لا يخفى على من يواكب حركة الشعر المعاصر راهناً، أن ثمة وعياً بالقضايا العامة التي تعيشها الأمة العربية، والشاعر يرى رأي العين، و في كل آن وحين الأحداث المأساوية المهولة التي تقع في جلِّ أقطارها عبر الشاشات الفضائية المتكاثرة، التي تُفرَضُ فرضاً على الملأ في كل مكان، فضلاً عما يراه من غياب للديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وما يلمسه من تهميش الشاعر والمثقف عموماً، كل ذلك وغيره من الظروف والملابسات الذاتية والموضوعية، جعله يطرحُ إشكالية حقيقية تتعلق بجدوى الشعر في عالم اليوم، معرباً عن قلة حيلة الشعراء إزاء هذا الواقع السوريالي الذي لا قبل لهم به. وقد سبق لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» المغربية (18/ 03/2016 )، أن أجرت حواراً مهماً مع ثلة من الشعراء من أجيال مختلفة بمناسبة اليوم العالمي للشعر حول هذه القضية، أنجزه سعيد عاهد وح. الفارسي. ونذكر من بين المُحَاوَرِين بعض الأسماء تمثيلاً لا حصراً هي: رشيد المومني وأحمد بنميمون ومحمد بودويك وجمال الموساوي وسهام بوهلال وإكرام عبدي. وقد كانت الشاعرة سهام بوهلال صادقة في تساؤلاتها المترعة بالمرارة والألم عن هذا الواقع في جوابها عن سؤال: ما جدوى الشعر في عالمنا اليوم؟ بقولها: «هل الشعر كفيل بأن يعيد لسوريا هدنتها ولبغداد رزقه، ويعطي لليبيا وتونس ومصر مستقبلا آخر؟ هل يمكن أن يضع حذاء رجل للطفل والكهل والمرأة، واللقمة في فم الجائع في المغرب وغيره؟ هل لليوم العالمي للشعر أو لكل يوم خصص لقضية، جدوى»؟ أين هي الكلمة التي توعّي الحشود وتنقي عقولها من الجهل والرجوع للقرون الغابرة الظلامية؟ »، بل إنها تضيف سؤالاً صريحاً مؤرقاً هو التالي: «السؤال بالنسبة لي ليس هو ما دور الشعر، ولكن أين هو الشعر؟ وأين هم الشعراء؟ وترى الشاعرة بوهلال أن الحب أضحى مفقوداً بين بني البشر، فلذا عزفوا عن بعضهم بعضاً، عن الآخرين ومشاكلهم، أغمضوا أعينَهم أو تعاموا عن المسكين والجائع والعريان والمقهور».
من الجدير بالملاحظة أنه على مستوى التلقي الشعري، انتفى أو كاد التواصل بين الشاعر والمتلقي الخاص، فأحرى بالمتلقي العام. وإذا كان المتلقي الخاص المتمرس بقراءة الشعر والمتزود بالأدوات الإجرائية القمينة بقراءته وتأويله وسبر دلالاته لا يجد فيه ما يلبي حاجته فنياً وجمالياً، فإن المتلقي العام، لا يجد فيه ما يرومه لا من حيث المتعة الفنية، ولا من حيث معانقة همومه وقضاياه المؤرقة التي يعيشها إن على المستوى الخاص أو على المستوى العام محلياً وعربياً . فكان مآل ذلك ما نراه بالملموس من الإعراض عن تلقي الشعر، سواء على المستوى القرائي أو على المستوى السماعي في الملتقيات والأمسيات، التي تنظم هنا وهناك، يقول الشاعر محمد بودويك بكثير من المرارة والقلق إن « قلة تداول الشعر في وطننا وفي غيره، حقيقة مفزعة لا جدال فيها، وواقع لا يرتفع، وعدم إقبال القارئ على اقتناء الكتاب الشعري واستثقاله، والنفور منه حقيقة أخرى جاءت من الشعر نفسه لأنه أصبح عصياً على القبض، زئبقياً على الفهم والاستيعاب والمعاشرة، وجاءت ثانياً من الناشرين في جملتهم الذين بخسوا جنس الشعر، وأذاعوا في المبدعين وفي الناس بأن طباعتهم للأعمال الشعرية هي مضيعة للوقت والجهد والمال، وهي الخسران المبين، ومن ثم روج للرواية من حيث هي ديوان العرب في العصر الحاضر». ويرى الشاعر جمال الموساوي أن «القارئ أضحى متطلَّباً (أي مطلوباً كزبون نافر من سلعة معينة). القارئ المحدود عدداً سيتضاءل إذا لم يستجبِ الشاعر لمتطلباته الجمالية والفكرية. إن غياب هذا التواصل بين الشاعر والمتلقي مدعاة للهجرة نحو آفاقٍ أخرى».
أما الشاعر أحمد بنميمون، فيفسر ظاهرة عزوف المتلقي عن الشعر بقوله: « إن محنة القصيدة في مجتمع لا يقرأ مضاعفة، فمع سيادة الجهل، ووقوف أنظمة الحكم ضد الإبداع، سهلَ تطويقُ الأصوات الإبداعية الخالصة، ومع غياب المعرفة الأدبية العميقة باللغة والتوجهات الفنية في الشعر، يصبح الشاعر في وسطه كالمجنون، بل كثيراً ما نُعِتَ الشاعرُ بذلك حتى ينصرف عنه الجاهلون».
وما آلمني منذ مدة ليست بالبعيدة ، مشاهدتي على صفحات الفيسبوك صورة ثابتة لأمسية شعرية شارك فيها أحد رواد القصيدة المعاصرة في مصر، ولم يتعد الحاضرون فيها أصابعَ اليدين أو أقل. وقد لمحتُ في الصورة بين الحاضرين للاستماع، الشاعرَ الإعلامي فاروق شوشة رحمه الله. لقد كان حزني عميقاً، وأنا هواي مصري منذ مرحلة الصبا والتعرف على الحياة الأدبية والثقافية والفنية المزدهرة في أرض الكنانة.
لا أخفي عن القارئ مدى المرارة التي أحسست بها. أإلى هذا الحد انتكستْ رايةُ الأدب والشعر والثقافة في وطننا العربي؟ الحقيقة أننا إذا أردنا أن نعيد المتلقي إلى التقبل الإيجابي للشعر، ينبغي أن نكتب ضمن أعراف أدبية مرعية، يقول الناقد المغربي نجيب العوفي: فـ «حين نكتب، نكتب ضمن عرف أدبي ما، وحين ينعدم هذا العرف، تهيم الكتابة على وجهها محتطبة في ليل». (كتاب "مساءلة الحداثة" ) . وهذا ما يؤكده العديد من دارسي الشعر العربي المعاصر. يقول عبدالكريم الناعم: «إن العمل الأدبي إفصاح وموقف، فإذا لم يفصح ولم يصلنا ما يراد قوله أو ما قيل، فذلك يعني العي والقصور… إن عدم وصول ما يريده الشاعر عطالة، والشعر فاعلية وحياة، وبقدر ما تَحجُبُ أدوات أو طرائق البناء من معانِ ومقاصد بقدر ما تفقد من قيمتها الجمالية والمعنوية» (كتاب "في أقانيم الشعر"). ويغلب على الظن أن هذا الاتجاه هو أكثر الاتجاهات الشعرية التي تجد لها متلقياً إيجابياً، فهو يروم الرسالة الشعرية، ويهفو إلى ما يشيع في نفسه القيم الإنسانية النبيلة والجمال الفني الرفيع. أما بخصوص الأشكال الشعرية (الشكل العمودي ـ التفعيلي ـ قصيدة النثر)، فيمكن القول إنها كلَّها تجد التلقي الإيجابي شريطة التوفر على الشعرية أو «الأدبية» أي ما يجعــل منها نصاً أدبياً. وفي هذا الصدد يطرحُ الشاعرُ أحمد المعداوي (المجاطي) التساؤل التالي: « أما آن لنا أن نفهم أن ابتكار الأشكال واستقدامها ليس هو أهم ما في الموضوع؟ ولكن أهم ما فيه هو أن نملك القدرة على شحن هذه الأشكال بالشعرية التي لا حداثةَ بدونها ». (كتاب " أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث ").
من الجدير بالملاحظة أنه على مستوى التلقي الشعري، انتفى أو كاد التواصل بين الشاعر والمتلقي الخاص، فأحرى بالمتلقي العام. وإذا كان المتلقي الخاص المتمرس بقراءة الشعر والمتزود بالأدوات الإجرائية القمينة بقراءته وتأويله وسبر دلالاته لا يجد فيه ما يلبي حاجته فنياً وجمالياً، فإن المتلقي العام، لا يجد فيه ما يرومه لا من حيث المتعة الفنية، ولا من حيث معانقة همومه وقضاياه المؤرقة التي يعيشها إن على المستوى الخاص أو على المستوى العام محلياً وعربياً . فكان مآل ذلك ما نراه بالملموس من الإعراض عن تلقي الشعر، سواء على المستوى القرائي أو على المستوى السماعي في الملتقيات والأمسيات، التي تنظم هنا وهناك، يقول الشاعر محمد بودويك بكثير من المرارة والقلق إن « قلة تداول الشعر في وطننا وفي غيره، حقيقة مفزعة لا جدال فيها، وواقع لا يرتفع، وعدم إقبال القارئ على اقتناء الكتاب الشعري واستثقاله، والنفور منه حقيقة أخرى جاءت من الشعر نفسه لأنه أصبح عصياً على القبض، زئبقياً على الفهم والاستيعاب والمعاشرة، وجاءت ثانياً من الناشرين في جملتهم الذين بخسوا جنس الشعر، وأذاعوا في المبدعين وفي الناس بأن طباعتهم للأعمال الشعرية هي مضيعة للوقت والجهد والمال، وهي الخسران المبين، ومن ثم روج للرواية من حيث هي ديوان العرب في العصر الحاضر». ويرى الشاعر جمال الموساوي أن «القارئ أضحى متطلَّباً (أي مطلوباً كزبون نافر من سلعة معينة). القارئ المحدود عدداً سيتضاءل إذا لم يستجبِ الشاعر لمتطلباته الجمالية والفكرية. إن غياب هذا التواصل بين الشاعر والمتلقي مدعاة للهجرة نحو آفاقٍ أخرى».
أما الشاعر أحمد بنميمون، فيفسر ظاهرة عزوف المتلقي عن الشعر بقوله: « إن محنة القصيدة في مجتمع لا يقرأ مضاعفة، فمع سيادة الجهل، ووقوف أنظمة الحكم ضد الإبداع، سهلَ تطويقُ الأصوات الإبداعية الخالصة، ومع غياب المعرفة الأدبية العميقة باللغة والتوجهات الفنية في الشعر، يصبح الشاعر في وسطه كالمجنون، بل كثيراً ما نُعِتَ الشاعرُ بذلك حتى ينصرف عنه الجاهلون».
وما آلمني منذ مدة ليست بالبعيدة ، مشاهدتي على صفحات الفيسبوك صورة ثابتة لأمسية شعرية شارك فيها أحد رواد القصيدة المعاصرة في مصر، ولم يتعد الحاضرون فيها أصابعَ اليدين أو أقل. وقد لمحتُ في الصورة بين الحاضرين للاستماع، الشاعرَ الإعلامي فاروق شوشة رحمه الله. لقد كان حزني عميقاً، وأنا هواي مصري منذ مرحلة الصبا والتعرف على الحياة الأدبية والثقافية والفنية المزدهرة في أرض الكنانة.
لا أخفي عن القارئ مدى المرارة التي أحسست بها. أإلى هذا الحد انتكستْ رايةُ الأدب والشعر والثقافة في وطننا العربي؟ الحقيقة أننا إذا أردنا أن نعيد المتلقي إلى التقبل الإيجابي للشعر، ينبغي أن نكتب ضمن أعراف أدبية مرعية، يقول الناقد المغربي نجيب العوفي: فـ «حين نكتب، نكتب ضمن عرف أدبي ما، وحين ينعدم هذا العرف، تهيم الكتابة على وجهها محتطبة في ليل». (كتاب "مساءلة الحداثة" ) . وهذا ما يؤكده العديد من دارسي الشعر العربي المعاصر. يقول عبدالكريم الناعم: «إن العمل الأدبي إفصاح وموقف، فإذا لم يفصح ولم يصلنا ما يراد قوله أو ما قيل، فذلك يعني العي والقصور… إن عدم وصول ما يريده الشاعر عطالة، والشعر فاعلية وحياة، وبقدر ما تَحجُبُ أدوات أو طرائق البناء من معانِ ومقاصد بقدر ما تفقد من قيمتها الجمالية والمعنوية» (كتاب "في أقانيم الشعر"). ويغلب على الظن أن هذا الاتجاه هو أكثر الاتجاهات الشعرية التي تجد لها متلقياً إيجابياً، فهو يروم الرسالة الشعرية، ويهفو إلى ما يشيع في نفسه القيم الإنسانية النبيلة والجمال الفني الرفيع. أما بخصوص الأشكال الشعرية (الشكل العمودي ـ التفعيلي ـ قصيدة النثر)، فيمكن القول إنها كلَّها تجد التلقي الإيجابي شريطة التوفر على الشعرية أو «الأدبية» أي ما يجعــل منها نصاً أدبياً. وفي هذا الصدد يطرحُ الشاعرُ أحمد المعداوي (المجاطي) التساؤل التالي: « أما آن لنا أن نفهم أن ابتكار الأشكال واستقدامها ليس هو أهم ما في الموضوع؟ ولكن أهم ما فيه هو أن نملك القدرة على شحن هذه الأشكال بالشعرية التي لا حداثةَ بدونها ». (كتاب " أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث ").