أحمد متفكر - من الأدب المراكشي المنسي عند الشباب

تمهيد:
منذ كانت مراكش وفي قبلة العلماء والدارسين يفدون إليها أفرادا وجماعات من جميع البقاع والأصقاع لترويج بضاعتهم العليمة، أو طلبا للعم والمعرفة، والاحتكاك برجالاته الذي تعج بهم الحضرة المراكشية، أو رغبة في نيل الحظوة عند السلطان لتشجيعه العلم والعلماء.
وقد تميزت هذه المدينة عن باقي المدن المغربية بعطائها أكثر للحضارة المغربية عموما، والعربية خصوصا، فقدمت للتاريخ مشاهير الأعلام في: اللغة والنحو والأدب والعلوم، وقادة الفكر من مبدعين في شتى أصناف المعرفة، وبإمكان المرء تملس أهمية هذه المدينة من خلال صفحات التاريخ المشرقة المنبعثة عطاءا، فهي من خلال المصادر واضحة المعالم، وغنية في مساهماتها، سواء ذلك في الحقوق الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، منذ فترة تأسيسها أيام المرابطين مرورا بالموحدين والسعديين، وفترة من العصر العلوي.
وانطلاقا من هذه المعطيات بقيت مراكش مهبط القريض، وموحى الشعر الرصين، تجذب إليها بواقع من أرجاء العالم الإسلامي عموما، والمغرب الكبير والأندلس خصوصا، فتقيم لكل واحد ما يستحقه من الاستقبال الرائع، والعناية الشاملة، والتكريم اللائق. ومن بين الذين كرمتهم هذه المدينة –وما أكثرهم – ورحبت بهم أيما ترحاب، العلامة الأديب السيد الطاهر الافراني (1).
ففيب 28 رجب من سنة 1354 هـ (موافق 1935) فتحت مدينة مراكش صدرها الرحب الواسع لتستقبل أديبا كبيرا من أدباء سوس وأي استقبال كان؟ أنه استقبال ثلة من الأدباء المراكشيين للأديب السوسي، استقبال جمعتهم فينياه الألفة، وانسجام الطبع،والكلمة الساحرة، الهادفة، فأقامت له مهرجانا أدبيا رائعا، نابضا بروعة الحياة الصاخبة المتجددة، وحافلا لكل ما هو سام في ذاته وجليل.
وربما لم يبلغ صداه يومئذ إلى أطراف المغرب للظروف الاستعمارية التي كانت تهيمن على المغرب، وتحول دون أي تجاوب فكري بين أبناء هذا الوطن، فما أكثر ما حالت الرقابة الاستعمارية بين المواطن المغربي وبين أي تظاهرة فكرية جادة تثير الحماس، وتوقظ الهمم، وتذكي روح الوطنية.
وقد حاولت في هذا الموضوع أن أعرف بهذا المهرجان، وأن أخرج هذه الأشعار من مرقدها، وانفض عليها غيار النسيان إشفاقا عليها أن تظل مقبرة بين العديد من الاضبارات (2).
يقول المختار السوسي: (..تلقته مراكش بكلتا اليدين، وأدباء الشباب متوافرون في ا(الرميلة) (3) فتدفقت القوافي والحفلات في أسبوع سميناه (أسبوع الأدب)، وقد كان أسبوعا أديبا رائعا) (4).
ويقول: (ومن نوادره إذ ذاك، أنه كان يسبح في أنواع من الأطعمة الحضرية المتنوعة أسبوعا كاملا، فقلت، له يوما: إن أجمت من هذه الأطعمة نوصي من يصنع لك عصيدة؟.
فقال مبتسما بسرعة: وهل سفرنا من بلدنا إلا هروبا من العصيدة التي هي طعام بلدنا الوحيد (5).
أما انب المحتفى به فيصف روعة الاستقبال فيقول: (ورحبوا به، وفرحوا، بمقدمه المبارك، ولقوه من الكرم ما يزري بالسحب، وخاطبه كل واحد من أولئك الأدباء بقصيدة أبان بها اقتداره، وأعلت في رسوم الأدب قيمته وأقداره) (6).
وأول من قام للترحيب بالضيف الكريم وتصوير المراكشيين، والتذكير بالماضي المشرق الزاخر بالعطاءات، هو تلميذ المختار السوسي (7).
ما للوجوه تهللت قسماتـــها = وتألقت في المنتدى بسماتــها
ولنكهة الحمراء عادت مثلــما = هبت على زهر الربى نسماتهـا
قامت بها الأفراح حتى أنـــها = لتكاد تمرح غبطة شرفاتــهـا
صفح السرور فلا تشاهد غير ذي = نفس تكاد تطيرها غبطاتـــها
حتى الخمائل أزهرت أفنانــها = ويد الخريف تمعضنا قرضاتهـا
وتمايلت أغصانها طــربا ولا = ريح يميل بمسها عزياتـــهـا
فكأنما طافت على مراكـــش = من كأس راحة صرخه نشواتهـا
من تلق من أدبائها تشــهد بما = مرت عيونهم به نظراتـــهـا
فكأنا عادت لهم مراكــــش = مراكشا إذ توجهت هاماتــهـا
إذا كانت الآداب فيهـــا حفلا = تستوقف الأبصار منتدياتــهـا
ويجيل فيها المفلقــون بلاغة = أعيت على أقرانهم غاياتـــها
***
حقا لقد عادت إلى مراكــش = أيامها وتجددت ليلاتـــــها
وأتى لسان الدين يكتب ثانيـا = ببراعة سيالة أسلاتــــــها
وابن المجير يجيد فيها واصفا = فلتهنأن بالوصف مقصــوارتها
والمقري يجول في أرياضـها = حتى تفوز بحظها أغمـــاتها
حتى القصور أتى أخو فشتالة = فلتسمعن مديحه ساحاتــــها
ولتسمعن لدى البديع قصائـدا = نبريه قد أعجزت آياتــــها
يا حضرة الشيخ التي قد شرفت = مراكش الحمراء إنشاءاتهـا
وسط القلوب نزلت قبل رياضها = وحوتك قبل الفرش مكنوناتها
حتى العيون تود لو فرشت على = ممشى خطاك كرامة مقلانها

ثم تلاه الأديب العالمة الشريف محمد بن عبد الله الروداني (8) ليرسم انطباعه عن الحفاوة التي لقيها الافراني فيقول:
حضرة الأستاذ الكبير، والشيخ الجليل، زعيم الأدب، عالي الرتب سيدي الطاهر بن محمد الافراني:

السلام عليكم ورحمة الله
أما بعد فهذه كلمة تتضمن عاطفتي نحوكم خصوصا، وعاطفة الحمراء عموما، فأرجوكم التفضل بقبولها ولكم مني دوام الشكر وهي:
تستغرد الحمرا خطيب البــان = ليذيع عنها البشر بالألحـــان
من كل صداح تعود ناشئنـــا = بث الذي في النفس من وجدان
فأتى البنفسج بعد ذلك مصــغيا = والورد بالاكـــال لا الأذان
والياسمين جرى ليحرز مقــعدا = قرب المنصة مهبــط التبيان
تخذت كراسيها الزبرجد إذ رنت = نحو الخطيب بطرفها الوسنان
فبدا الهزار على الحضور مسلما = ومرحبا من منبر الأغصــان
ثم انبرى للقول في صوت لـه = شرف على الأنغام بالعيــدان
مراكش الحمراء عدت يومهـا = هذا من الأعياد للسكــــان
فرحا بأسنى بغية نالت بهــا = فخرا على الأمصار والبلـدان
ويتيمة من بعد طول غيابــها = طلعت طلوع الشمس من إفران
***
بل إن ما فازت بـه مراكــش = لاجل من در ومن عقـــبان
شيخ العلوم الطاهر بن محمــد = نشارها عن محمد العرفـــان
فقضى حياته في المعارف باحثا = يرقي فكرة الإنـــــســان
لا سيما الآداب أولاها حــجى = يمضي مضاء السيف يوم طعان
أثاره فيها تقاصــــر دونها = شأو البليغ زعيم كل بيــــان
***
إذ ذاك خاطبه الهزار بقولــه = في حشمة تومي لفرط حــنان
لتدم حياتك للفضيلة والعــلا = والمجد والإحسان للأوطــان
وليبق لوزك بالسعادة دائمــا = في كل ما زمن وكل مكــان
وإلى اللقاء ولست أنسى عهدكم = أشدو به في بـاسق الأفنــان
***
وهناك رفرف في الفضاء ميمما حيث المعاش الحر في الوديان

أما الشاب الأديب شحرور مراكش أحمد بن العربي الدكالي (9) – الذي يعرف في الأوساط المراكشية بأحمد شوقي – لا يريد أن يترك هذه الفرصة تمر دون أن يدلي بدوله بين الدلاء فيقول.

أيها الشيخ
هب النسيم وغرد الشحرور = وتبادلت كأس الرحيق بــدور
وتفتحت زهر الربا فكأنمـا = بسمت من الوجوه الوسيم ثغور
وتمايلت من بينهن أوانــس = تنقد من أرادفهن خصـــور
أهفت بهاتيك القدود ترنحــا = أيدي النائم؟ أو هنا وســرور؟
أم هو مقدمك السعيد أعارهـا = ما يستفز بمثله المســـرور؟
طلعت علينا إذ طلعت سـعادة = لم يبق بعد بنورها ديجـــور
كنا نسيم بمرتع محـــل إذا = روض أريض مزهر ممطــور
فالزهر مشموم كما شاء الهوى = والغصن مقتطف الجنى مهصور
يا أيها الشيخ العظيم تــماده = كدنا بمقدمك السعيد نطــــير
أهلا وسهلا بالإمام ومرحبا = أهلا بمن هو في العلوم الــنور
لله يوم زرتنا فيه كمــــا = قد زير هب مغرم مهجــــور
يوم تجللت البشائر روحــه = وغدت تنافس لشمس وبـــدور
طارت بمقدمك السعيد خلائق = حنو إليك وكلهم مســـــرور
طافوا بكم وتنافسوا في قربكم = إن التنافس فيكم لــــــكبير
والناس كلهم إليك شواحـض = والقلب من فرط الخشوع كســير
قد أكبرت صغارهم وكبارهم = وحوتك من قبل الديار والصـدور
قد شادوا ما شاهدوا من حكمة = أنت الخليق بمثلها وجــــدير
منك البلاغة والفصاحة والحجى = منك المجادة والهدى والنـــور
في الشعر والبيان أنك واحــد = وكذا البلاغة ليثها المشهــــور
فاسعد هنيئا فالزمان مساعــد = والسعد مكتنف وأنت ظهــــير

وفي فاتح شعبان أقيمت له نزهة بعرصة البياز (10) – وفي اصطلاح أهل مراكش شعبانة (11) – بين أحضان الطبيعة الجميلة، والمناظر الخلابة، والسواق ذات المياه العذبة...أقيمت هذه النزهة لتوديع سفير الأدب السوسي، وما أقسا لحطة الفراق التي لا يقوى عليها الإنسان، فتفتحن القرائح بغرر الشعر، وانسابت العواطف الصادقة، والمشاعر النبيلة، لتصور مدا التجاوب الروحي والأدبي بين أبناء البهجة وأبناء سوس.

يقول شاعر الحمراء (12) أثناء توديعه للأديب اللبيب الطاهر الافراني:
قد كال بي شوق إلى لقــــياك = واليوم وافاني الزمان بذاكــا
إني لأشكر للزمان صنـــــعيه = ما كنت أعهدها له لولاكـــا
رحبت بمقدمك الصدور فهل مشــى = فصل الربيع لصدرنا بخطـاكا
يا طاهر القلب الرحيب وطاهر = النـ سب الحسب وطاهر اسم نداكا
قد زرتنا فكشفت عنا غــــمه = ما كان يكشفها سوى مرآكــا
وتضوعت مراكش مسكا بكــم = لو ضاع من مسك شذا كشـذاكا
ترتد عين الناظرين كلــــيلة = يا شمس أن نظر لنور ســناكا
قد كنت أكبر شخصه بالعلم والآ = داب مستمعا لحاك حــاكــى
وأوابد في الشعر لم تلحق ومـا = خشيت بتيهاء الخيال شــراكا
من كل معنى مودع في لفظــه = كعقود در أودعت أســـلاكا
حتى ظفرت برؤية من وجهــه = فرأيت شخصه فوق ذلك وذاكا
نور الهدى إن حل باطن مهــد = لا نستطيع لكنهه إدراكـــا
يامن رءاه وما رءاه وإن غــدت = مملوءة من شخصه عينــاكا
حسبي وحسبك ما أقول وما تقــو = ل وليس من يبكي كمن يتباكي
الله يعلم أنني لك مشــــوق = لاكن تقاصر عندنا مثواكــا
فذهبت في كتف الإلاه وحفظـه = والله جل جلالته يرعاكـــا

أما القصيدة التي ودع بها المختار السوسي أستاذه فلم أعثر منها إلى على مطلعها الذي يقول فيه:
لكل شيء يطاق إلا الوداع = صدمة في القلوب لا تستطاع
أما نابغة مراكش الأديب الفنان مولاي أحمد النور (13) فيودعه بقصيدة قالها ارتجالا:
لي نحو سوس تشـــوق = يعتادني في كل حــين
كم يذكر الخبراء مــــا = حازت من المجد المبين
فيروقني التحرير مـــن = علمائها المتضلعــين
ويهزني الإيداع مــــن = شعرائها المتفننــيـن
ويسراني حتى أكــــاد = من المرة لا أبيــــن
ما ليس يبرح سائــــدا في = الناس من خلق ودين
تاريخ سوس عامـــــر = برجالها المتفوقــــين
في الطاهر النحـرير منـ = ـهم صورة للباحثــين
العلم والآداب والأخــــ = ـلاق والذوق الرصـين
ماذا أقوله بعد هــــاذا = في صفوف المادحــين
عذري وقد قصـــرت يا = مولاي عذر القاصـدين

ترحيب عند الوداع !!

أما الأديب المبدع عبد القادر حسن (14) فيقول:
نحاني دهري اليوم عن أدبائــه = فكأني ما كنت من شعرائـه
مع أنه كان القريض مطاوعــي = قبلا وكنت أجول تحت لوائه
قد كنت –والشعر البليغ مصاحبي = - أسمو بفكري في خيال سمائه
وأصرف القول البليغ كما أشــا = في كل ما أبغيه من أنحائـه
فإذا أتى ريح الصبا أغدو إلى الـ = حبستان أشدو في لطيف هوائه
أشدو بما يهتاج قلبي في الريــا = ض وقد أبيت أهيم في أرجائه
فإذا تغنى بلبل في روضــة = لا شك أني باعث لغنائــــه
وإذا تأوه عاشق فأنا الــذي = اوريت زند الوجد في أحشائـه
واليوم ماذا يبتغي دهري فقد = أعياني شعري اليوم في إنشائه؟
ولربما سمح الزمان وإنمــا = رب القوافي راعني بسنائـــه
فكنت عن نظم القريض ثلاثة = لكن شعبي ناب عن أبنائـــه
تأتيه في كل الأيام قصـــائد = منه ويشدو طيره بثنائــــه
وتطل فامات الغصون تميل من = كأس وذاك الكأس من صهبائـه
والزهر يهزأ من تمايل قـدها ! = أرأيت كيف يكون في استهزائه ؟
متبسما للزائرين وثغــــره = يسبى الخلي بحسنه وصفائـــه
ويظنه العشاق ثغر معشـــق = يفتر لما عمهم برضائـــــه
لكنما هو في الحقيقة معــرب = يجلو من المكنون بعض خفائــه
وأرى لهذا الزهر ثغرانا طقسـا = في صحبه يلقى وعنـد مائـــه
هذا رسول المغرب الأقصى أتى = من سوس الأقصى إلى حمرائــه
أهلا وسلها بالذي قـــد زارنا = أهلا بمن قد راعني بسنائــــه
فتأخرت عني القوافي مرغمــا = حتى سمعت البين من جلسائـــه
فأتبت أنشد في مقام وداعــه = إن فاتني الإنشاد عند لقائـــــه

ثم يأتي دور الشاعر الحسن التناني (15)
أتيت وطير الشعر فوق يغــرد = فهز جوانب البلاد المغـــــرد
تلقتك قبل أن تلقاك من تـــرى = قصائد كانت قبل مثلك تفقــــد
إذا سبمت زهر الرياض فإنــما = كما يمده إشعار مدحك تنشـــد
وإن ماست الأغصان منها فإنمـا = تميس ابتهاجا لا القدود تقــــلد
فعبر كل الناطقين عن الـــذي = يكنون حتى الطير قام يغــــرد
فهزني البسر الذي كان طافحــا = فقلت ومنا بعد يا ناس يجمــــد
أطاهر يا شيخ العروبة إنهــــا = وحقك في شوق يقيم ويقعـــــد
ولاكن جزيت الخير أثلجت ما بها = وقد حل فيها منك شيح ممــــجد
بمقدمك الميمون جرت ذيولهــا = وقد زرتها والوصل لا شك يحــمد
فقد عرفت منك شغوفا بسمعهـا = بما كان يثنى من يؤم ويـــــورد
لئن كنت عنها نازحا فلطالمــا = غدا صيتكم فيها يغر وينجـــــد
فها أنت قد جئتها فرأيتــــها = كأن لك فيها قبل منشا ومولــــد
طلعت عليها والجلالة سجفــها = عليك فقامت فعل من بك يســـعد
وكل بني العرب الكرام يرون فـي = مقامك صرحا للسان يشــــــيد
بثثت لسان العرب في الشعب بعدما = يكاد لسان العرب من قبل يفــــقد
بنو العرب هو أبناء نعمتك التــي = قضيت عليها زهو عمرك ترشـــد
تقوم لإحياء المعارف مفـــردا = ولام يثن منك العزم أنك مــــفرد
فلولاك ما كان النبوغ ولا اهتدى = إلى الشعر منا سيف فكر مهنـد
مننت على النشء الجديد فجاء = من يراعته هاذا الثناء المخلــــد
يعلم في التاريخ من كان ذاتــيا = بأن أنت في ذا العصر فرد موحد
وأنك وطدت العلا بعزيمـــة = درت وحدها بالحزم كيف توطـد
سيعرفك المجد الذي أنت ربه = ومثلك من يسمو ويعلو ويمجـد
وانك قرا منك عينك بالــذي = رأيت وهاذا ما بنته لك اليـــد
تعلم حتى قام من كنت رشتهم = إذا ذلك السهم الذي رشت يقصد
فها نحن يا أستاذ أستاذنا كـما = ترانا تلاميذ لديكم شـــــهد
بثثت بنا أستاذنا من علومــم = معارف لا لهو ثنــــاه ولادد
تراه لدى التدريس بحر معارف = يفيض لما لولاه ما كان يوجــد
تحل له الحمراء حبوتها ونت = بحق يعزز والمــجد يويـــد
أدامهما الرحمان حتى يشاهدا = من النشء ما يأتي به اليوم والغد
أما الشاب النشيط الذكي = مولاي عبد الله إبراهيم (16)
وداع يالـــــه........(17) = وهل يطيق القلب أن يحمله؟
........(17) في الصبر رياده = ما زاد في الصبر ولو انمله
بيننا نردد نشيد اللقــــــا = صونا نردد نشيد الفــراق
فيا لها من لمحة عاجلــــة = كم خلفها من ذكريات رقاق
***
كلمة نطقها الطاهـــــر = فكان منها مثل ســــائر
قام له الكاتب والشاعـــر = وكان منه أدب زاهـــر
يا بسمة الأيام ما أسـرعك = وأكثر الآداب لو تصـبرين
.....(17) ما أكـــبرك = فأمت أنت أنس روح حزين
***
كم صورا رائقة تلهــم = ونحن من إلهامها كالصدى
يا هل تراك حلما هادئـا؟ = له على آدابنا كم يـــدا
***
وأسفا على رياض نضـير ! = فاليوم ها أوراق تنتشــر
قد ضوح الزهر به والندى = لم يبق غير أدمع تنهـمر
***
ألف من أوراق ادمـــعا = مصفرة رجراجة في الفضاء
فهي دموع وهي صب معا = يا ويحه أو فقد كل الــرواء
***
ألف من أرواقه أدمــــعا والدمع = مع ما يجدي في صيد الحبيب
وإنما لا بد من نفثـــــه = يلفظ فيها الصـــــب....(17)
يا فخر سوس بل فخر الأدب = كم على سوس لكم من منــن
سطرها النورد على الأفئدة = أسطر مجد بدموع الوطن
***
يا فخر سوس قد عزمت الرحيل = وانطبعت ذكراك في الأفئدة
يحل أن ستوحش القلب شــى = وفيه ذكرى منكم خالــده
***
يا فخر سوس وفتاها الأريب = وكم سوس فيكم من أمـل؟
معذرة قصرت في الواجـب = وكنت فيه مكرها لا بطـل
ونختم جولتنا الأدبية بقصيدة = للأديب محمد التناني (18)
نزلت نزول القطر في مجدب الترب = فزحزحت ما بالأرض من قاتم الجدب
حللت حلول الروح في الجسم فاهتدت = مباهج نحو الأذن والعين والقـــلب
تغار من العينين كل جــــوارح تقابلكم = والنور ممن وجهكم ينبـــي
سمعنا بكم من ثمت زرتـــــنا فكان = الشهود فوق ما ظن في الغيـب
كذلك البحار الزاخرات شهــودها = على ما أتى الأذنين في غيبها يربـى
فقد كنت أحجو سيدي مثل معشــر = كأنهم بالكبر يمشون في الســـحب
إذا بك يا جلف التواضع من رأى = جميع المزايا والفخــار على الترب
تملكتنا باللطف حتى كأنــــنا = إذا انتدينا ظامئون على عــــذب
رزانة أخلاق بلطف شمائـــل = كما فاحت الأزهار من قمم الهضـب
أحاديث بحث في علوم كأنــها = نسيم صبا من نجد يسري إلى الصب
بفكر له فهم الشبيبة حــــدة = وإن كان يجلى في تثبته الشيبـــي
ألا هكذا فليغد من كان عالمــا = بعيدا عن الإدلال والغمير والثلــب
بحقك يا فرد الزمان أقم لكــي = تكون مثالا عندنا لبني الشــــيب
فإنهم والعلم جم لديهـــــم = يشيرون للآداب بالزرى والعيــب
إذا انشدت من بينهم قطعة رأوا = نشيد قصيد الشعر من أعظم الذنـب
فياليتهم يا أيها الشيخ أدركـوا = نظيرك ما للشعر في صقل القلـب
قدم للقريض الغض تنشر طيبه = وتنظمه في الطرس كاللؤلؤ الرطب

الطاهر في سوس:
وبعد عودة الشيخ الافراني إلى بلدته وأهله، بعث برسائل الشكر والاعتراف بالجميل، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أولى معروفا فلم يجد إلا الثنا فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره"، نعم بعث برسائل إلى شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم، والمختار السوسي، وأحمد شوقي الدكالي، وإلى أدباء مراكش عموما.

ومما خاطب به أهل مراكش:
يا سادتي يا فتيــة (الحمراء) = أنتم نجوم بل دبور سمـــاء
يهناكم العلام الذي صرتم بـه = في العصر غبطة سامع أوراء
قد فزتم منم كل علم طــارف = أو تالد بالكل والأجــــزاء
وجمعتم ما لا أخال وجـــوده = من كل دان أو غريـــب ناء
ما بين منقول ومعقول ومــن = أدب كوشي الروض غب سماء
وظفرتم من سيدي المختار = بالمخت ـار بين ايمة العلــــياء?
نسب كما اطردت أنابيب القنـا = ولد توارث جلسة الابــاء
علم كما فاض للعباب وهــمة = في عفة كالماء في الصهياء
إلى أن قال:
ولقد حللتم سادتي من عبدكـم هذا محل الروح في الاحناء
ولتحفظا عهدي فإن الضيف في عزم الوداع فودعوا بهـناء
لازلتم في غبطة وسعـــادة تأتي بكل سنا وكل سـنـاء
ثم خاطب شاعر الحمراء:
يا شاعر (الحمراء) حزت ثنائي = فاغبط به يا شاعر (الحمراء)
فالشعر يشهد أن فكرك ظافــر = بكسا الكساء وفروة الــقراء
شهد الزمان اليوم أن بديعـــه = بك رد الدنيا يراه الرادي (19)

ثم أفرد شاعر الحمراء برسالة يقول فيها:
عليك ابن إبراهيم يا شاعر (الحمرا) = سلام اشتياق ثار عن كبد حرى
سلام أخ عبدت بالود قلبـــــه = وقد كان قبل اليوم يدعونه حرا
أخيط الفقير الطاهر بن محـــمد بقطر = إذا زحمت سميته أفرا (20)
رءاك اختلاسا بعد شوق فلـم يزد = لقاؤك إلا ما تزيد الصبا الجمرا
وزودت بكر الفكر فتانة النهــى = وما كنت أدري قبلها الفتكة البكرا
فيا (شاعر الحمراء) جليت سابقا = وفقت بفضل العشر حتى على الشعرى
فته فأمير الشعر ولاك خطتــه من الحوزة = (الحمرا) إلى الحضرة (الخضرا) (21)
إلى خلق كالمزن لطفا وكالحــيا صفاء = وكالمسك الذكي الشذا عطــوا
وعظة نفس لا تلين لغامـــــز = ولا ترتضي منا ولو أجروا النهــرا
وبيت كريم النسبتين مؤســـس = على كل أمر يورث المجد والفخـرا
فدم يا ابن إبراهيم للمجد تحتــني جني = روضه غضا وتشتمه زهــرا
ومهما دجا ليل الجهالة واختفــت = بغيم الهوى زهر النجوم فلح بــدرا
وسر هكذا تعلو وتتلو مرتـــلا = على الشعرا مهما انتدوا سورة الاسرا
وحافظ على رعي الوداد فرعيـه = بمثلك من أحرار أهل الوفا أحــرى
عليك سلام الله ما خطت الصــبا = على النهر ما قام الحمام له يقــرا
يردده إليك شوق مبـــــرح من (فران) = الأقصى إلى حضرة (الحمراء)

حضرة الأخ المحب الحبيب، السري النسيب، العالم الأديب، الكامل اللبيب، سيدي محمد بن إبراهيم المراكشي، حفظ الله ككماله، وأصلح أعماله، وسلام عليه، (هذا) ولا أنسى لا أنسى بنات أفكارك، وعرائس بكارك، وغرائب أشعارك، وبدائع أسمارك، فكتبت هذه النفاثة تجديدا للعهد، وتأكيدا للود، ولا نيأس من روح الله أن يمن باللقاء ثانيا (22).
ثم كتب إلى الأديب الشاب أحمد شوقي الدكالي:
إذا شب عمر والشوق يوما عن الطوق فطول النوى قد شب شوقي إلى (شوقي)
غذى لبان العلم نخبة ســــــادة حووا = بالقضاء بالندى قصب الســبق
سلالة قاضي المسلمين محمـــــد إلى = العربي يسمو به كرم العـــرق
على كلهم من والد وسليله = سلام يودي البعض من واجب الحق (23)
كما راسل تلميذه الأديب المختار = السوسي برسالة يقول فيها:
إذا حوى حلبة الاخيار مضمار = فطرف سيدنا المخــــتار مختــار
بدر ثوى حضوة (الحمـراء) = منزله في طالع العد نعم البدر والـدار
منى عليه سلام مثل ما نفحت = في الروض ريح الصبا والروض معطار
ثم على فتية عر هناك سموا = نورا على عليم في رأســــــه نار
فالله يكلؤهم حفظا ويسعدهم = حظا ويحمي حماهـم كفاهـــم داروا
السلام والرحمة والبركة على الأخ العالي كعبه، المنقاد لهمته من الأمل صعبه، الفقيه المدرس العلامة، المخصوص بكرامة التحقيق وتحقيق الكرامة، سيدي محمد المختار بن شيخنا سيدي الحاج علي بن أحمد الالغي ساكن (مراكش الحمراء....) (24).
وفي الختام:
أكرر ما قلته سابقا من أنني ما قمت بهذا العمل إلا إشفاقا على هذه الأشعار، وخوفا عليها من الضياع، أو النسيان إن بقيت راكضة بين الاضبارات.
كما أسأل الله أن يوفني إلى التعريف ببعض المهرجانات التي عرفتها مدينة الحمراء، كمهرجان بلوغ شاعر الحمراء الأربعين من عمره، ومهرجان الشيخ أبي شعبي الدكالي وغيرهما كثير.


---------------------------------------------------
1) ترجم له المختار السوسي في كتابه المعول ج 7 ص 67 ترجمة حافلة.
2) أشكر الفقيه بلفقيه البشر بن الطاهر الافراني الذي أندني بهذه القصائد بعد أن يئست في البحث عنها.
3) الحي الذي يوجد فيه سكنى المختار السوسي والمدرسة التي كان يدرس فيها.
4) المعول ج 7.
5) نفس المصدر.
6) نفس المصدر.
7) فهو غني عن التعريف توفي سنة 1963.
8) يعمل الآن بالخزانة الحسنية بالرباط، أمد الله في عمره
9) انطفأت شعلة هذا الشاب، وخمدت جذوته، بسبب المرض العضال الذي الزمه البيت منذ سنوات طوال أسأل الله له الشفاء والعافية.
10) وهو المكان الذي شيدت فيه المحكمة الابتدائية قرب عرصة الحامض.
11) اعتاد أهل مراكش قديما وحديثا كلما حل شهر شبعان أن يقيموا حفلات في المنتزهات والعراصي المتواجدة بمدينة البهجة، احتفالا بهذا الشهر، واستعداد لاستقبال شهر رمضان الأبرك.
12) فهو غني عن التعريف، إذ شهر له تخطت حدود المغرب، توفي سنة 1955.
13) أديب مراكشي ضليع في اللغة، حائز على ناصية القوافي، له معرفة بالموسيقى، توفي سنة 1944.
14) من مؤسسي الحركة الوطنية بمراكش، أديب وهب حياته للشعر، لازال على قيد الحياة أمد الله في عمره، نظم هذه القصيدة وهو في ريعان الشباب.
15) أديب سوسي، توفي سنة 1943.
16) من مؤسسي الحركة الوطنية بمراكش رفقة زميله الأستاذ عبد القادر حسن شاعر وكاتب كبير، نظم هذه القصيدة وعمره لا يتجاوز سبع عشرة سنة، وقد أثبت هذه القصيدة رغم أن الأستاذ لن يكون راضيا عنها، لكن أهميتها التاريخية فوق كل اعتبار.
17) خرم في الورقة.
18) أديب سوسي توفي سنة 19.
19) المعول ج 7 ص 147-148.
20) يعني إيفران.
21) يعنى تونس.
22) المعول ج 7 ص 149.
23) نفس المصدر ص 150.
24) ينظر تمامها في المعول ج 7 150-151.



أحمد متفكر
ع/ 250


أعلى