اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يدعوه الفرنجة في كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر
لفيلسوف العرب أبي الوليد بن رشد
- تلخيص وتحليل -
1-
مقدمة:
إن الإنسان لولوع جداً بإظهار الحقائق على طريق المقارنة، والمقارنة قد تكون مقارنة فرد بفرد أو شعب بشعب. أما الأولى فقد تكاد تكون شائعة في كل عهد لأنها رأس كل نقد. والأوائل لم يغمروا مثلاً امرأ القيس بما غمروه من فيض عبقريته إلا بعد أن قرنوا شاعرية غيره إلى شاعريته. والإنسان مسوق يطبعه الموروث إلى مثل هذه المقارنة التي قد تكون غريزية في كل كائن يفكر ويشعر. أما المقارنة الثانية فهي حديثة النشأة، لأن النقد لم يكن ليخطر في باله أن يقيم الأوزان بين أدباء أمتين مختلفتين ثقافة واتجاهاً وشعوراً. ومن كان يفكر في المقارنة بين شكسبير وراسين، ودانتي وميلتون، وبين ميزات الأدب الألماني والأدب الفرنسي؟ وكل واحد منهم يمت بوسائله إلى أمة مستقلة في تطورها وبيئتها. ولكن الأدب - كما يبدو - له سلطان قاهر، يرمي بالحواجز التي تفصل بين الحدود الصناعية ويقتحم في عوالم الفكر والخيال دون أن يصد اقتحامه شيء لأنه الأدب. . . وهكذا نشأت الصلات الأدبية بين الأمم إلى ما شاء ربك!. . وربطت بين المفكرين ربطا لا يقوم على مصالح سياسية أو مطامع مادية، وإنما يقوم على رفع منارة الفكر وإعلاء كلمة الفكر. فما أطهر هذه الرابطة لو أنها تخرج من هذا العالم غير المحدود إلى العالم الذي سودته الحدود! فتجد الأديب الفرنسي يحلل الأديب الألماني دون أن تطغى على قلبه سورة الحقد. وتجد الأديب الألماني يكتب عن الأديب الفرنسي من غير أن تغلب عليه موجدة. ذلك أن عالم الفكر سما بهما فوق عالمهما المحدود الذي غمرته الحزازات وتقطعت بين وشائجه الأسباب. فهما يتفاهمان في ذلك العالم ويصافح بعضهما بعضاً.
هذا هو الأدب بالمقارنة يعمل على درس ميزات أدب كل أمة بمقارنتها مع ميزات غيرها من الأمم. وهو أدب - كما قلت - حديث الخلق، شجع على نشره شيوع الأدب الإنساني. ولعل رسالة الفلسفة كانت أسبق من الأدب إلى هذه الرسالة. لأنها تنعتق من قيود العاطفة ولا تتخذ مطيتها إلا الفكر. والفكر اصلب عوداً من العاطفة. والفلسفة وحدها كانت أبعد العلوم الفكرية شيوعاً وذيوعاً في كل عصر، تكتسبها الأمم الغالبة من الأمم المغلوبة دون أن يلحقها عار الاكتساب، ودون أن تتحوط له. كما نقل العرب الفلاسفة اليونانية بحذافيرها، وطبقوها على عقائدهم الفكرية والاجتماعية، حتى غدا اليونان أساتذة العرب في الفلسفة. أما الأدب اليوناني فلم يكتب له حظ الانتقال في كثير ولا قليل. ولعل ذلك يعود إلى اختلاف الإحساس والتعبير عند الأمتين. ومن عجب الأيام أن يمتزج المنطق اليوناني مع العقل، ويتبدل حتى يغدو جزءاً من العقل العربي. والأدب اليوناني لا يكتب له إلا الخيبة.
ألم يتدارس العرب الأدب اليوناني، كما تدارسوا الفلسفة اليونانية؟ قد يظن أنهم درسوا شيئاً منه وسمعوا ألحان هوميروس فيه، ولكن ألحانه لم تطب لهم، لأن هذه الأساطير التي يطفح بها أدبهم جاءت في العهد الذي كان يسيطر فيه المنطق اليوناني على العقل العربي، فصموا عن هذه الألحان ولم يعيروها التفاتاً. وقد يظن أن الأدب العربي الذي كانت معجزة البلاغة منه كان سيد نفسه، لا يميل إلى اقتباس قواعد البلاغة من غيره، وما فوق بلاغة الكتاب بلاغة. وقد يُظن - وأرجح هذا - أن العرب طووا الأدب اليوناني - اعتماداً على الظن الثاني - ولم يلجوا فيه، فلم ينم لهم ذلك الذوق اليوناني الذي يستطيع أن يحس لذة فنهم وعبقريتهم كما يحس أهله! وبذلك طغا العقل اليوناني على العرب. أما أدبه فلم يكن له في الدائرة نصيب.
على أن هذا الأدب لم يترك له أثراً في الأدب العربي قد شغل بعض أذهان رجال من العرب؛ شغلها عن طريق الفلسفة لا عن طريق الأدب. فأبن رشد والفارابي قد ناقشا الشعر اليوناني لا بالطريقة التي ينبغي لصاحبها أن يتبعها ويتخذ لها السبل المختلفة في نفسها، وإنما ناقشاه بالطريقة التي أتبعها أرسطو. فلولا أرسطو لم يتصد ابن رشد والفارابي للشعر اليوناني، فهما في ذلك متبعان لا مبتدعان. فإذا أثنى ابن رشد على هوميروس فهو لم يثن بلسان نفسه وفن نفسه، وإنما يثني لأن ارسطو أثنى عليه. وسبب ذلك واضح، لأنهما قرءا تحليل أرسطو لهوميروس ولم يقرءا لهوميروس نفسه. وبذلك ظل الأدب اليوناني بعيدا عنهما. وبالرغم من ذلك نرى ابن رشد قد استطاع أن يدرس قواعد شعرهم ويفيد من تلك القواعد ويعمل على تطبيقها في آداب أمته. وعمله هذا هو ما نريد منه (الأدب المقارنة) وهذه المقارنة برغم نقصها الفني جاءت مقارنة حسنة في بابها، مبتدعة وقتها. ألقت على الأدب العربي ضوء دراسة جديدة. على أن أدباء العرب الذين وقفوا على هذه المقارنة وشعروا بهذا التفاوت لم يجدوا في أنفسهم ما يحملهم على مناقشة هذه القواعد والاستفادة منها، وقد رأوا ما حل بإخوانهم الفلاسفة من الوشايات والمكائد التي كانت تنصب لهم، وألوان الاضطهاد الذي نزل عليهم. أضف إلى ذلك أن الألحان الوصفية والعاطفية في الشعر اليوناني كانت تتمشى في تضاعيفها العقيدة والوثنية والآلهة الكثيرة، والعرب كانوا شديدي الغيرة على هذا الواحد زهوا به على الأمم، فصرفتهم الأساطير عن تذوق ما في الأساطير.
تذوق هذان الرجلان بعض روائع الأدب اليوناني ولكن طبيعتهما الأدبية لم تكن لتخول لهما أن يكونا زعيمي مدرسة في الأدب جديدة، فلن يخرج تأثيرهما عما اختصا به. وهيهات أن يصنع الفيلسوف ما يصنعه الأديب في عالم أدبه. فلو أن ابن الرومي مثلاً تذوق هذه الروائع إلى حد بعيد لفعل أكثر مما فعل، ولخلق للشعر أخيلة أخرى ونماذج أخرى، ولكن ابن رشد ما عسى يستطيع أن يعمل وهو ليس بزعيم مدرسة أدبية! إنه يجادل ويحدد ويهدي إلى مناهج ومناهج ولكنه لا يخلق شيئاً.
إن فضل ابن رشد على الأدب العربي في هذا الكتاب لفضل عظيم، لأنه يدل على العربي الأول الذي كتب عن الأدب بطريق المقارنة، ووفق في هذه المقارنة كثيراً؛ ويدل بعد ذلك على أن العرب جربوا أن يدرسوا الآداب الأجنبية ليستفيدوا ويفيدوا من قواعدها، وأن دراستنا - اليوم - للأدب الأجنبي أكثر ضرورة منها بالأمس، بعد أن امتزجت عوالم الفكر واتحدت مناهج الأدب، وأصبح لا يليق بنا أن نترك الأدب العربي محصوراً في عزلته بحجة صيانة ووقايته. وما الذي يخشى عليه؟ وإنما صيانته ووقايته في تعريضه للهواء والنور لا في حجبه عنهما، وفي تقريبه من الآداب العالمية حتى يساهم معها في تأدية رسالتها لا في تنفيره منها وتنفيرها منه، على أن يبقى أدبنا محتفظاً بألوانه، ويبقى أديبنا عاملاً على إبدائها لا على إخفائها؛ وبهذا نحقق غاية من غايات الأدب، ونفتح لنا زاوية في عمارة الأدب، ونكمل الخطوة الأولى التي خطاها الأوائل ولم يكملوها.
غرض الكتاب وغرض الشعر:
وقعت مصادفة على مقالات منثورة من هذا الكتاب، وهي مقالات لا تكاد تؤلف المصنف كله، وإنما وجدت بأنها تعطي فكرة عامة عن الكتاب ومنهج صاحبه ومترجمه فيه. وقد بينت أن المترجم إنما عنى به لأنه أثر من آثار أرسطو، ولأن قواعده في الشعر ذهبت قوانين عامة، لأن أرسطو الجبار الذي أراد أن يفرض سلطان العقل على كل سلطان أراد أن يوحد مملكة الشعر ويمسك على الإحساس كما أمسك على العقل، جاهلاً أن الفرق بين هاتين المملكتين مملكة الإحساس ومملكة العقل فرق كبير، ولكن الرجل أستدرك وزعم أنه يذكر قوانين عامة للشعر، وهو لا يخوض في تولد الإحساس وملاءمة التعبير عن الإحساس، لأن هذا مما يتفاوت فيه العباقرة أنفسهم، فألف هذا الكتاب ليكون له كتاب في الشعر كما ترك كتاباً في الخطابة والموسيقى، ولقد أنتصر هذا العقل إلى حد كبير في هذه الميادين التي تختلف عن ميدانه الذي خلق له، والتي لم يكن لها مفر منها ليستطيع أن يمثل حق التمثيل ثقافة عصره. ولقد استطاع إلى حد بعيد أن يكسو هذه الأشياء النافرة عنه بأردية عقله وتفكيره، فتبيت تقرأ الشعر فكراً والتصوير تفكيراً. ولم لا ينتصر وقد أدرك بعين التأمل عبقرية هوميروس وأثنى عليه الثناء الجميل؟ وكيف يوفق الناقد بين رجلين خلدت الطبيعة هذا بعقله وذلك بقلبه؟
كتب أرسطو كتابه عن الشعر لا كما يريد الشعر لأن أرسطو مكبل بعقله مقتحم بمنطقه. فالأقيسة والأسطقسات والبراهين لا تكاد تفارق ما أراد منه أن يكون قوانين عامة للشعر، فجاءت قوانينه بذلك قوانين جافة قاسية يغلب عليها الذهن الرياضي، لو مشى عليها الشعر ذاته لجاء ممسوخاً. وجميل أن تدخل الفلسفة الشعر بشرط أن تتنازل كثيراً عن أقيستها حتى يمكنها أن تتذوق الشعر.
تناول ابن رشد هذا الكتاب وترجمه وتصرف فيه كثيراً وأحسن في هذا التصرف كثيراً، فأنه استغنى عن النماذج اليونانية التي يستشهد بها المؤلف وأحل محلها نماذج عربية احسن انتقائها واصطفاءها ودلت على ثقافة أدبية عالية في ابن رشد لا تقل قيمة عن بقية الثقافات التي يتضلع بها الفيلسوف. ولكن عيب الترجمة في ابن رشد طوى كل النماذج اليونانية، ومن حقه أن يأتي بها ويضع إزاءها ما جاء به من نماذج العرب لتكون الترجمة والمقارنة في الأمانة سواء؛ وجاء تقسيمه للمقالات بحسب تقسيم أبواب الشعر عند العرب، لأنه وقف درسه على هذه الأبواب، وقد أضاف إليها دراسات مختلفة في صناعة الشعر والغاية منها، وفي ألحانه وأوزانه بالنظر إلى التوقيع لا إلى الأعاريض، وفي العلل المولدة للشعر، وفي التخيلات والمعاني، وفي كيفية التخلص إلى ما يراد محاكاته وأنواع المحاكاة المقبولة وغير المقبولة، وفي صناعة الأشعار القصصية. وكان أكثر توسعاً وتصرفاً في درس صناعة (المديح وأجزائها) لأن هذه الصناعة كانت أروج أبواب الشعر في ذلك العهد، وموضع التفات أكثر الشعراء، ولسهولة المقارنة فيها، واستخراج النماذج منها، وقد غض عن ذكر (الهجاء) لأن قوانينه تنطبق على قوانين المديح. على أن ابن رشد ليلام لوما عنيفاً في هذا الباب لإهماله باب الوصف إهمالاً كلياً. ولعل درسه له كان يعمل على خلق جديد فيه. ولا ريب عندي أن أرسطو قد عالج هذا الباب الواسع عندهم معالجته لغيره من الأبواب، ولكن ابن رشد قد طوى كشحاً عنه كما ضرب صفحاً عن غيره.
أما الغرض من هذا الكتاب فهو - كما يقول صاحبه - (تلخيص القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر في الشعر ونسبة الموجودة في كلام العرب أو كلام غيرهم. والشعر عنده هو أقاويل يحتاج إلى وزن ولحن، ولا يسمى الشعر إلا ما جمع إلى الأقاويل التي تسمى شعراً مع الألحان كهوميروس (ولعل هذا النوع هو ما يدعى الشعر القصصي، وهو أول ما عرفه اليونان من ضروب الشعر)، وقد أدخل على الصناعة الشعرية بعض أقيسة منطقية، دأبها تكبل الشعر، ولكنها تقوم العقل.
(البقية في العدد القادم)
خليل هنداوي
مجلة الرسالة - العدد 153
بتاريخ: 08 - 06 - 1936
https://l.facebook.com/l.php?u=http...drN4dW7_NG-Z7QHypAX6jLGY3ahNdLQUOIS_Hn5zMQhOo
ar.wikisource.org
مجلة الرسالة/العدد 153 - ويكي مصدر
لفيلسوف العرب أبي الوليد بن رشد
- تلخيص وتحليل -
1-
مقدمة:
إن الإنسان لولوع جداً بإظهار الحقائق على طريق المقارنة، والمقارنة قد تكون مقارنة فرد بفرد أو شعب بشعب. أما الأولى فقد تكاد تكون شائعة في كل عهد لأنها رأس كل نقد. والأوائل لم يغمروا مثلاً امرأ القيس بما غمروه من فيض عبقريته إلا بعد أن قرنوا شاعرية غيره إلى شاعريته. والإنسان مسوق يطبعه الموروث إلى مثل هذه المقارنة التي قد تكون غريزية في كل كائن يفكر ويشعر. أما المقارنة الثانية فهي حديثة النشأة، لأن النقد لم يكن ليخطر في باله أن يقيم الأوزان بين أدباء أمتين مختلفتين ثقافة واتجاهاً وشعوراً. ومن كان يفكر في المقارنة بين شكسبير وراسين، ودانتي وميلتون، وبين ميزات الأدب الألماني والأدب الفرنسي؟ وكل واحد منهم يمت بوسائله إلى أمة مستقلة في تطورها وبيئتها. ولكن الأدب - كما يبدو - له سلطان قاهر، يرمي بالحواجز التي تفصل بين الحدود الصناعية ويقتحم في عوالم الفكر والخيال دون أن يصد اقتحامه شيء لأنه الأدب. . . وهكذا نشأت الصلات الأدبية بين الأمم إلى ما شاء ربك!. . وربطت بين المفكرين ربطا لا يقوم على مصالح سياسية أو مطامع مادية، وإنما يقوم على رفع منارة الفكر وإعلاء كلمة الفكر. فما أطهر هذه الرابطة لو أنها تخرج من هذا العالم غير المحدود إلى العالم الذي سودته الحدود! فتجد الأديب الفرنسي يحلل الأديب الألماني دون أن تطغى على قلبه سورة الحقد. وتجد الأديب الألماني يكتب عن الأديب الفرنسي من غير أن تغلب عليه موجدة. ذلك أن عالم الفكر سما بهما فوق عالمهما المحدود الذي غمرته الحزازات وتقطعت بين وشائجه الأسباب. فهما يتفاهمان في ذلك العالم ويصافح بعضهما بعضاً.
هذا هو الأدب بالمقارنة يعمل على درس ميزات أدب كل أمة بمقارنتها مع ميزات غيرها من الأمم. وهو أدب - كما قلت - حديث الخلق، شجع على نشره شيوع الأدب الإنساني. ولعل رسالة الفلسفة كانت أسبق من الأدب إلى هذه الرسالة. لأنها تنعتق من قيود العاطفة ولا تتخذ مطيتها إلا الفكر. والفكر اصلب عوداً من العاطفة. والفلسفة وحدها كانت أبعد العلوم الفكرية شيوعاً وذيوعاً في كل عصر، تكتسبها الأمم الغالبة من الأمم المغلوبة دون أن يلحقها عار الاكتساب، ودون أن تتحوط له. كما نقل العرب الفلاسفة اليونانية بحذافيرها، وطبقوها على عقائدهم الفكرية والاجتماعية، حتى غدا اليونان أساتذة العرب في الفلسفة. أما الأدب اليوناني فلم يكتب له حظ الانتقال في كثير ولا قليل. ولعل ذلك يعود إلى اختلاف الإحساس والتعبير عند الأمتين. ومن عجب الأيام أن يمتزج المنطق اليوناني مع العقل، ويتبدل حتى يغدو جزءاً من العقل العربي. والأدب اليوناني لا يكتب له إلا الخيبة.
ألم يتدارس العرب الأدب اليوناني، كما تدارسوا الفلسفة اليونانية؟ قد يظن أنهم درسوا شيئاً منه وسمعوا ألحان هوميروس فيه، ولكن ألحانه لم تطب لهم، لأن هذه الأساطير التي يطفح بها أدبهم جاءت في العهد الذي كان يسيطر فيه المنطق اليوناني على العقل العربي، فصموا عن هذه الألحان ولم يعيروها التفاتاً. وقد يظن أن الأدب العربي الذي كانت معجزة البلاغة منه كان سيد نفسه، لا يميل إلى اقتباس قواعد البلاغة من غيره، وما فوق بلاغة الكتاب بلاغة. وقد يُظن - وأرجح هذا - أن العرب طووا الأدب اليوناني - اعتماداً على الظن الثاني - ولم يلجوا فيه، فلم ينم لهم ذلك الذوق اليوناني الذي يستطيع أن يحس لذة فنهم وعبقريتهم كما يحس أهله! وبذلك طغا العقل اليوناني على العرب. أما أدبه فلم يكن له في الدائرة نصيب.
على أن هذا الأدب لم يترك له أثراً في الأدب العربي قد شغل بعض أذهان رجال من العرب؛ شغلها عن طريق الفلسفة لا عن طريق الأدب. فأبن رشد والفارابي قد ناقشا الشعر اليوناني لا بالطريقة التي ينبغي لصاحبها أن يتبعها ويتخذ لها السبل المختلفة في نفسها، وإنما ناقشاه بالطريقة التي أتبعها أرسطو. فلولا أرسطو لم يتصد ابن رشد والفارابي للشعر اليوناني، فهما في ذلك متبعان لا مبتدعان. فإذا أثنى ابن رشد على هوميروس فهو لم يثن بلسان نفسه وفن نفسه، وإنما يثني لأن ارسطو أثنى عليه. وسبب ذلك واضح، لأنهما قرءا تحليل أرسطو لهوميروس ولم يقرءا لهوميروس نفسه. وبذلك ظل الأدب اليوناني بعيدا عنهما. وبالرغم من ذلك نرى ابن رشد قد استطاع أن يدرس قواعد شعرهم ويفيد من تلك القواعد ويعمل على تطبيقها في آداب أمته. وعمله هذا هو ما نريد منه (الأدب المقارنة) وهذه المقارنة برغم نقصها الفني جاءت مقارنة حسنة في بابها، مبتدعة وقتها. ألقت على الأدب العربي ضوء دراسة جديدة. على أن أدباء العرب الذين وقفوا على هذه المقارنة وشعروا بهذا التفاوت لم يجدوا في أنفسهم ما يحملهم على مناقشة هذه القواعد والاستفادة منها، وقد رأوا ما حل بإخوانهم الفلاسفة من الوشايات والمكائد التي كانت تنصب لهم، وألوان الاضطهاد الذي نزل عليهم. أضف إلى ذلك أن الألحان الوصفية والعاطفية في الشعر اليوناني كانت تتمشى في تضاعيفها العقيدة والوثنية والآلهة الكثيرة، والعرب كانوا شديدي الغيرة على هذا الواحد زهوا به على الأمم، فصرفتهم الأساطير عن تذوق ما في الأساطير.
تذوق هذان الرجلان بعض روائع الأدب اليوناني ولكن طبيعتهما الأدبية لم تكن لتخول لهما أن يكونا زعيمي مدرسة في الأدب جديدة، فلن يخرج تأثيرهما عما اختصا به. وهيهات أن يصنع الفيلسوف ما يصنعه الأديب في عالم أدبه. فلو أن ابن الرومي مثلاً تذوق هذه الروائع إلى حد بعيد لفعل أكثر مما فعل، ولخلق للشعر أخيلة أخرى ونماذج أخرى، ولكن ابن رشد ما عسى يستطيع أن يعمل وهو ليس بزعيم مدرسة أدبية! إنه يجادل ويحدد ويهدي إلى مناهج ومناهج ولكنه لا يخلق شيئاً.
إن فضل ابن رشد على الأدب العربي في هذا الكتاب لفضل عظيم، لأنه يدل على العربي الأول الذي كتب عن الأدب بطريق المقارنة، ووفق في هذه المقارنة كثيراً؛ ويدل بعد ذلك على أن العرب جربوا أن يدرسوا الآداب الأجنبية ليستفيدوا ويفيدوا من قواعدها، وأن دراستنا - اليوم - للأدب الأجنبي أكثر ضرورة منها بالأمس، بعد أن امتزجت عوالم الفكر واتحدت مناهج الأدب، وأصبح لا يليق بنا أن نترك الأدب العربي محصوراً في عزلته بحجة صيانة ووقايته. وما الذي يخشى عليه؟ وإنما صيانته ووقايته في تعريضه للهواء والنور لا في حجبه عنهما، وفي تقريبه من الآداب العالمية حتى يساهم معها في تأدية رسالتها لا في تنفيره منها وتنفيرها منه، على أن يبقى أدبنا محتفظاً بألوانه، ويبقى أديبنا عاملاً على إبدائها لا على إخفائها؛ وبهذا نحقق غاية من غايات الأدب، ونفتح لنا زاوية في عمارة الأدب، ونكمل الخطوة الأولى التي خطاها الأوائل ولم يكملوها.
غرض الكتاب وغرض الشعر:
وقعت مصادفة على مقالات منثورة من هذا الكتاب، وهي مقالات لا تكاد تؤلف المصنف كله، وإنما وجدت بأنها تعطي فكرة عامة عن الكتاب ومنهج صاحبه ومترجمه فيه. وقد بينت أن المترجم إنما عنى به لأنه أثر من آثار أرسطو، ولأن قواعده في الشعر ذهبت قوانين عامة، لأن أرسطو الجبار الذي أراد أن يفرض سلطان العقل على كل سلطان أراد أن يوحد مملكة الشعر ويمسك على الإحساس كما أمسك على العقل، جاهلاً أن الفرق بين هاتين المملكتين مملكة الإحساس ومملكة العقل فرق كبير، ولكن الرجل أستدرك وزعم أنه يذكر قوانين عامة للشعر، وهو لا يخوض في تولد الإحساس وملاءمة التعبير عن الإحساس، لأن هذا مما يتفاوت فيه العباقرة أنفسهم، فألف هذا الكتاب ليكون له كتاب في الشعر كما ترك كتاباً في الخطابة والموسيقى، ولقد أنتصر هذا العقل إلى حد كبير في هذه الميادين التي تختلف عن ميدانه الذي خلق له، والتي لم يكن لها مفر منها ليستطيع أن يمثل حق التمثيل ثقافة عصره. ولقد استطاع إلى حد بعيد أن يكسو هذه الأشياء النافرة عنه بأردية عقله وتفكيره، فتبيت تقرأ الشعر فكراً والتصوير تفكيراً. ولم لا ينتصر وقد أدرك بعين التأمل عبقرية هوميروس وأثنى عليه الثناء الجميل؟ وكيف يوفق الناقد بين رجلين خلدت الطبيعة هذا بعقله وذلك بقلبه؟
كتب أرسطو كتابه عن الشعر لا كما يريد الشعر لأن أرسطو مكبل بعقله مقتحم بمنطقه. فالأقيسة والأسطقسات والبراهين لا تكاد تفارق ما أراد منه أن يكون قوانين عامة للشعر، فجاءت قوانينه بذلك قوانين جافة قاسية يغلب عليها الذهن الرياضي، لو مشى عليها الشعر ذاته لجاء ممسوخاً. وجميل أن تدخل الفلسفة الشعر بشرط أن تتنازل كثيراً عن أقيستها حتى يمكنها أن تتذوق الشعر.
تناول ابن رشد هذا الكتاب وترجمه وتصرف فيه كثيراً وأحسن في هذا التصرف كثيراً، فأنه استغنى عن النماذج اليونانية التي يستشهد بها المؤلف وأحل محلها نماذج عربية احسن انتقائها واصطفاءها ودلت على ثقافة أدبية عالية في ابن رشد لا تقل قيمة عن بقية الثقافات التي يتضلع بها الفيلسوف. ولكن عيب الترجمة في ابن رشد طوى كل النماذج اليونانية، ومن حقه أن يأتي بها ويضع إزاءها ما جاء به من نماذج العرب لتكون الترجمة والمقارنة في الأمانة سواء؛ وجاء تقسيمه للمقالات بحسب تقسيم أبواب الشعر عند العرب، لأنه وقف درسه على هذه الأبواب، وقد أضاف إليها دراسات مختلفة في صناعة الشعر والغاية منها، وفي ألحانه وأوزانه بالنظر إلى التوقيع لا إلى الأعاريض، وفي العلل المولدة للشعر، وفي التخيلات والمعاني، وفي كيفية التخلص إلى ما يراد محاكاته وأنواع المحاكاة المقبولة وغير المقبولة، وفي صناعة الأشعار القصصية. وكان أكثر توسعاً وتصرفاً في درس صناعة (المديح وأجزائها) لأن هذه الصناعة كانت أروج أبواب الشعر في ذلك العهد، وموضع التفات أكثر الشعراء، ولسهولة المقارنة فيها، واستخراج النماذج منها، وقد غض عن ذكر (الهجاء) لأن قوانينه تنطبق على قوانين المديح. على أن ابن رشد ليلام لوما عنيفاً في هذا الباب لإهماله باب الوصف إهمالاً كلياً. ولعل درسه له كان يعمل على خلق جديد فيه. ولا ريب عندي أن أرسطو قد عالج هذا الباب الواسع عندهم معالجته لغيره من الأبواب، ولكن ابن رشد قد طوى كشحاً عنه كما ضرب صفحاً عن غيره.
أما الغرض من هذا الكتاب فهو - كما يقول صاحبه - (تلخيص القوانين الكلية المشتركة لجميع الأمم أو للأكثر في الشعر ونسبة الموجودة في كلام العرب أو كلام غيرهم. والشعر عنده هو أقاويل يحتاج إلى وزن ولحن، ولا يسمى الشعر إلا ما جمع إلى الأقاويل التي تسمى شعراً مع الألحان كهوميروس (ولعل هذا النوع هو ما يدعى الشعر القصصي، وهو أول ما عرفه اليونان من ضروب الشعر)، وقد أدخل على الصناعة الشعرية بعض أقيسة منطقية، دأبها تكبل الشعر، ولكنها تقوم العقل.
(البقية في العدد القادم)
خليل هنداوي
مجلة الرسالة - العدد 153
بتاريخ: 08 - 06 - 1936
https://l.facebook.com/l.php?u=http...drN4dW7_NG-Z7QHypAX6jLGY3ahNdLQUOIS_Hn5zMQhOo
ar.wikisource.org
مجلة الرسالة/العدد 153 - ويكي مصدر