في طريقي إلى تلك المدينة التي تنفست فيها أربع سنوات متتاليات، وفي السنة الرابعة كان التقدير غير مناسب للمجهود الذي بذلته فيها، بيد أني كنت موفقا في الاختبار الشفوي.. عندما سألني الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي : عن قضية النظم عند عبد القاهر الجرجاني وأخذ يهز رأسه، ومن قبلها أجبت على آخر سؤال وُجِّه إلي في مادة القرآن الكريم، قل : يا بني، من أول قوله تعالى " وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى.." ؛ فأكملت. ما زلت أنظر عبر زجاج السيارة الأمامي وأنا متجه إليك.. ،وكأني مازلت اندس خفية من زملائي- خلف محطة القطار- مصطحبًا تلك الفتاة التي تحدثني نفسي أحيانا أنها السبب الرئيسي في ذاك التقدير الجائر . ربما كانت مشاهدة الأفلام الأجنبية في السينما التي تجلس على أخر الكف الأيسر لمحطة القطار في تلك المدينة، وربما كانت جزيرة الورد التي كنت أتسلف من زوج أختي الجنيهات وأطلب للحسناء عصير الكوكتيل المحبب لديها، وربما تخلفي عن المحاضرة الأخيرة يوميا لأذهب إلى مكان تخزين القطار وأحجز كرسيين مميزين لي ولها. كان حلما أن أعين معيدا بكلية اللغة العربية، مذ ابتليت بداء الشعر في صغري حين مسني مردة وادي عبقر الملعون. ولكن التقدير لم يكن سيئا فقد ساعدني أن أعمل مدرسا للغة العربية بإحدى دول الخليج، كنت أبيع شبابي هناك بثمن بخس دراهم معدودة، أجلس الآن على السيراميك الأبيض في ممر مركز للعلاج النفسي، أخذوا حبيبة قلبي من يدي منذ عبرت بابهم الحاجز ما بين عالمين يقولون: أن العقل هو البرزخ بين هذين العالمين. أستشرف يوم الأربعاء القادم ، وابن الوزير المغربي ينتظرني في غرفة الجودة بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة شبين ، سيدور بيني وبينه حوار مهم للغاية سنحتكم فيه إلى أستاذ متخصص في الأدب والنقد، ابن الوزير المغربي أسمعه يردد أجمل رسائله التي حفظتها لتعجب الأستاذ. فقد قال فيها الوزير المغربي: " أقف على كتابك ولم أزل ألثُمه، كأني قد ظفرتُ باليد التي بعثته، وأضمه كأني أضم الجوانح التي نفثته، وكأني كلما أدنيته إلى كبدي المعذب ببعدك، وأمررته على عيني المطروفة بفقدك، سحبت على النار ذيل السحاب، وسقيت عطش الحب كأس الرضاب، وأعرت أخا سبعين ظل الشباب، فأرَّختُ يوم قدومه لأجعله موسما للسرور، وعيدًا باقيًا على الدهور، أرتقب السعد عنده كل عام، وأنتظر الفرج من كل غرام، واتفق وروده في أشرف فصول الدهر حسبا، وأكرم مفاخر الأيام نسبا، حين ابتدأ الربيع يزخرف بروده، والدهر ينظم عقوده." حبيبتي تشكو الآن للطبيب ما ألمّ بها، وربما تحدد اليوم جلسات الكهرباء بحجة أنها مصابة بالوسواس القهري، أظن هذا الوسواس هو الذي دفع ابن الوزير المغربي للتمرد، فقد احتوشته أفكار الشيعة، وعقيدة النصارى، والفكر العقائدي لدى المسلمين، الرجل لم يكن مستقرا أبدا؛ ولذا كان يمازج في رسائله بين الشعر والنثر. يخترق الوزير المغربي حاجز الزمن، عبر برزخ العالمين -العقل- ودخل علي بهو المصحة النفسية بتلك المدينة التي قتلتني مرتين، تقدير ظالم في أخر سنة بالكلية، وفرقة أبدية بيني وبين من أحببتها، وطعنة ثالثة بدخول قطعة من قلبي مصحة العلاج النفسي بها. ابن الوزير المغربي اشتبك مع الممرضين في أخر الممر ، يحدثهم عن الدولة الفاطمية ، وعن خداعه للشريف المكي، وعن مؤلفاته الأربعة الشهيرة : إصلاح المنطق لابن السكيت، أدب الخواص، المأثور في ملح الخدور، الإيناس في علم الأنساب، قال أحد المعالجين النفسيين أدخلوه في الغرفة المخصصة بجلسات الكهرباء ؛ فإنه مصاب بوسواس قهري، أنا أتجرع المرارة لصراخ أختي، وأتشفى في ابن الوزير المغربي الذي حرمني لذة اللعب مع أولادي، وجعلني أحمل كتابه عنوة مصطحباه إياه للمصحة النفسية، وأجلسني على السيراميك الأبيض في ممر المستشفى، تتصفحني الوجوه أمامي كأني أحد المرضى ، فمن يحمل كتابا ليقرأ فيه في زمن تحدثت فيه سما المصري عن فضائل الصيام.