عبد المنعم عجب الفَيا - حفر لغوي مقارن في كلمة حُبّ amour الفرنسية

انبثقت فكرة هذه المقالة في اللحظة التي تعرفت فيها لأول مرة على معنى اسم العطر الباريسي "فلير دمور" والمشهور جدا في السودان منذ العقود الأولى من القرن العشرين وذلك لارتباطه بخلطة الريحة (فصيحة) الناشفة الخاصة بالعرسان. وكان الأهالي عندنا ينطقون اسم هذا العطر "فتيل دمور" بينما ينطقه أهل المدن والمتعلمون "فرير دمور".
وكانت البداية عندما نشرت مقالاً في سلسلة (حفريات لغوية) بموقع "سودانايل" الإلكتروني بتاريخ 30 سبتمبر 2017 أشرت فيه إلى اسم هذا العطر الباريسي وذلك في سياق الحديث عن معنى عبارة "القمر بوبا" في اللهجة السودانية، فكتب إلىَّ أحد الأصدقاء يلفت نظري إلى أن اسم هذا العطر الفرنسي يعني في بالعربية "زهور الحُبّ" وهو في الفرنسية Fleures d’amour فاسترعت انتباهي على الفور كلمة "أمور"، فسألت ذلك الصديق: يا ترى هل هناك علاقة بين كلمة "أمور" الفرنسية بمعنى الحب، وكلمة "أمير" العربية؟!
فلم يجبني ذلك الصديق وأغلب الظن أنه سخر في نفسه من سؤالي، ربما لاحساسه أنني قد أبعدت النجعة. وأنا حينما طرحت هذا السؤال كان في ذهني تعبير "أمير الحب" ولفظة "أمورة" التي تقال في اللهجات العربية كناية عن المحبوبة أو الفتاة الجميلة وتدليلاً لها.
ومن أشهر الأغاني الشعبية السودانية التي خلدت اسم هذا العطر الباريسي أغنية (القمر بوبا) التي يصدح بها الفنان الخالد، محمد وردي، والتي تقول في جزء منها:
"إتي ريحتك دمور فرير ولا بت السودان أصيل". و(بت السودان) هو اسم العطر السوداني الذي كان رائجا وله شعبية كبيرة في ذلك الزمان.
وكذلك أغنية (يا قَسيم الريد فوقك النبي) وهي من أغاني إيقاع (التُّم تُم) التي ظهرت في الثلاثينات من القرن العشرين وتغنى بها اسماعيل عبد المعين وعاشة الفلاتية في ذلك الوقت، ومن بعد صدح بها عوض الكريم عبد الله وأم بلّينا السنوسي، كلٌ على حده. ومما جاء في هذه هذه الأغنية:
سهر المنام ليَّ وحدي
يا قسيم الريد فوقك النبي
*
فوقك الصُّلاح، فوقك الصُّلاح
يا فرير دمور المسّخ الأرياح

والريد (للقراء غير السودانيين) الحب في اللهجة السودانية، والريدة المحبة، والمريود المحبوب. وفي الإنجليزية الفعل يريد والفعل يحب بمعنى. تقول I love it وI like it والمعنى واحد. وفي لغة المتصوفة، على مستوى العالم العربي، المريد هو تلميذ شيخ الطريقة المحب، والمريدون أتباع شيخ الطريقة المحبون له.
و(قَسيم الريد) في الأغنية أعلاه، الذي يقاسمك الحب وهي تقابل في الإنجليزية تعبير: soul mate و sweetheart . ويرد تعبير (قسيم الريد) في لغة الأغاني الشعبية السودانية ولا يرد في لغة التخاطب المعاصرة.
والسؤال الآن هو: هل ثمة احتمال أن تكون كلمة "أمور" الفرنسية بمعنى الحب، مستعارة من كلمة "أمير" العربية في معناه المجازي الدال على المحبوب "أمير الحُبّ"؟
الثابت أن كلمة أمير العربية بمعناها الحقيقي، أي حاكم الأمارة (الدولة) أو القائد بالمعنى العام، قد دخلت الفرنسية واللغات الأوربية الأخرى. ومن ذلك كلمة أدميرال الإنجليزية Admiral قائد سلاح البحرية.
يقول معجم أكسفورد Oxford للغة الإنجليزية أن أصل كلمة أدميرال هو الكلمة الفرنسية أميرال، وأن الفرنسية أخذت هذه الكلمة من اللاتينية والتي أخذتها بدورها من كلمة أمير والفعل أمر العربية، وأن الألف في أول كلمة "أميرال" يقابل أداة التعريف (أل) في الكلمة العربية. والنص الإنجليزي الوراد في معجم اكسفود هو الآتي:

Admiral: commander- from Old French, amiral, via medieval Latin from Arabic "amir" commander, from amara "to command". The ending –al was from Arabic –al- "of the", later assimilated to the familiar Latinate suffix – al".

إذاً بشهادة معجم أكسفورد أن كلمة الأمير والفعل العربي أمر، قد دخلتا اللاتينية وأخذتهما عنها الفرنسية وأن "أميرال" هي في الأصل كلمة أمير العربية، جعلوا أداة التعريف (ال) في آخر الكلمة ثم صار هذا التركيب في اللغة اللاتينية واللغات الأوربية الأخرى "لاحقة" suffix تختتم بها الكثير من الكلمات. (وهذه معلومة في غاية الأهمية التاريخية للباحثين في فقه اللغة المقارن، ولكن نترك التفصيل فيها الآن).
وكان دخول كلمة أميرال (أمير العربية) إلى اللاتينية طبقاً لمعجم أكسفورد، في العصور الوسطى medieval Latin والعصور الوسطى والتي يعبر عنها أيصا بـ middle ages والتي توصف بعصور الظلام الأوربي، تبدأ بانهيار الإمبراطورية الرومانية وتمتد من القرن الخامس وحتى القرن الخامس عشر للميلاد. ومعلوم أن التاريخ الأوربي يقسم إلى ثلاثة مراحل رئيسة هي: العصر الكلاسيكي (تمثله حضارة الإغريق والرومان) ثم العصور الوسطى، وأخيرا العصر الحديث، ويمثله عصر النهضة وعصر التنوير والثورة الصناعية والثورة الفرنسية وحتى الآن.
وخلال هذه الحقب الطويلة التي كانت فيها أوربا ترزح في ظلام العصور الوسطي كانت الحضارة العربية في الأندلس وصقلية في أوج ازدهارها وكانت قبلة علماء أوربا لأخذ العلم في كافة ضروب المعرفة. فقد امتد حكم العرب في الأندلس (شبه جزيرة إيبيريا) من سنة 711 إلى 1492 ميلادية. وقد دخلت اللاتينية خلال العصور الوسطى الكثير من المفردات العربية، فأنت إذا نظرت في معاجم اللغات الأوربية ستجد أن هذه الكلمة أو تلك من أصل عربي غير أن هذه المعاجم لا تكشف عن الأصل العربي لكل الكلمات العربية التي دخلتها، إذ تسكت أحياناً عن التصريح بالأصل العربي الجلي لكثير من الكلمات. ولا تزال لغة صقلية تعج بالمفردات العربية، فهي خليط من العربية والإنجلبزية واللهجات اللاتينية والإيطالية المحلية.
لكن لم تكتف اللاتينية باستعارة كلمة أمير ومشتقاتها بالمعنى الحرفي وحسب، بل استعارتها أيضاً بمعناها المجازي للدلالة على الحُبّ و(أمبر الحُبّ) والذي يعبر عنه في اللهجات العربية بكلمتي أمور وأمورة من باب التودد والتدليل (والدلع).
والشاهد أن الفعل أمر amare يعني في اللاتينية يحب to love وأن الاسم منه "أمور" amor يعني love الحب. وتذكر المعاجم الأوربية أن الفعل واسمه قد دخلا اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي فقط، مما يدل دلالة قاطعة على أن الفعل "أمر" ومشتقاته ليس أصيلا في اللغة اللاتينية واللغات المتفرعة عنها: (الإسبانية والبرتغالية والإيطالية والفرنسية وغيرها) بل مستعار من لغة وأخرى وهي العربية.
فالفعل "يحب" في الإسبانية والبرتغالية هو amar والاسم منه (الحب) amor وفي الإيطالية الفعل amare والاسم منه amore وتنطق أموري بإمالة الياء، وفي جزيرة صقلية (الجنوب الإيطالي) الحب هو amuri وفي الفرنسية amour حب والفعل (يحب) aimer.
أكثر من ذلك أن كلمة amore "أموري" بإمالة الياء، والتي تعني حب في الإيطالية، تستعمل أيضا صفة للمحبوب (المذكر). وإلى جانب ذلك نجد هناك في الإيطالية أيضاً كلمتي أموريتو amoretto (للمذكر) وتعني المحب (أمير الحب) وكلمة أمورتيamoretti (للمؤنث) وتعني أيضاً قصيدة الحب القصيرة.
وفوق كل ذلك لا تقف كلمة "أموريتو" الإيطالية عند الدلالة على المحبوب، بل تتعدى ذلك لتمثل الاسم البديل والجديد لإله الحب في اللاتينية. فنحن نعلم أن كيوبيد cupid هو إله الحب المعروف عند الرومان (اللاتين) وكان يجسم دائما في هيئة طفل لاهي ممسك بقوس وسهم يصيد به قلوب العشاق عشوائياً. أما إله الحب الجديد (أموريتو) فيصوّر في صورة طفل ممسك بقيثارة يغني، وذلك على النحو الذي وجدناه مصوراً في بعض المعاجم الأوربية. وهذه علامة ذات مغزى يعبر عن عمق تأثير فن الغناء والموسيقى في الأندلس على الأوربيين في العصور الوسطى.
وحتى بريطانيا البعيدة عن التأثير العربي في الأندلس، دخلتها كلمة "أمور" العربية إذ يقول معجم أكسفورد إن amour أمور تعني كل ما هو متعلق بالحب كما تعني في ذات الوقت المحب نفسه. غير أن الكلمة العربية لم تحل محل كلمة love الإنجليزية كما حدث في اللغة اللاتينية واللغات المتفرعة عنها.
وكنا قد عثرنا بمحض الصدفة أثناء بحثنا في الشعر الإنجليزي في عصر النهضة الأوربية على ديوان شعر للشاعر الإنجليزي الكبير إدموند سبنسر (1552- 1599) يحمل عنوان amoretti والديوان عبارة عن مجموعة قصائد كتبها على نظام (السوناتة). تقول المراجع الإنجليزية إنه كتبها في معشوقته وملهمته أليزابيث باولي والتي تزوجها في النهاية، فقد جاء بموسوعة ويكبيديا الإنجليزية ما يلي:

Amoretti is a sonnet cycle written by Edmund Spenser in the 16th century. The cycle describes his courtship and eventual marriage to Elizabeth Boyle".

وعلى ذكر (السوناتة) sonnet نكون قد وضعنا يدنا على الكيفية التي دخلت بها كلمة أمير وأمورة العربية بمعانيها المجازية في الدلالة على الحب إلى اللغات الأوربية. ويرى كاتب هذه السطور أن هذه الكلمات العربية دخلت اللغات الأوربية عن طريق الشعراء المغنيين الشعبيين troubadours الطروبادور. وتقول المراجع الأوربية أن شعر الطروبادور ظهر في العصور الوسطى في الفترة مابين ( 110-1350) ميلادية. وتصف هذه المراجع هذا الشعر بإنه شعر courtly love فهو يدور كله حول النسيب والعزل الممزوج بالوجد والعشق الإلهي على طريقة الشعراء العذرين العرب والمتصوفة المسلمين.
ويرى المستشرق الاسباني الكبير دون جوليان ريبيرا (1858- 1934) أن كلمة طروبادور مشتقة من كلمة طرب العربية، مخالفاً بذلك ما تجده من معاني لهذه الكلمة في المعاجم الأوربية. كما يرى المستشرق البريطاني (الاسكتلندي) الكبير جِبّ Gibb (1895- 1971) أن شعراء الطروبادور قد استعاروا أسلوب نظمهم الشعري من فن الزجل العربي بالأندلس وصقلية. ومن الأدلة التي يسوقها جِبّ على ذلك أن أشعار أوربا قبل الطروبادور لم تكن تعرف نظام القافية. فالمعروف أن الشعر الإغريقي واللاتيني القديم شعر مرسل لا قافية له. ويذهب جِب إلى أن الشعراء المغنيين الجواليين تأثراو كثيرا بالشاعر العربي الأندلسي أبوبكر بن قزمان، انظر:The Legacy of Islam, Oxford 1931, p. 180 -210 وهو كتاب اشترك في تأليفه مجموعة من كبار المستشرقيين وصدر عن جامعة أكسفورد سنة 1931.
والشاهد أن شعر الموشحات في الأندلس وصقلية قد خالطه شيء من لغة العامة وأن شعر الزجل أكثر إيغالاً في لغة العامة من الموشحات، فهو خليط من الفصحى واللهجة العامية. ومن هنا جاء دخول الكلمات العربية مثل أمير وأمور وأمورة في الدلالة على الحب، إلى اللغات الأوربية . يقول ابن خلدون في مقدمته:
"ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً، واستحدثوا فناً سموه الزجل. وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس".- انتهي. مقدمة ابن خلدون ص 548.
ومن بين شعراء الزجل العربي بالأندلس، اهتم المستشرقون اهتماماً خاصة بابي بكر بن قزمان. راجع المصادر ذات الصلة Ibn Quzman . وجاء عنه بموسوعة ويكبيديا الإنجليزية ما يلي:

The life-style of Ibn Quzman was similar to that of troubadours. His approach to life as expressed in these melodious poems shows a resemblance to the later vernacular troubadour poetry of France".

ويرى عدد من الباحثين، أجانب وعرب، أن قصيدة الحب القصيرة (السوناتة) ما هي إلا الموشح العربي الأندلسي، مبنىً وموضوعاً. والمجمع عليه بين الدارسين الأوربيين أن (السوناتة) نشأت في إيطاليا ومنها انتشرت في بقية البلدان الأوربية. وإذا كان الشائع أن الشاعر الإيطالي بترارك هو من أشاع هذا الفن، فقد أصبح الاعتقاد السائد الآن أن ظهور (السوناتة) سبق بترارك قبل أكثر من مائة سنة وأن هذا النمط الشعري ظهر أولاً في صقلية الإيطالية متأثرا بأسلوب فن الموشح والزجل العربيين.




تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب المقارن
المشاهدات
697
آخر تحديث
أعلى