أ. د. عادل الأسطة - غسان كنفاني.. ملف (11 - 29)

11- حرب غزة والسخرية ... غسان كنفاني والسخرية

في أثناء حرب غزة أخذت أتابع النكت والمقاطع الساخرة، فشرّ البلية ما يضحك.
تذكرت ما قرأته عن حرب حزيران وانعكاسها في الأدب العربي، وعدت إلى كتاب أنطوان شلحت "خداع الذات... المسرح الإسرائيلي وحرب 1967 ومختارات من أعمال حانوخ ليفين" (2007)، وحانوخ ليفين أبرز كاتب إسرائيلي كتب نصوصاً ساخرة إثر حرب حزيران، وقد ترك أثراً في أدبنا الفلسطيني، أشرت إليه وأنا أكتب عن الأديب الفلسطيني والأدب الصهيوني (1993)، وتحديداً حين توقفت أمام نص محمود درويش النثري "أنا وأنت والحرب القادمة".
وقد توقفت أمام رسوم كاريكاتورية وعبارات ساخرة ومقاطع فيديو. لفت نظري رسم كاريكاتوري يظهر فيه رئيس وزراء إسرائيل (نتنياهو) و(باراك) (وليبرمان) في نفق للمياه العادمة، وكتب في الرسم: الهدنة قرارهم مش قراري، الحقنا يا (أوباما) احنا في المجاري.
كما لفت نظري رسم آخر يظهر فيه (نتنياهو) والدموع تنهمر من عينيه، ينظر إلى (أوباما) الرئيس الأميركي ويخاطبه: "دخيل عليك يا بو سمرة.. شوفلنا حد من جماعتك يحكي معهم، هدول بستبعدش يطلع عندهم نووي"، كما ظهرت عبارات تسخر من الطائرات الإسرائيلية، فأطفال فلسطين كانوا ينادون، على غرار تجار الخردوات: غسالات، ثلاجات، طيارات للبيع، وحور بعض الساخرين بعض عبارات أو استخدموا عبارة شهيرة من أغنية شهيرة لوصف الحالة، فإسرائيل تهدي المقاومة أغنية: اللي شبكنا يخلصنا لعبد الحليم حافظ (زي الهوى).
وأنا أكتب على الفي سبوك عن نيتي الكتابة في موضوع السخرية والحرب أدرجت صديقة مع تعقيبها مقطع فيديو (يوتيوب) يقرأ فيه مواطن غزي نشرة أخبار، ومن أخبار النشرة:
- ثلاث حروب: والرابعة يأخذ المواطن محمود زعيتر بكالوريوس حروب.
- هاجمنا (شارون) وحاربنا لأن الفلسطينيين انتهكوا طفولته، فما السبب الذي يدفع (نتنياهو) إلى شن حربه؟ ويتابع المذيع قائلاً إن طبيباً نفسياً أميركياً يقول إن المجلس الوزاري كله منتهكة طفولته.
- يقول المذيع: الناس يتساءلون: نفس الطيارة، نفس الطيار، نفس الصاروخ. ألا جديد؟ فقد صار عند أهل غزة مناعة. مللنا منها. شوفو شيئاً جديداً. (شوفو لنا شيء جديد).
- فرنسا قررت شراء صواريخ جديدة من غزة بعد فشل القبة الحديدية.
- وبريطانيا قررت إرسال بعثة إلى غزة للتدرب على صناعة صواريخ.
- وأما ألمانيا فقد قررت شراء طيارات أبابيل. و... و... و... .
بعض الأدباء الإسرائيليين مثل (حانوخ ليفين) سخروا من قادتهم بعد حرب حزيران مباشرة، ولا أعرف إن كانت روح السخرية ظهرت في الصحافة العبرية في أثناء حرب غزة، وما أعرفه أن أدبنا لم يخل من روح السخرية في أثناء الانتفاضة الثانية، بل وفي أثناء الانتفاضة الأولى.
السخرية، في الانتفاضة الأولى، برزت في أشكال عديدة على أفواه الناس الذين سخروا من جنود الاحتلال، وفي نهاية الانتفاضة تحولت السخرية من سخرية من الاحتلال إلى سخرية الفصائل من بعضها، وقد دونت هذا في نص "ليل الضفة الطويل" (1993).
أما في انتفاضة الأقصى فيعد كتاب سعاد العامري "شارون وحماتي: مذكرات رام الله" الذي نقل إلى العربية، أبرز نص ساخر.
كانت سعاد كتبت نصوصاً نثرية ونشرتها على الفيس بوك، وإلكترونياً، ثم جمعتها في كتاب يفيض بروح السخرية، في أوج الانتفاضة، نشر أولاً بالإنجليزية وحقق شهرة واسعة.
هل تعد السخرية هذه لوناً جديداً في أدبنا في فلسطين المحتلة؟ كل من قرأ أميل حبيبي وسلمان ناطور وبعض أشعار سميح القاسم يعرف أن السخرية حاضرة في أدبنا، وتعد رواية حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) أبرزها ـ أي النصوص الأدبية، وتبعتها في الفترة الأخيرة رواية لا تقل سخرية عنها هي رواية عارف الحسيني "كافر سبت"(2011).
وعلينا ألا ننسى خطب الدكتاتور الموزونة التي كتبها محمود درويش في 80 ق20 ليسخر فيها من الدكتاتور العربي.
هذه السخرية كانت موضوع رسالة ماجستير أشرفتُ عليها وأنجزها فراس الحاج محمد في جامعة النجاح، فماذا عن السخرية في أدب المنفى؟
لم تبرز السخرية في روايات غسان كنفاني وفي قصصه وفي مسرحياته.
بدا كنفاني كاتباً جاداً متجهماً، وربما كان لقسوة حياة المنفى تأثيرها الكبير على أدبه، وربما ما كانت السخرية شائعة في الأدب العربي الحديث شيوعاً لافتاً لتلفت نظره إليها؟ وستبدو هذه السخرية في بعض مسرحيات معين بسيسو "محاكمة كتاب كليلة ودمنة" مثلاً، وفي بعض أشعار مريد البرغوثي "قصائد للرصيف"(1980).
لكن كنفاني الذي خلت نصوصه الإبداعية من السخرية التفت، وهو في بيروت، إثر هزيمة حزيران، إلى هذا الأسلوب الأدبي، فقرأ أعمالاً صدرت في بيروت لكتاب لبنانيين منهم شريف الراس وسالم الجسر، ما دفع كنفاني، إلى التنظير لفن السخرية.
وهو تنظير لم أقرأ مثله لأي من كتابنا الذين قرأت لهم، في المقابلات التي أجريت مع حبيبي، بعد كتابته المتشائل، أي بعد استشهاد غسان كنفاني أجاب عن أسئلة عن دافعه إلى السخرية، وأشار إلى أنه ما من تراث عريق إلاّ وكانت السخرية جزءاً منه، وأوضح أنه يسخر من الاحتلال ومن الذات التي لا تخلو من سلبيات.
وقد توقف فاروق وادي مطولاً أمام أشكال السخرية في أدب حبيبي، بخاصة المتشائل، وذلك في كتابه "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية".
كتب غسان كنفاني ثلاث مقالات عن كاتبين لبنانيين، ونشرهما في آذار وأيار 1968، الأول عنوانه "بين المهضوم والغليظ ميزان اسمه جحا" عن كتاب شريف الراس "للضاحكين فقط"، والثاني عنوانه "معجم سالم ـ انتخابات مكسرة"، عن كتاب "معجم الانتخابات" لسالم الجسر، والثالث عن كتاب ثان لسالم وعنوانه "المزعجون".
وقد ظهرت هذه المقالات، في 1998، في كتاب جمع مقالات كنفاني صدر عن دار الآداب.
وفي المقالات هذه وفي مقالات أخرى منه يبدو كنفاني كاتباً ساخراً بارزاً، إنه لا ينظر لفن السخرية، بل يبرع في كتابتها، فهل اطلع عليها أميل حبيبي؟
ولعلّ أبرز ما في مقالات كنفاني الثلاثة أنه ينظّر لهذا اللون من الأدب، وأعتقد أنها مقالات جديرة بأن تدرس جيداً.
يميز الكاتب بين السخرية والتهريج، ويرى أن السخرية أصعب فنون الكتابة على الإطلاق، ويحتاج الكاتب إلى إقناع القارئ بأن دمه خفيف.
كما يميز بين الأسلوب الساخر والأسلوب المتعالي، إذ يفصل بينهما خيط لا يكاد يرى.
إن هناك فرقاً بين كاتب (شايف حالو) وكاتب (مهضوم)، والكاتب الساخر يقدم نقداً اجتماعياً عميقاً من خلال نماذج بشرية، وأدبه ليس أدب تسلية، إنه درجة عالية من النقد، وعلى المؤلف أن يقدمه كضرورة.
كما يميز كنفاني بين سخرية بناءة وأخرى هدامة، والثانية سهلة بالمقارنة مع الأولى، والسخرية البناءة تحتاج إلى وعي أعمق وثقافة أوسع وقدرة أكبر على فهم روح القارئ ولا وعيه ونفسيته.
ويتساءل غسان: كيف يمكن للسخرية أن تكون بناءة وتظل في الوقت نفسه أدباً ساخراً خفيف الدم لا محاضرات فيه ولا أوامر ولا إيعازات ولا استغراقا مزيفا في الأيديولوجيات؟ إن الأمر يخص المؤلف. يقول غسان، ومهمة الكاتب أن يعي أننا مجتمع ضاحك لدينا مقاييس عسيرة للنكتة.
وعلى الكاتب ألا يتسرع وألا يكون ما يقدمه لتاً وعجناً وطق حنك وتكراراً.
وسيميز كنفاني بين النكتجي والكاتب الساخر، وأن الأخير لكي يكون كاتباً ساخراً.. فإنه أولاً يجب أن يمتلك تصوراً لما هو أفضل.." و"إن السخرية تعطي، عن طريق الضحك، نقداً يلخص المشكلة بأفضل من مليون مقال" (ص90) في أثناء حرب غزة أخذت أتابع لون السخرية..!!

2014-09-21

***

12- غسان كنفاني: «معارج الإبداع» والنصوص الأولى للكتاب

آخر ما صدر للكاتب غسان كنفاني هو كتابه «معارج الإبداع» ويضم «ما لم ينشر من الكتابات الأولى له، وتحديداً كتاباته ما بين ١٩٥١ - ١٩٦٠، وقد أعدها أخوه عدنان الذي كتب للكتاب مقدمة قال فيها إنه مهما كان منحازاً فغسان رحمه الله «لم يعد ملكاً لأسرته»، فلقد أصبح شخصية عامة ورمزاً أدبياً ومناضلاً صلباً حتى آخر لحظة في حياته «وقد» حاكى هموم الناس.. وعبر عن صمودهم وأمنياتهم وتمسكهم بثوابتهم الوطنية والقومية..».
ضم القسم الأول، وهو يقع في ستين صفحة، تسع قصص قصيرة كتبها غسان في العامين ١٩٥١ و١٩٥٢ - أي يوم كان في الخامسة عشرة والسادسة عشرة من عمره.
القصص التسع عناوينها هي البطل الصغير وست رصاصات وقسوة القدر و»مأساة... ودموع» و»حب ووفاء» والشيطانة العجوز وحنان يترعرع والمدينة المسمومة والسارق.
ويثير قارئ هذه القصص، التي جمعها غسان في دفتر كان ينوي نشره، العديد من الأسئلة، والقصص تذكر بكتاب كثر كانت لهم مواقف من أعمالهم المبكرة غالباً ما يشير إليها الدارسون، وإن لم تخني الذاكرة فقد أتيت على قسم منها في غير مقال ولم أتوقف أمام قسم آخر. وقبل أن آتي على تلك المواقف أود أن أشير إلى بعض الملاحظات حول القصص التسع:
- إن حضور الموضوع الفلسطيني فيها نادر، والقصة التي تدور حول الموضوع الفلسطيني هي «ست رصاصات» وهي قصة تتجلى فيها مقاومة الاستيطان اليهودي.
- أكثر القصص تدور حول موضوع الفقر المدقع.
- عدم تمكن غسان من النحو تمكناً تاماً.
- تبدو القصص أقرب إلى موضوعات إنشاء مصوغة بأسلوب قصصي.
ما سبق ينبغي أن ينظر إليه في ضوء ما ذكر وهو أن الكاتب كان طالب مدرسة إعداديا.
ثمة سؤالان يراودان القارئ هما:
- لماذا لم ينشر غسان هذه القصص في حياته؟
- ولو امتد العمر بكاتبها فهل كان سيقدم على نشرها؟
هناك حالات مشابهة نعرفها لأدباء امتد بهم العمر كتبوا أعمالاً في سن مبكرة، منهم من نشرها وندم ثم تخلى عنها، مثل محمود درويش في ديوانه الأول «عصافير بلا أجنحة» ١٩٦٠، فقد كتبه وهو في السابعة عشرة ثم تجاهله لاحقاً، ومنهم عبد الرحمن منيف الذي كتب مجموعتين قصصيتين هما «الباب المفتوح» و»أسماء مستعارة» ورواية هي «أم النذور» ولم ينشرها في حياته، وإنما أقدمت زوجته، بعد وفاته، على نشرها، دون أن يحقق النشر رواجاً. قضية الاكتمال المبكر لدى الكتاب قضية طالما أثيرت. هل يولد الكاتب مكتملاً؟
نادراً ما ولد الكاتب مكتملاً، ونادراً ما كان كل كاتب مثل الشاعر الفرنسي (رامبو) الذي يشار باستمرار إلى أنه ولد مكتملاً، فكتب أشعاره في وقت مبكر من حياته، ثم توقف عن قول الشعر نهائياً. حالة (رامبو) نجدها لدى أدباء آخرين مثل مظفر النواب في «وتريات ليلية» واميل حبيبي في «سداسية الأيام الستة» و «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل».
محمود درويش غالباً ما كان يكرر أنه ولد على دفعات، ولهذا حذف ديوانه الأول وقسماً من قصائد «أوراق الزيتون» وأخذ في تسعينيات القرن ٢٠، في المقابلات التي أجريت معه، يردد أنه لو أتيحت له الفرص لتخلى عن الكثير من أشعاره.
سؤال البدايات صار يتكرر على ألسنة بعض الشخصيات الروائية كما في رواية إبراهيم نصر الله الأخيرة «مأساة كاتب القصة القصيرة» فكاتب القصة يكتب :»فإن علي أن أعترف أنني بدأت حياتي قاصاً دائرياً، أو شبه دائري».
هل كتب غسان كنفاني الشعر؟
السؤال لم يثر من قبل ونحن لا نعرف للكاتب الذي كتب مقالات نقدية حادة وساخرة في نقد الشعر، أعيد نشرها في كتاب «فارس.. فارس»، وكتب أيضاً دراستين في شعر الأرض المحتلة، نحن لا نعرف أنه كتب الشعر، ولكن «معارج الإبداع» يفاجئنا بقصيدتين من الشعر الحديث تبدوان عاديتين، ولعل غسان عرف مبكراً أنه ليس شاعراً وأنه لن يكون له مستقبل شعري.
ثمة أسئلة أخرى يمكن إثارتها ولكن المساحة محدودة.

2021-02-07

***

13- في الاستشراق والاستغراب والأيدي الخارجية وما أدراك!

لغسان كنفاني مقالة عنوانها “القدس بين 3 مصائب: الاحتلال والتأليف والترجمة!” كان نشرها في ملحق “الأنوار”، ثم أعاد محمد دكروب نشرها مع مقالات أخرى لكنفاني، في كتاب عنوانه “فارس.. فارس: غسان كنفاني” صدر عن دار الآداب في العام 1997.
يبدأ كنفاني مقالته بالسؤال التالي: هل تريد أن تعرف كيف احتل الإسرائيليون جرش في العام 1967؟ وتعقبه الأسئلة الثلاثة التالية: وهل كنت تعرف أن هناك في فلسطين بلدة أو منطقة اسمها “النجف” التي كنت تعتقد أنها في العراق؟ وهل يهمك أن تعرف شيئاً عن “جبهة الكفاح الشعبية” التي لم تسمع عنها قبلاً؟ وهل تعلم أين يقع جبل “سيون”؟
ويأتي كنفاني في مقالته على ترجمة عربية لكتاب “سقوط القدس” للمؤلف الأميركي سليمان عبد الله شليفر، ترجمة تحفل بأخطاء قاتلة وقع فيها المترجم العربي الذي ترجم “جرش” بدلاً من “أريحا” و”النجف” بدلاً من “النقب”.
ولم يقع المترجم في هذه الأخطاء التي لم يقع فيها المؤلف وحسب، فالأخير ـ في نظر كنفاني ـ يبدو أنه يعرف جيداً جداً اسم كل زقاق في القدس وفي فلسطين، بل وقع ـ أي المترجم ـ في أخطاء أخرى، وتفادياً لأي إشكال سأنقل الفقرة التالية على طولها من مقالة كنفاني لتوضيح أخطاء المترجم:
“انظروا إلى هذه العبارة التي ينقلها المترجم على لسان المؤلف الذي ينقلها بدوره على لسان أحد زعماء التيارات الصهيونية المتطرفة: “إذا كان لا حق لنا في الجليل وجرش، فأي حق لنا في حيفا وعكا؟” طبعاً إن هذه العبارة لا معنى لها وتصبح بهذه الصياغة أشبه بحزّورة أو نكتة أو على الأكثر نبوءة لأن الجليل محتل منذ العام 1948، مثل حيفا وعكا، وهما مدينتان تقعان في الجليل، أما جرش فهي لم تحتل (بعد) وتقع في الضفة الشرقية ـ إن هذه الجملة في الأصل: “إذا كان لا حق لنا في الخليل وأريحا، فأي حق لنا في حيفا وعكا” (ص171).
ويعقب كنفاني على ما سبق بعبارة دالة، قاسية وجارحة أكثر من اللازم، هي:
“ولكن ما العمل إذا كان يتوجب علينا حتى الآن أن نقرأ تاريخنا (الجيد منه والسيئ) مكتوباً بأقلام أجنبية؟ وحتى عندما تتنطح دور الترجمة والنشر لترجمة تاريخنا فإن المترجمين يثبتون أنهم أبعد بكثير عنا من المؤلفين”. (ص172).
ولا أدري بم عقّب قراء كنفاني عليه بعد قراءة الرأي السابق، وربما وجب أن نسأل أصدقاءه ممن بقوا على قيد الحياة عن الأمر، هذا إذا لم تكن هموم الدنيا قد أبقت ذاكرتهم ذاكرة وقّادة، وأنا أشك في هذا، فقد مر على استشهاد الرجل أربعون عاماً تقريباً، لم تكن أعوام هدوء وطمأنينة وسرور وفرح، قدر ما كانت أعوام بؤس وشقاء وحروب داخلية وهجرات و.. و.. و.. .
وأغلب الظن أن ما شفع للرجل ـ إن نجا من التخوين والتشهير والنعت بالاستشراق ـ أغلب الظن أن ما شفع له هو قربه من د. جورج حبش ومن الجبهة الشعبية، وعمله في “الهدف” محرراً، وكتابته روايات وقصصاً ومقالات تعزز الروح الوطنية والقومية وتحارب الاستعمار الغربي، وعلى رأسه أميركا.
ترى حين نقول نحن، الآن، ما قاله، هل كنا سننجو من إلصاق تهم عديدة بنا أقلها أننا مستغربون، وأننا مضبوعون بالغرب على رأي أحد أساتذتنا من “حزب التحرير”؟ ربما وجب أن نعود ثانية إلى رواية سحر خليفة “الميراث” (1997) لنقرأ فيها ما أوردته عن إحدى الشخصيات التي درست في ألمانيا، وما ألصقه بها معارفها، ربما!.
***
محمود درويش له قصيدة عنوانها “إلى شبه مستشرق” وردت في ديوانه “حالة حصار” (2002)، أساء، فيما أرى، د. عبد الرحيم الشيخ في إحدى مقالاته، فهمها، فنعت بها أحد الكتاب الفلسطينيين، وكأن درويش كتبها في ذلك الكاتب. وربما لم يكن عبد الرحيم الشيخ الوحيد الذي التفت إلى القصيدة ووظفها في مقالاته، فهناك آخرون ظنوا أن درويش يقصد بها بعض الفلسطينيين الذين درسوا في الغرب.
سأمعن النظر في القصيدة وسأثير حولها أسئلة عديدة: متى كتب درويش نصه؟ ومن كان يخاطب في أكثر ديوانه “حالة حصار”؟ ومن كان في ذهنه وهو يكتبها؛ (لو كان حياً لربما سألناه؟ لو؟ لكنه مات ومات المعنى المقصود لله) وماذا تقول القراءة الداخلية للنص؟ ولكن قبل هذا كله: ما هو موقف درويش من الاستشراق؟ هل وضعه كله في سلة واحدة: الاستشراق الإنكليزي والفرنسي والألماني والأميركي والروسي، أيضاً؟ ثم هل وضع المستشرقين كلهم في سلة واحدة: يمينهم ويسارهم، من تعاطف معنا ومن كان ضدنا؟
ما دام المؤلف قد مات ومات معه المعنى المحدد الذي رمى إليه، فإن عليّ ـ قارئاً ـ أن أقرأ النص قراءة فاحصة، فالمعنى ـ وفق النظريات النقدية الحديثة ـ في بطن القارئ. أليس كذلك يا دكتور عبد الله الغذامي؟!
شبه المستشرق في النص يفترض أن أنا المتكلم / محمود درويش غبي غبي غبي، وأنه لا يلعب الغولف ولا يفهم التكنولوجيا ولا يستطيع قيادة طيارة. وللأسباب السابقة فقد أخذ شبه المستشرق حياة أنا المتكلم ليصنع منها حياته الخاصة. ولو كان شبه المستشرق غيره، ولو كان أنا المتكلم، أيضاً، غيره لكانا صديقين يعترفان بحاجتهما للغباء، ويسأل أنا المتكلم في النص: “أما للغبي، كما لليهودي في “تاجر البندقية” قلب، وخبز وعينان تغرورقان؟
أغلب الظن، وفق القراءة الداخلية للنص، أن شبه المستشرق هم أبناء عمومتنا ـ أي اليهود الذين ينظرون إلى الفلسطينيين، كما ينظر المستشرق المتعالي العنصري إلى الشرقيين، كما نظر (هتلر) إلى اليهود في كتابه “كفاحي”، فقد حذر الألمانيات الآريات من اختلاط دمهن بالدم اليهودي. أليس لليهودي في “تاجر البندقية” قلب وخبز وعينان تغرورقان؟ أليس للفلسطيني الذي يحب يهودية قلب، أيضاً؟ وربما وجب أن نقرن هذه القصيدة بقصيدة الشاعر نفسه: سيناريو جاهز! ربما.
وسأنقل القصيدة كما هي علّ القارئ يبدي رأيه فيها، فيوافقني أو يعارضني فيما ذهبت إليه:
(إلى شبه مستشرق): ليكن ما تظن
لنفترض الآن، أني غبي، غبي، غبي
ولا ألعب الغولف،
لا أفهم التكنولوجيا،
ولا أستطيع قيادة طيارة!
ألهذا أخذت حياتي لتصنع منها حياتك؟
لو كنت غيرك، لو كنتُ غيري
لكنا صديقين يعترفان بحاجتنا للغباء...
أما للغبي، كما لليهودي
في “تاجر البندقية” قلب، وخبز
وعينان تغرورقان؟” (حالة حصار، ص73)
ما الذي ذكرني بمقال غسان كنفاني وقصيدة محمود درويش؟
لم أتذكر المقال والقصيدة لأنني أقول الآن ما قاله غسان، فقد أخذت أقول هذا منذ العام 1988 تقريباً ـ أي قبل أن أقرأ مقال غسان في كتاب “فارس.. فارس” (1997)، وأنا لم أقرأه في “الأنوار”، أيضاً. ولم أتذكر القصيدة لأنني أنعت بأنني شبه مستشرق، فأنا اختلفت مع مستشرقين ألمان اختلافاً كاد يؤدي إلى عدم منحي الدكتوراه، وحال دون سفري إلى ألمانيا مراراً، لأنني كنت مثل حلاق الإسكندر، فقد صرخت
صرخة تشبه صرخته: للإسكندر قرنان. لماذا تذكرت مقال كنفاني وقصيدة درويش إذاً؟
يشهد العالم العربي، الآن، ثورات كانت مطلب شعراء غاضبين كثر. مرة كتب محمود درويش: عشرون مملكة ونيف، كوليرا وطاعون ونيف. من ليس بوليساً علينا فليشرف، من ليس جاسوساً علينا فليشرف. ورأى أمل دنقل أن الجيوش التي تحاصر الثوار لا تحارب الأعداء، أما مظفر النواب فقال: هذي الأمة لا بد لها أن تتعلم درساً في التخريب.
منذ زمن ونحن غاضبون، ومنذ زمن ونحن نتحسس غضب الشعوب من حكامها الذين كانوا يتحدثون عن الأسرة الواحدة المتكافلة المتضامنة، دون أن يكون الشعب أسرة واحدة، فقد كان هناك فقر وقمع وسجون ومعتقلات، وكانت هناك فوارق طبقية مذهلة (أدنى دخل في مصر 99 جنيها شهرياً وأعلى دخل 120 ألف جنيه).
ومنذ زمن ونحن نتابع أخبار الحاكم، فنرى أنه القائد الفذ الملهم الشجاع الأب الحاني، فكل شيء باسمه؛ من الجامعة حتى المدينة الرياضية فالطبية فالمكتبة الوطنية فشركة الطيران. هل تحول الشعب إلى قطيع؟ كان الحاكم يقول: إما أنا وإما الوطن. أنا الوطن (الله ومعمر وليبيا وبس، الله وبشار وسورية وبس). والآن ما الذي يجري في ليبيا وسورية واليمن، وإلام ستؤول أحوالها (إما العروش وإما النعوش) قال محمود درويش على لسانهم، لسان الزعماء، وقال (إما الكراسي وإما المآسي).
هل تختلف مؤسساتنا كلها، بما فيها جامعاتنا، في خطابها عن خطاب الحاكم العربي؟
من المفترض أن تختلف، ولكن ما هو جارح هو ألا يختلف خطاب رؤسائها عن خطاب القذافي وآخرين، وهذا مؤسف، فالحاكم العربي وصل إلى الحكم على ظهر دبابة، ويفترض أن يكون رؤساء المؤسسات الثقافية وصلوا إلى كراسيهم بشهاداتهم، ويفترض أن تكون تجربتهم الحياتية مغايرة.
ما المدة التي أنفقها صدام حسين أو القذافي في دولة أوروبية حتى يرى عالماً آخر وعقليات أخرى؟ هل حكم بلاده بعقلية واعية أم حكمها بعقلية القرية والبادية).
بعض رؤساء مؤسساتنا الثقافية يتحدثون عن الأسرة الواحدة، لا فرق بينهم وبين الحاكم العربي، ويطلبون الولاء والتأييد والسير وراءه صفاً واحداً. كأنهم قطيع ولم يدرسوا في أميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا. وإذا ما حاول بعضهم الاختلاف، وهذا من حقهم، اتهموا بأيادٍ خارجية وجهات خارجية تحركهم. هل أقول: يا لعارنا! ربما احتاج الأمر إلى قول! ربما!.

2011-09-25

***

14- غسّان كنفاني: "فارس فارس"

.. وأنا أُتابع نتاجات كتّابنا يُراودني دائماً السؤال التالي: هل نقرأ نحن، أبناء الجيل الرابع والخامس والسادس من الكتّاب الفلسطينيين، هل نقرأ نتاجات كتّابنا السابقين لنبني عليها ثم لنطوّر فيها؟ ولا أُخصّص كتاب جنس واحد، إذ أعني أبناء مهنتي قصّاصين وروائيّين وشعراء وكتّاب مقالة، أيضاً.
وإذا كان هذا السؤال خطر ببالي، من قبل، مراراً، فإنه راودني وأنا أعيد قراءة كتاب غسّان كنفاني "فارس فارس" الصادر عن دار الآداب في بيروت في العام 1998، وهو مجموعة مقالات قدّم لها الناقد اللبناني محمد دكروب.
.. وأنا أقرأ في المقالات وجدتني أكتب رسالة (خلوية) إلى السيد رئيس التحرير أقترح عليه فيها أن يعيد نشر مقالات غسّان كنفاني وإميل حبيبي، أو أن يشتري على حسابي أو على حسابه هو ـ ليس يهم ـ نسخاً من كتاب كنفاني "فارس فارس"، ولا أدري إن كانت مقالات حبيبي طبعت في كتب ـ ليوزعها على كتّاب الأعمدة في الجريدة، علّ قسماً منهم يكتب ساخراً أو متهكّماً أو علّه يتكئ على بعد معرفي وهو يكتب مقالته. أجزم أنني متابع لا بأس به لما يكتب في الجريدة، وأكاد أقول، وأنا شبه مقتنع، إن أكثر ما ينشر يغلب عليه الجدّ والصرامة، ويبتعد ابتعاداً كلياً عن السخرية أو التهكّم، وقد يخلو، بل إنه يخلو، من أبعاد معرفية تذكّر القارئ برواية أو كتاب أو بيت شعر أو مقولة فلسفية، هل يعني هذا أن الكتّاب لا يقرأون؟ لا أريد أن أتهمهم بهذا، ولكن أقول إنهم يحلّلون ـ وأغبطهم على ما أفتقده شخصياً ـ ولا يربطون ما بين التحليل وقصص مشابهة تاريخياً، أو ما بين التحليل وما يمكن أن يكون عَبّر عنه روائي أو قاص أو شاعر أو فيلسوف أو.. أو..
هل يوجد كاتب واحد ساخر من بين كتّاب الأعمدة في "الأيام"؟ هل توجد مراجعات لكتب إلاّ ما نعثر عليه بين الفترة والفترة في "أيام الثقافة" أو في بعض "دفاتر الأيام"، كما لدى حسن خضر وفاروق وادي؟ وحتى مقالات هذين تبدو مقالات جادّة متجهّمة تخلو من الدعابة أحياناً كثيرة. وقليلون هم الكتّاب الذين يعبّرون عن نبض الشارع أو عن تجارب إنسانية مرّوا بها. هل يوجد لدينا كاتب على غرار (إدوارد سعيد) أو (روبرت فيسك) أو (أوري أفنيري)؟ إنني لأّتساءل فقط.
حقاً أين هي المقالات التي تعكس نبض الشارع ولغته وتعابيره وأمثاله. حتى أخونا أبو سريّ (علي الخليلي) الذي أنجز غير كتاب في الأدب الشعبي، حتى أخونا أبو سريّ تكاد مقالاته تخلو من الأمثال الشعبية والقصص الشعبية والحكايات الشعبية. إنه نادراً ما يوظّفها في مقالاته.
وأنا أقرأ في كتاب غسّان كنفاني "فارس فارس" سأثير هذه الأسئلة التي آمل ألاّ تكون صحيحة. ولا أدري إن كان كتّاب الأعمدة في بقية صحفنا لا يختلفون عن كتّاب "الأيام"، فأنا أقرّ بكسلي لعدم متابعة ما يكتبون باستمرار. (هل أقول لعنة الله على العمل الأكاديمي الذي يجبرني على قراءة كتب ودراسات وروايات وأشعار، وبالتالي لا يسمح لي بمتابعة كل ما يُنشر في صحفنا؟). لعلّني أظلم كتّابناّ لعلّني!

غسّان كنفاني كاتب مقالة:
لا أدري إن كنت سأًضيف، وأنا أكتب تحت هذا العنوان، جديداً إلى ما كتبه محمد دكروب في مقدمة الكتاب تحت عنوان "غسّان (فارس فارس) كنفاني في كتابته الساخرة.. الجادّة" (ص7 ـ ص25). ولقد أنهى دكروب مقدمته الطويلة بالفقرة التالية:
"يا فارس فارس ـ أيها القلم الساخر الجارح الرّائي، النّادر في سخريته وفي صدقه، الغاضب بوجه مهازل زمانك ومهزلات بعض "رجالات" قولك.. الكاشف الفاضح للمزوّرين والمزيّفين والمتاجرين بالقضية والناس ـ أين، الآن، أنت" (ص25).
ولأنني قرأت لإميل حبيبي بعض مقالاته في 70 و80 ق20، وربما في 90 ق20، ولم أقرأ له ما كان كتبه منذ 1948 حتى 1976، ولأنني لاحظت سمة السخرية تغلب على كتاباته، ولاحظت، أيضاً، اتكاءه وهو يكتب عن التراث الشعبي والتراث الأدبي العربي، فقد وجدت تقاطعاً بين أسلوب فن المقالة لدى كنفاني وحبيبي، وسيثور لديّ السؤال التالي: هل تأثّر أحدهما بالآخر؟ وهل كانت كتابات الساخرين العرب مثل الشدياق ومارون عبّود وآخرين من قراءات الاثنين؟
يبدو كنفاني في مقالاته قارئاً جيداً ومتابعاً حثيثاً لما كانت المطابع العربية في لبنان تطبعه، وقد أقرّ هو بهذه الخصلة، خصلة القراءة والمتابعة. كان قارئاً نهماً، وهذا ما لاحظه محمد دكروب وتوقف أمامه كل من عاش في 60 ق20. تلك الأيام كانت القراءة هي الوسيلة الممكنة شبه الوحيدة لتزجية الوقت. لم يكن هناك تلفاز أو شبكة عنكبوتية أو.. أو.. مما يتوفّر في زماننا الذي لم يعد الكتاب فيه خير جليس.
يبدو غسّان في مقالاته قارئاً جيداً، ولديه حسّ نقدي، ويبدو إنساناً طالعاً من بين الناس، ذا موقف ملتزم، وفوق هذا يبدو كاتباً ساخراً متهكّماً.
في مقالته "الشعر.. حين يكون قيداً غليظاً، لا لزوم له" يكتب عن شخصه قارئاً:
"إنني قارئ ممتاز ـ أعترف، فهذا هم ـ ومع ذلك فإنني أعترف، أيضاً، أنني لم أفهم شيئاً من الـ 400 صفحة التي اسمها "محاجر في الكهوف"، وكنت أفضل لو أنني قرأت عشر صفحات لها معنى، وليكن اسمها ما كان، فليس يعنيني بعد أن تكون التسمية شعراً: إن ذلك يشبه رجلاً يحمل تذكرة نفوس مزوّرة". (ص45)
ماذا سيكتب كنفاني لو قرأ ما يكتبه الآن بعض شعرائنا؟ ويمكن أن نثير السؤال معكوساً: ماذا سيقول بعض معجبيه ممن يكتبون شعراً غير مفهوم على الإطلاق؟
ويبدو غسّان، حين نقارنه بكتابات كثير من كتّابنا، يبدو ابن الشعب حقاً، ولهذا ترد الأمثال الشعبية في مقالاته بلا افتعال، وحين يكتب عن كاتب مثل (شولوخوف) صاحب "الدون الهادئ"، ينهي مقالته بالفقرة التالية:
"إن روعة هذه المجموعات من القصص هي أنها تأتي في وقت يتدفق فيه إنتاج "الموهوبين" العرب حول قضايا مماثلة تقريباً، وهو أدب أقلّ ما يمكن أن يقال فيه إنه "أدب الهوهو"، أدب فهد بلاّن "وصح يا رجال" أدب "الأويها" والـ"ولي!"، وربما كان سبب ذلك هو فقدان الموهبة أولاً، وثانياً، أن معظم كتّابنا "لا يحيون حياة الشعب، لا يتألّمون لآلام الناس ولا يفرحون لأفراحهم، لا يدخلون إلى اهتماماتهم وحاجاتهم (ولذلك) فإنه لا يخرج من بين أيديهم كتاب حقيقي يثير الانفعال في قلوب القرّاء "صح يا شولوخوف".
وأنا أقرأ مقالات غسّان لطالما تذكّرت صديقنا وأخانا أبا سريّ. حقاً لماذا لا تبرز الأمثال الشعبية في مقالاته هو دارس التراث وأول كتاب له هو المثل الشعبي الفلسطيني؟
ولا أريد أن أستطرد فأكتب عن المقالات مقالاً مقالاً. لقد أعفاني محمد دكروب من هذا، عدا أنه لا غنى لمن يريد أن يعرف غسّان كنفاني كاتب مقالة، لا غنى عن العودة إلى كتاب "فارس فارس".

غسّان كنفاني والسخرية في الأدب الفلسطيني:
وأنا أقرأ مقالات كنفاني سأتوصّل إلى الرأي التالي: على دارسي الأدب الفلسطيني أن يعيدوا النظر في مقالاتهم ودراساتهم حين يتوقفون أمام ظاهرة السخرية في الأدب الفلسطيني.
كتب عن السخرية في الأدب الفلسطيني كتّاب هم فاروق وادي وسلمى الخضراء الجيوسي وعلي الخليلي، وهناك دراسات أخرى لطلبة الدراسات العليا. ولم يأتِ أي من هؤلاء على كتابات كنفاني، ذلك أن دارسيه درسوه قاصّاً وروائيّاً ومسرحيّاً ودارساً، ولم يدرسوه كاتب مقالة، ولو فعلوا لأعادوا النظر في أحكامهم. (أنا أتساءَل: لماذا لم تبرز السخرية في نصوصه الإبداعية)؟
في التوقف أمام الكتّاب الساخرين في أدبنا يشار إلى إبراهيم طوقان وإميل حبيبي غالباً، وإلى توفيق زياد في مجموعته "حال الدنيا" وبعض قصائد محمود درويش "خطب الدكتاتور الموزونة" وبعض قصائد مريد البرغوثي. وأظنّ أن مقالات كنفاني ستفتح باب النقاش أمام هذه الظاهرة مجدّداً.

استقبال كنفاني أدبياً:
في العام الحالي (2011) صدر كتاب لباحث مغربي هو الدكتور المصطفى عمراني (جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس) عنوانه "مناهج الدراسات السردية وإشكالية التلقّي: روايات غسّان كنفاني نموذجاً اقتصر، كما هو واضح من العنوان، على تلقّي روايات كنفاني. ولا أدري إن كان هناك دارسون كتبوا عن تلقّي كنفاني كاتب قصة قصيرة أو كاتب مسرحية. أنا شخصياً أنجزت دراسة عنوانها "استقبال الأدب الفلسطيني في الألمانية" وأخرى عنوانها "الأدب الفلسطيني مترجماً إلى الألمانية" ولاحظت أن ما ترجم له هو الروايات أولاً، والقصص القصيرة ثانياً، ولم تترجم دراساته أو نصوصه المسرحية. ولاحظت أن دراسات الألمان عن أدبه تركّزت على رواياته.
وأنا أقرأ "فارس فارس" قلت: على الرغم مما كتب عن كنفاني، وهو كثير جداً لا شك، فما زال قابلاً لأن يقرأ وأن يكتب عنه، وها هي مقالاته نموذجاً. هل سيغدو كتاب "فارس فارس" ذات نهار عنوان أطروحة جامعية؟ ربما. ولكن كاتبها يجب أن يكون واسع الثقافة مثل غسّان نفسه.
أغبطه، أحسده أو أسخر من نفسي:
أحاول أن أكون كاتباً ساخراً. أحاول. وكان يمكن لخالي ـ رحمه الله ـ أن يكون مثل كنفاني أو حبيبي، أما أنا.. أما أنا..
في كتابة دكروب عن كنفاني كاتب مقالات ساخر قال: إن سخرية كنفاني فيها من خفّة الدم ما يلاحظ بسهولة، وليس كلّ من يكتب ساخراً يكون خفيف الدم. ليت لي من خالي تلك الصفة، وأعتقد أنني لا أتمتع بها. إن غدوت أنا كاتباً ساخراً، فلا يعود هذا لخفة دمي، وإنما يعود لمفارقات الحياة. الحياة هي التي تجعلني أسخر، لا جيناتي الوراثية، باستثناء جينات خالي المتوفى.
حقّاً إنني أغبط كنفاني وحبيبي كاتبي مقالة، ولا أغبط نفسي.

لو امتدّ به العمر
ماذا كان غسّان كنفاني سيكتب لو امتدّ به العمر إلى زماننا هذا؟ أغلب الظنّ أنه كان ما سوف يكون. سيكون، على الأقلّ، أتمّ رواياته الثلاث: "العاشق"، "الأعمى والأطرش" و"برقوق نيسان". وأغلب الظنّ، أيضاً، أنه سيكون واصل كتابة المقال السّاخر: السياسي والأدبي وربما الاجتماعي، أيضاً.
لا أريد أن أُثير السؤال التالي: هل كان سيستمر في عضوية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟ سأفترض أنه استمر، فماذا سيكون موقفه من رفاقه، أعضاء الجبهة الشعبية الآن؟ من المؤكد أنه سينحاز لفريق، وسيقف ضد فريق، والفريق الذي سيقف ضده سيكتب عنه وفيه مقالات أعتقد أنها ستكون ساخرة، بل وساخرة جداً.
مرّة كتبت دفتراً عنوانه "والله زمان يا سلاحي" أتيت فيه على ما آلت إليه الجبهة اجتماعياً، وقلت: يبدو أن الجبهة ذات موقف سياسي فقط، فما عادت اجتماعياً كما كانت. بعد كتابة الدفتر بأشهر سمعت أن هناك انشقاقاً حدث فيها، تحديداً في منطقة جنين، فقد تبنّى جناح منها التوجه الإسلامي، وغدا اسمه "الجبهة الشعبية الإسلامية لتحرير فلسطين". هل كان هذا دعابة؟ هل كان هذا تشويهاً أم سخرية؟
الجبهة الشعبية فصيل تنويري. أظنّ أنني في دفتري أتيت على رواية علوية صبح "مريم الحكايا" وما آل إليه الواقع اللبناني في 80 ق20. كاد الدكتور/ الحكيم يجنّ من الناس الذين يعالجهم. لم يعد الأمر كما كان في لبنان في 60 أو 70 ق20. ثمة تحوّل واضح شهدته لبنان لم يرق للدكتور اللبناني العلماني. ولأن لي أصدقاء في الجبهة الشعبية، ويحملون الفكر التنويري ويروّجون له، فقد سخرت مرة منهم، وقلت لهم: أنتم التنويريين بحاجة إلى تنوير. لماذا قلت لهم هذا؟ لأنهم لا يختلفون كثيراً عن بقية أفراد المجتمع في النظر إلى أمور شخصية. ومنهم قيادات في الجبهة الشعبية وفي غيرها. هل أنا على صواب؟ لست أدري، ولكني أظنّ أن العمر لو امتد بكنفاني لكتب كتابة ساخرة في بعض رفاقه، وفي قادة فصائل، من اليمين ومن اليسار، والله تعالى أعلم.

ماذا لو امتد به العمر؟
ماذا يقرأ رفاق غسّان كنفاني الآن؟ أغلب الظنّ أنهم لا يقرأون سوى كتابات غسّان كنفاني، هذا إذا قرأوها. ولو كان امتد به العمر وبقي على قيد الحياة فمن المؤكد أنهم لن يقرأوها، لأنهم، إذا التقوا به، فسيصغون إليه يتحدث عنها.
هل أُبالغ في اتهامي لهم؟ هل أنا حاقد عليهم؟ قد أقول بقدر من الاطمئنان: لا.أنا لا أُبالغ في اتهامي لهم، ولست بحاقدٍ عليهم، فلي من بينهم أصدقاء يحترمونني وأحترمهم، وفي تموز، من كل عام، حين يطلبون مني أن أشارك في ندوة عن غسّان، أو أن أكتب مقالة في ذكرى استشهاده، لا أتردّد، ولا أتباطأ. ولا أُبالغ إذا قلت إنهم يُدافعون عني، حين لا أطلب منهم أن يُدافعوا عني.
الآن، رفاق غسّان، لا يقرأون، إن قرأوا، إلاّ لغسّان. ولا يذهبون لندوة، إن ذهبوا، إلاّ إذا كان غسّان موضوعها، ولم أدخل بيوتهم لأرى إن كانت فيها مكتبة صغرى، فأنظر في كتبها. وأغلب الظنّ، إن وجدت المكتبة، فهي تضمّ كتب غسّان. (يا لي من حاقد. كيف ذهبت إلى أنني لست حاقداً؟ كيف وأكتب كلاماً مثل ما سيق).
كان رفاق الجبهة الشعبية في 70 و80 ق20 قرّاء ومثقفين. كانوا يقرأون الأدبيات التقدمية، روايات وقصصاً وأشعاراً وكتب فكر. كأنهم كانوا امتداداً لجيل غسّان، جيل 60 ق20، الجيل الذي شهد له محمد دكروب للبحث، التحليل والكتابة، لغزارة القراءة، ومقالات غسّان: "فارس فارس"، خير دليل على هذا. أين نجد الآن كاتب مقالات على شاكلة غسّان، على الأقل في أدبنا الفلسطيني. (مؤخراً كتب د. فيصل درّاج مقالة عنوانها: لماذا لم يعد الأدب الفلسطيني كما كان، وفيها يعزّز ما أذهب إليه، وكنت في أيار قلت ما كتبه في ندوة في بلدية البيرة مع د. سلمى الخضراء الجيوسي، أمام كتّاب ومثقفين. هل راقَ لهم كلامي، أم اتهموني بالغرور؟).
حقاً ماذا لو امتد بغسّان العمر، ورأى أحوال رفاقه ثقافياً؟ من المؤكد أنه سيكتب مقالاً ساخراً باسمه الشخصي، لا باسم "فارس فارس".

2011-07-10

***

15- هل أنا دوف... هل أنا سعد؟ كل عيد وأنت بخير يا غسان كنفاني!

تبرز روايتا غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" و"أم سعد" نموذجاً/ نمطاً للفلسطيني الذي عاش نكبة 1948.
سعيد . س وأبو سعد، وهما امتداد لأبي قيس، وربما لأبي الخيزران، أيضاً، في رواية "رجال في الشمس" (1963): جيل الآباء، جيل النكبة الذي حارب وانهزم "أبو الخيزران" والذي انهزم وصمت: أبو قيس وسعيد . س وأبو سعد.
ولئن أتت "رجال في الشمس" على جيل ثانٍ ولد قبل النكبة بقليل "أسعد" و"مروان" ولم يكن هذا الجيل بمختلف عن جيل الآباء، فإن "ما تبقى لكم" (1966) تبرز نماذج مختلفة إلى حد ما.
والد حامد يستشهد في حرب 1948، وزكريا وحامد يبدآن فعل المقاومة، فيما يخون زكريا.
وسيكون حامد الخميرة لما سيقوم به خالد في "عائد إلى حيفا" وسعد في "أم سعد"، فيم سيتجسّد زكريا في خلدون/ دوف في "عائد إلى حيفا".
خلدون/ دوف هو الفلسطيني الذي تربّى في أحضان بيت صهيوني.
إن كان للرواية أبعاد رمزية، فدوف هو فلسطين وقد هُوّدت، أو بعض من تبقّى في فلسطين، بعد أن غدت إسرائيل، وأسرل ـ أي غدا إسرائيلياً هُويّة ومعتقداً.
وسعد هو اللاجئ الفلسطيني الذي ولد في الخيمة، وتربّى في المخيم المحاصر في لبنان، ورأى الهزيمة في حزيران 1967 تتويجاً للحصار العربي للاجئ الفلسطيني، فلما ذهلت الأنظمة وجد سعد نفسه يخرج من الزنزانة / السجن ويتمرد على واقعة ويثور آملاً في أن يجسد حلم العودة، لا اعتماداً على هذا النظام العربي أو ذاك، كما كان حال سعيد . س وأبو سعد، وإنما اعتماداً على نفسه.
أدت نكبة 1948 إلى تدمير الشعب الفلسطيني وقلب حياته رأساً على قدم، فيم أنجزت الحركة الصهيونية مشروعها وأقامت دولتها، وحققت بعض ما حلمت به وحلم به مؤسسها: (ثيودور هرتسل)، فشقت الطرق وأقامت المباني والمشافي والجامعات، وتحسنت أحوال البلاد والعباد إلى درجة ما، ما جعل دولة إسرائيل تفاخر بما حلم به مؤسس مشروعها الصهيوني صاحب رواية "أرض قديمة ـ جديدة" (1902). كأنها ـ أي دولة إسرائيل ـ قالت : هل ما حلم به (هرتسل) خرافة؟ ها نحن جففنا المستنقعات وأحيينا الموات وجعلنا فلسطين/ إسرائيل جزءاً من الغرب، بعد أن كانت جزءاً من الشرق. هل كانت الرواية الصهيونية على صواب؟
سأنجز صيف هذا العام دراسة لمؤتمر صراع الخطابات: الخطاب السياسي الذي سيعقد نهاية تشرين الثاني في جامعة قفصة، وسأركّز على ثلاثة خطابات في الأدب الفلسطيني ترد على الخطاب الأدبي الصهيوني. سأتخذ من رواية (هرتسل) مرجعاً لتبيان الخطاب الصهيوني، ومن رواية كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969) ورواية حبيبي "المتشائل" (1974) وقصيدة درويش "طللية البروة" (2007) مرجعاً لتبيان الخطاب الأدبي الفلسطيني في رده على الخطاب الصهيوني.
وسأعطي في 13/9/2013، في المركز الثقافي الروسي، محاضرة عن صراع الخطابات، وستثير محاضرتي أسئلة عديدة، فقد انقسم الجمهور إلى مؤيد لما يرد في الخطاب الصهيوني حول ما فعلته الحركة الصهيونية في فلسطين ـ وأبدى المؤيدون إعجابهم بإنجازات الدولة العبرية ـ وإلى معارض له ـ أي للخطاب الصهيوني وقد أيد هؤلاء ما ورد في خطاب كنفاني وحبيبي ودرويش. فكيف كان رد الثلاثة في خطابهم الأدبي على الخطاب الصهيوني؟
كنفاني الذي أبدت صفية زوجة سعيد . س إعجابها بما رأته حين زارت حيفا في 1967، كنفاني من وراء بطله سعيد. س قال: كان بإمكاننا أن نجعلها أحسن بكثير، وأن ما يتبجّح به قادة الصهيونية مبالغ فيه، فمن عرف حيفا ويافا، قبل 1948، جيداً لم ينبهر كثيراً بما رأى.
وحبيبي في متشائله جعل بطله سعيد يكتشف الحقيقة. كان يعقوب اليهودي ومثله المسؤول عنه يتعاليان على سعيد العربي ويعيرانه بأن العرب أبناء الصحراء ولا يعرفون إلاّ الهدم والتخريب، فيم اليهود أحيوا الموات وأماتوا الحيات ـ يعني الأفاعي، وحافظوا على التربة وزرعوا الأراضي الجافة، أما العرب فقد أبقوا على أراضيهم كما هي: صحراء جرداء لا رواء فيها وسيكتشف سعيد ذات مرة، بالصدفة، أن أهالي القرى العربية هم من زرعوا ويزرعون أراضي الكيبوتس، وأن أهل الأخير لا يستغنون عن الأيادي العربية، فإذا ما حاصرت القوات الصهيونية قرية ما هب سكان الكيبوتس يتوسطون للعرب حتى يعودوا إلى أعمالهم.
هكذا زرع العرب الباقون في فلسطين الأراضي وعبّدوا الطرق بعد أن شقّوها، وبالتالي فإن ما تزعمه الحركة الصهيونية من إنجاز هو في الحقيقة إنجاز الأيدي العربية.
درويش في "طللية البروة" له رأي مختلف راق لي كثيراً، يزور الشاعر بعد 1996 بلاده ويذهب إلى البروة ليقف على أطلالها، ويكون بصحبته صحافي ومصور، فيسأله أحدهما عن رأيه فيما يرى: مصانع ألبان حديثة أقيمت، وطرق حديثة عبّدت، ويكون رد درويش: لقد سرقوا أغنية طفولتي، وأنا لا أرى هذا كله.
أنا أرى بيتي وشباك غرفتي والغزالة. أعيدوا إليّ أغنيتي.
درويش يريد أن يقول: كان يمكن أن نحيا كما كنا نحيا، دون جبنة صفراء ولبن إسرائيلي وخبز إسرائيلي.
لقد سرقوا منا الطفولة وأغانيها وشرّدونا، فماذا تجدي ألبانهم وشوارعهم؟
انبهار صفية زوجة سعيد . س بما رأت، وانبهار الصحافي في قصيدة درويش ما زال يجد صدى له، بل ما زال كثيرون منا يقولون به.
ويستطيع المرء أن يتأكد من هذا حين يسأل الجيل الجديد من الشباب، بل ومن المتعلمين حملة الدكتوراه الذين يزورون فلسطين، بل ومن التجار والعمال، أيضاً.
وغالباً ما يعقد هؤلاء مقارنات بين ما رأوه وما نحن عليه، فيسخرون منا، ولا تحضر في أذهانهم، حين يقارنون، ما آل إليه سكان المخيمات في لبنان وسورية، ومن قبل في الضفة وفي الأردن، بسبب قيام دولة إسرائيل.
هكذا يكونون مثل مترجم رواية (هرتسل) إلى العربية، ومثل ناشرها اللذين زيّناها بصور لفلسطين قبل العام 1948، وصور لها في العام 1966، ونسيا أن يزيّناها بصور للمخيمات الفلسطينية ما بين 1948 و1958 ـ الخيام ـ.
مؤخراً قرأت فقرة لمثقف عربي من فلسطين يبدي إعجابه بترجمات اليهود إلى لغتهم، ويقارن هذا بما يترجم إلى العربية. هل تذكرت (دوف) في رواية كنفاني؟ أعتقد أن إسرائيل نجحت في أسرلة ـ صهينة ـ بعضنا من حيث يدرون أو من حيث لا يدرون!!
هل أنا (دوف)؟ هل أنا سعد كل عام وأنت يا غسان كنفاني بخير.

***

16- في ذكرى غسان كنفاني: غسان وحضوره في الروايتين الفلسطينية والعربية

مرّة أثار قارئ أدب غسان كنفاني السؤال التالي: من يكمل روايات غسان كنفاني غير المكتملة؟
ومرّة قرأنا خبراً عن الروائي الإسرائيلي سامي ميخائيل وإحدى رواياته التي عدّت متمّمة لإحدى روايات كنفاني. (سامي ميخائيل يلبي نداءنا، الأيام، 24/4/2006).
في ذكرى كنفاني، الغائب الحاضر، يراود المرء السؤال التالي: ما مدى حضوره في الرواية الفلسطينية والعربية؟
من خلال متابعتي للأدبيات الفلسطينية والعربية تكونت لديَّ قناعة أن أكثر ثلاثة أدباء فلسطينيين كان لهم حضور في النصوص الأدبية هم كنفاني ودرويش وحبيبي؟ ومن خلال تدريسي وحواراتي مع القراء ألاحظ أن الأولين، كنفاني ودرويش، هما الأكثر قراءة.
قبل وفاة محمود درويش بأشهر اتصلت بي دارسة فلسطينية من اللّد تسألني عن الشاعر الذي كان موضع رسالة تعدها لجامعة إسرائيلية، عنوان الرسالة: تأثير درويش في الوعي الشعبي الفلسطيني. وفي العام 2011 زرت (فاس) المغربية لأشارك في مؤتمر عن علاقة الأدب العربي بالآداب العالمية: التأثر والتأثير، وأهداني الدكتور المصطفى عمراني رسالته: "مناهج الدراسات السردية وإشكالية التلقّي: روايات غسان كنفاني نموذجاً" (2011)، وفيها يدرس دراسات دارسي كنفاني، أكثرهم، فثمة دراسات مهمة جداً لم يأت عليها، وحين قلت له عنها، أخبرني أنه لم يستطع الحصول عليها، فلم يكن ثمة من يتعاون معه من أجل توفيرها.
في النصوص الروائية الفلسطينية حضرت روايات محددة لكنفاني دون غيرها وأهمها: "رجال في الشمس" (1963) و"عائد إلى حيفا" (1969). حضرت هذه كما لم تحضر أية رواية لغسان، أو أية مسرحية أو أية قصة قصيرة.
الخزان وما يرمز إليه، والسؤال: لماذا لم يدقوا جدران الخزان، والمقارنة بين نهاية الرواية ونهاية فيلم "المخدوعون" لتوفيق صالح، وتعريف الوطن ومأساة (دوف): الإنسان قضية أم أنه من لحم ودم؟
في رواية أحمد حرب "الجانب الآخر لأرض الميعاد" (1990) حضر أبو قيس وحضر الخزان وحضر السؤال، بل إن الرواية كلها حضرت لتعد مسرحية تمثل، فهي تتشابه مع ما يجري. يوم صدرت الرواية كانت انتفاضة 1987 في ذروتها، وكان الفلسطينيون يدقون الجدران. وتساءل المثقف/ الكاتب عن نهاية الرواية التي رأى فيها نهاية محبطة (ص137، ص138).
ولم تختلف رواية زياد عبد الفتاح "ما علينا" (2004) كثيراً عن رواية حرب، فلقد كان حضور كنفاني فيها لافتاً، وستحضر فيها شخصية أبو الخيزران بدلالاتها الرمزية. في الدول العربية يسرقون مال إحدى الشخصيات وأغراضها، فيتذكر أبا الخيزران الذي سرق الساعات.. "وربما الخواتم والنقود من الموتى، في رواية كنفاني" (ص121 من طبعة دار الهلال).
في رواية عاطف أبو سيف "حياة معلقة" (2014) يحلم أحد الفلسطينيين بأنه "سيكون أشطر من غسان كنفاني لو كتب رواية" ص65، ويرى أن الأبناء "يعيدون سيرة الآباء، وكأن ثمة شيئاً في التاريخ لا يمضي" (ص27) كأنه يريد أن يعيد سيرة غسان، ويتحدث عن الحلم الجماعي والحلم الفردي، وهذا مغزى رواية "رجال في الشمس"، فلقد قتل غسان أبطاله لأنهم بحثوا عن حلول فردية، لا عن حلول جماعية. وكما كان غسان يربط بين أحداث جرت في أزمنة مختلفة، في رواية "ما تبقى لكم" (1966)، فقد امتازت رواية أبو سيف بهذا.
هل رأى إلياس خوري الكاتب اللبناني نفسه وريث غسان كنفاني؟ وهل أراد أن يُكمل ما لم يُكمله غسان؟
الإجابة عن السؤال السابق نعثر عليها في رواية "باب الشمس" (1998) في (ص43)، إذ كان يفترض في غسان أن يكتب رواية يونس وقصته، ولكنه لم يفعل لأسباب، مع أن د. جورج حبش كان أرسل غسان إلى يونس ليصغي منه إلى قصته. دوّن غسان حكاية يونس ولم يكتبها، وهناك أسباب فيها أن حكاية يونس لم تكن اكتملت لتصبح ذات دلالة رمزية، ومنها أن "الموساد" اغتال غسان في 1972، وربما يكون عزم على كتابة القصة، كما فعل في روايات أخرى، ولكن استشهاده حال دون الكتابة. وما لم يكتبه غسان كتبه إلياس.
في روايتي إلياس "باب الشمس" و"أولاد الغيتو" ما يذكّر بقوة بروايتي غسان "رجال في الشمس" و"عائد إلى حيفا"، وبشكل أقل بالرواية غير المكتملة "الأعمى والأطرش".
الأسئلة إياها: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ والنهاية ما بين الرواية والفيلم الذي أنتجه وأخرجه توفيق صالح "المخدوعون"، والدلالة الرمزية للرواية. وقصة (دوف) الذي غدا إسرائيلياً، بعد أن تركه أبواه سعيد. س وصفية في سريره في حيفا في 1948.
إن حكاية بطل رواية "أولاد الغيتو" تستحضر حكاية خلدون (دوف)، وهناك ما هو أكثر من هذا: "هل صحيح يا أبي إنهم صنعوا بلداً أوروبياً؟" (ص371، وهذا ما ورد على لسان صفية تقريباً في "عائد إلى حيفا".
وموت وضاح اليمن في الصندوق، في الرواية التي أراد آدم أن يكتبها، لا تختلف عن موت أبطال كنفاني في الخزان.
غسان كنفاني الذي استشهد في 8/7/1972، ما زال حاضراً، وبقوة، في أذهان القراء، وفي نصوص الروائيين أيضاً!!

2016-07-03

***

17- سامي ميخائيل يلبي نداءنا

قبل عامين تقريباً دعا احد المهتمين بنتاج الأديب غسان كنفاني كتابنا الى ان يتمموا روايات غسان الناقصة -أي الروايات التي استشهد صاحبها قبل ان يتمها، وقد نشرتها لجنة تخليد آثار الشهيد. وهي روايات >العاشق< و >برقوق نيسان< و >الاعمى والاطرش<. ولا ادري ان كان احد ادبائنا يعكف، الآن، على اتمامها، وإن كنت اعرف ان اعمال غسان قرئت قراءات عديدة يفوق حجمها - اي القراءات- حجم الروايات، ربما ثلاثين مرة. وأعرف ايضاً ان بعض نتاجه اوحى لأدباء فلسطينيين بكتابة روايات، اعتمد اصحابها، في بنائها، على نصوصه، من ذلك مثلاً أفنان القاسم في روايته >النقيض< التي شكل كتاب غسان >في الادب الصهيوني< مادة رئيسة من موادها.
سامي ميخائيل الاديب الاسرائيلي، واليهودي القادم في العام 1949 من العراق، يستجيب للنداء ويلبيه - ولا ادري إن كان قرأه على صفحات صحفنا، بخاصة نشرات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - واستجاب بوعي له. فهو يكتب رواية >حمائم في الطرف الاغر< استناداً الى رواية >عائد الى حيفا<، لا الى الروايات الثلاث غير الكاملة. وفي مقابلة اجرتها معه (داليا كاربل) ظهرت في الملحق الاسبوعي الاخير لصحيفة >هآرتس< (15/4/2005)، ونشرت الايام اجزاء منها، منقولة الى العربية، (19/4/2005) يقول سامي ميخائيل: >اشبه الولد المتروك في >عائد الى حيفا<، وقد اختار المشرفون على صفحات المشهد الاسرائيلي هذه العبارة عنواناً للمقابلة.
والولد المتروك في >عائد الى حيفا<، كما يعرف قراؤها، هو خلدون الذي غدا (دوف)، وقد تركه والداه العربيان، في غمرة حرب العام 1948، في السرير، وربته امرأة يهودية هي (ميريام كوشين) ليغدو صهيونياً. ولا يعرف ان والديه عربيان الا في فترة متأخرة، وحين يزوره هذان، بعد هزيمة العام 1967، يرفض العودة اليهما، ويؤثر المربية على الام.
والقصة اشبه بقصة سيدنا سليمان مع الام والمربية، وأشبه بمسرحية (برتولد بريخت) دائرة الطباشير القوقازية.
ولكن ما هو وجه الشبه بين سامي ميخائيل وخلدون (دوف)؟ هل تركه والداه اليهوديان لتتبناه امرأة عربية مسلمة او مسيحية، يؤثرها على امه الحقيقية؟
وجد سامي ميخائيل نفسه في العام 1949 في دولة اسرائيل، بعد ان غادر بغداد، وغدا موزعاً بين مدينتين بغداد وحيفا، وغدا يهودياً اسرائيلياً، بعد ان كان يهودياً عربياً. مثله مثل (دوف).وعشق حيفا التي قال عنها، عندما رآها من الجو: >سعيد من يسكن هذه المدينة< ولم يقرر، فيما بعد، التنازل عنها، والعودة الى العراق. هذا اذا سمح له بالعودة، واذا استطاع الاندماج هناك، بعد ان تعوّد، في دولة اسرائيل على نمط حياة جديد.
طبعاً يمكن ان يناقش المرء عبارات كثيرة وردت على لسان سامي ميخائيل، منها انه، وهو يقرأ رواية كنفاني، لاحظ ان القصة تخلو من المودة من جانب الاب نحو ابنه. وهذا لم يعجبه. ومن المؤكد ان الاب وابنه يشكلان عالمين متناقضين، لا يمكن ان تكون بينهما مودة، عدا ان الاب ترك ابنه صغيرا، ولم يكونا عاشا معا فترة طويلة، حتى تخلق المودة بينهما.
وما يمكن ان يختلف المرء فيه مع (ميخائيل) قوله انه يختلف مع كنفاني، لأن هذا يرى نفسه الطرف المتضرر الوحيد في الصراع. وربما يرى (ميخائيل) انه طرف متضرر ايضا، بسبب ما آل اليه يهود العراق في فلسطين. ولا اريد ان انفي شيئاً من هذا، ولكن اذا ما قيس ضرر اي طرف من اطراف الصراع العربي- الاسرائيلي، فهل ثمة تقارب بين ضرر اي طرف والضرر الذي لحق بأهل فلسطين من سكانها الاصليين؟
وأنا اقرأ المقابلة تذكرت رواية الياس خوري >باب الشمس<، وما ورد فيها، اعتماداً على كتاب (آمنون كابليوك)، من ان بين ضحايا صبرا وشاتيلا تسع نساء يهوديات. وتذكرت ما كتب بهذا الخصوص: يبدو ان الاسرائيليين استكثروا على الفلسطينيين ان يكونوا ضحية، فجاؤوا ليشاركوهم في هذا، وليسلبوا منهم دور الضحية، وربما لم اقل، كل ما اردت قوله في هذه المقالة.

2005-04-24

***

18- قراءة غسان كنفاني في فلسطين المحتلة

ولد غسان كنفاني في التاسع من نيسان ١٩٣٦ - أي قبل ٨٦ عاما، وبدأ النشر في منتصف ٥٠ القرن ٢٠ وصدرت أولى كتبه في ١٩٦١، ولم يعرفه جيلي في فلسطين إلا في العام ١٩٧٦، وإن كان هناك من قرأ له بعض رواياته وقصصه قبل ١٩٦٧ ، فقد عقب أحد قراء منشوراتي في الفيس بوك أنه قرأ روايته "رجال في الشمس" في منتصف ٦٠ القرن ٢٠، ولست متأكدا إن كان قريء، قبل ١٩٦٧، في فلسطين المحتلة في ١٩٤٨، ولكن من المؤكد أن صحافة الحزب الشيوعي هناك كتبت عنه أو أشارت إليه بعد هزيمة حزيران، فقد ذكر وليد سيف في سيرته "الشاهد المشهود" (٢٠١٦ / ص ٢٥١) أنه زار أدباء الأرض المحتلة هناك والتقى بهم وتحدث معهم وأتوا على ذكر غسان الذي أصدر كتابين عن أدبهم، فلم ترق لدرويش المنتمي في حينه للحزب الشيوعي قراءة غسان ذي التوجه القومي، وبالعودة إلى فهرس مجلة "الجديد" فلم يظهر اسمه إلا مرتين، والسؤال هو:
- متى بدأت إعادة طباعة بعض أعماله في فلسطين ليقرأ على نطاق واسع ويعرف من جمهور القراء، فيكتشف ويؤثر في نتاجات أجيال من الكتاب؟
بالعودة إلى تاريخ إعادة إصدار دار صلاح الدين في القدس ودار الأسوار في عكا بعض أعماله فإن العامين ١٩٧٦و١٩٧٧ وما تلاهما حتى ١٩٨١ هي الأعوام التي عرفت جمهور قراء فلسطين التاريخية به، وإن كان قريء من بعض قراء فإنهم قلة قليلة جدا مقارنة بقرائه بعد إعادة نشر نتاجه.
ماذا على مستوى شخصي؟ متى قرأت أعماله أول مرة؟
لا أظن أنني قرأت منها قبل ١٩٧٦ أي نص ، والطريف أنني في زيارتي دمشق في ١٩٧٥ اشتريت ثلاث روايات للطيب صالح وقرأتها قبل أن أقرأ له ، فما السبب؟
أغلب الظن أن أساتذة الأدب الحديث في الجامعة الأردنية الذين درسونا قصيدة درويش لم يذكروا كنفاني، وإن ذكروه فلم يركزوا على اسمه، وقد يكون ذلك لانتمائه إلى الجبهة الشعبية التي كانت علاقتها مع الأردن بعد أيلول ١٩٧٠ على درجة عالية من السوء ، وكانت ملاحقة وممنوعة ، وكذلك كانت منشورات أعضائها أيضا، فلم تعرض في مكتبات بيع الكتب، وإن توفر نسخ منها في الجامعة الأردنية - الجامعة الوحيدة في حينه - فقد حجبت ووضعت في "الغرفة السوداء" التي لا يسمح لأحد بدخولها إلا بإذن خاص من أستاذ ولأغراض البحث، وقد سمح لي بذلك في ١٩٨١ وأنا أدرس في مرحلة الماجستير .
كانت أواخر العام ١٩٧٦ إذن هي بداية قراءاتي لأعمال كنفاني ، ولم أكتف بذلك ، فقد أخذت أعممها على طلاب المدارس التي درست فيها كنشاط غير منهجي ، فقرأها هؤلاء وتأثر قسم منهم بغسان وأفكاره وصاروا لاحقا رفاقا في ج .ش .
وأنا أدرس في مدارس غوث اللاجئين في ١٩٧٨ اخترت لمسابقة الإلقاء رثاء درويش لغسان "غزال يبشر بزلزال " فعرفه الطلاب، وصاروا يقرأون أعماله الروائية والقصصية . وفي الفترة نفسها مسرح رياض مصاروة، في المسرح البلدي في الناصرة، رواية "رجال في الشمس"، فعرف بها جمهورا كبيرا.
ويلحظ الدارس أن أعماله لم تقرأ وتعرض على المسرح وحسب، بل تركت أثرا واضحا على نتاجات بعض الكتاب، ويمكن هنا أن أشير إلى شواهد دامغة
- في العام ١٩٧٩ استضافني أنا والكاتب محمد أيوب المثقف محمد البطراوي وأتينا على رواية "رجال في الشمس" فاخبرنا أنه التقى مع غسان في الكويت وأنه هو من قص عليه قصة الشخوص الثلاثة.
- وأنا أنجز رسالة الماجستير بين ١٩٨٠و١٩٨٢ كنت أبحث في الصحف المحلية عن القصص القصيرة المنشورة، فقرأت في جريدة "القدس" في ٧ / ١ / ١٩٧٩ قصة قصيرة لمحفوظ محمد الكركي عنوانها "ومات سعيد" وحدثها مطابق تماما للحدث الرئيس لرواية "رجال في الشمس" وقد ذهبت في كتابتي عنها أنها تلخيص رديء لرواية كنفاني المذكورة.
- في العام ١٩٨٢ درست كتاب وداد القاضي "مختارات من النثر العربي" واخترت منه قصة "زمن الاشتباك: الصغير يذهب إلى المخيم" فقرأها مئات الطلبة وأغلب الظن أنها شجعت قسما منهم لقراءة رواياته وقصصه ، وفي مساق الأدب الفلسطيني درست لسنوات طويلة روايتي "رحال في الشمس" و"ما تبقى لكم" واعتمدت على كتاب رضوى عاشور "الطريق إلى الخيمة الأخرى : دراسة في أدب غسان كنفاني "وكتاب فاروق وادي" ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية.
- في العام ١٩٨٥ أصدر إميل حبيبي رواية "اخطية" وقال في مقابلات لاحقة إنه تتبع خطى سعيد . س في رواية كنفاني "عائد إلى حيفا" فاكتشف فيها خطأ معرفيا، وتساءل كيف يكتب غسان عن حيفا ولم يقم فيها، وأن الكتابة عنها يجب أن تصدر عنه هو... إلخ.
- في العام ١٩٩٠ أصدر أحمد حرب روايته "الجانب الآخر لأرض المعاد" وكان لشخصية "أبو قيس" ، وهو شخصية رئيسة من شخصيات " رجال في الشمس " حضور لافت فيها.
- في العام ١٩٨٧ صدر كتابي "دراسات نقدية" وفيه دراسة "الأرض في أدب كنفاني" (ص ٣ إلى ٩) ، وقد اعتمدت في كتابتها على ما صدر من أعمال غسان عن منشورات صلاح الدين ودار الأسوار .
ولعل ما سبق يعطي صورة لا بأس بها عن قراءة كنفاني في فلسطين التاريخية.

٤ نيسان ٢٠٢٢

***

19- في ذكرى ميلاد راوية المخيم أحمد دحبور: العودة إلى رثاء غسان كنفاني

في ٢٠ نيسان ١٩٤٦ ولد أحمد دحبور في حيفا، والمدهش أنه توفي في الثامن من الشهر نفسه. كنا نتوقف أمام ولادة غسان كنفاني في العام ١٩٣٦ وتصيبنا الدهشة حين نعرف أنه استشهد عن ٣٦ عاما أيضا. والمدهش هذه المرة أيضا أن الشاعر الذي نشأ في مخيمات اللجوء وآثر أن يكون في باكورة شعره راوية المخيم، فكتب:
19- في ذكرى ميلاد راوية المخيم أحمد دحبور: العودة إلى رثاء غسان كنفاني
" اسمع - أبيت اللعن - راوية المخيم /افتح له عينيك وافهم:/ هذي الصفائح والخرائب والبيوت/ فيها كبرت/ بها كبرت /وفوضتني عن جهنم"
المدهش أن ما نطق به جسده على أرض الواقع، أيضا في نيسان ٢٠٠٢ ونيسان ٢٠٢٢، أبناء مخيم جنين.
وأنا أفكر في الكتابة عن الذكرى الخامسة لرحيل أحمد انشغلت بالكتابة عن قراءة كنفاني في فلسطين التاريخية، مؤجلا الكتابة عن الرحيل إلى الكتابة عن الميلاد؛ ميلاد غسان وميلاد أحمد الذي ارتضى لنفسه منذ استشهد الأول أن يواصل رحلته في الكتابة كدليل ومحرض على بؤس واقع اللجوء ومواصلة رحلة الفلسطيني في ضرورة العودة إلى الوطن مهما كانت التضحيات، وهذا دفعني إلى إعادة قراءة قصيدتيه في غسان وهما "الدليل" و"إنهم يقتلون حميدو"، وقد كنت أتيت عليهما العام الماضي في مقالي "نيسان وبرقوقه وأدباء المقاومة"(١١ نيسان ٢٠٢١).
كتب أحمد قصيدته "الدليل" في تموز ١٩٧٢ عام استشهاد غسان، ولا أعدها شخصيا قصيدة رثاء مع أنه أهداها "إلى دم غسان كنفاني.. الدليل والمحرض"، فليس فيها من سمات قصائد الرثاء المتوارثة أية سمة، فلم يعدد فيها مناقب المرثي وصفاته، وإنما كتب فيها عن الأطراف التي تقتل الفلسطيني أو تسهم في قتله:
"يكون لكم من الغازين أعداء ومن امرائكم أعداء
يكون لكم من الصحراء رمل يهلك الأحشاء
وحنجرة مطهمة مروضة بدينار
يكون لكم دم في الماء"
ولا يضع ثقته إلا بالفقراء، فالأمراء ومن ركب المطايا الذين ناشدهم وافتخر بهم الشاعر القديم "ألستم خير من ركب المطايا؟" لا يصل منهم سوى الصدى، بل إنهم حين حارب الفلسطيني تدخلوا طالبين منه التوقف، وكانت النتيجة أن استدار الأعداء نحو الفلسطينيين "ورموا بنا في الماء". لقد صار حال الفلسطيني حال سيف الدولة يحيط به الأعداء من كل جانب، وليس تصدير الشاعر قصيدته بقول المتنبي عبثا "وسوى الروم خلف ظهرك روم، فعلى أي جانبيك تميل".
تظهر قصيدة "إنهم يقتلون حميدو" (٨ / ٧ / ١٩٨٠) صورة لغسان أكثر مما تبرزه الأولى. وعلى الرغم من مرور ٨ سنوات على استشهاده فلم يجف حبره ولم تستقر شظاياه على الأرض وما زال صوت الانفجار يفضي إلى النبض حتى ليقتبس الرعد مما يفيض به القلب. القصيدة المخصصة للكتابة عن حميدو الفقير اللاجيء الذي كانت جدته تحدثه طفلا عن فلسطين أحب بلاده وحين كبر اختار فلسطين والبندقية فقتل، ولكن من قتله؟ ولماذا؟
"لا الصهاينة المجرمون / ولا شركات الأذى/ إنهم أهله الأقربون.. / فلماذا يموت الفدائي؟ / ولماذا يراق دمه على غير حيفا؟ كيف نشهد هذي العجائب كيفا؟".
القصيدة المخصصة لحميدو تظهر صورة لغسان الذي يقص قصة حميدو ويقول إن هناك عربا يتاجرون بالدم الفلسطيني وإن فلسطين في فواتيرهم ليست البندقية، فما هي صورة غسان؟
يحب الدعابة ويجيد الكتابة ويضحك حتى حدود الفضيحة ويفتك بالمازحين ولا يغضبون ويقارن بين الذبيحة والصيد، ويرى أننا نحن الذبيحة والصيد والصيادون وإلا فكيف يقتلون حميدو؟ ولم يرو هذا لأحمد أحد، فقد كانت للأخير مع غسان قصة عن غرابة إحدى لياليه لخصها فيما سبق.
كان أحمد في بداياته الشعرية لا يثق إلا بالفقراء، وكان يعول عليهم فقط، فقد رأى في الحكام متاجرين بالقضية، ولم ينعكس هذا في قصيدتيه في رثاء غسان وحسب، وهو هنا عموما يتطابق وغسان وهو ما جسده في روايته "أم سعد" (١٩٦٩) وفي رؤيته لثورة ١٩٣٦. لقد برز أيضا في أشعار أحمد الأولى التي كتبها في ٦٠ و٧٠ ق ٢٠، ويمكن هنا العودة إلى قصيدته "العودة إلى كربلاء" (أيلول ١٩٧١) والاقتباس منها للتدليل على ذلك، بل ويمكن أيضا العودة إلى ما كتبه في مقدمة أعماله الشعرية الكاملة (١٩٨٣).
في "العودة إلى كربلاء" يكتب:
"يا كربلاء الذبح والفرح المبيت والمخيم والمحبة _ كل الوجوه تكشفت كل الوجوه / ورأيت: كان السيف في كفي، / وكنت لنظرة الفقراء كعبه / ورأيت من باعوك، / باعونا معا"
وعن فقره في المخيم يكتب:
"كنا في ثكنة خالد بن الوليد - مخيم اللاجئين الفلسطينيين في حمص - نعاني فقرا إضافيا، ربما يتميز عن فقر جيراننا في المخيم، فالأخ الكبير، جمل المحامل أو عمود البيت ، بين السجن أو المنفى بسبب أفكاره السياسية، والأب الذي يغسل الموتى ويسحر في رمضان ويقرأ على القبور، لا يجد في بطالته المقنعة هذه، ما يكسب به قوتنا الكافي... (ص ٢١ من ا.ك).
في الوقت الذي كنت أقرأ فيه أشعار الشاعر كنت أتابع ما يجري في مخيم جنين إثر ما قام به رعد حازم في تل أبيب، وعدت إلى أشعار مظفر النواب في جنين (٢٠٠٢) وفي تل الزعتر (١٩٧٦) فلاحظت تقاطعات بين الشاعرين وكنفاني في الكتابة عن الفقراء ومخاطبتهم وتمجيدهم والتعويل في الثورة عليهم، وفي الكتابة عن الزعماء وعدم الثقة فيهم ونفض اليد منهم. ترى هل أصاب البنيويون حين كتبوا عن الصلة بين النصوص، فأحد معاني كلمة "بنية" هو "الصلة بين"؟!
الكتابة تطول والمساحة محدودة.

الثلاثاء ١٢ إلى الخميس ١٤ نيسان ٢٠٢٢
* جريدة الأيام الفلسطينية ١٧ نيسان ٢٠٢٢

***

20- «كل أرض الشام منفى!!»

في رواية غسان كنفاني «أم سعد» تعقب أم سعد على كلام الراوي الذي استغرب ألا يوقع سعد على ورقة ليخرج من السجن:
- طيب؟ أنت غير محبوس، فماذا تفعل؟
وترى أن المخيم حبس والبيت حبس والمختار حبس والجريدة حبس والراديو والباص والشارع وأعمارنا، وترى أن الفلسطينيين منذ طردوا من بلادهم وأقاموا في المخيمات محبوسون «أنت توهم نفسك يا بن العم بأن قضبان الحبس الذي تعيش فيه مزهريات؟» والخلاصة أننا كلنا محبوسون.
تذكرت كلام أم سعد وأنا أكتب عن رواية المنفى في الأدب الفلسطيني وأفكر في معايير تحديد «المنفى».
هل رواية المنفى الفلسطينية هي التي كتبها فلسطينيون خارج فلسطين؟
إن كانت الإجابة بنعم، فكيف ننظر إلى الروائيين الذين أقاموا بعد نكبة ١٩٤٨ في الضفة الغربية وقطاع غزة - أي بقية فلسطين التي احتلت في حزيران ١٩٦٧؟
قادتني التساؤلات إلى البحث عن دال المنفى وأدب المنفى وما يندرج تحته، وأثارت لدي ولدى بعض الكتاب العرب تساؤلات منها:
- كيف ننظر إلى الروائيين الفلسطينيين الذين يقيمون في البلدان العربية، وقسم من هؤلاء ولد في تلك البلدان وحصل على جنسيتها ويعامل مثل أبنائها؟
- هل يندرج ما كتبوه تحت مسمى أدب المنفى الفلسطيني أم أنه يعد أدبا وطنيا يحدده جواز سفر الدولة التي يحملها صاحبها، بخاصة إذا ما تمتع بحقوق مواطنة كاملة؟
في تعريف أدب المنفى، كما ورد في بعض معاجم الأدب، فإنه الأدب الذي يكتبه كاتب يجبر على الإقامة خارج وطنه أو كاتب تتعرض كتابته لاضطهاد سياسي أو أيديولوجي أو لرقابة أو منع من السلطة الحاكمة، ولو في بلده، أو يتعرض هو وأبناء شعبه لاضطهاد عنصري أو ديني، وبناء على الكلام السابق فإن الأدب الفلسطيني المقاوم كله أدب منفى حتى ما كتب منه في فلسطين المحتلة، لأنه خضع للرقابة وخضع كتابه أيضا لاضطهاد قومي.
ولكن هل يعد الأدب الذي يكتبه كتاب هاجروا من مدنهم وقراهم هجرة طوعية أدب منفى؟
أجبرت عائلة غسان كنفاني في العام ١٩٤٨على الرحيل من عكا ويافا، ولكن جبرا إبراهيم جبرا غادر مدينته بيت لحم طوعا، فهل يعد ما كتبه الثاني أدب منفى؟
الأمر نفسه يمكن ملاحظته في أثناء قراءة سحر خليفة المولودة في نابلس التي احتلت في ١٩٦٧ وكتبت فيها أبرز رواياتها ثم غادرتها طوعا. هل يعد ما كتبته خارج فلسطين «أدب منفى»، علما بأنها لم تتعرض لملاحقة أو سجن أو نفي؟ ربما يعد أدبها أدب منفى اعتمادا على معيار الجندر/ الجنس - أي الذكورة والأنوثة فقط، فهي تشعر، كونها أنثى، بالاغتراب في مجتمع ذكوري.
هناك روائيون فلسطينيون غادروا فلسطين طوعا وأقاموا في بلدان لم تقمعهم ولم تقمع كتاباتهم ولم يتعرضوا لأي رقابة أو ملاحقة، فهل نعد أدبهم «أدب منفى»؟ أم أنه يجب دراستهم تحت عنوان آخر هو «الرواية الفلسطينية في خارج الأرض المحتلة»؟
هل توجد، إذن، رواية منفى في الأدب الفلسطيني غير الرواية التي كتبها غسان كنفاني ومن مر بتجربة شبيهة له؟
التساؤلات ذاتها يمكن تعميمها على كتاب القصة القصيرة والشعر والمسرح مثل سميرة عزام ومعين بسيسو وأحمد دحبور ومحمد القيسي ومريد البرغوثي وعز الدين المناصرة؟
قياسا على ما سبق ننظر إلى محمود درويش بعد خروجه من الأرض المحتلة.
هل يعد أدبه بعد خروجه، طوعا، أدب منفى؟ أم أنه يجب أن ينظر إليه من زوايا أخرى عديدة منها أنه حين كان يقيم في فلسطين تعرض للملاحقة والاضطهاد وتعرض أدبه للرقابة، وأنه لو أراد، وهو خارج فلسطين، العودة إلى بلده، فلن يستطيع؟
«كل أرض الشام منفى» سطر شعري كتبه درويش، فهل المقيمون منا في فلسطين تحت الاحتلال والمقيمون خارجها بعيدين عنها، هل كلهم يقيمون في المنفى؟؛ الأولون يعيشون المنفى في الوطن، بسبب الاضطهاد العنصري والشعور بأنهم أقلية، والأخيرون، بخاصة ممن لا يسمح لهم بالعودة، ويعيشون بعيدا عن الوطن؟
ما لا يجب أن ننساه هو أن الفلسطينيين في كثير من البلدان العربية التي هاجروا إليها ما زالوا يعدون غرباء ويقيمون في مخيمات تقول لهم إنكم من هناك، وما حدث لفلسطينيي العراق بعد ٢٠٠٣ يقول كل شيء، وما يقول إن الفلسطينيين العائدين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ولم يعودوا إلى حيفا وشعورهم بأنهم ما زالوا يعيشون المنفى بيت شعر الشاعر أحمد دحبور:
«أنت في المنفى وفي المنفى وفي المنفى وإن سميته وطنا».
لعلني مخطئ والموضوع يستحق المزيد من التفكير.

عادل الأسطة
2021-09-12
الأيام

***

21- غسان كنفاني : أثر قراءاته في تشكيل نصوصه

ماذا لو تتبع قاريء روايات غسان كنفاني وقصصه ومسرحياته أثر قراءاته في تشكيلها ؟
ربما لم يثر هذا السؤال من قبل إلا على خجل ، ولكن دارسي أعماله ومترجميها ، مثل رضوى عاشور ومحمد صديق وفيحاء عبد الهادي وعز الدين المناصرة والسويسري ( هارتموت فيندرش ) أجابوا عنه فيما كتبوه عن أعماله وصلتها بالآداب العالمية ، وكان غسان نفسه في المقابلات التي أجريت معه أجاب على قسم منه .
في إحدى المقابلات سئل عن تأثره برواية ( وليم فوكنر ) " الصخب والعنف " فلم يخف قراءته للرواية وإعجابه فيها وتأثره بها أيضا ، وقد تتبع دارسون عديدون جوانب التشابه بين الروايتين ( عاشور والمناصرة ) ، وذهب قراء آخرون ، مبالغين ، إلى أنه لم يتأثر وحسب بل سرق الفصل الثاني من " الصخب والعنف " ( محمد سناجلة وحول ذلك أنظر مقالتي :" هل سرق كنفاني فوكنر ؟ جريدة الأيام الفلسطينية ٢٨ / ٣ / ٢٠٠٠ ) .
وكما تتبع دارسون عديدون تأثره ب ( فوكنر ) تتبع آخرون أوجه التشابه بين " عائد إلى حيفا " ومسرحية ( برتولد بريخت ) " دائرة الطباشير القوقازية " ( فيندرش كتب بالألمانية عن " عائد إلى حيفا " مقالا عنوانه " دائرة الطباشير القوقازية بالعربية " ) ، كما أشار قسم ثالث من الدارسين إلى أن الأم في رواية " أم سعد " تذكر برواية ( مكسيم غوركي ) " الأم " .
لم يلتفت إلى مسرحيات غسان بالقدر نفسه الذي التفت فيه إلى رواياته ، ومع ذلك فإن قاريء المسرحيات ومنها " الباب " و " والقبعة والنبي " لا يستطيع أن ينكر تأثره بالأدب الوجودي الذي ترجم في ٥٠ و ٦٠ القرن ٢٠ إلى العربية وأسهمت " دار الآداب " البيروتية في نشره . إن فكرة العبث واللاجدوى وفكرة الانتظار اللامجدي في المسرحيتين المذكورتين غير بعيدتين عن أعمال ( سارتر ) و ( كامو ) و ( صموئيل بيكيت ) .
كل ما سبق التفت إليه ولكن ما لم يلتفت إليه إلا نادرا وقليلا هو انعكاس قراءاته للأدب الصهيوني في رواياته.
يكتب دارس ألماني ألف عن غسان كنفاني كتيبا عنوانه " غسان كنفاني : حياة فلسطيني "(١٩٧٥ ) الآتي:
" إن التشابه البنائي بين شتات فلسطين وشتات اليهود ، الغربة و galut ,قد بولغ فيه من الحركتين الفلسطينية (؟) والصهيونية . وعلى أية حال فليس هناك شك في أن هناك ثمة تشابها جزئيا بينهما . فثمة تشابه قوي إلى حد ما بين الطريقة التي وصف فيها كنفاني أرض فلسطين في قصصه ، وتحديدا في المهمة المطلقة للعودة مهما كانت التكاليف والنتائج بالعواقب وبين الكتاب الصهيونيين الأوائل " ( استيفان فيلد : حياة فلسطيني ، ترجمة عادل الأسطة ، نابلس ١٩٩٦ ، ص ٩ ) .
لقد ركز دارسو " رجال في الشمس " على حدث قتل أبطالها ذاهبين إلى أن كنفاني قصد أن أي حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يكمن في عودتهم إلى فلسطين لا بعيدا عنها ، تماما كما رأى زعماء الحركة الصهيونية أن حل المشكلة اليهودية يكمن في إنشاء وطن قومي لليهود لا في ذوبانهم في المجتمعات التي يقيمون فيها . ولا يخفى أن غسان الذي قرأ الأدبيات الصهيونية وكتب عنها لاحظ ذلك . قد يكون تأثره هنا تأثرا غير معلن عنه ، تأثرا خفيا غير مباشر ، ولكن تركيزه على هذه الفكرة لا يختلف عن تركيز الحركة الصهيونية على فكرة عودة اليهود إلى فلسطين .
يبدو أثر قراءات كنفاني للأدبيات الصهيونية في رواياته أوضح ما يكون في رواية " عائد إلى حيفا " ( ١٩٦٩) وكتبت هذه الرواية بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ ، وكان قبل الهزيمة قرأ الأدب الصهيوني قراءة دارس وكتب عنه .
إن الأدبيات الصهيونية مثل " اكسودس " ل ( ليون اوريس ) و " لصوص في الليل " ل ( آرثر كوستلر ) ركزت على شخصية اليهودي الفاعل المتفوق على غيره والمتعالي عليه وبأنه - أي اليهودي - يتسم بالعصمة وأنه الجدير بأرض فلسطين ، فالعربي فيها عاجز عن الفعل وكسول ومتواكل وبالتالي لا يستحقها . من هنا جاءت رواية كنفاني لتدحض هذه المقولات .
في " عائد إلى حيفا " يخاطب ( دوف ) الذي تبنته عائلة يهودية وعلمته أن العرب قتلوا والديه ، فخدم في الجيش الإسرائيلي ، وتربى بذلك تربية صهيونية ، يخاطب والده البيولوجي سعيد . س بعبارات كان كنفاني قرأها في الروايات الصهيونية التي قرأها وخلص إلى أنها تعكس الفكر الصهيوني ، وقد اختارها عناوين رئيسة لكتابه " في الأدب الصهيوني "(١٩٦٦) . العرب عاجزون لا يفعلون شيئا وينتظرون ويظلون ينتظرون . إنهم مقيدون بسلاسل تشدهم إلى الماضي ولا يتقنون سوى الالتفات إليه والبكاء عليه ، ولهذا فسعيد . س الذي ترك هو وزوجته في غمرة حرب ١٩٤٨ ولده خلدون ( دوف ) ظل ينتظر ٢٠ عاما لم يفعل خلالها أي شيء . في هذه الأعوام ، كما تقول الأدبيات الصهيونية ، حقق اليهود معجزتهم المتمثلة ، من وجهة نظرهم ، بإقامة دولتهم وتحويل فلسطين من صحراء خربها العرب ، خلال سيطرتهم عليها ، إلى جنة تدهش الرائين حتى من الفلسطينيين أنفسهم ، ومنهم صفية زوجة سعيد . س . وأم خلدون التي اندهشت بما رأت ، والكتابة عن معجزة اليهود في بناء دولة على غرار دول أوروبية متقدمة بدت في رواية ( ثيودور هرتسل ) (١٩٠٢) " أرض قديمة - جديدة " .
إن تصور الشخصيات الصهيونية للعرب ، في الروايات الصهيونية ، هو ما تلخصه آراء ( دوف ) فيهم .
ما سبق كله هو في صميم الأدبيات الصهيونية التي قرأها كنفاني ، ولو قارنا رواياته مثلا بروايات كاتب فلسطيني ثان كتب في تلك الفترة هو جبرا ابراهيم جبرا ، وعلى الأغلب أنه لم يقرأ الأدبيات الصهيونية ، فلم يكن له اهتمام بهذا الجانب ، للاحظنا بوضوح ما ذهب إليه عنوان هذه المقالة . صور جبرا حياة الفلسطيني المثقف في المنفى ، المثقف البعيد عن دائرة الصراع والحالم بالعودة إلى فلسطين . بل يمكن أن نقارن روايات كنفاني بروايات كاتب فلسطيني ثان هو ناصر الدين النشاشيبي . لقد أصدر الأخير في ٦٠ القرن ٢٠ روايتين هما " حفنة رمال " و" حبات البرتقال " ولم يجادل فيهما الأفكار الصهيونية التي ظهرت في الأدبيات الصهيونية ، وإن تقاطعت كتابته مع كتابة كنفاني في جانب هو جناية الصهيونية على اليهود والإشارات شبه العابرة إلى الهولوكوست ومعسكرات الإبادة.
لقد قرأ غسان عموما الأدبيات الصهيونية باللغة الإنجليزية التي أتقنها ، لأنه تعلمها في المدارس الخاصة ، ولما كان عليه أن يقدم مشروع تخرج في أثناء دراسته في جامعة دمشق ، فقد كتب ما شكل لاحقا كتابه المذكور " في الأدب الصهيوني " .
وبعيدا عن الأدب الصهيوني والأعمال الأدبية لغسان فإن كتاباته السياسية أيضا بدت متأثرة بقراءاته.
التفت الدارس الألماني إلى تفكير كنفاني بعد هزيمة ١٩٦٧ واقترابه من الجبهة الشعبية ، ونظر في مؤلفاته واقتباساته ورأى أن قراءاته لكتابات ( ماوتسي تونغ ) برزت بوضوح في ما كتبه تحت عنوان " المقاومة ومعضلتها " . لقد كان يقتبس كثيرا من كتابات ( تونغ ) .
وأعتقد أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الحفر

نابلس / الثلاثاء
١٠ / ٥ / ٢٠٢٢

***

22- غزة : الصغير يذهب إلى المخيم زمن الحرب .. وزمن الاشتباك

وأنا أتابع الحرب في غزة تذكرت قصة غسان كنفاني "الصغير يذهب إلى المخيم" من مجموعة "عن الرجال والبنادق"، فعدت إليها أقرؤها من جديد، تماماً كما أعادتني الحرب إلى قراءة بعض قصص سميرة عزام، بخاصة قصتها "العيد من النافذة الغربية"، وبعض أعمال معين بسيسو، وتحديداً "شمشون ودليلة"، وهي مسرحية شعرية، و"دفاتر فلسطينية"، وهي أشبه بسيرة ذاتية، وإن كتب أكثرها عن تجربته في السجون المصرية زمن عبد الناصر (1958 ـ 1963)، كما أعادتني إلى قراءة قصائد شعرية لمحمود درويش، وأخرى نثرية، أيضاً.
قبل بدء الحرب تذكرت قصة كنفاني "ورقة من غزة" فكتبت عنها، وفي الحرب تذكرت قصة "الصغير يذهب إلى المخيم" ورواية "ما تبقى لكم" التي عاش بطلها حامد ردحاً من الزمن في غزة، ثم غادرها هرباً من عار شخصي بحثاً عن أمه، وفي الصحراء التقى بجندي إسرائيلي ضل الطريق، فأسره حامد وقتله في النهاية خوفاً من أن يقتل.
هل خلت "ما تبقى لكم" من الإتيان على احتلال غزة في العام 1956؟ وهل خلت من قتل الإسرائيليين للفلسطيني المقاوم؟ سيقتل الجنود الإسرائيليون الفدائي سالماً، وسيدفنونه ليلاً، أيضاً، وسيظل حامد يتذكر حادثة قتل سالم، حتى إذا ما أسر الجندي الإسرائيلي/ حجزه، خاطبه قائلاً: وقد تكون أنت الذي قتله. وستعاني نادية في "ورقة من غزة" من بتر ساقها.
ومنذ 1948 والحكاية تتكرر. كم من سالمٍ قتل الإسرائيليون منذ 1956، وكم من نادية بترت ساقها منذ 1955 تاريخ كتابة القصة القصيرة؟ وكم من حامد خرج من معطف حامد لتتواصل دائرة كان لها بداية ولم تغلق حتى اللحظة.
في الحرب تذكرت قصة "الصغير يذهب إلى المخيم" ذلك أنها تتحدث عن الفارق بين زمن الحرب وزمن الاشتباك؟ فأي الزمنين، حقاً، هو زمن غزة؟
راوي قصة كنفاني هو شخصيتها الرئيسة، وهو يروي، حين كبر، حياته يوم كان طفلاً في العاشرة من عمره، فقد أرسله أبوه، كما أرسل واكد ابن عمته عصام ابنه عصاماً، إلى سوق الخضار ليجلبا من السوق ما استطاعا من بقايا الخضار والفواكه و...
وسيميز راوي القصة، وأغلب الظن أن الذي يميز هو غسان كنفاني نفسه، سيميز بين زمنين؛ زمن الحرب وزمن الاشتباك.
وثمة فارق بينهما، فزمن الحرب قد يشهد هدنة يستريح فيها المحارب لحظة، أما زمن الاشتباك فلا هدنة فيه، لأن المرء يظل فيه مشتبكاً مع الحياة. وكما يقول راوي القصة: "وكان الجوع ـ الذي تسمع عنه ـ همنا اليومي. ذلك أسميه زمن الاشتباك. أنت تعلم. لا فرق على الإطلاق. كنا نقاتل من أجل الأكل. ثم نتقاتل لنوزعه فيما بيننا، ثم نتقاتل بعد ذلك".
وفي زمن الاشتباك أنت لا تعرف كيف يمر المقاتل بين طلقتين طوال نهاره، وفيه يتشاجر المرء مع الجميع، فالسارد وصديقه عصام كانا يتشاجران مع بقية الأطفال أو أصحاب الدكاكين أو السائقين أو رجال الشرطة أحياناً.. ثم أتشاجر مع عصام فيما تبقى من الوقت".
بطل القصة الذي يلحظ؛ ذات نهار؛ خمس ليرات [في 50 ق20] يندفع باتجاهها بسرعة تشبه سرعة السهم، غير مكترث للشرطي الذي كان حذاؤه قريباً منها، وهكذا يلتقطها ويهرب، غير آبه لابن عمته عصام حتى لا يتشاركا فيها، وهو يريد أن يحتفظ بها لنفسه، ويتأخر في الذهاب إلى البيت، حتى لا يأخذها منه أبوه. لقد منحته ميزة لم يكن ليشعر بها من قبل، فقد أصبح محط أنظار الجميع: الأب والجد وزوج العمة وعصام و.. و.. وكل واحد يريدها له، ولا فضيلة في ذلك الزمن. لماذا؟ لأن ذلك الزمن كان زمن اشتباك، والعالم وقتئذ يقف على رأسه "لا أحد يطالبه بالفضيلة.. سيبدو مضحكاً من يفعل... أن تعيش كيفما كان وبأية وسيلة هو انتصار مرموق للفضيلة.. حسناً.. حين يموت المرء تموت الفضيلة، أيضاً".
وسيكذب الجميع، حتى الجد يضطر لأن يكذب، فهو يريد نصيبه من الليرات الخمس، عل حفيده يشتري له الجريدة بخمسة قروش، يتعرف منها بعض أخبار ظل يتابعها منذ خرج من وطنه، بل إن رابط الدم ما عاد له أهمية، لقد جن جنون الجميع و"ضاع رابط الدم فوقفوا جميعاً ضدي". ولما لم تجدِ تهديداتهم بالحصول على المبلغ اقترح الجد تسوية "قال إن الكبار لا حق لهم بالمبلغ، ولكن من واجبي أن آخذ كل أطفال البيت، ذات يوم صحو، إلى حيث نصرف جميعاً مبلغ الخمس ليرات كما نشاء"، فهل وافق الصغير على اقتراح الجد؟
سيظل الراوي محتفظاً بالمبلغ إلى أن تدهمه، ذات يوم، سيارة. "وعلى أية حال صحوت من إغمائي في المستشفى، وكان أول ما فعلته ـ كما لا شك تخمن ـ أن تفقدت الخمس ليرات. إلاّ أنها لم تكن هناك". و"اعتقد أن عصام هو الذي أخذها حين حملوه معي في السيارة إلى المستشفى، ولكنه لم يقل وأنا لم أسأل. كنا نتبادل النظر فقط ونفهم. لا، لم أكن غاضباً لأنه كان ملهياً، وأنا أنزف دمي، بأخذ الليرات الخمس ـ كنت حزيناً فقط لأنني فقدتها. وأنت لن تفهم. ذلك كان في زمن الاشتباك".
في أثناء الحرب على غزة تذكرت القصة، كانت الحرب على أشدها، وكان هناك حديث عن هدنة، وقلت: غزة تعيش، الآن، زمن الحرب، ولكني تساءلت: هل مر وقت لم تعش فيه غزة زمن الاشتباك؟
غزة منذ 1948 تعيش زمن الاشتباك، وفي زمن الاشتباك هذا تحدث حروب يُتحدثُ فيها عن هدنة يسمعون بها، لكنهم حتى في الهدنة يظلون يعيشون زمن الاشتباك. هل تختلف حالتهم عن حالة الراوي وابن عمته عصام؟ "وفيه يتشاجر المرء مع الجميع، وكنا نعمل طوال العصر: نتشاجر عصام وأنا من جهة مع بقية الأطفال أو أصحاب الدكاكين أو السائقين أو رجال الشرطة أحياناً، ثم أتشاجر مع عصام فيما تبقى من الوقت".
احتلت غزة في 1956، وفي 1967 ثانية، وظلت تقاوم حتى 1971، ولكن أهلها ظلوا مشتبكين مع الحياة، حالهم حال الراوي وعصام، ولعل عصام وابن خاله من غزة أصلاً. في 1987 بدأت الانتفاضة الأولى وفي 2006 بدأت تعيش الحصار بأقسى أنواعه، وشهدت في ست سنوات ثلاث حروب، وفي هذه الأثناء يعيشون حياة قاسية صعبة: حصار وأنفاق وحروب يتحدث فيها عن هدنة، وسفر من خلال معابر تغلق أكثر مما تفتح، وبطالة وحبوب "ترمال"، وانقطاع الكهرباء ومنع من الصيد، وهدم وبناء وإعادة بناء، حتى إذا ما اكتمل هدم من جديد، فثمة حرب جديدة وثمة طائرات ومدفعية و.. و.. وأغلب الظن أن غزة وأهلها، حتى لو وضعت الحرب أوزارها وأزرارها ومعاطفها و.. و..، سيظلون يعيشون زمن الاشتباك لثلاثين أربعين عاماً قادمة، إن لم يكن أكثر، فمن فقد زوجته أو ابنه أو أباه أو.. أو غدا مشوهاً سيظل مشتبكاً مع الحياة، وهم الآن في المدارس، ولاحقاً في الخيام، سيشتبكون مع بعضهم على كل شيء: الماء والكهرباء والمراحيض والدور و.. و.. .
هل لسان حال أهل غزة ما قاله محمود درويش في "حالة حصار" (2002) [إلى حارس ثالث]: سأعلمك الانتظار/ على مقعد حجري، فقد/ نتبادل أسماءنا. قد ترى/ شبهاً طارئاً بيننا:/ لك أم ولي والدة/ ولنا مطر واحد/ ولنا قمر واحد/ وغياب قصير عن المائدة. وأنا أتابع الحرب على غزة تذكرت قصة كنفاني: الصغير يذهب إلى المخيم.

2014-08-17

***

23- سعاد العامري 3 وغسان كنفاني: سؤال الجدارة

لي قريب زار فلسطين ١٩٤٨ غير مرة، وكلما عاد من هناك وتحدثنا معا مدح ما فعله الإسرائيليون بأرض أجداده.
وأنا أجلس في مقهى البرلمان في البلدة القديمة في نابلس أتجاذب وبعض العمال أطراف الحديث فيمدح هؤلاء أصحاب العمل اليهود وحرصهم على دقة العمل.
صباح يوم الخميس، أتى السائق في سيارة العمومي على مشروع تعبيد مدخل مدينة نابلس الذي طال، وسرعان ما أخذ يمدح اليهود ودقتهم وسرعتهم في تعبيد الطرق.
كلام قريبي والعمال في مقهى البرلمان وسائق سيارة العمومي ذكرني بشخصية صفية زوجة سعيد. س في رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"، فقد أبدت إعجابها، حين زارت حيفا بعد غياب ٢٠عاما عنها، بما رأته. قارنت ما كانت عليه المدينة قبل ١٩٤٨ وبما شاهدته بعد ١٩٦٧، ولم يرق رأيها لزوجها.
الكلام الذي يصدر عن قسم من الفلسطينيين في فلسطين ويغلب عليه طابع مديح إنجازات الحركة الصهيونية على أرض فلسطين كلام لم ينقطع منذ احتلال ١٩٦٧ وهو حاضر حضورا لافتا في الأدبيات الصهيونية التي كتبت قبل قيام الدولة الإسرائيلية وبعده، فمنذ رواية (ثيودور هرتسل) ١٩٠٢ ونحن نقرأ عن دولة عصرية فيها مصانع تفوق المصانع الألمانية ومساحات خضراء تشابه أراضي سويسرا وأحياء راقية أجمل من الريفيرا وقطارات كهربائية أحدث مما عرفته أوروبا، ورشيد بك العربي في الرواية هو البداية. لقد رأى هذا في الاستيطان اليهودي لفلسطين جلب الضوء للشرق كله. وحين ترجم الإسرائيليون رواية (هرتسل) في ٦٠ ق٢٠ زينوها بصور لفلسطين في بدايات ق ٢٠ وصور لها بعد ١٩٤٨ والقصد من وراء ذلك لا يحتاج إلى تفسير. إنه يلخص بسطر ورد في رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" ١٩٦٩ هو:
"تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقيا. عليكم أن تكونوا خدما لنا، معجبين بنا".
لقد توقفت مرارا وباستفاضة أمام رد الأدباء الفلسطينيين على مزاعم الحركة الصهيونية (انظر دراستي: الترجمة العربية لرواية "أرض قديمة - جديدة" ودحض الأدباء الفلسطينيين للفكرة الصهيونية./ موقع جامعة النجاح الوطنية staff وانظر كتابي "أوراق مقارنة" ٢٠١٥).
في حزيران ٢٠١٩ زرت يافا ورأيت البيوت التي تفصل بين يافا وتل أبيب فلم ترق لي. ولا أتحدث هنا عن المباني الشاهقة ذات المعمار الحديث في تل أبيب التي قطعتها بالسيارة.
ربما كنت مثل سعيد. س الشخصية المحورية في رواية كنفاني، وربما قلت: كان يمكن أن نجعلها أفضل بكثير! هل أبالغ أو أتعامى أو ادفن رأسي في الرمل؟ هل أكابر؟
لم يزر كنفاني، بعد الهزيمة، حيفا، ولست متأكدا من شكل علاقته بها قبل ١٩٤٨، فعلام اعتمد في إنطاق شخصية روايته سعيد .س بما نطقت؟
من أدبائنا الذين حنوا لحيفا قبل تأسيس دولة إسرائيل إميل حبيبي في روايته "اخطية" ١٩٨٥.
تحسر حبيبي على حياته في حيفا في طفولته وشبابه قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية، ومدح الحياة فيها مقارنة بما آلت إليه الحياة في المدينة تحت الحكم الإسرائيلي.
الكتابة عن حيفا في زمنين تثير سؤال الجدارة وهو السؤال الذي أثاره كنفاني على لسان شخوصه، وهو السؤال الذي أثاره الكتاب الصهيونيون في أدبياتهم، وقسم من شخصيات رواية كنفاني خارج من معطف الشخصيات الصهيونية في الأدب الصهيوني، وهذا عموما ما شغلني منذ كتابة رسالة الدكتوراه في ١٩٩١ وما زال.
في كتابها "مراد .. مراد" تأتي سعاد العامري على رحلتها، بالباص، من بتاح تكفا إلى تل أبيب وتصف المباني في الطريق الوصف الآتي:
"سرعان ما أقلنا الباص من منطقة "بتاح تكفا" الصناعية إلى مناطق تبدو سكنية. كانت البنايات رخيصة التكلفة المؤلفة من أربعة طوابق، والتي تعود إلى الخمسينيات (تسمى شيكونات بالعبرية)، المصطفة على جانبي الشارع الرئيسي المؤدي إلى تل أبيب، تبدو في الحقيقة بشعة جدا وغير متناسقة من الناحية الجمالية...".
وتقارن الكاتبة بينها وبين بيوت المستوطنات في الضفة وسبب قدوم المستوطنين إلى المستوطنات.
"كان أكثر ما يضايقني الافتقار إلى الشخصية المعمارية المميزة؛ لم يكن المكان يمت بصلة إلى أي شيء. لم يكن له سمات الحداثة وتعقيد المدن العصرية، ولا سحر المدن القديمة والتقليدية التي كانت موجودة ذات يوم. كان يشبه الضواحي الأميركية في خلوها من التميز ووضوح المعالم. لم يكن أوروبيا ولا عربي المظهر. أظن أنه بدا ببساطة كما هو تماما: إسرائيليا. كيف يمكن لفلسطين التاريخية أن تصبح وبهذه السرعة غريبة عن سكانها الأصليين؟ أظن أن أشد ما أزعجني هو عدم عثوري على بيت عربي واحد لذكرى الثلاثة أرباع مليون فلسطيني الذين طردوا من وطنهم منذ ستين عاما، عائلتي واحدة من هؤلاء".
كلام سعاد يختلف اختلافا جذريا عن كلام كثيرين وله أهميته الكبرى، ذلك أنه صادر عن مهندسة معمارية درست الهندسة المعمارية في جامعات عالمية راقية، عدا أنها سليلة أسرة مدنية فقد ولد أبوها في يافا وعاش بها ثم إن أمها من آل عبد الهادي الذين شيدوا القصور الفخمة وأقاموا فيها؛ في نابلس ودمشق وعرابة.
كما لو أن سعاد دون وعي تتبنى وجهة نظر غسان كنفاني وما أورده على لسان سعيد. س: "في القدس ونابلس وهنا يتحدث الناس كل يوم عن نتائج زياراتهم إلى يافا وعكا وتل أبيب وحيفا وصفد وقرى الجليل والمثلث. كلهم يقولون كلاما متشابها ويبدو أن أفكار كل منهم كانت أحسن مما رأوا بأم أعينهم. جميعهم عادوا يحملون خيبة كبيرة. إن المعجزة التي يتحدث عنها اليهود لم تكن إلا وهما".
هل ما كتبته سعاد العامري في ٢٠٠٧ يختلف عما ورد في رواية كنفاني؟
الجدل يطول.

2019-09-22

***

24- هل تأثر غسان كنفاني بمحمود درويش؟

وأنا أقرأ رواية أسعد الأسعد «بطعم الجمر» التفت إلى دال الوطن فيها، وهو دال حضر في أشعار إبراهيم طوقان (ت ١٩٤١)، ما دفعني في العام ١٩٩٤ إلى كتابة بحث عنه.
شاع الدال مع رواية كنفاني «عائد إلى حيفا» (١٩٦٩) وتكرر، بعد ذلك، في روايات فلسطينية. صار سؤال سعيد. س لزوجته صفية «ما هو الوطن؟» وما تلاه من تعريفات، يتكرر حتى طغى على الاستعمالات السابقة للدال، علما بأن كنفاني قد يكون استخدمه متأثرا بما قرأ، وهذا ما دفعني إلى كتابة مقالة عنوانها «هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟» أتيت فيه على الدال في رواية كنفاني وفي قصة إميل «بوابة مندلباوم» التي كتبها في ستينيات ق ٢٠.
أعادتني قراءة «بطعم الجمر» إلى الفكرة نفسها وهي فكرة التأثر والتأثير، ولكن هذه المرة بين كنفاني ودرويش، فأثرت السؤال الذي لقي استغرابا من قراء عديدين عقبوا مندهشين مستغربين ذاهبين إلى أن العكس هو ما قد يكون - أي أن درويش تأثر بكنفاني؛ فالأصغر يتأثر بالأكبر.
وأنا أفكر في الأمر وأرد على وجهات النظر وجب أن أعود إلى أشعار الشاعر المبكرة التي نشرها في ستينيات ق٢٠ قبل صدور رواية غسان.
ولكن ما لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان هو علاقة الدال بالفكر الذي يكتب الكاتب من وحيه، فلا أظن أن هذا الدال يبرز في كتابات الإسلاميين والفلسطينيين القوميين، فالأولون يرون في فلسطين وقفا إسلاميا والقوميون يرون فيها أرضا عربية.
وكان كنفاني حتى ١٩٦٧ يميل إلى القوميين، فلم يكتب مثلا عن يهود فلسطينيين، وإنما كتب عن يهود عرب، والكتابة عن يهود فلسطينيين شاعت في سبعينيات القرن العشرين مع نمو الوعي الوطني الفلسطيني. ويختلف الوطنيون، ومنهم الشيوعيون الفلسطينيون، عن الجهتين السابقتين، وكان حبيبي ودرويش ينتميان إلى الحزب الشيوعي ويريان في فلسطين وطنا لهما بالدرجة الأولى، ومعروف موقف الشيوعيين منذ ١٩٤٧ من الأنظمة العربية والتيارات الإسلامية.
ولكي لا أقع في إشكالات يجب أن أذكر أن إبراهيم طوقان لم يكن شيوعيا، ولكنه استخدم دال الوطن، فهذا الدال لا يقتصر استخدامه على الشيوعيين وحسب، فقد يستخدمه المثقفون والمتعلمون الذين ليس لهم انتماء محدد.
ولأنني لا أريد أن استطرد وأتوسع في الكتابة التزم بالسؤال:
- هل تأثر كنفاني بدرويش؟ وكيف يمكن أن يكون تأثر به والأول ناثر والثاني شاعر والأول أكبر من الثاني وهو ممن أسهموا في التعريف به؟
في العام ١٩٦٦ ألف كنفاني كتابه «أدب المقاومة في فلسطين» وبعد عامين أصدر كتابه «الأدب الفلسطيني المقاوم» وفيهما درس أشعار محمود درويش الذي أكثر من التغني بالوطن. إن تكرار درويش هذا الدال يلفت النظر حقا.
في العام ١٩٦٩ كتب كنفاني «عائد إلى حيفا» وفيها تكرر الدال، إذ أتى سعيد. س على تعريفه، مثله مثل حبيبي في قصته، ومثل مدلوله في أشعار درويش. هنا نثير السؤال الآتي:
- هل التفت كنفاني في أعماله المبكرة الأولى التي أصدرها قبل كتابيه المذكورين، وقبل قراءة أدب المقاومة، هل التفت إلى دال الوطن وتعريفه؟
والإجابة تتطلب إعادة قراءة قصص غسان وروايتيه «رجال في الشمس» و»ما تبقى لكم»، وفيما أذكر فإن أحدا من الدارسين لم يتوقف أمام تعريف الوطن في كتابات غسان السابقة لـ»عائد إلى حيفا».
شاكر النابلسي في كتابه «مجنون التراب» (١٩٨٧) التفت إلى بوابات محمود درويش الشعرية ومنها بوابة الوطن، وذهب إلى ما يلي:
«ويلاحظ القارئ أن درويشا قبل ١٩٦٧ لم يذكر كلمة الوطن مباشرة، وبشكل سافر، فهل لهزيمة ١٩٦٧ أثر في ذلك؟».
ولكن بالعودة إلى «أوراق الزيتون» (١٩٦٤) وإلى «عاشق من فلسطين» (١٩٦٦) نجد أن النابلسي لم يكن دقيقا، فقد تكرر هذا الدال في الديوانين وتكرر أكثر في «آخر الليل»(١٩٦٨). وهنا نعود إلى السؤال:
- هل تأثر غسان بمحمود في الكتابة عن دال الوطن؟
إن كان ما نقرؤه يترك، بوعي أو دون وعي، أثره فينا ويتسلل إلى كتاباتنا فأغلب الظن أن أشعار محمود درويش تركت أثرها في نصوص كنفاني الإبداعية، وإن في هذا الجانب على الأقل.
الكتابة تطول والمساحة محدودة.

2021-03-07

***

25 - سوزان أبو الهوى وروايتها: صباحات جنين : بينما ينام العالم / ندبة داوود

لا أعرف إن كانت جامعة بيت لحم عقدت مؤتمرها الذي أوصت بعقده في آخر مؤتمر شاركت فيه فيها . اقترحت لجنة التوصيات بأن يكون محور المؤتمر القادم " الأدب الفلسطيني المكتوب بلغات عالمية غير العربية " وأظن أنها ركزت على أمريكا اللاتينية تحديدا ، ففيها فلسطينيون كثر ومنهم من تقلد منصب رئيس جمهورية ، ومنهم من كتب بلغات تلك الدول ، وكل من قرأ رواية الكاتبة العراقية إنعام كجه جي "النبيذة" لاحظ المكانة التي وصل إليها الفلسطيني في فنزويلا.
في كتابها " موسوعة الأدب الفلسطيني " اختارت سلمى الخضراء الجيوسي نصوصا لأدباء فلسطينيين كتبوا بالإنجليزية ، ولم تختر نصوصا لأدباء كتبوا بلغات غيرها ، علما بأن من يتابع الأدب الفلسطيني يعرف بأن هناك فلسطينيين كتبوا بالإنجليزية مثل جبرا ابراهيم ، وبالفرنسية مثل إبراهيم الصوص ، وبالالمانية مثل سمية ناصر وخالد شوملي ، وبالعبرية مثل انطون شماس وسيد قشوع ، وبالاسبانية مثل موسى البيتاوي و...
بعض النصوص التي كتبت باللغات هذه نقل إلى العربية وحقق شهرة لا بأس بها ، ومنها رواية المقدسية سوزان أبو الهوى " ندبة داوود " التي حملت في بعض الترجمات عنوانين آخرين هما " صباحات جنين " و " بينما ينام العالم".
وتأتي الكاتبة في بعض المقابلات التي أجريت معها على الاختلاف في العنوان ما بين طبعة وطبعة ، وما بين لغة ولغة ترجمت الرواية إليها ، وتقول إن دور النشر كانت تتدخل في اختيار العنوان ، فعنوان " بينما ينام العالم " اختير للترجمة الألمانية ومن ثم العربيه ، وعنوان " صباحات جنين " اختير للترجمة الفرنسية ، وهي نادمة على رضوخها لدور النشر وللمترجمين أيضا ، فالرواية تركز على عائلة فلسطينية من قرية عين حوض هاجرت في عام النكبة إلى جنين واستقرت في مخيمها إلى أن دمرت أكثر بيوته في اجتياحه في انتفاضة الأقصى في ربيع ٢٠٠٢ .
وتمزج أبو الهوى في روايتها ما بين التجربة الذاتية والخيال والتأليف ، فهي تسرد في نهاية الرواية قائمة بالمراجع والمصادر التي اعتمدت عليها واقتبست نصوصا منها في المتن أو أفادت من طروحاتها وأفكارها ومعلوماتها ، وتقر في الكلمة التي كتبتها في خاتمة الرواية بأنها اعتمدت على رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " وكتابات إدوارد سعيد . وتقول الاقتباسات إنها قارئة جيدة لمحمود درويش ، وإنها متمثلة للأفكار الرئيسة التي ركز عليها هؤلاء الثلاثة وأهمها فكرة الضحية / الجلاد وفكرة المنفى وفكرة الوطن وفكرة العداء للصهيونية لا لليهودية . ثمة تقاطعات كثيرة بين روايتها وبعض نصوص الأسماء المذكورة ، ولهذا فإن القاريء المتخصص في أدبيات الثلاثة قد لا يجد في الرواية الكثير من الجديد والمختلف ، ولكن القاريء غير المتخصص والقاريء غير العربي يجدان فيها رواية ممتعة مشوقة تصور حياة الفلسطينيين منذ العام ١٩٤٨ حتى اجتياح مخيم جنين .
التقاطعات بين الرواية وأدبيات الثلاثة نجد تقاطعات مثلها بين الشخصية المحورية الساردة في الرواية آمال أبو الهيجاء والكاتبة الحقيقية سوزان أبو الهوى ، على الرغم من الاختلافات بينهما ، فالأولى ولدت في العام ١٩٥٥ في مخيم جنين والثانية ولدت في القدس في العام ١٩٧٠ ، ولكن كلتيهما ولدت لعائلة من اللاجئين وسافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية ودرست في جامعاتها وأقامت في ( بنسلفانيا ) ولها طفلة واحدة.
وكما بنى غسان كنفاني روايته على فكرة الطفل الفلسطيني الذي نسيه والداه في حيفا في غمرة حدث النكبة والهروب وتبني عائلة يهودية مهاجرة لا تنجب له ، تبني أبو الهوى روايتها على فكرة سرقة جندي يهودي مهاجر طفلا فلسطينيا ليربيه هو وزوجته التي لا تنجب ، ثم يجتمع الطرفان بعد هزيمة ١٩٦٧ لتتطور الأحداث وإن بشكل مختلف ، وهو عموما ما نقرؤه في رواية إياد شماسنة لاحقا " الرقص الوثني " ومن قبل في رواية الكاتب الإسرائيلي سامي ميخائيل " حمائم في الطرف الآخر " ( أنظر مقالي في الأيام " سامي ميخائيل يلبي نداءنا " ٢٤ / ٤ / ٢٠٠٥ ).
بينما ينام العالم يكون حسن والد آمال يقرأ معها الشعر الجاهلي ويتذوقانه ، وبينما ينام العالم تكون الطائرات الإسرائيلية تقصف في ١٩٨٢ بيروت وتسوي بعض عماراتها بالأرض ، فيستشهد زوج آمال ماجد الذي تزوج من أشهر وزرع جنينا سيرى الحياة بلا أب ، وبينما ينام العالم تحاصر جنين في نيسان ٢٠٠٢ ويسوى مخيمها بالأرض ، ويخلص التقرير الرسمي للأمم المتحدة إلى أن ما حدث ليس مذبحة وإنما " مسلحون فقط هم من قتلوا " علما بأن آمال قتلت برصاصة قناص وهي تبحث عن ماء وطعام ومثلها الرجال الكبار في السن .
هل تركت إقامة سوزان أبو الهوى في أميركا تأثيرها على نهاية الرواية ، ففي أميركا يعيش في النهاية في بيت واحد اللاجيء الفلسطيني والإسرائيلي و ...؟
في ١٩٦٩ انتهى اللقاء بين سعيد . س وابنه الذي تبنته العائلة اليهودية ( خلدون / دوف ) بالافتراق و :
" تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا ، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب!"
في زمن الكورونا وبعد حروب لم تؤد إلى سلام وبعد سلام لم يوجد عدلا ربما يقول المرء إنها الكورونا . إنه صراع لا تحله إلا أفعى محمود درويش في قصيدته " سيناريو جاهز " والكورونا جاهزة.

" ندبة داوود " :
داوود هو اسم الفلسطيني اسماعيل الذي اختطفه الجندي الاسرائيلي من أمه داليا زوجة حسن في عام النكبة ، على الرغم من أن داليا ذات الأصول البدوية مثل أهل عين حوض الذين رفضوا الهجرة مفضلين البقاء في قريتهم حتى تحت الاحتلال الاسرائيلي .
أكرم أهل القرية الجنود الإسرائيليين وقدموا لهم الطعام واستقبلوهم مبدين استعدادهم للتعايش ، ولكن الصهيونية تريد أرضا بلا شعب ، وقد عاد الجنود في اليوم التالي إلى القرية التي أكرمتهم فذبحوا بعض سكانها وطردوا الآخرين ، واختطف موشيه إسماعيل وعاد به إلى بيته وأعطاه إلى زوجته يونتالا التي منحته الاسم داوود ، وربته على أنه يهودي تماما وكانت له أما ، فنشأ يكره العرب هو العربي ، وخدم في الجيش الاسرائيلي ليحارب أخاه يوسف الذي التحق بالفدائيين بعد هزيمة حزيران.
يوسف الذي عرف أخاه إسماعيل من الندبة التي عرف بها صغيرا ولتشابههما قوبل من أخيه الجندي بالإنكار والتجاهل والضرب ، فلم يكن إسماعيل / داوود ليصدق أنه عربي ، علما بأن ابن عمه المفترض عايره مرة بأنه ليس يهوديا وأنه ( غوييم ) ، ما ترك ابلغ الأثر في يوسف الذي غادر جنين لينضم إلى المقاومة الفلسطينية في الأردن وليشارك في معركة الكرامة وليهاجر لاحقا مع المقاومة إلى بيروت .
تماما كما صار خلدون في رواية كنفاني ( دوف ) والتحق بالجيش الاسرائيلي وحمل السلاح ليقاتل العرب ، فيم التحق أخوه خالد بالمقاومة الفلسطينية ، وستقول لنا رواية أبو الهوى الكثير عن حياة الأخوين ، فكنفاني كتب عنهما حتى العام ١٩٦٩ ، بينما تابعت أبو الهوى حياتهما حتى العام ٢٠٠٢.
فكرة أن يتحارب الأخوان أو الأقارب لانتمائهما إلى طرفين عدوين متحاربين لم تجسدها رواية كنفاني بالتفصيل ، ومن جسدها أكثر هو سلمان ناطور في روايته " أنت القاتل يا شيخ " ، فقد حمل دروز فلسطين السلاح مع الجيش الاسرائيلي ليحاربوا الجيش السوري الذي حارب فيه دروز سوريون وقتلوا بعضهم بعضا في حرب هي ليست حربهم.

الزمن الكتابي والزمن الروائي :
أنجزت الكاتبة روايتها في العام ٢٠١٠ وتمت ترجمتها في العام ٢٠١٢ ، ويمتد الزمن الروائي لها منذ العام ١٩٤٠ حتى العام ٢٠٠٢ - أي قرابة ٦٢ عاما ، ولم تكن الساردة آمال أبو الهوى شاهدة عليها كلها وكذلك الكاتبة نفسها ، فالأولى كما ذكرت ولدت في ١٩٥٥ - أي بعد ١٥ عاما من بداية الحدث الروائي ، والثانية ولدت في العام ١٩٧٠ - أي بعد ثلاثين عاما من بداية الحدث الروائي ، وكان لهذا تأثيره على دقة المعلومات ، فالمرء أحيانا يلحظ تأثير الزمن الكتابي على الزمن الروائي ، إذ كانت الكاتبة أحيانا تسقط بعض معطيات الزمن الأول على الثاني ، فلم تكن المعلومات دقيقة غاية الدقة ، ومنها مثلا أنها تذكر أن بعض شخوصها درسوا في جامعة بيت لحم بعد هزيمة ١٩٦٧ مباشرة ، والجامعة كما هو معروف أسست في ٧٠ ق ٢٠ ، ومنها أن آمال كانت وهي في الثانية عشرة تملك هوية إسرائيلية ولم تكن الهوية تمنح لمن هم دون الخامسة عشرة ، ويمكن أن يستقصي المرء أمثلة أخرى شبيهة تدل على تأثير الزمن الكتابي على الزمن الروائي ( ص ١٤٧ و ١٦٥ و ١٧٤ و ١٧٥ ) ومما يدل على المسافة بين الزمنين ، بل وبين زمن السرد والزمن الروائي ، استخدام الكاتبة بكثرة عبارات مثل " لاحقا ، بعد عقود " .. و " بعدثلاثةعقود من المنفى " وما شابه كما في صفحة ٤٣٦ حين نقرأ العبارة الآتية:
" لم أكن قد عرفت حتى ليلتنا الثالثة في جنين في ٢ حزيران ( يونيو ) ، أن الحاج سالما كان لا يزال على قيد الحياة . قالت هدى ."
والمعروف أن آمال زارت هدى في الاجتياح وفي الاجتياح استشهدت - أي في نيسان ٢٠٠٢ ، وهو ما نقرؤه في ص ٤٥٩:
" نيسان ( ابريل ) شهر الزهور ، أبقى سارة إلى الأبد بين ذراعي والدتها..".

ما يسجل للمترجمة :
نقلت الرواية إلى العربية سامية شنان تميمي وما يسجل لها هو أنها لم تترجم المترجم ، فالنصوص العربية التي اتكأت عليها الكاتبة ونقلتها إلى الإنجليزية مثل أشعار امريء القيس ومحمود درويش وتوفيق زياد ونماذج الأدب الشعبي لم تترجم عن الترجمة الإنجليزية لها ، وإنما عادت المترجمة إلى أصولها ونقلتها عنها ، ولو ترجمت المترجم لقرأنا نصوصا لا تمت إلى أصولها بصلة .

الآخر :
تحفل الرواية بشخصية الآخر اليهودي والإنجليزي الايرلندي ، وإذا كانت الكاتبه قالت إنها لم تلتق بادوارد سعيد إلا مرة واحدة وإنها تأثرت به وبكتبه ، فإن موقفها من الآخر يبدو مشابها تماما لمواقفه من الآخر ، فوالدها كانت له علاقة ممتازة قبل العام ١٩٤٨ باليهودي ( اري بيرلشتاين ) وظل الأخير يكن احتراما كبيرا لحسن وعائلته ويعترف بفضله ومساعدته له ووقوفه إلى جانبه في العام ١٩٤٨ يوم أنقذه من موت محتم ، ولم ينس ( اري ) ما قدمه له حسن ، فوقف إلى جانب آمال وحفيدتها سارة واستقبلهما في بيته وصلى على آمال مع المسلمين يوم استشهدت في جنين . ( اري هذا ) يختلف عن الجنود الاسرائيليين والنماذج اليهودية الأخرى التي ظهرت في الرواية .
الايرلندي ( جاك أومالي ) الذي عمل مع وكالة غوث اللاجئين بدا شخصية قريبة جدا من الفلسطينيين يعيش معهم ويقف إلى جانبهم ويمزح معهم ويأكل طعامهم ، وهو نموذج يختلف عن كثير من النماذج الإنجليزية التي ظهرت في الرواية الفلسطينية .
وفي الرواية نماذج أجنبية أخرى ، فالساردة والكاتبة عاشتا في أميركا والتقيتا هناك بأنواع مختلفة من البشر ، والخلاصة في هذا الأمر أن الكاتبة لا تحدد موقفا حازما نهائيا من عرق أو شعب ، وإنما تنطلق من منطلق عدم النظر إلى الآخر باعتباره كتلة واحدة ، وهذا لم يوقعها في الكتابة عن شخصيات نمطية .
ومما لا شك فيه أن الرواية تقرأ ، من ألفها إلى يائها ، بشغف .

الجمعة
٢٥ كانون الأول ٢٠٢٠

***

26- غسان كنفاني... والمخيم

في 12 حزيران كتبت إنعام الخفش على صفحة "الفيس بوك" الخاصة بها أن غسان كنفاني، لو بُعث وقرأ أنها ما زالت تكتب بالطريقة التي كتب فيها، لسخر منها ومن كتابتها؛ لأن غسان وما كتبه هو ابن مرحلته التاريخية وهي ابنة مرحلة تاريخية مختلفة عليها أن تكتب انطلاقاً منها.
لو بُعث غسان فهل سيكتب من وجهة النظر التي تبناها أم أنه سيكتب بطريقة مختلفة تتلاءم ومعطيات زماننا؟
تعني الدارسة الآتي: عاش غسان في زمن مختلف فكتب ما كتب، ومنذ استشهاده جرت في النهر مياه كثيرة مختلفة.
الدارسة تساءلت وماذا لو قرأ ما تكتب ولاحظ أنها ما زالت تتبنى أطروحاته؟
أظن أنني عقبت بالآتي: يفضل أن يبقى على قناعاته وأن يواصل الكتابة التي قرأناها في أعماله.
وجهة نظري أننا كنا أكثر صدقاً مع أنفسنا وأن الهزيمة لم تكن تمكنت منا، لنبرر حلولاً فرضها علينا ضعفنا وتشرذمنا وسوء الأوضاع في العالم العربي الذي يعيش اليوم أسوأ حالاته.
إنعام الخفش تنهي ما كتبت بأن عليها أن تكتب وفق معطيات زمنها، ولهذا قررت أن تعمل تهوية لأفكارها.
في ليلة السابع والعشرين من حزيران وجدتُني أسير في مخيم عسكر القديم.
حننت إلى شارع ذرعته مراراً، أيام الصبا، قبل أربعين عاماً، بصحبة الأصدقاء.
كان الشارع يؤدي إلى مدرسة البنات التي كانت محط أنظار كثيرين من المراهقين، وكان في الليل أكثر هدوءاً من شارع المخيم الرئيس المؤدي إلى نابلس؛ أكثر هدوءاً لأن السيارات العسكرية الإسرائيلية لم تكن تقترب منه، هي التي كان الشارع الرئيس طريقاً أساسياً لها قبل أن تشق إسرائيل طرقاً خارجية أكثر أمناً.
كان السير على الشارع الرئيس مخاطرة غير محمودة العواقب، خوفاً من سيارات الاحتلال ومن السيارات والمركبات العامة، ولذلك ابتعدنا عن الشر وغنينا له، وصار الشارع الثاني شارعنا، فكنتَ ليلاً ترى شباب المخيم يذرعونه زرافاتٍ ووحداناً.
أحياناً كنا نسير على الشارع الداخلي ساعات طويلة، ولم يكن أهل المخيم يحتجون.
لماذا لم يكونوا يحتجون؟
ربما لأننا كنا أخلاقيين، وربما لأن الشارع كان عريضاً جداً وكانت البيوت تبتعد عنه أمتاراً.
قبل أن تغدو المراحيض جزءاً من المنزل، كان في الشارع مراحيض عامة؛ قسم منها للرجال وقسم خاص بالنساء، ولاحقاً أزيلت هذه وتلك.
لم أذرع الشارع -كما ذكرت- منذ عقود؛ وتحديداً منذ أربعين عاماً، فقد تركنا الإقامة في المخيم في العام 1978. ربما أكون عبرته مرةً أو مراتٍ لزيارة صديق أو لتعزية عائلة أو لرؤية بيت نسفه الإسرائيليون لانتماء أحد أفراد الأسرة إلى المقاومة والقيام بفعل مقاوم.! ربما!
في ليل السابع والعشرين من حزيران وجدتُني أسير في الشارع نفسه. أهو ضرب من الحنين؟
قبل أقل من عامين شاركت في مؤتمر السرد الخامس الذي عقدته رابطة الكتاب الأردنيين في عمان. على هامش المؤتمر زرتُ جبل الحسين والمخيم الملاصق له. كنت قرأت رواية "رغبات ذلك الخريف" 2010 لليلى الأطرش التي أتت فيها على مخيم الحسين ووصفت هدم قسم من بيوته لشق طريق يؤدي إلى مدينة إربد. أردت أن أرى كيف أصبح المكان الذي عرفته جيداً في فترة دراستي في الجامعة الأردنية من 1972 حتى 1976 ومن 1980 حتى 1982 ولطالما سكنت في تلك المنطقة. الرواية حثتني على رؤية المكان، ولم تكن الزيارة بدافع الحنين.
علاقتي بشارع مخيم عسكر القديم علاقة مختلفة. فترة المراهقة ومكان التنزه ليلاً هرباً من بيوت مساحتها صغيرة وسكانها كثر. بيوت تضيق بسكانها.
هل عرفت المكان؟
كما لو أنني في مكان آخر مختلف كلياً.
قبل 1978 كانت المساحات واسعة والارتدادات بين البيوت ملحوظة. كانت الأشجار تفصل أحياناً بين بيت وآخر، ولم تكن البنايات العمودية قائمة؛ لأنها كانت ممنوعة أصلاً. الآن كل شيء اختلف؛ البيوت متلاصقة والأشجار معدومة والأزقة الواسعة شبه منعدمة والشارع العريض غدا شارعاً ضيقاً، ولا مساحات لملعب كرة طائرة. ومع ذلك لا تعدم رؤية طفل أو ثلاثة أو خمسة بطابة تتقاذفها أرجلُهم.
كنت أردت أن أمرَّ بمحاذاة مدرسة الإناث لأرى كيف صارت، فوجدت الناس يحتفلون بزفاف، وفضلت عبور زقاق فرعي. كما لو أنني لا أعرف المكان إطلاقاً.
وأنا أذرع الشارع تذكرت سؤال إنعام الخفش واسترجعت بعض نصوص غسان كنفاني التي أتى فيها على المخيم.
لم يُقم كنفاني في بيئة المخيم إطلاقاً، ولكنها كانت حاضرة في أعماله، وأعتقد أنها حضرت لأسباب هي أنه لاجئ وأنه عمل في دمشق في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وأن أم سعد الشخصية الرئيسة في رواية "أم سعد" كانت من المخيم وحدثته كثيراً عن قسوة الحياة فيه، ثم إن غسان في 50 القرن 20 زار غزة ومخيماتها.
للأسباب السابقة حضرت في قسم من أعماله بيئة المخيم. في "أم سعد" وفي "القميص المسروق" وفي قصص قصيرة أخرى، ومن المؤكد أن صورة المخيم في الأعمال المشار إليها صورة قاسية غير مريحة على الإطلاق، ولكنها تبدو أقل قسوةً مما هي عليه الآن.
مرةً سُئلت: من تابع الكتابة عن المخيمات في لبنان بعد غسان كنفاني؟ وأجبت: سامية عيسى في "حليب التين".
تُرى ماذا كان غسان سيكتب لو بقي على قيد الحياة؟
الصورة تزداد قتامةً.

***

27- غسان كنفاني: ناقد تحتمل خفّته

أعادتني رواية "أولاد الغيتو" وروايات عربية أخرى أتيت عليها إلى مقال غسان كنفاني "شولوخوف والالتزام" (فارس.. فارس، ص31، وإلى رأي قديم لفيليب حتّي في مقالاته "أميركا في نظر شرقي أو ثماني سنوات في الولايات المتحدة" (مجلة الهلال المصرية 1922/ 1923، وقد أعاد نشرها يوسف الشويري، 1998)، (ص129).
يكتب حتّي عن الكتابة عن الأميركي، ويميز بين كتابة وأخرى، ويتوصل إلى الرأي التالي: "الأميركي تلتقي به على جسر الأمم ـ جسر غلطة ـ في الأستانة، وتقابله في بهوِ شبرد هوتل في القاهرة، وتخالطه في الجامعة الأميركية في بيروت، ولكن لا تفهمه كما هو، وتدرك حقيقة كنهه، وتحيط علماً بروحه وأخلاقه إلاّ في وطنه"، وأظن أن لسان حال حتّي، أيضاً أنه لا يمكن أن تكتب عن أميركا إلاّ إذا زرت أميركا. (انظر : الشويري، ص130).
أما كنفاني الذي يكتب عن قصص الروسي (شولوخوف) ويقارن بينها وبين كتابات عربية قرأها في نهاية 60 ق20، فيرى التالي: "إن معظم كتّابنا لا يُحبّون حياة الشعب، لا يتألّمون لآلام الناس، ولا يفرحون لأفراحهم، لا يدخلون إلى اهتماماتهم وحاجاتهم (ولذلك) فإنه لا يخرج من بين أيديهم كتاب حقيقي يثير الانفعال في قلوب القرّاء".
وقول كنفاني جعلني أفكّر في رواياته التي كتبها ومدى انطباق رأيه عليها. عاش كنفاني في الكويت فكتب "رجال في الشمس" عن الفلسطينيين هناك، وعاش في بيروت، فكتب "أم سعد" المرأة التي عرفها، ومن قبل زار غزة فكتب "ما تبقّى لكم"، ثم كانت "عائد إلى حيفا" رواية أفكار خرجت من قراءاته للأدب الصهيوني، بعد أن ألّف كتابه في الأدب الصهيوني.
كانت كتابة حتّي عن مكان أقام فيه، وكذلك كانت كتابات كنفاني، ومثل كنفاني كتب حبيبي عن تجربته في فلسطين، في روايته "المتشائل" (1974)، وهي رواية تعبّر عن تجربة ربع قرن عاشها الكاتب مع أهل فلسطين الباقين. ولكن هناك أدباء كثراً كتبوا عن أماكن لم يقيموا فيها وتجارب لم يعيشوها.
كتب العراقي علي بدر عن القدس قبل أن يزورها، فقرأنا عن المدينة كما كتب عنها الأدباء العبريّون، وكتب إبراهيم نصر الله عن غزّة "أعراس آمنة" فلم نقرأ عن غزة.
وسأوجّه إلى نفسي السؤال التالي: وماذا عن إلياس خوري؟
كنت أتيت على هذا في مقالات سابقة، وكان إلياس نفسه أثار السؤال حول كتابة لبناني رواية عن فلسطين؛ أثاره في المقدمة وأثاره في دفاتر آدم على لسان آدم، ففي ص 112 يحكي آدم عن موقفه من كتابة إلياس "باب الشمس" ومن إخراج مخرج إسرائيلي فيلماً عنها، وهو موقف فيه قدر من الإحْراج:
"المسألة التي أفقدتني صوابي هي الصدق الكاذب. لم يستفزّني وقوف المخرج وإلى جانبه مؤلف "باب الشمس"، للحديث عن فلسطين قبل البدء في العرض.
اعتبرت ذلك مجرد موقف طبيعي لا يستحق الاهتمام".
وقد أبدى آدم آراء في الرواية أشار فيها إلى أن القصة كما هي في الواقع غيرها في الرواية والفيلم، فقد كان على معرفة ببعض شخصيات الرواية معرفة حقيقية.
ترى ماذا كان كنفاني سيكتب عن "أولاد الغيتو" لو قرأها؟
أشير إلى أن المؤلف، وهو يكتب "باب الشمس" لم يعتمد على الكتب فقط، وإن شكّلت هذه مراجع أساسية في تأليف الرواية. لقد اعتمد، أيضاً على مقابلة الفلسطينيين في لبنان وذهب إليهم في مخيّماتهم وأصغى إليهم، دون أن يكتب ملاحظات أو يسجل أشرطة:
"لم تكن هذه الرواية ممكنة لولا عشرات النساء والرجال في مخيّمات برج البراجنة وشاتيلا ومار إلياس وعين الحلوة الذين فتحوا لي أبواب حكاياتهم، وأخذوني في رحلة إلى ذاكراتهم وأحلامهم" (باب الشمس، ص228).
ربما لا يعترض كنفاني على "باب الشمس"، لأن "أم سعد" لا تختلف في هذا، فقد أصغى مؤلفها إلى "أم سعد" القادمة من المخيّم لتعمل في بيته.
كانت المرأة تقص والراوي يُصغي ويسجل، وكان غسان مديناً لها. كأن "أم سعد" هي المؤلف الضمني. ولكن هل الأمر ينطبق على "أولاد الغيتو"؟
لمّا قرأ إميل حبيبي "عائد إلى حيفا" قرر أن يسير في الطريق الذي سار فيه بطل الرواية، وبدلاً من أن يصل إميل إلى الكرمل، كما وصل سعيد. س إليه في رواية كنفاني، وجد إميل نفسه على شاطئ البحر، في الميناء.
في الجزء الأول من "أولاد الغيتو" لا يكتب إلياس كثيراً عن اللد من حيث هي مكان.
لقد كتب عن الأحداث، وترك أحد شهود المجزرة، وهو مراد العلمي، يقص.
وكان إلياس اعتمد على مصادر ومراجع عبرية وفلسطينية، ولكن ماذا عن الجزء الثاني والجزء الثالث؟
في المقابلات الثلاث الأخيرة مع الكاتب (مازن معروف، نادية عصام حرحش، سليم البيك) يكرر أنه لا يكتب عن مكان لا يعرفه، وأنه لا يكتب عن الماضي قدر ما يكتب عن الحاضر، فالنكبة ما زالت مستمرة، ولكنه يذكر أنه بصدد كتابة جزأين آخرين تجري أحداثهما في فلسطين، وما أخشاه أن يقع فيما وقع فيه كنفاني وآخرون، مع أنه أخبرني أنه قبل أن يكتب عن مكان يطلب من معارف له أن يصوّروه وأن يزوّدوه بالأشرطة.
هل كان كنفاني ناقداً تحتمل خفّته؟

أ. د. عادل الأسطة
2016-09-11

****

28- أتـذكـر غـســان...!

وأنا أتابع نشرات الأخبار، وأشاهد الصور التي تعرض ويهدم فيها أهل غزة الجدار، أتذكر غسان كنفاني، وأتذكر روايته، "رجال في الشمس" (1963)، وأقول أخاطبه: ها هم يا غسان يدقون جدران الخزان ها هم استجابوا لك، وأجابوا عن سؤالك فعلاً لا قولاً.
قبل سنتين من الآن، كتبت مقالاً عنوانه "غزة في الخزان"، وكان الدافع الى كتابته ما بثته الفضائيات صباح الخميس 5/1/2006، كان الخبر يقول ان مسلحين فلسطينيين هدموا جزءاً من الجدار بين رفح ورفح، بين فلسطين ومصر. يومها أيضاً تذكرت غسان كنفاني وروايته.
كم مرة تذكرتك يا غسان كنفاني، منذ عرفت نصوصك وقرأتها؟ لا ادري، غير أني دائماً أعود الى نصوصك وأقتبس منها، بخاصة حين أرى أن ما يجري يشبه ما جرى، كأن الأيام لم تتبدل ولم تتغير. كأنها ستظل تمارس فعلاً اسطورياً سيزيفياً.
مرة أنا كتبت ان حياة الشعب الفلسطيني تشبه سيزيف الأسطورة، وقبلي كتبت انت مسرحيتك: الباب هي الطابة سنظل نضربها على الجدار، فترتد الينا، لنعاود الكرة من جديد. هل كنت ترى ان الشعب الفلسطيني يمارس تلك اللعبة؟ هل كنت ترى ذلك ببصيرتك؟ ربما!
وأظن أن اللعبة ستتكرر ما دام هناك لجوء ومخيمات. ما دام هناك بيوت صفيح أو غيتوات فلسطينية تشبه الخزان. هل كان الخزان اوسع مدى وأرحب مما هي عليه المخيمات الآن؟ مما هي عليه غزة الآن، وفيما بعد، ان بقيت الحواجز، مما ستكون عليه الضفة؟ ربما. ربما، بل وإنني أجزم انها كانت كذلك، كانت اوسع مدى وأرحب فضاء. أنا أقمت في المخيم منذ تكون، وتركته في العام 1978، وما زلت أتردد عليه، ما زلت أزوره، في المناسبات وفي الاعياد، وفي فترات بين هذه فما ارى الآن، وماذا كنت ارى وأشاهد وأعيش؟
كانت المخيمات التي شبهها غسان بالخزان، او هكذا اجتهد نقاده ورأوا - وكان هو رأى ذلك ايضاً، ولذلك حزن حين لم يكتشف إحسان عباس الأبعاد الرمزية في روايته -كانت المخيمات فعلاً اوسع مدى وأرحب فضاء، ولم تكن ضاقت بأهلها، كما هي الحال عليه الآن. كان في المخيم ساحات، وكانت بيوتها تتكون من طابق واحد، من غرف منفصلة عن بعضها. وكان في البيوت حديقة فيها أشجار ونباتات. كان الهواء، كما كان أبي يقول، يلعب في المنزل، وكانت الشمس تتسلل الى الغرف كلها. أين هذا كله الآن في هذه المخيمات؟ أين هذا حقاً؟ لقد تحول الطابق الأرضي الى سرداب، الى زنازين ليس غير. هل يختلف حال غزة الآن؟
أنا زرت غزة في العام 1970 تقريباً، لأحضر حفل زفاف ابنة عمي ذهبت الى مخيم الشاطئ، حيث كانت تقيم عمتي وبعض ابنائها، ورأيت أن المخيمات لا تختلف عن مخيمنا. كان هذا قبل اربعين عاماً تقريباً. ما زلت اتذكر بعض بيوت شارع عمر المختار: بنايات مستقلة حولها حدائق فيها أشجار الحمضيات. وحين أسأل جارنا أبا نزار، وهو من غزة، ويقيم الآن في نابلس، حين اسأله عن غزة وأشجارها وحدائقها يقول يرحم الله أيام زمان، ويحدثني عن الابراج التي انشئت في القطاع، وعن الاكتظاظ السكاني وقطع الاشجار، كان في غزة بيارات، يقول ابو نزار كان فيها.
وأنا أتابع نشرات الأخبار وأشاهد الجرافة تهدم الجدار أتذكر غسان، وأتذكره أيضاً حين أصغي الى بعض المواطنين الغزيين يتحدثون الى وسائل الاعلام، حين سُئِل مواطن غزّي عن رأيه فيما يجري، وكان الناس حوله يعبرون من رفح الى رفح ويدوسون الجدار، قال: نحن لا ننتظر أن يأتينا الموت. نحن نذهب اليه. وسأتذكر سؤال غسان، على لسان أبي الخيزران، سأتذكر سؤاله: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ وسأسأل نفسي: هل قرأ هذا الرجل رواية: "رجال في الشمس"؟ وهل استجاب لنداء غسان أم انه أدرك، بحكم التجربة المعيشة، أنه لا بد من القيام بفعل ما؟ وغزة الآن تضيق بسكانها .
وأنا أتذكر غسان، أتذكر أيضاً قصيدة "بيروت" لمحمود درويش. كتب الشاعر القصيدة في العام 1980، وألقاها في مؤتمر الشقيف الشعري، وكان يدرك، ببصيرته، أن بيروت هي القلعة الاخيرة للثورة، يريد الاسرائيليون محاصرتها والقضاء على الثورة فيها، حتى يتخلصوا نهائياً من المقاومة الفلسطينية. فماذا قال: بيروت نجمتنا الأخيرة، بيروت خيمتنا الاخيرة، لن نترك الخندق حتى يمر الليل او نهلك. وصرخ صرخته: بوركت الحياة فوق الارض لا تحت الطغاة.
هل أدرك الغزيون أيضاً هذا؟ هل شاهدوا انفسهم يموتون رويداً رويداً؟ هل رأوا ان حياة الحصار قاتلة ومذلة فأدركوا انه حين يدقون جدران الحصار، لن يخسروا شيئاً؟ ربما. ربما.
وأنا أتابع نشرات الاخبار، وأشاهد الصور التي تعرضها الفضائيات لأهل غزة يهدمون الجدار، اتذكر غسان كنفاني وصرخته: لماذا لم تدقوا جدران الخزان.

2008-01-27


***

29- في المنام أرى غسان

أهي أحلام أيلول أم كوابيسه أم رؤاه؟ في المنام، ليلة السابع / الثامن من أيلول رأيت غسان كنفاني. ما الذي حدث؟
مساء السابع من أيلول جلست على الرصيف أمام دكان أخي. المرأة التي طلبت مني ساعة المنزل قبل جلوسي، دهشت إذ رأتني جالساً، مع أخي وآخرين، أمام باب دكانه، فنادتني باسمي.
ليس بيني وبين المرأة حديث كثير. أحياناً كانت تزور أمي، والآن، بين الفينة والفينة، تتردد على نسوة إخوتي. أحياناً كنت أغيظها، فأحور في اسم ابنها، كما أحور في اسم عبد الله، فأناديه ضبع الله، أو بعد الله...].
قبل ذلك بأيام قليلة زارني في مكتبي زميل وأخذ يقصّ عليّ ما جرى معه في الوظيفة. الزميل كان نشيطاً جداً في الجبهة الديمقراطية وهو ابنها وتربيتها وأنفق سنوات من عمره في السجن، ولما كان منفعلاً، بسبب ما جرى معه، ولما رفض أن يكون مجرد أداة بلا تنفيذ، فرفض الاستمرار في ما أوكل إليه من مهام، ولما كان منفعلاً، فقد قال لي ما قاله في لحظات انفعاله: أنا ابن شوارع وتربيتها. أنا اعترضت على قوله، وقلت له: قل لمن تتحدث معه من المسؤولين: أنا تربية تنظيم، لا تربية شوارع. هل قلت الشيء نفسه لزميل آخر أم أنني قلته بطريقة مختلفة؟ هل قلت لزميلي الآخر أنت تربية شوارع؟ هل قلت له: إن ما قلته لا يليق بأستاذ جامعي، فهو يصدر عن ابن شوارع، لا عن أستاذ جامعي؟ أظن ذلك، فحين تحدثت مع زميلي عن أخطاء مطبعية ونحوية في كتابه، وهو كتاب مقرر، انفعل ولم يتحدث بما ينبغي أن يصدر عن أستاذ جامعي. لقد ارتدّ إلى طفولته الأولى. أحياناً أقول، بل وأكتب ذلك على صفحة (الفيس بوك) الخاصة بي: نحن لم نخرج من عقلية القرية أو الحارة في المدينة أو الحارة في المخيم، مع أننا حصلنا على شهادات عليا. نشتم. ننفعل. نغتاب ونأكل لحوم إخوتنا أمواتاً، ونغمز ونلمز ونتجسّس و.. و.. ونمارس شعائر وعادات، وكأن كل ما تعلمناه لم يهذب سلوكنا الحوشي والوحشي. هل أبالغ؟ ربما! هل أنا على خطأ؟ ربما!!
في المنام رأيت غسان كنفاني:
لغسان كنفاني كتاب صدر بعد استشهاده عنوانه "فارس.. فارس" جمع فيه محبّوه ما كتبه غسان من مقالات أدبية ونقدية وسياسية أبرزت لغسان وجهاً آخر لم نعرفه في رواياته وقصصه ومسرحياته: الساخر المتهكم الجارح الحاد. [أنجزت في تموز الماضي وتموز الذي سبقه مقالين عنه].
في أحد مقالات كنفاني يأتي، وهو يراجع أحد الكتب، على ما تصدره المطابع في بيروت ـ في 50 و60 ق 20 ـ ويرى أن كثيراً من ذلك النتاج الصادر لا يلامس شغاف القلب، فلا يعيش في وجدان قارئه طويلاً، بل إنه ينساه حال الانتهاء من قراءة الكتاب. ونادراً ما قرأ كتاباً لروائي عربي دخل إلى قلبه وقلب ابن الشعب. لماذا؟ لأن أكثر كتّابنا، ويتذكر كنفاني، تشيخوف، لا يعيشون بين الشعب، وهكذا لا تلامس كتابات كتابنا الذين كتب عنهم في كتابه ـ هموم الشعب، ولا تجد، بالتالي، لها سوقاً أو رواجاً.
في المنام، مساء السابع من أيلول، ليلة الثامن وجدتني أزور متحفاً خاصاً بغسان كنفاني. كنت في زيارة لمدينة ما، لأشارك في مؤتمر جامعي، ووجدتني مع زملائي في رحلة نزور متحف غسان كنفاني ـ لا أدري إن كان هناك متحف لغسان، وحتى اللحظة لم أزر متحف محمود درويش، وإن كنت قرأت عن محتوياته وافتتاحه.
صورة غسان تحتل الرف الأعلى، تلي الصورة أعماله كلها، وأسفل منها ما كتب عنه من دراسات، وعلى الرفوف السفلى الجوائز والميداليات والأوسمة التي منحت له. كيف وجدتني بعيداً عن المتحف أتحاور مع امرأة ما لا أعرف ملامحها؟
كانت المرأة تقول لي: أنت ابن شوارع، وكنت أرد عليها قائلاً: أنا لست ابن شوارع. أنا أعيش في الشوارع. ووجدتني، في المنام، في تلك اللحظة أريد أن أدون ما حدث معي، وأنا في المتحف، فلم أعثر على ورقة، وقررت شراء دفتر مذكرات، قبل الصعود إلى الباص، من الكشك القريب، حتى لا أنسى ما شاهدته في المتحف، وما جرى بيني وبين المرأة من حوار.
فجر الثامن من أيلول نهضت في الرابعة فجراً ودونت ما رأيته في المنام: الحلم، الكابوس.. إلخ.. إلخ.
في المنام زارني غسان كنفاني:
فجر الثامن عشر من أيلول، في الثالثة ـ حسب التوقيت الصيفي ـ زارني، في المنام، غسان كنفاني. كان يرتدي كنزة سوداء ـ قبة خنق ـ. كان نحيفاً ووسيماً جداً. وجه ممتلئ، وشعر أسود فاحم يمشطه إلى الخلف ـ هل هي الصورة التي على غلاف كتابه "فارس.. فارس". جاء ليحيّيني لكتابتي كتاباً عن أدب "أوسلو" عنوانه "أدب المقاومة". شدّ على يدي لما أقدمه من جهود في دراسة أدبنا الفلسطيني. لم يكن يومها وحيداً، فقد كان بصحبته رفيقان من رفاقه. شدّ على يديّ ثانية، ثم وجدتني أسير في تظاهرة في البلدة القديمة/ نابلس أردد فيها مقاطع من أشعار محمود درويش، وتحديداً المقطع الوارد في قصيدته "مديح الظل العالي": "في كل مئذنة/ هاو، ومغتصب/ يدعو لأندلس/ إن حوصرت حلب./ وأنا التوازن بين من جاؤوا ومن ذهبوا/ وأنا التوازن بين من سَلبوا ومن سُلبوا/ وأنا التوازن بين من صمدوا ومن هربوا/ وأنا التوازن بين ما يجب:/ يجب الذهاب إلى اليسار/ يجب التوغل في اليمين/ يجب التمترس في الوسط..".
وأنا أرددها رأيت غسان نائماً. كان يرتدي قميصاً أزرق سماوياً، وقد بدا مريضاً مثقلاً بالهموم، وكان ينظر إليّ ويقول لي: لقد فهمتك.. لقد فهمتك. هل كنت أقول له ما آل إليه اليسار وما غدا عليه؟ لست أدري.
مساء تلك الليلة كنت أجلس مع إخوتي وأخواتي وأبنائهم وبناتهم، ونتحدث عن الأسعار والوظائف وموظفي حماس والسلطة والفساد و.. و.. و.. وفي أيلول زرت متحف غسان كنفاني، فرد لي الزيارة. أهي أحلام أيلول أم كوابيسه أم رؤاه؟.

عادل الأسطة
2012-09-23

ـــــــــــــــ

11- حرب غزة والسخرية... غسان كنفاني والسخرية
12- غسان كنفاني: «معارج الإبداع» والنصوص الأولى للكتاب
13- في الاستشراق والاستغراب والأيدي الخارجية وما أدراك!
14- غسّان كنفاني: "فارس فارس"
15- هل أنا دوف... هل أنا سعد؟ كل عيد وأنت بخير يا غسان كنفاني!
16- في ذكرى غسان كنفاني: غسان وحضوره في الروايتين الفلسطينية والعربية
17- سامي ميخائيل يلبي نداءنا
18- قراءة غسان كنفاني في فلسطين المحتلة
19- في ذكرى ميلاد راوية المخيم أحمد دحبور: العودة إلى رثاء غسان كنفاني
20- «كل أرض الشام منفى!!»
21- غسان كنفاني : أثر قراءاته في تشكيل نصوصه
22- غزة: الصغير يذهب إلى المخيم زمن الحرب .. وزمن الاشتباك
23- سعاد العامري 3 وغسان كنفاني: سؤال الجدارة
24- هل تأثر غسان كنفاني بمحمود درويش؟
25 - سوزان أبو الهوى وروايتها: صباحات جنين: بينما ينام العالم / ندبة داوود
26- غسان كنفاني... والمخيم
27- غسان كنفاني: ناقد تحتمل خفّته
28- أتـذكـر غـســان...!
29- في المنام أرى غسان
أعلى