ذياب شاهين - من قال إن الشعراء يموتون

الشعراء لا يموتون، هذا ما كنت أخمنه عندما كنا صغارا ونقرأ للشعراء وأتذكر أول ديوان لشاعر التقيت به بطفولتي كان للمهلهل ربما بالابتدائية كان اسم الشاعر ذا رنةٍ وموسيقى وكنت أظنه من الهلهولات أو الهلاهل التي تطلقها النساء أثناء الأعراس ولكن تبين لي أن له معنى آخر يشابه ديوان المهلهل الذي كان مهلهلا وممزق الأوراق، وكنت أقرأ الكلمات بصعوبة، كانت أوراقه صفراء وبدون غلافٍ وأوراقه الأولى والأخيرة غير موجودة وما تبقى من الأوراق كانَ ممزقاً وكنت أتعجب من طريقة كتابة الأسطر ومن صعوبة الكلمات التي لا أفهم منها إلا النزر اليسير، الشاعر الثاني الذي تعرفت عليه بطفولتي كان السيّاب عندما جلب الأستاذ طالب بقلي معاون مدير المدرسة الشرقية أعدادا من مجلة كانت تصدرها متوسطة الحلة للبنين وكانت تجاور مدرستنا، وأخذ يتكلم عن المجلة وأخبرنا أن بعض الطلاب ممن كانوا في مدرستنا الشرقية قد كتبوا فيها وشجعنا لشرائها، وقد أخبرنا أن فيها موضوعا عن شاعر يسمى السياب الذي مات منذ سنتين وأخبرنا أنه يكتب نوعا جديدا من الشعر يسمى الشعر الحر، وكنت في السادس ابتدائي أعرف القراءة والكتابة ولكن مستوى الفهم لم يكن بمستوى يجعلني أن أفهم أنشودة المطر للسياب، لقد اشترى المجلة بعض أترابي واستعرتها منهم لأقرأ السياب وكنت تعجبني موسيقى المقاطع الشعرية دون أن أفهم المعاني الشعرية.
من ذلك اليوم شعرت أن الشعراء لا يموتون ويبقى الناس يتداولون شعرهم ويتكلمون عن حياتهم، وربما تولدت رغبة بنفسي لأكتب شعرا يشابه ما كنت أقرأه وخصوصا عندما انتقلت لمتوسطة الحلة التي كانت بها مكتبة رائعة وعامرة بالدواوين والروايات وغيرها، كانت دروس المطالعة عامرة بالقصص والشعر وبمرور الوقت كنا نسمع عن الشعراء الآخرين وفي سن الطفولة كنا نبحث عن الأحسن والأعظم والأسرع وهذ هو ديدن الطفولة التي تبحث عن أيقونة وبطل لتحاكيه وتصبح مثله، حتى لو كان شاعرا مقتولا ارتضى الموت عمدا بسبب تنكر القبيلة له أو شاعرا أوقفه القتلة طمعا بما كان لديه أوآخر قتله ملك في يوم نحسهِ، أما مصير الشعراء في العصر الحديث فهو لا يقل قسوة ومأساوية عمن سبقوهم في العصرين الإسلامي وما قبله.
وبالتالي فقد كان لي خيط غير منظور مع الشعراء والشعر وبصورة قدرية حدثت عند منتصف الثلاثينات من عمري عندما التقيت بكتاب العروض، وأصبت بمرض خطير يسمى العروض والموازين ولا أزال مصاباً به، وأخذت أكتب شعرا بسيطا ومتواضعا في زمن غادر الشعراء العروض والشعر الحر وبات الناس يكتبون شعرا متحررا من الملابس كأمرأة تنزل للبحر بملابس السباحة، في منتصف التسعينات قال لي الشاعر حسين عبد اللطيف ما تكتبه بالعروض شيء رائع ولكن شعرك قد تجاوزه الشعر العراقي منذ زمن ليس بالبعيد لكنني لم أفهم ماذا يقصد بأن الشعرية العراقية قد تجاوزت الشعر العمودي والتفعيلة حتى اطلعت على ديوانه نار القطرب الذي كان فيه شعر حر و نثر واستخدام غير عادي للكلمات ومنها جملته (كم من فلفل أطعم هذا البلبل).
كنت حينما أريد أن ألتقي الشاعر حسين عبد اللطيف أجده يوم السبت في مقر الاتحاد في العشار، أو أذهب إليه في مقهى على ناصية قرب سوق الخضروات في البصرة القديمة في بداية شارع بشار، وكنت أسأله عن الشعر والشعراء في البصرة وأخبرني في يوم ما أن الشاعر كاظم الحجاج هو أهم شعراء جيلهم والحقيقة قد صدمت برأيه ليس بسبب رأيه بالحجاج شاعراً وهو غني عن التعريف، ولكن لأول مرة أرى شاعرا يقول إن فلانا أحسننا فالشعراء لا يقولون ذلك للنرجسية المريعة التي يتحدثون بها عن أنفسهم من جهة وعن الآخرين من جهة أخرى، فعرفت أنني أمام رجل ٍ كبير الخلق ومتواضع بالرغم من سمة الحزن والغضب وأحيانا التهكم التي تبدو على وجهه وكأن الحياة قد طبعته بقسوتها وتنكرت له بعنادٍ شديد ولم تفهِ حقّه برغم شاعريته العميقة، وما أشقى من تتنكر له الحياة وخصوصا إذا كان شاعرا حساسا مثل حسين عبد اللطيف.
لكن اليوم أين أجد الشاعر، فهو ليس موجودا بمقهى الأدباء بالبجاري، حيث التقيته عدة مرات هناك قبل سنوات كثيرة، وكم بحثتُ في الوجوه علني أجده جالسا في إحدى زوايا المقهى، وانتظرت كثيرا ربما يدخل علينا فجأة لكن لم يحصل ذلك، وأخيرا أخبرني صديقي الناقد خالد خضير أن مجموعته الكاملة ستصدر قريباً وكان حدثا سعيدا أن تقوم دار شهريار بشخص صاحبها الشاعر الصديق صفاء ذياب بطباعة أعماله الكاملة، وبالتالي تحققت أمنيتي بلقاء الشاعر حسين عبد اللطيف، واليوم حينما نزلت للعشار واقتنيت مجموعته الكاملة بطباعة أنيقة تنافس أرقى دور النشر العربية شعرت أنني قد استعدت صديقا ضاع مني منذ زمن طويل، ولكن الله أفرحني بما كان يسفحه من سنين عمره وقدح ذهنه ومشاعره وأحلامه على الورق علئ شكل قصائد ونصوص، المجموعة هي زبدة حياة الشاعر وعمره وحين أفتح الديوان سيكون حوارا واسترجاعا لحياة الشاعر وذكرياته، فالشعراء لا يموتون.

البصرة- الثلاثاء
‏23‏/02‏/2021‏ 09:49:29 م


أعلى