اشتغال العرب بالأدب المقارَن أو ما يدعوه الفرنجة في كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر لفيلسوف العرب أبي الوليد بن رشد
(تتمة المنشور في العدد الماضي)
- تلخيص وتحليل -
4-
بحث فني في التخيلات والمعاني والألفاظ والأجزاء
وقد بحث في ما هية الأوزان، فجعل من المعاني والتخيلات ما تناسبه الأوزان الطويلة ومنها ما تناسبه القصيرة؛ وربما كان الوزن مناسباً للمعنى غير مناسب للتخيل، وربما كان الأمر بالعكس، وربما كان غير مناسب لكليهما. على أن أمثلة هذه مما يعسر وجدوه في أشعار العرب إذ تكون غير موجودة فيها، إذ أعارفهم قليلة القدر، وألفاظ الشعر يجب أن تؤلف من الأسماء المبتذلة ومن الأسماءٍ الأخر يعنى المنقولة الغريبة المغيرة واللغوية، لأنه متى تعرى الشعر كله من الألفاظ الحقيقية كان رمزاً ولغزاً.
ويجب أن يكون الشاعر حيث يريد الإيضاح وألا يخرج إلى حد الرمز كما لا يفرط في الأسماء المبتذلةٍ فيخرج عن طريقة الشعر إلى الكلام المتعارف. وأما موافقة الألفاظ بعضها لبعض في المقدار، ومعادلة المعاني بعضها لبعض، وموازنتها، فأمر يجب أن يكون عاماً ومشتركاً لجميع الألفاظ. وقد يستدل على أن القول الشعري هو المغير أنه إذا غير القول الحقيقي سمي شعراً وقولاً شعرياً ووجد له فعل الشعر، مثال ذلك قول القائل:
ولما قضينا من مِنًى كلَّ حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيِّ الأباطح
وإنما صار هذا شعراً من قبيل أنه استعمل بيته الأخير بدل قوله (تحدثنا ومشينا)، وكذلك قوله: (بعيدة مهوى القرط)، إنما صار شعراً لأنه استعمله بدل قوله: (طويلة العنق) وكذلك قول الآخر:
يا دار أين ظباؤك اللعس، ... قد كان لي في إنسها أُنس
إنما صار شعراً لأنه أقام الدار مقام الناطق وأبدل لفظ النساء بالظباء، وأتى بموافقة الأنس والأُنس. وأنت إذا تأملت الأشعار المحركة وجدتها بهذه الحال، وما عدا هذه التغييرات فليس فيه من معنى الشاعرية إلا الوزن فقط، والتغييرات إنما تكون بجميع الأنواع التي تسمى عندنا مجازاً، والفاضل من هذه الأشياء أن يستعمل من كل واحد منها ما هو أبين وأظهر وأنبه، وهذا لا يوجد إلا في النادر من الشعراء لأنه دليل المهارة.
وقد أتى المترجم على نموذج من نماذج قصائد المديح، يريد أن يحلل الأجزاء التي تتركب منها القصيدة، فأرجع تأليفها - عند العرب - إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول الذي يجرى عندهم مجرى الصدر في الخطبة كذكر الديار والتغزل، والجزء المبنى على المديح، والجزء الذي يجرى مجرى الخاتمة في الخطبة. وهذا إما دعاء للممدوح أو تقريظ للشعر الذي قاله. والجزء الأول أشهر من هذا الآخر، ولذلك يسمون الانتقال إلى الثاني استطراداً، وربما أتوا بالجزء الثاني دون الجزء الأول كقول أبى تمام: (لهان علينا أن نقول ونفعلا)
أو قول أبى الطيب: (لكل امرئ من دهره ما تعوّدا) ويرى خير المدائح المدائح التي يوجد فيها التركيب أي ذكر الفضائل والأشياء المحزنة المخوفة والمرققة. . . وكأني بابن رشد لم يفصل هذه الأشياء لأن العرب لا يمزجون الأشياء المحزنة المخوفة والمرققة بمدائحهم. . . وإنما هي من صفات الشعر اليوناني (وبخاصة الأوميروسي). ثم أنتقل إلى ذاكرة الخرافة، والخرافة تكاد تغلب على الأشعار اليونانية. . . ولكن أرسطو يرى أن الخرافة ينبغي أن يكون مخرجها مخرج ما يقع تحت البصر، لأنه إذا كانت الخرافة مشكوكاً فيها لم تفعل الفعل المقصود بها، وذلك أن ما لا يصدقه المرء فهو لا يفزع منه ولا يشفق له، وفي هذا سر عميق من أسرار الإبداع، إذ ليس الشاعر من أغرب وأعجب، وليس الشعر بالشعر الأذهب في الغرابة والتخيل البعيد عن الصدق كما يذهب إليه بعض الشعراء. والشاعر الموهوب قد يتناول ما بين يديك، ويدخل في عالم نفسك، ثم يحدثك بما تعرفه وتحسب انك لا تعرفه. . . لأنه أدرك بتعمقه وتأمله أشياء منك لم تدركها بنظراتك السطحية.
ثم عرض للأشياء التي يجب أن تمدح في الممدوح محللاً إياها تحليل الفيلسوف الذي لا يسمح بعبث في الفضيلة، ولا بتلاعب في الحقيقة. هو يريد من الشعراء أن يتبعوا هذه الحقيقة، وأن يبرزوا من الممدوح الصفات التي يتحلى بها. . . وإنما تمدح العادات الخيرة والفاضلة، والعادات اللائقة بالممدوح والصالحة له، وذلك أن العادات التي تليق بالمرأة ليست تليق بالرجل. وأن تكون مما يشابهه وأن تكون معتدلة متوسطة بين الأطراف، ثم لا يورد الشاعر في شعره من المحاكاة الخارجية عن القول إلا بقدر ما يتحمله المخاطبون من ذلك حتى لا ينسب إلى الغلو والخروج عن طريقة الشعر. وكما أن المصور الحاذق يصور الشيء بحسب ما هو عليه في الوجود حتى إنهم قد يصورون الغضاب والكسالى مع أنها صفات إنسانية، كذلك يجب أن يكون الشاعر في محاكاته يصور كل شيء بحسب ما هو عليه حتى يحاكى الأخلاق وأحوال النفس ومن هذا النوع من التخيل قول أبي الطيب يصف رسول الروم الواصل إلى سيف الدولة:
أتاك يكاد الرأس يحجز عنقَه ... وتنقد تحت الذعر منه المفاصل
يقوم تقويم السماطَيْن مشيَه ... إليك إذا ما عوَّجته الأفاكل
ينتهي أبن رشد من مقارناته، ويذكر أن شذوذ العرب في كثير من هذه القوانين الشعرية. ويقول مع أبي نصر الفارابي: (وأنت تعلم من هذا أن ما شعر به أهل لساننا من القوانين الشعرية هو نزر يسير) وفي الحق يتبين لنا هذا الشذوذ كثيراً عند دراستنا للشعر العربي دراسة نقدية كما يتصورها أبن رشد، وذلك عائد إلى جهل العرب لهذه القوانين، وإما إلى أن هذه القوانين لم تلائم طباعهم. وهذا القول أرجح عندي لأن الأمة لا يمكنها أن تخلق لشعرها قوانين قبل أن يكون لها شعر!!! وأن شعرها الذي نسوقه هو الذي يخلق قوانين نقدها! إلا إذا أرادت أن تحاكي أمثلة سواها، وأن تقبل التأثر بقوانين غيرها. . . وإننا لن نغلو في التشيع لهذه القوانين لأننا نراها قوانين إذا أفادت مرة فقد لا تفيد كثيراً. . . والعبقرية في الشعر تستلهم نفسها ولا تستلهم قوانين. ولكن ذها لا يصرفنا عن القول بأن هنالك قوانين إذا لم يحترمها الشاعر عاد عليه ذلك بالفساد. وإنما أبلغ سقراط حين شبه الشاعر بالمصور، فليس المصور ذلك الذي يمنح صور الأشياء، أو يخلق أشياء غريبة لا تناسق فيها ولا فكرة. وليس الشاعر بالذي يعطّل نظام الطبيعة الشامل، ويعكس ألوان الأشياء بتخيله المضطرب!!! إنما المصور من يساعد الطبيعة على إبداعها وتزيينها، والشاعر هو من يكون أميناً على ما يتمثل له في الحياة. . .
وقد تكون قوانين سقراط في الشعر - صارمة قاسية لأنه يطلب من الشعر ما يطلبه من الفلسفة، اعتصام بالفضيلة، واستمساك بالحقيقة. .! وقد يخرج عن هذه الحدود لأنه لا يطيق القيود، وقد يرضى بأن يهذب نفسه ولكنه لا يرضى بأن يفادى بحريته. . . جناح الفن دائما خفاق يبتغى السمو والعلو، وويل للفن إذا استعان بجناحه على الانحدار بدلاً من الارتفاع، لأن روعة الفن في ارتفاعه لا في انحداره!
وقد كان يبتغى لمثل هذه القوانين الشعرية أن تثير ضجة في الشعر العربي لأنها مقاييس غريبة، منطقية في النقد، ولكنها مرت هادئة كمر السحاب، لا لأن الأدباء لم يفقهوها، وقد قرّبها ابن رشد من الإفهام بعد أن عرّبها وأعربها بالنماذج والأمثلة العربية، ولكن أهل البيان العربي، وجدوا أن الأدب العربي الطافح بما يخالف هذه القوانين، يستحيل عليه أن يحطم ماضيه وأن ينهج طريقاً جديداً يخطه بأيدي هذه القوانين الجديدة التي لا تلائم البيان العربي!!!
(دير الزور)
خليل هنداوي
مجلة الرسالة - العدد 156
بتاريخ: 29 - 06 - 1936
https://l.facebook.com/l.php?u=https://ar.wikisource.org/wiki/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF_156?fbclid=IwAR1QBWCRTsSlSMWoAPBmV1PC7Zxttvg1vvgEkoY-6dw_7gd6yzCjsx4kTYA&h=AT0dLPb1CyPzhV2tKBehFOxYSLywxTnJr2vyW4J6roGT4nkFxR4m9uHf_XVo5X51rdVObyGeNRcrD72gzi3HT4qt0AKdmDVIP2ekGILJ6WGm8l_7Ze1Uon2wAwYDugrd2YU&__tn__=H-R&c[0]=AT0J-OoGlWi3Ulss0NPQmAd6sjoIKWbr6uBMk8mZ__SHQSkatnB6w4hEMTAyf_nbRWIQQFnZb-xfa0gRP2do48QOGEO1daX1iO9-tg6UXpQBMv2vuH9GuPV1ODJ5Mvuae7PS6C3jXicUBEsU2oyibW0yaVgmOXZnZ5c
ar.wikisource.org
مجلة الرسالة/العدد 156 - ويكي مصدر
(تتمة المنشور في العدد الماضي)
- تلخيص وتحليل -
4-
بحث فني في التخيلات والمعاني والألفاظ والأجزاء
وقد بحث في ما هية الأوزان، فجعل من المعاني والتخيلات ما تناسبه الأوزان الطويلة ومنها ما تناسبه القصيرة؛ وربما كان الوزن مناسباً للمعنى غير مناسب للتخيل، وربما كان الأمر بالعكس، وربما كان غير مناسب لكليهما. على أن أمثلة هذه مما يعسر وجدوه في أشعار العرب إذ تكون غير موجودة فيها، إذ أعارفهم قليلة القدر، وألفاظ الشعر يجب أن تؤلف من الأسماء المبتذلة ومن الأسماءٍ الأخر يعنى المنقولة الغريبة المغيرة واللغوية، لأنه متى تعرى الشعر كله من الألفاظ الحقيقية كان رمزاً ولغزاً.
ويجب أن يكون الشاعر حيث يريد الإيضاح وألا يخرج إلى حد الرمز كما لا يفرط في الأسماء المبتذلةٍ فيخرج عن طريقة الشعر إلى الكلام المتعارف. وأما موافقة الألفاظ بعضها لبعض في المقدار، ومعادلة المعاني بعضها لبعض، وموازنتها، فأمر يجب أن يكون عاماً ومشتركاً لجميع الألفاظ. وقد يستدل على أن القول الشعري هو المغير أنه إذا غير القول الحقيقي سمي شعراً وقولاً شعرياً ووجد له فعل الشعر، مثال ذلك قول القائل:
ولما قضينا من مِنًى كلَّ حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيِّ الأباطح
وإنما صار هذا شعراً من قبيل أنه استعمل بيته الأخير بدل قوله (تحدثنا ومشينا)، وكذلك قوله: (بعيدة مهوى القرط)، إنما صار شعراً لأنه استعمله بدل قوله: (طويلة العنق) وكذلك قول الآخر:
يا دار أين ظباؤك اللعس، ... قد كان لي في إنسها أُنس
إنما صار شعراً لأنه أقام الدار مقام الناطق وأبدل لفظ النساء بالظباء، وأتى بموافقة الأنس والأُنس. وأنت إذا تأملت الأشعار المحركة وجدتها بهذه الحال، وما عدا هذه التغييرات فليس فيه من معنى الشاعرية إلا الوزن فقط، والتغييرات إنما تكون بجميع الأنواع التي تسمى عندنا مجازاً، والفاضل من هذه الأشياء أن يستعمل من كل واحد منها ما هو أبين وأظهر وأنبه، وهذا لا يوجد إلا في النادر من الشعراء لأنه دليل المهارة.
وقد أتى المترجم على نموذج من نماذج قصائد المديح، يريد أن يحلل الأجزاء التي تتركب منها القصيدة، فأرجع تأليفها - عند العرب - إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول الذي يجرى عندهم مجرى الصدر في الخطبة كذكر الديار والتغزل، والجزء المبنى على المديح، والجزء الذي يجرى مجرى الخاتمة في الخطبة. وهذا إما دعاء للممدوح أو تقريظ للشعر الذي قاله. والجزء الأول أشهر من هذا الآخر، ولذلك يسمون الانتقال إلى الثاني استطراداً، وربما أتوا بالجزء الثاني دون الجزء الأول كقول أبى تمام: (لهان علينا أن نقول ونفعلا)
أو قول أبى الطيب: (لكل امرئ من دهره ما تعوّدا) ويرى خير المدائح المدائح التي يوجد فيها التركيب أي ذكر الفضائل والأشياء المحزنة المخوفة والمرققة. . . وكأني بابن رشد لم يفصل هذه الأشياء لأن العرب لا يمزجون الأشياء المحزنة المخوفة والمرققة بمدائحهم. . . وإنما هي من صفات الشعر اليوناني (وبخاصة الأوميروسي). ثم أنتقل إلى ذاكرة الخرافة، والخرافة تكاد تغلب على الأشعار اليونانية. . . ولكن أرسطو يرى أن الخرافة ينبغي أن يكون مخرجها مخرج ما يقع تحت البصر، لأنه إذا كانت الخرافة مشكوكاً فيها لم تفعل الفعل المقصود بها، وذلك أن ما لا يصدقه المرء فهو لا يفزع منه ولا يشفق له، وفي هذا سر عميق من أسرار الإبداع، إذ ليس الشاعر من أغرب وأعجب، وليس الشعر بالشعر الأذهب في الغرابة والتخيل البعيد عن الصدق كما يذهب إليه بعض الشعراء. والشاعر الموهوب قد يتناول ما بين يديك، ويدخل في عالم نفسك، ثم يحدثك بما تعرفه وتحسب انك لا تعرفه. . . لأنه أدرك بتعمقه وتأمله أشياء منك لم تدركها بنظراتك السطحية.
ثم عرض للأشياء التي يجب أن تمدح في الممدوح محللاً إياها تحليل الفيلسوف الذي لا يسمح بعبث في الفضيلة، ولا بتلاعب في الحقيقة. هو يريد من الشعراء أن يتبعوا هذه الحقيقة، وأن يبرزوا من الممدوح الصفات التي يتحلى بها. . . وإنما تمدح العادات الخيرة والفاضلة، والعادات اللائقة بالممدوح والصالحة له، وذلك أن العادات التي تليق بالمرأة ليست تليق بالرجل. وأن تكون مما يشابهه وأن تكون معتدلة متوسطة بين الأطراف، ثم لا يورد الشاعر في شعره من المحاكاة الخارجية عن القول إلا بقدر ما يتحمله المخاطبون من ذلك حتى لا ينسب إلى الغلو والخروج عن طريقة الشعر. وكما أن المصور الحاذق يصور الشيء بحسب ما هو عليه في الوجود حتى إنهم قد يصورون الغضاب والكسالى مع أنها صفات إنسانية، كذلك يجب أن يكون الشاعر في محاكاته يصور كل شيء بحسب ما هو عليه حتى يحاكى الأخلاق وأحوال النفس ومن هذا النوع من التخيل قول أبي الطيب يصف رسول الروم الواصل إلى سيف الدولة:
أتاك يكاد الرأس يحجز عنقَه ... وتنقد تحت الذعر منه المفاصل
يقوم تقويم السماطَيْن مشيَه ... إليك إذا ما عوَّجته الأفاكل
ينتهي أبن رشد من مقارناته، ويذكر أن شذوذ العرب في كثير من هذه القوانين الشعرية. ويقول مع أبي نصر الفارابي: (وأنت تعلم من هذا أن ما شعر به أهل لساننا من القوانين الشعرية هو نزر يسير) وفي الحق يتبين لنا هذا الشذوذ كثيراً عند دراستنا للشعر العربي دراسة نقدية كما يتصورها أبن رشد، وذلك عائد إلى جهل العرب لهذه القوانين، وإما إلى أن هذه القوانين لم تلائم طباعهم. وهذا القول أرجح عندي لأن الأمة لا يمكنها أن تخلق لشعرها قوانين قبل أن يكون لها شعر!!! وأن شعرها الذي نسوقه هو الذي يخلق قوانين نقدها! إلا إذا أرادت أن تحاكي أمثلة سواها، وأن تقبل التأثر بقوانين غيرها. . . وإننا لن نغلو في التشيع لهذه القوانين لأننا نراها قوانين إذا أفادت مرة فقد لا تفيد كثيراً. . . والعبقرية في الشعر تستلهم نفسها ولا تستلهم قوانين. ولكن ذها لا يصرفنا عن القول بأن هنالك قوانين إذا لم يحترمها الشاعر عاد عليه ذلك بالفساد. وإنما أبلغ سقراط حين شبه الشاعر بالمصور، فليس المصور ذلك الذي يمنح صور الأشياء، أو يخلق أشياء غريبة لا تناسق فيها ولا فكرة. وليس الشاعر بالذي يعطّل نظام الطبيعة الشامل، ويعكس ألوان الأشياء بتخيله المضطرب!!! إنما المصور من يساعد الطبيعة على إبداعها وتزيينها، والشاعر هو من يكون أميناً على ما يتمثل له في الحياة. . .
وقد تكون قوانين سقراط في الشعر - صارمة قاسية لأنه يطلب من الشعر ما يطلبه من الفلسفة، اعتصام بالفضيلة، واستمساك بالحقيقة. .! وقد يخرج عن هذه الحدود لأنه لا يطيق القيود، وقد يرضى بأن يهذب نفسه ولكنه لا يرضى بأن يفادى بحريته. . . جناح الفن دائما خفاق يبتغى السمو والعلو، وويل للفن إذا استعان بجناحه على الانحدار بدلاً من الارتفاع، لأن روعة الفن في ارتفاعه لا في انحداره!
وقد كان يبتغى لمثل هذه القوانين الشعرية أن تثير ضجة في الشعر العربي لأنها مقاييس غريبة، منطقية في النقد، ولكنها مرت هادئة كمر السحاب، لا لأن الأدباء لم يفقهوها، وقد قرّبها ابن رشد من الإفهام بعد أن عرّبها وأعربها بالنماذج والأمثلة العربية، ولكن أهل البيان العربي، وجدوا أن الأدب العربي الطافح بما يخالف هذه القوانين، يستحيل عليه أن يحطم ماضيه وأن ينهج طريقاً جديداً يخطه بأيدي هذه القوانين الجديدة التي لا تلائم البيان العربي!!!
(دير الزور)
خليل هنداوي
مجلة الرسالة - العدد 156
بتاريخ: 29 - 06 - 1936
https://l.facebook.com/l.php?u=https://ar.wikisource.org/wiki/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF_156?fbclid=IwAR1QBWCRTsSlSMWoAPBmV1PC7Zxttvg1vvgEkoY-6dw_7gd6yzCjsx4kTYA&h=AT0dLPb1CyPzhV2tKBehFOxYSLywxTnJr2vyW4J6roGT4nkFxR4m9uHf_XVo5X51rdVObyGeNRcrD72gzi3HT4qt0AKdmDVIP2ekGILJ6WGm8l_7Ze1Uon2wAwYDugrd2YU&__tn__=H-R&c[0]=AT0J-OoGlWi3Ulss0NPQmAd6sjoIKWbr6uBMk8mZ__SHQSkatnB6w4hEMTAyf_nbRWIQQFnZb-xfa0gRP2do48QOGEO1daX1iO9-tg6UXpQBMv2vuH9GuPV1ODJ5Mvuae7PS6C3jXicUBEsU2oyibW0yaVgmOXZnZ5c
ar.wikisource.org
مجلة الرسالة/العدد 156 - ويكي مصدر