعريّة Poetic language تُحْضِر ما يكون كما يكون إلى المُنفتح openللمرة الأولى). ولتبيان ذلك يُحلِّل هيدغر بدايةً أعمالاً فنية متنوِّعة، مثل صورة زيتيّة من عمل فان غوخ، موضوعها حذاء فلاح peasant shoes، معبد إغريقي، وقصيدة، مُظْهِراً أنَّه يوجد توتُّر أساسي fundamental tension بين ما يدعوه الأرض the earth»، والعالم the world»، وهذان المصطلحان يُستخدمان على نحوٍ بيِّنٍ في معنى مجازي. إنَّه يستخدم هذين المصطلحين من دون أن يحدِّدهما، تاركاً معناهما مُستلهماً، كما يستخدمهما لتفسير الخصيصة الفعَّالة في الفن، وبطريقة مماثلة الخصيصة الفعَّالة في الحقيقة نفسها. في كلّ عمل، سواء صورة زيتيَّة، موسيقى، بناء، أو شِعر، توجد عناصر تُمثِّل المألوف، المُصان، المُباشر (الأرض)، هذه العناصر تكون مُقارَنة بعناصر مضادَّة تُعلي، تُظْهِر، تمتدُّ أبعد، وتوفِّر فهماً أوسع للآفاق والمجالات (العالم). أحياناً يبدو تقريباً كما لو أنَّ «الأرض» يُمكن أن تكون مفهومة بوصفها دِفء مادة تلوينيّة زاهية، مُصَوِّتيةُ اهتزازٍ فخمٍ لـ«الفيولونسيل»، يِقل الحجارة التي تؤلِّف المعبد. «العالم» من ناحية أخرى، يبدو أنَّه يُشير إلى تبصُّرات، أو دلالة تنتزع من عناصر الأرض هذه مقاومتها للانكشاف. لكن، لا «الأرض»، ولا «العالم»، يُمكن أن يوجد أيّ منهما بشكلٍ مستقل؛ بالأحرى إنَّ التوتر بينهما هو الذي يكشف الحقيقة»(3).

وعلى هذا الأساس، ينظر هيدغر إلى «الأرض» على أساس أنَّها ترمز إلى مادة العمل الفنّي، وينظر إلى «العالم» بوصفهِ إحداثاً في هذه المادة، قِوامه العمل الفني، والفنان، وبشكلٍ خاص الفن. وهنا لابدَّ أن نتساءَل لماذا يستخدم هيدغر المُصطلحين: «الأرض» و«العالم» على هذا النحو؟ إنَّ «الأرض» تُلمع إلى ما هو محجوب، ويُلمعُ «العالمُ» إلى ما هو نازع للحجاب، أي أن العالم بوميضهِ في الأرض يومِضُ الانكشافُ في التحجُّب. والواقع أن هيدغر يفهم معنى نزع الحجاب في أفق الكلمة اليونانية أليثيا aletheia، التي تعني في دلالاتها اللغوية اليونانية ما هو غير مخفي، أو منسي، أو تدل على الشخص الذي لا يُخفي لا يُنسى. ومن هنا، يصير «العالم» هو جدل مع الخَفاء أي الإظهار؛ إظهار ما هو مخفيّ في «الأرض»؛ لذلك فالتوتُّر بين «الأرض» و«العالم» هو توتر بين «الإخفاء» و«الإظهار» هدفُهُ هو إحداث الحقيقة.

ولاشك أنَّ اهتمام هيدغر بإظهار المخفي ينتمي إلى مراحِل مُبكِّرة من تفكير هيدغر، ولا غَرْو أن هذا الإظهار هو في جوهره انتباه إلى الوجود نفسه في حقيقة ظهورهِ، فالحقيقة هي حقيقة الظهور.

قال هيدغر في عام 1920م «لكن فقط مثل العين التي تُعنى بالأشكال المختلفة المتنوِّعة للألوان لا ترى الضوء الذي من خلاله تُبصِر الأشياء الأخرى، وفي حال أن رأتهُ فإنَّها لا تنتبه إليه. هكذا عين العقل تُعنى بالموجودات الكليَّة والجزئيَّة (entia)، ولا تنتبه إلى الوجود نفسه الذي هو ما وراء نطاق الأجناس كافةً، ومع ذلك يأتي أولاً من قِبل العقل وخلاله إلى الأشياء الأخرى.
ومن أجل ذلك، يبدو حقيقياً جداً أنَّه كما تكون عين الخفَّاش إزاء الضوء، كذلك عين العقل إزاء الأشياء الظاهرة في الطبيعة»(4).

إن الوجود، كما يعتقد هيدغر، يكون في حالة خفاء، وهذا الخفاء يعود سَببه إلى حالة اللااكتراث من قِبل الإنسان بالوجود، فالإنسان عُنيَ بالموجود، وأهمل الوجود، لذلك دخلَ الوجود في الخفاء، وتغطَّى بحجاب كثيف، ونَزْعُ هذا الحجاب هو الحقيقة، وهذا يتم بشكل مخصوص في العمل الفنيّ، حيثُ يتمُ فهمُ الموجود في أفق حقيقة الوجود من خلال كشف الموجود، «لكننا لسنا نحن الذين نشترط كشف الموجود، وإنما كشفُ الموجود (الوجود) هو الذي يضعنا في جوهر من هذا النوع، بحيث أننا في تصورنا نظل دائماً نوضع في الكشف ونقتفي أثره. ولا ينبغي لهذا الذي تتجه إليه المعرفة أن يبقى مكشوفاً وحدَهُ فقط، بل ينبغي ذلك أيضاً للميدان، الذي يتحرك فيه الاتجاه إلى شيء بأكملهِ، والذي تظهر من أجلهِ مطابقة الجملة للشيء، أن يتم بصفتهِ الكليّة في ما هو مكشوف. لن نكون بجميع تصوراتنا الصحيحة شيئاً، وما كنا لنستطيع أن نفترض أيضاً أن هنالك شيئاً واضحاً نستطيع الاتجاه إليه، وذلك في ما يبدو إذا لم يكن كشف الموجود قد وضعنا مُسبقاً في المكان المضاء، الذي يقوم كلّ موجود بالنسبةِ إلينا في داخلهِ وينسحب منه»(5).

ومن هنا، يتبيَّن أنَّ هيدغر يرفض أي إقحام معرفيّ يدخل في عملية إظهار، أو كشف الموجود، وإنما هذا يتم بشكل تلقائيّ تماماً، والمُفارقة هنا أنَّ الكشف نفسه ينضوي فيه نوعٌ من كِينة غامضة، لكنها كِينة لا يُمكن أن تُعدّ غُفلاً، وإنما فيها مُبرِّر حقيقي لعملية الكشف نفسها. يقول هيدغر: «ففي الموجود كثير مما لا يستطيع الإنسان السيطرة عليه. فلا يعرف منه إلا القليل. وحتى هذا المعروف يبقى تقريبياً، وتقويمه لا يتم على وجه اليقين. والموجود رغم أنه قد يبدو لنا بشكل في منتهى السهولة، ليس من مصنوعاتنا أبداً، ولا حتى من تصوراتنا. إذا فكرنا في الكلّ في واحد، فإننا نُدرك في ما يبدو كل ما هنالك على الإطلاق، حتى لو كان إدراكُنا بصورةٍ فجَّة بما فيها الكفاية»(6).

إنَّ هيدغر في هذا المقام يحاول أن يؤكِّد على أنَّ في الموجود حالة نُدود، وهذا النُّدود لا يُفضي بنا إلى اللاأدريَّة، لكن إذا تمَّ التركيز على الوضع حول الموجود نجد أنَّه «عندما نتجاوز الموجود، لكن ليس بالابتعاد عنه وإنما بالبقاء أمامه، يحدث زيادة على ذلك شيء آخر. في وسط الموجود كلية يوجد موضع مفتوح. فجوة مضاءَة. وهي، بالتفكير فيها انطلاقاً من الموجود، أكثر وجوداً من الموجود. لذلك فهذا الوسط المفتوح، الذي لا يحيط به الموجود، وإنما الوسط المضاء نفسه هو الذي يحيط بكلّ موجود، كالعدم الذي لا نكاد نعرفه»(7).

ويرى هيدغر إلى أنَّ هذا الموضع المفتوح، أو الفجوة المُضاءَة، هي التي تُفضي إلى أن يوجد الموجود بفعل دخولهِ فيها، وخروجهِ منها، بمعنى أنَّ هذه الفجوة هي مخرج يقود الموجود الإنساني إلى الموجود الآخر المختلف عنه، وهي أيضاً مدخل يرشد الموجود الإنسان إلى نفسهِ، بوصفهِ موجوداً؛ غيرَ أنَّ هذه الفجوة المضاءَة هي إخفاء بأسلوب لهُ طابع مزدوج. ويوضح هيدغر ذلك قائلاً: «الموجود يتمنع علينا، باستثناء ذلك القليل، الذي يبدو وكأنَّه الأولى بأن نعثر عليه، وذلك عندما لا نستطيع بعد أن نقول عن الموجود إلا أنَّه موجود. الإخفاء بوصفهِ امتناعاً ليس هو في كل مرة حدّ المعرفة، وإنما هو بداية إضاءة الفجوة المضاءَة. لكن الإخفاء هو في الوقت نفسه، ولكنه على نحو آخر طبعاً، يوجد داخل هذه الفجوة المضاءة. الموجود يدلف أمام الموجود، فيحجب الواحد الآخر. ويعتم ذاك هذا. ويحجب القليل الكثير، وينكر المفرد كل شيء. والإخفاء هنا ليس هو ذلك الامتناع البسيط، وإنما هو الموجود يظهر لنا لاحقاً، لكنه يتخذ شكلاً آخر غير الشكل الذي هو عليه»(8).

ويتماشى هيدغر مع هذه النتائج، ويذهب إلى أن ماهية الكشف، أو الإظهار، أو نزع الحجاب، من حيث هي ماهية الحقيقة، يشيع فيها اللاتجاوب، لا بوصفهِ مثلباً، وكأنَّ الحقيقة من جهة أنّها نزع للحجاب هي إبادة للمتحجِّب. وهذا يفضي إلى أن ماهية الحقيقة هي اللاحقيقة، وهذا هو الطابع الحاصل للحقيقة، أي أنها لا حقيقة، ولا يؤول الأمر هنا إلى فهم الحقيقة من حيث أنها لا حقيقة، على أساس أنها بطلان أو خداع، ذلك لأنَّ حدوثها يتم على هذا النحو. ويتساءل هيدغر «لكن كيف تحدث الحقيقة؟ نجيب: تحدث بطرق جوهريّة قليلة. من هذه الطرق التي يتم بها حدوث الحقيقة، طريقة وجود العمل الفني يدخل، وهو يقيم عالماً وينتج أرضاً، ذلك النزاع، الذي يتم فيه صراع كشف الموجود، أي الحقيقة، كلية»(9).

وقد سبقت الإشارة إلى أن هيدغر انتقى ثلاثة أعمال فنية ليقوم بتحليلها في هذا الأفق، وهي: صورة زيتية من عمل فان غوخ، موضوعها هو حذاء فلاح، ومعبد إغريقي، وقصيدة ك.ف. ماير «البئر الرومانية»(10). وتساوقاً بين انتقاء هيدغر لهذه الأعمال الفنية، ورؤيته الآنفة، يقول: «في الوقوف الآني للمعبد تحدث الحقيقة. وهذا لا يعني أنَّ هنالك شيئاً ما يعرض هنا بشكل صحيح، ويتم التعبير عنه، وإنما يعني أن الموجود يُحمل كليةً إلى الكشف، ويتم حفظه فيه. والحفظ يعني في الأصل الحراسة. فالحقيقة تحدث في لوحة فان غوخ. وهذا لا يعني أنَّ هنالك شيئاً موجوداً يرسم بشكل صحيح، وإنما يعني أن الموجود كلية، العالم والأرض في لعبهما المتناقض يصلان إلى الكشف عن طريق ظهور أداة الحذاء. الحقيقة تعمل عملها في العمل الفني، فهي إذن ليست شيئاً حقيقياً فقط. فاللوحة، التي تظهر حذاء الفلاح، والقصيدة التي تتحدث عن البئر الرومانية، لا تفصح عن هذا الموجود المفرد من حيث هو فحسب، هذا إنْ كان لها ما تفصح عنه إطلاقاً، وإنما تترك الكشف يحدث بصفتهِ هذه من خلال علاقتهِ بالموجود كلية. كلما كان ظهور الحذاء أبسط وأكثر جوهريَّة، وكلما كان ظهور البئر أكثر صفاءً وخلواً من الزينة في جوهرهما، كان كل موجود معهما أكثر حضوراً وأكثر لطفاً. على هذه الصورة تتم إضاءة الوجود المتخفي. وهذا النوع من الضوء يلحق شعاعه بالعمل الفني. وهذا الشعاع، الذي أضيف إلى العمل الفني هو الجميل. الجمال هو الطريقة التي توجد بها الحقيقة، بوصفها كشفاً»(11).

الواقع أن هيدغر هنا يريد أن يقدم درساً عميقاً في مهمة الفن، وهو أن هدف العمل الفني ليس هو إبراز موجود معين، بوصفهِ موضوعاً قد تم التركيز عليه بشكل تام، بحيث تم إغفال علاقته مع الموجودات، أو الموضوعات الأخرى على العموم، أي بالموجود في كليته، وإنما هدفه هو إظهار الموجود بوصفه موضوعاً فنياً إظهاراً تلقائياً عفوياً بسيطاً يحافظ عليه كما هو في حضوره، في حيثية دقيقة جداً تصون حضور الموجودات الأخرى. وهنا يُمكننا القول: إنَّ مهمة العمل الفني بالنسبة إلى هيدغر هي إظهار الظُّهور بصون كلية الحضور، كما يكون فيه الظُّهور بصون كلية الحضور، كما يكون فيه الظُّهور. ولا غَرْو أن هذه التعبيرات قد تبدو للوهلةِ الأولى وكأنها شعوذة لغويَّة، إلا أنها تعود أصلاً إلى طريقة هيدغر نفسه، وإلى موقفه الفينومينولوجي بشكل خاص، الذي يختلف فيه عن مؤسِّس الفينومينولوجيا نفسها، وأستاذ هيدغر، ألا وهو الفيلسوف الألماني إدموند هُسِّرل، وبغض النظر عن الدخول في تفصيلات وحيثيات الخلاف بين هُسِّرل وهيدغر..، نقول: إنَّ هيدغر يُريد أن يفهم الفينومينولوجيا phenomenology من حيث دلالتها في اللغة اليونانية، ويبيّن هيدغر في هذا المقام أن المصطلح فينومينولوجيا قد جُمِعَ من ضم الكلمة اليونانية لوغوس Logosأي قول، أو عقل، أو علم، إلى كلمة يونانية أخرى هي فينومينون، أي ظاهرة phenomenon. «ومعنى الظاهرة والقول يتجمَّع على هذا النحو. أن تدع ما يُظهر نفسه مرئياً من نفسهِ في الطريقةِ عينها التي فيها يُظْهِرُ نَفْسَهُ من نَفْسِهِ»(11).

وهنا، لابد من الانتباه إلى عبارة هيدغر «.. الطريقة عينها التي فيها يُظهر نفسه من نفسه». ماذا تعني هذه العبارة؟ لنعرف ذلك جيداً لابدَّ أن نعود بشكل خاص إلى تحليل هيدغر إلى الصورة الزيتية التي رسمها فان غوخ: «حذاء الفلاح». وهنا نجد أنَّ «صورة فان غوخ الزيتية لا تخلق حياة الفلاحين. لكن بإظهارنا على حقيقة حذاء الفلاحة يُمكِّننا فان خوغ من رؤية عالم الفلاح، من الشعور بمعنى حياة الفلاح، وهذا لا يظهر في الكدح اليومي لمعيشة الفلاح كحياة. في ما يتعلق بهذا، يمكن القول إنه يمكن أن يوجد معاً تشابه، وأيضاً لا تشابه بين وظيفة العمل الفني وعملية طريقة التحليل النفسي. فهما يهتمان بإظهار الحقائق المخفيَّة إلى المُنفتح open. على أي حال، الحقيقة تظهر في التحليل، ربما بشكل خاص عندما تكون بالفعل الحقيقة ملائمة لأن تكون مُجرَّبة من قِبَل المريض، كتحدٍّ ومعارضة لفهمهِ اليومي الخاص لنفسه وعالمه. إذا كان على التحليل النفسي أن يُنقذ عليه أولاً أن يُدمِّر. هكذا أيضاً يمكن أن يكون بالنسبة للفلسفة. لكن الأسلوب الذي يعمل فيه الفني يكون وفقاً لـ«هيدغر» مُختلفاً جدّاً: إنه ليس مُعادٍ لذلك الذي يكشفهُ، ولا يقدم نفسه كعرض لتعليل بديل، أو تفسير لذلك الذي يسود مسبقاً. إنه ببساطة (لكن هيدغر بالطبع هو دائماً مصرّ على أن البسيط هو دائماً الأكثر صعوبة) يترك العالم يظهر كما هو، في وجوده»(12). وعلى هذا الأساس، نجد أن عظمة فان غوخ الفنيَّة تأتي من كونهِ قادراً على إظهار الموجود الذي هو موضوع العمل الفني، ببساطة تصون حضور هذا الموجود كما هو في وجودهِ، لكن هذه البساطة تكتنف فيها تعقيداً شديداً جداً. وهنا يجب القول إن عظمة فان غوخ الفنية لا تأتي على أساس أنّه تعمَّد القيام بما قام به، على العكس، إن عظمته هي أيضاً تأتي من بساطته، أي من بساطته الفنية التي تُساوق بساطة الموضوع الفني بوصفهِ موجوداً حاضراً في وجوده. وعليه، يتضح أن هيدغر يعتقد أنَّ الإظهار هو صون الظهور. ولا غَرْو أن هيدغر في هذا المقام ينظر إلى ظهور الموجودات باحترام شديد يصل إلى حدّ التقديس، فهو يفهم هذا الظهور عينه في أُفق أن الوجود ظاهرة شموليَّة. والواقع أنَّ «زعم هيدغر حول ظاهرة الوجود الحاضرة في كل مكان في وقت واحد يمكن أن يكون صدى لمذهب المعلم إيكهارت بأن الوجود بمعنى الله هو مَخْفيٌّ في المخلوقات كُلِّها»(13).

ومن هنا، يبدو أن لعبة الخفاء والظهور قد استقاها هيدغر من إيكهارت، لكن مع تفريغها من مضمونها الديني أو الصوفي، وتأسيسها فينومينولوجياً وأنطولوجياً، ولكن بالرغم من ذلك، فإن هيدغر لا ينكر المُقدَّس، بمعنى أنّ ما يُسفر عنه الفن في حيثية مُعينة قد يكون تعبيراً عمّا هو مقدَّس، بيد أنّ هذا المُقدَّس لا يمكن قبوله كما يحدث ذلك في اللاهوت القطعي، بل المُقدَّس هو ما يحدث في الإظهار بفعل الفن، أي الحقيقة، غيرَ أنَّ قدوم الحقيقة في الفن، من خلال لعبة الإخفاء والإظهار، يتم في أعمق أشكاله في الشِّعر «الحقيقة بوصفها فجوةَ الموجود المضاءَة تحدث حين تُنظم شِعراً. الفن كله بوصفهِ ترك حدوث حقيقة الموجود على هذا النحو هو جوهر الشِّعر. جوهر الفن، الذي يسكن فيه الفن، والفنان هو وضع الحقيقة نفسها ـ في ـ العمل الفني. ومن جوهر الفن الشَّاعر يحدث أن تظهر وسط الموجود فجوة، يكون الانفتاح فيها مُختلفاً عمَّا جرت به العادة»(14). هذا يدلّ على أنّ الشِّعر فاعل للمنفتح، ومنفعل به، وقيمة الشِّعر هي قيمة اللغة «فحيثُ لا توجد اللغة، مثلما هو الأمر في الحجر، والنبات، والحيوان، لا يوجد هنا كذلك انفتاح الموجود، وتبعاً لذلك انفتاح لما هو غير موجود، ولما هو فارغ»(15). ولا ريب أن هيدغر يمنح أولوية كبرى للغة في فلسفته كُلِّها، ويربطها ربطاً صميمياً بوجود الإنسان في العالم. يقول: «بقَدْر ما أنَّ الموجود الإنساني يوجد في العالم، ويريد شيئاً في ذلك العالم، ويريده بنفسه، فإنَّه يتكلَّم. هو يتكلم بقَدْر ما أن شيئاً مثل العالم يكون مكشوفاً (من أجله) كشأن للاكتراث، وهو مكشوف بالنسبةِ لنفسهِ في ما هو (مكشوف من أجله)»(16). وإذا كان هيدغر يعوِّل على اللغة إلى هذا الحد، فإنه يجد في اللغة الشعريّة حقيقة اللغة نفسها، لأنَّ اللغة في أصلها شعر، ويذهب هيدغر إلى أبعد من ذلك، مؤكداً أن ماهية الفن هي الشِّعر. وقد كان هيدغر مُعجباً بشعراء ألمان من أمثال ريكله، شتيفان غيورغي Stefan George، غوته، تراكل، لكن شاعره المفضل هو هلدرلين Holderlinالذي تتجلى مهمته في رأي هيدغر باستعادة الوجود، لذلك لقَّبه هيدغر بشاعر الشَّاعِر، لا لأنَّه وهب الشِّعر في «الزمن المُمْلِق» بين ارتحال الآلهة القديمة، وقدوم الآلهة الجديدة.

«إن قراءات هيدغر لـ«هلدرلين» ساوقت ازدياد خيبة أملهِ من إمكانيات التجديد الفلسفي في انبثاق قول جديد عن الوجود. وخلال المُلاقاة مع هلدرلين يستكشف هيدغر الاختلافات بين النزعةِ داخل البحث الفلسفي لإقصاء الزمانيَّة temporality، وتَغَايُرِ تمركُزيَّة شِعر هلدرلين في ما يتعلَّق بالتحوُّلات الزمانية، وتأمُّل تعقُّد البنية الزمانيَّة ونماذج شعر هلدرلين مُفضية إلى مثل هذا التأمُّل»(17). ومن هنا، يتضح أنَّ إعجاب هيدغر بـ«هلدرلين» يعود أساساً إلى أنَّ هذا الشَّاعر يقوِّض الفهم التقليدي لمعنى الزمان، أو بالأحرى يؤسِّس لزمان جديد يحاول هلدرلين بشاعريته العظيمة أن يستحث قدومهُ. وهنا يمكن أن نقول إنَّ هذا التوتُّر بين الزمان القديم والزمان الجديد شبيه بالتوتّر بين الأرض والعالم. إنَّهُ توتُّر لُعبة الإخفاء والإظهار. والواقع أنَّ هيدغر مثله مثل هيرقليطس وهلدرلين ونيتشه وريلكه كان يحتقر حياة المدينة، لأنها حياة فقدان الوجود، ومن أجل ذلك تمسَّك هيدغر بأصولهِ القرويّة الفلاحيَّة، لاعتقاده بأن حياة الفلاحين هي أكثر قُرباً من الوجود، لأنهم أكثر بعداً عن عالم التقنية، وبالتالي أكثر تواصلاً مع الحقيقة..، ويُروى أنَّ هيدغر قد تعرَّض للسخرية مراراً بوصفهِ فلاحاً مُتفلسفاً؛ بيدَ أنَّ هذا الفلاح في الواقع غيَّر مسار تاريخ التفكير الأوروبي بشكل جذري، دون أن يكترث بعالم الشُّهرة الفاسد، وكأنَّ هيدغر ذلك الفلاح الذي يصفه هلدرلين في قصيدته «خيالية المساء»، قائلاً عنه:
«... يجلسُ هادئاً في الظلّ أمام كوخه، وينظرُ راضياً قنوعاً إلى الموقد الذي يرسل الدخان»

وفي هذا الأُفق عينه، نجد هيدغر يقول عن إحدى قصائد هلدرلين «إنها أصفى القصائد التي يمكن أن تُحدِّد جوهر الشِّعر، والتي تُستهل كما يلي:
«مثلما يكون في يوم عيد يغادر الفلاح باكراً ليُراقب الحقل..»(18).



مصادر ومراجع

1 – Martin Heidegger, Being and Time. Translated by John Macquarrie and Edward Robinson, Harper san Francisco, 1962, p.21.
2 – Michael Gelven, Acommentary on Heidegger's Being and Time, Northern Illinois University press, 1989, p.223.
3 – Ibid., p. 223 – 224.
4 – John Van Buren, The Young Heidegger: Rumor of the Hidden King Studies in Continental Thought, Indiana University press, 1994, p.56.
5 ـ مارتن هيدغر، أصل العمل الفني، ترجمه عن الألمانية: أبو العيد دودو، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2001، ص: 72.
6 ـ المصدر نفسه، ص: 73.
7 ـ المصدر نفسه، الموضع نفسه.
8 ـ المصدر نفسه، ص: 74.
9 ـ المصدر نفسه، ص: 76.
10 ـ يقول ماير في هذه القصيدة:
«يصَّاعد الماء المتدفق،/ مالئاً دائرة الصحفة المرمرية،/ التي تفيض، مقنعة،/ في أعماق صحفة ثانية،/ وتعطي ثانيةً،/ من وفرةِ مائها،/ فيضانها المتماوج لثالثة،/ وكلها تأخذ وتعطي في آن واحد وتنهمر وترتاح». (ترجمة: أبو العيد دودو، أصل العمل الفني، ص: 76 ـ 77).
11 – Martin Heidegger, Being And Time, p.58.
12 – George Pattison, The Later Heidegger, Routledge, London And New York, 2000, p.99 – 100.
13 – Herman philipse, Heidegger's philosophy of Being: Acritical Interpretation, Princeton University press, 1998, p.331.
14 ـ مارتن هيدغر، أصل العمل الفني، ترجمة: أبو العيد دودو، ص: 95 ـ 96.
15 ـ المصدر نفسه، ص: 97.
16 – Martin Heidegger, Introduction to phenomenological Research. Translated by Daniel o. Dahlstrom, Indiana University press, 2005, p.12.
17 – Joanna Hodge, Heidegger and Ethics, Routledge, London and New York, 1995, p.123.
18 – see: Martin Heidegger, Holderlin and the Essence of Poetry, In: Elucidations of Holderlin's poetry. Translated and introduction by Keith Hoeller, Amherst, New York, Humanity Books, 2000.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى