آرثر غابرييل ياك - مدام نتلينــــا

ـ كبي نص يا مدام

كانت صالة الاستقبال التي امتلأت برائحة سجائر الكليوباترا والعرق تعج بتلك الكتل البشرية السمراء التي نزحت بفعل الحرب من أقصى جنوب البلاد ليستقر بهم المقام في شمال الوادي. صالة الاستقبال كانت بحق أقذر صالة رأيتها في حياتي المليئة بالمغامرات وإتقان السبل الملتوية... توسطت الصالة ترابيزة خشبية صغيرة وضعت تحتها قوارير، وترابيزة أخرى بالقرب من الثلاجة وضع عليها تلفزيون ملون وبجانبه مخدة ممزقة قذرة لم تستعمل منذ أن تقيأ فيها أحد الزبائن والمشهور ب "نمرة عشرة" في ذلك السبت من شهر مارس بعد أن قبض الجنيهات العشرة التي تمنحها الكنيسة في أول يوم سبت من كل شهر على أنها هبة. حتى "نمرة عشرة" نفسه استبدت به السخرية فأطلق على هذه الهبــة Holy Spirit. بجوار المخدة كانت هناك شنطة جلدية بنية من النوع الذي يستخدمه تجار الكوتات.

تكاثف دخان السجائر في الجو حتى يخال المرء أن الغرفة نفسها تنفث من حيطانها، التي تغيرت بفعل البصق، دخانا كثيفا.

أعقاب سجائر بيضاء وأخرى سوداء أسودت من كثرة الأرجل التي تدوسها، متناثرة في كل مكان حتى الحمام. ولك يا صديقي أن تتخيل شكل الحمام ورائحته المنعشة في هذا الجو الساهر الجميل.

ـ ما تكبي نص مدام..

قال ذلك بنرفزة وهو يخلع جواربه التي امتلأت بالثقوب وتآكلت خيوطها فاهترأت. كان ذلك آخر جورب أشتراه قبل عامين عندما ألحت عليه زوجه وقالت: "والله عيب تمشي معاي حفل عرس ده وأنت لابس جزمه من غير شراب. انت عايز نسوان بخيتة يقولوا فوقي شنو؟"

ـ يا مدام ما عاوزه تكبي الزفت ده ولا شنو؟

لم تعبأ مدام "نتلينا" بأوامره، خاصة أنها عرفت بأنه عاد إلى ذلك سرا. فهو عندما يشرب يقوم بطرد الزبائن وضرب امرأته وهو يقول: "هو نمرة عشرة ده ليه بيمشي وراك على طول.. عندك معاهو شنو؟ وثم تانيا البقعدك في reception شنو؟

مدام "نتلينا" كثيرا ما ضاقت به ذرعا وتتحمله رغما عن أنفها وهي تقول: "والله لو مش عشان العيال البينتنا ما كنت بعيش معاك دقيقة واحدة."

مدام "نتلينا" تجتهد ليلا ونهارا لتقوم بدفع المصاريف الدراسية لأبنائها الستة، أضف إلى ذلك إيجار الشقة ومصاريف البيت. أما صاحبنا فهو من النوع الإتكالي المفرط في الإتكالية كأنه خلق ليصبح عبئا ثقيلا على عاتق أنثى ضعيفة رمتها الأقدار في براثن رجل لا هم له، مما جعل مدام "نتلينا" تقول له في يوم من الأيام والصالة اكتظت بالزبائن: منهم الجامعي وطالب الثانوي، ومنهم من يعمل بتجارة الأعشاب على الأرصفة. "وبعدين انت زوجتني بكم؟ قولو كدي قولو قدام إخوانك رجال..!" ثم مصمصت شفتيها واستطردت قائلة: "وانت قايل أي واحد بيلبس بنطلون راجل؟؟" حتى أصبح ذلك القول على كل لسان إلى درجة أن بعض الزبائن عندما كانوا يرونه في حوش الكنيسة تجدهم يرددون ذلك القول باختصاره ليصبح أكثر وقعا على صاحبنا بقولهم: "كل واحد يلبس بنطلون..." و بعده يضحكون ضحكات ساخرة تجعل صاحبنا صغيرا أمامهم.

أغتاظ عندما أسمعته مدام" نتلينا" ذلك الكلام المحرج أمام الزبائن الذين كادوا أن ينفجروا من الضحك، فانهال عليها ضربا بالترابيزة، فتدحرجت القوارير وانسكبت السوائل وساد الهرج والمرج. المدام تنقل إلى المستشفى في الواحدة والنصف صباحا وهي في حالة إغماء. كسر مركب في الذراع الأيسر. بعد شهرين من ذلك الحدث عادت " نتلينا" إلى بيتها بعد أن أقسم صاحبنا أمام أهلها أنه لن يضربها مرة أخرى. ثم أضاف وهو يفرك يدا بيد والعرق يسيل منه: "وكمان أنا ما بشك فيها وفي الضيوف."

تخلى صاحبنا عن عادته نهائيا في ذلك اليوم وأصبح محترما غاية الاحترام حتى مدام "نتلينا" أخذت تتباهى وتتباخر به أمام نساء جمعية "بخيتة" قائلة: "والله راجل بتاعي ده بقى محترم كيف..لدرجة انو بيخجل يعاين في عيني.."

حقا أنه لسبت عجيب حين صاح بأعلى صوته وهو يترنح قائلا "كبي يا...."، في ذلك اليوم علمت "نتلينا"، أبصمت بالعشرة أن صاحبنا قد عاد إلى عادته بثقله. خاصة أنها قبل ذلك اليوم سمعت من إحدى النسوة بذلك: "ده يوميا بالبارد كده بيشرب قزازه في بيت ناس خميسه..!" قالتها وهي تمشط مدام "نتلينا" والفستان البمبي قد أنحسر عن ركبتيها. حينها علمت المدام بحدس الخبيرة أن مسلسل الأحداث والبلاوي سيتكرر مرة أخرى، لذا لم تنبس ببنت شفة. تظاهرت بمشاهدة المسلسل التلفزيوني .Dangerous Women

"كويس البيت ده بقى ما فيهو احترام مش؟" قال ذلك وهو يحمل جزمته متجها نحو غرفته، في طريقه إلى الغرفة سمع صوتا يقول: "خليك منو أبوي ده زول سكرجي ساكت..!" إتجه نحو مصدر الصوت، فتأكد أنه صوت إبنته. ولج الغرفة دون أن يحس به أحد، أضاء نور الغرفة. رأى أبنته و"نمرة عشرة" ملتصقان، تسمر في مكانه برهة، لم يستوعب هذا المنظر، صاح بأعلى صوته قائلا: "يا مدام في شنو بيحصل في البيت ده؟ في شنو؟"

جاءه صوت مدام نتلينا واهنا: "ما ياهو أنا كبيتو يا أبو عيالي..!".
أعلى