خليل هنداوي - ضوء جديد على ناحية من الأدب العربي

اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يدعوه الفرنجة في كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر
لفيلسوف العرب أبي الوليد بن رشد
(تابع المنشور في العدد الماضي)
- تلخيص وتحليل -

2-

أما غاية صناعة الشعر فلم تخرج عن غاية الفلسفة لأن المؤلف والمترجم فيلسوفان يقيسان كل شيء، ويقدرانه بحسب فائدته الخلقية، وهما يريدان من الشعر أن يكون عاملاً على تهذيب الأخلاق حاثاً على التخلق بالآداب السامية (وهذا هو الشعر المدرسي قبل أن ينحت الفن أثلته، وينخر غرسته) لأن الفن قد ضرب بهذه السدود، وحطمها أي تحطيم. والشعر الفني - عند العرب - في اعتقادي - يغشى على الشعر المدرسي لأن أكثره شعر لا يدل على أن أصحابه كانوا يتورعون فيه. ولعل هذا هو ما دعا أبا نصر الفارابي إلى الحملة على هذا النوع من الشعر الفني بقوله: (إن أكثر شعر العرب في النهيم والكريه؛ وذلك أن النوع الذي يسمونه النسيب إنما هو حث على الفسوق؛ ولذلك ينبغي أن يتجنبه الولدان ويؤدبون من أشعارهم بما يحث فيه على الشجاعة والكرم، فانه ليس تحث العرب في أشعارها من الفضائل على سوى هاتين القضيتين وإن كانت ليس تتكلم فيهما على طريق الحث عليهما، وإنما تتكلم فيهما على طريق الفخر، لأن أكثر شعرهم من شعر المطابقة الذي يصفون به الجمادات كثيراً والحيوانات والنبات. وأما اليونانيون فلم يكونوا يقولون أكثر ذلك شعراً إلا وهو موجه نحو الفضيلة والكف عن الرذيلة، وما يفيد أدباً من الآداب أو معرفة من المعارف) وقد بحث في العلل المولدة للشعر، فكان تعليله الأول إلى الفلسفة أدنى منه إلى الشعر. وقد بنى هذه العلل على ميل الإنسان إلى محاكاة الأشياء. وقد تكون - عندي - هذه المحاكاة علة صادقة مبنية على التحليل النفسي، لأن الشاعر أقرب الناس إ فهم الطبيعة والعمل على تحسينها وإكمالها (لأنه يلتذ بالتشبيه للأشياء التي قد أحسها وبالمحاكاة لها ليلتذ بإحساسها) فما اصدق هذا الإحساس وما أبعده في تعليل العلل المولدة للشعر. إن الشاعر يأتي الطبيعة ويستجليها ويستنطقها ويبث فيها الحياة، ليجعل فيها القدرة على مشاركته في بهجته. وجاء تعليله الثاني تعليلا طبيعيا، نشأ في الإنسان لالتذاذه بالطبع بالوزن والألحان. . . وهو في هذا لا يرى في الوزن والألحان كل الشعر إن لم تنطو هذه الألحان على محاكاة الطبيعة؛ ثم يذهب في اختلاف طبائع الأمم، فأن الأمم التي تغلب الأخلاق عليها تميل إلى مديح الأفعال الجميلة، والعكس بالعكس. ولا بد من ملاءمة الأوزان والألحان للمعاني؛ فرب وزن يناسب غرضاً ولا يناسب غرضاً آخر. وعملهما فيه هو أنها تعد النفس لقبول خيال الشيء الذي يقصد تخيله. وثمة علل كثيرة للشعر، (وإنما المحاكاة هي العمود والأس في هذه الصناعة، لأن الالتذاذ ليس يكون بذكر الشيء المقصود ذكره دون أن يحاكى. ولذلك لا يلتذ الإنسان بالنظر إلى صور الأشياء الموجودة أنفسها، ويلتذ بمحاكاتها وتصورها بالأصباغ والألوان؛ ولذلك استعمل الإنسان صناعة الزواقة والتصوير. وهل كانت غاية المديح مثلاً إلا محاكاة الناس من قبل عاداتهم الجميلة وأمثالهم الحسنة واعتقاداتهم البعيدة؟ ولعل أرسطو كان أكثر إنصافاً لرسالة الشعر منه لرسالة الخطابة (فقد أعترف لها بأنها ليست مبنية على الاحتجاج والمناظرة، وبخاصة صناعة المديح، وبذلك ليس يستعمل المديح صناعة النفاق كما تستعملها الخطابة) وبهذا أحسن إلى الشعر؛ وهل المادح يمدح إلا عن اعتقاد. . . . . وأساء إلى الخطابة - ولكن النفاق قد يدخل الشعر كما يدخل الخطابة، وقد يبرأ الشعر منه كما تبرأ الخطابة منه بحسب قوة الاعتقاد وصدقه عند الشاعر والخطيب.
صناعة المديح وأجزاؤها
قد أسهب ابن رشد في هذا الباب ما شاء له الإسهاب، لأنه يراه أكثر انطباقاً على محاكاة الأخلاق الفاضلة. والفلسفة تكره المحاكاة لمجرد المحاكاة إلا أن يكون من ورائها غرض أو معنى شريف من معاني التهذيب. وقد تصدى لعلة في الشعر لا تزال فاشية في شعرنا، هي علة (الاستطراد) في القصيدة الواحدة، (ويشبه أن يكون جميع الشعراء لا يتحفظون بهذا بل ينتقلون من شيء إلى شيء، ولا يلزمون غرضاً واحداً بعينه ما عدا (هوميروس) في اليونان.
وأنت تجد هذا كثيراً ما يعرض في أشعار العرب والمحدثين وبخاصة عند المدح، أعني أنه إذا عن لهم شيء ما من أسباب الممدوح مثل سيف أو قوس اشتغلوا بمحاكاته وأضربوا عن ذكر الممدوح. وبالجملة فيجب أن تكون الصناعة تتشبه بالطبيعة، أعني أن تكون إنما تفعل جميع ما تفعله من أجل غرض واحد وغاية واحدة، وإذا كان كذلك فواجب أن يكون التشبيه والمحاكاة لواحد ومقصوداً به غرض واحد، وأن يكون لأجزائه عظم محدود، وأن يكون فيها مبدأ ووسط وآخر، وأن يكون الوسط أفضلها.
أما تعريفه للمحاكاة من حيث الخلق والإبداع فهو تعريف تم عن إحساس عال بالشعر، فليس الشعر يعتمد على التخييل بدون نظام، ولا على تصوير الأشياء التي لا تجول في الذهن. (لأن المحاكاة التي تكون بالأمور المخترعة الكاذبة ليست من أفعال الشاعر - وهي التي تسمى أمثالاً وقصصاً مثل ما في كتاب كليلة ودمنة. لكن الشاعر إنما يتكلم في الأمور الموجودة أو الممكنة الوجود؛ وأما الذين يعملون الأمثال والقصص فان عملهم غير عمل الشعراء وإن كانوا قد يعملون تلك الأمثال والأحاديث المخترعة بكلام موزون. فالفاعل للأمثال المخترعة والقصص إنما يخترع أشخاصاً ليس لها وجود أصلاً ويضع لها أسماء؛ وأما الشاعر فإنما يضع أسماء لأشياء موجودة. . . ولذلك كانت صناعة الشعر أقرب إلى الفلسفة من صناعة اختراع الأمثال) وقد أبى ذهن أرسطو إلا أن يعطف على الشعر ويجعل رسالته مشتقة من رسالة الفلسفة. وإذا نصر الفيلسوف رسالة الشعر وخصها بفضله قد رام - لقاء هذا الفضل أن يضيق عليها حدودها، (فهو يرى أن الأشياء غير الموجودة يجب ألا توضع وتخترع لها أسماء في صناعة المديح، مثل وصفهم الجود شخصاً ثم يضعون أفعالاً له ويحاكونها ويطنبون في مدحه. فهذا النوع من التخييل وإن كان قد ينتفع به فليس ينبغي أن يعتمد في صناعة المديح لأنه ليس مما يوافق جميع الطباع بل قد يضحك منه ويزدريه كثير من الناس.)، وقد يكون اعتقاده على حق لو كان ينطق عن غير الشعر. لأن الشعر لا منصرف له عن خلقه لكثير من أنواع التخيل، (ومن جيد ما في هذا الباب للعرب - وإن لم يكن على طريق الحث على الفضيلة) قول الأعشى:
لعمري لقد لاحت عيونٌ نواظر ... إلى ضوء نار باليفاع تحرَّق تُشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلَّق
رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحمَ داج عوضُ لا نتفرق
وهو يريد من كل هذا أن ينزه رسالة الشعر عن النفاق وكذب التخيل والاختلاق. (إذ لا ينبغي للشاعر أن يأوي إلى ما يدعى نفاقاً فان ذلك إنما يستعمله المموهون من الشعراء، أعني الذين يرون أنهم شعراء وليسوا بشعراء؛ وأما الشعراء بالحقيقة فلا يستعملونه إلا عندما يريدون أن يقابلوا به استعمال شعراء الزور له، وأما إذا قابلوا الشعراء المجيدين فلا يستعملونه أصلاً. . على أن كثيراً من الأقاويل الشعرية تكون جودتها في المحاكاة البسيطة)
وقد تكون المحاكاة بسيطة مجردة، وقد تكون مركبة تأتي بطريقة المقابلة. إذا أراد أن يحاكي السعادة وأهلها أبتدأ أولاً بمحاكاة الشقاوة وأهلها ثم أنتقل إلى محاكاة أهل السعادة، والمحاكاة الأولى هي الغالبة على شعر العرب
كقول أبي الطيب:
كم زورة لك في الأعراب خافية ... أدهى - وقد رقدوا - من زورة الذيب
فهذا البيت من نوع المحاكاة الأولى
وقوله:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبحُ يغري بي
فهذا من نوع المحاكاة الثانية المبنية على طريقة المقابلة
ولقد تكون المحاكاة وليدة الانفعالات النفسية كانفعالات الخوف والرحمة والحزن، وهي تكون بذكر المصائب والرزايا النازلة بالناس. ويجب على الشاعر أن يلزم في تخيلاته ومحاكاته الأشياء التي جرت العادة باستعمالها في التشبيه، وألا يتعدى في ذلك طريقة الشعر.
أما هذه المحاكاة فهي عنده على أنواع. منها محاكاة لأشياء محسوسة بأشياء محسوسة من شأنها أن توقع الشك لمن ينظر إليها؛ وكلما كانت هذه المتوهمات أقرب إلى وقوع الشك كانت أتم تشبيهاً. وجل تشبيهات العرب راجعة إلى هذا الموضع. وكلما كانت أبعد من وقوع الشك كانت أنقص تشبيهاً. وهذه المحاكاة البعيدة التي يجب أن تطرح كقول امرئ القيس في الفرس: (كأنها هراوة منوال)
ومنها محاكاة لأمور معنوية بأشياء محسوسة كقولهم في المنة إنها طوق العنق، وفي الإحسان أنه قيد. وهذا كثير في شعر العرب كقول أبي الطيب:
(ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا)
أو قول امرئ القيس:
(بمنجرد قيد الأوابد هيكل)
وما كان من هذه أيضاً غير مناسب ولا شبيه فينبغي أن يطرح؛ وهذا كثيراً ما يوجد في أشعار المحدثين وبخاصة في شعر أبي تمام كقوله: (لا تسقني ماء الملام) فأن الماء غير مناسب للملام. وكما أن البعيد يجب طرحه كذلك ينبغي أن يكون التشبيه بالجنس الموجود مطرحاً أيضاً، وأن يكون التشبيه بالأشياء الفاضلة.
ومنها المحاكاة التي تقع بالتذكر كأن يرى الإنسان خط إنسان فيتذكره إن كان حياً أو ميتاً، وهذا موجود في أشعار العرب بكثرة كقول متمم بن نويرة:
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت لهم أن الأسى يبعث الأسى ... دعوني! فهذا كله قبر مالك
وكقول المجنون:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى صبراً كان في صدري
وكقول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
وهذا النوع كثير في شعر العرب، ومنه تذكر الأحبة بالديار والأطلال. ويقرب من هذا الموضع ما جرت به عادة العرب من تذكر الأحبة بالخيال وإقامته مقام المتخيل كما قال شاعرهم:
وأني لأستغشي وما بي نعسة ... لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس في السر خاليا
وتصرف العرب فيه كثير ومنها الذي يستعمله السوفسطائيون من الشعراء وهو الغلو الكاذب، وهو كثير في أشعار العرب والمحدثين كقول النابغة يصف ضربة سيف:
تقدُ السلوقيّ المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفَّاح نار الحباحب
وهذا كله كذب
(له بقية)
خليل هنداوي








مجلة الرسالة - العدد 154
بتاريخ: 15 - 06 - 1936
https://l.facebook.com/l.php?u=http...CNCDF9pz_5dLyvESVA5HHC3o-EP8HT8cu8wdMPmRGoRn4

ar.wikisource.org
مجلة الرسالة/العدد 154 - ويكي مصدر

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب المقارن
المشاهدات
727
آخر تحديث
أعلى